الخرافة السادسة عشرة

لا نعرف الكثير عن حياة شكسبير
من بين أكثر الخرافات رسوخًا أننا لا نعرف الكثير عن حياة شكسبير. عندما نُشِرَت سيرة حياة شكسبير بقلم بيل برايسون عام ٢٠٠٧، اتفق النقاد على أنه «بالنظر إلى مئات الآلاف من الكلمات التي كُتِبَت عن شكسبير، فإن القليل نسبيًّا هو ما نعرفه عن الرجل نفسه.»1 وبالفعل، تبدأ السيرة التي كتبها برايسون بموجز جورج ستيفنز ذي السطر الواحد الشهير عن سيرة شكسبير: «وُلِدَ في ستراتفورد-أبون-أفون، وأنشأ عائلة له هناك، وذهب إلى لندن، وأمسى ممثلًا وكاتبًا، ثم عاد إلى ستراتفورد، وكتب وصية، ومات.» ورغم أن برايسون يُقِرُّ بأن هذا ليس منتهى معرفتنا، فإنه يميل إلى ستيفنز قائلًا: «وهذا ليس ببعيد عن الحقيقة أيضًا.»2 والواقع أننا نحيط علمًا بالكثير عن حياة شكسبير وتحركاته، بل ونعرف عنه أكثر مما نعرف عن أغلب المؤلفين المسرحيين الإليزابيثيين الآخرين. وربما أننا لا نعلم كل ما نود أن نحيط به علمًا، أو ربما أننا لا نعرف تفاصيل دقيقة عن الأشياء التي تثير اهتمامنا أكثر من غيرها، لكن من الخطأ القول بأن السجلات التاريخية شحيحة.

إننا نعلم متى وُلِدَ شكسبير (بفارق يوم قبل ذلك أو بعده)، ونعلم متى تُوُفِّيَ. ونعرف أيضًا تواريخ الميلاد والوفاة لأبنائه الثلاثة، ونعرف أبوَيْهم الروحيَّيْن. ونحيط علمًا بعائلة أمه، وعائلة أبيه، وأنشطة أبيه الأهلية في ستراتفورد، وأنشطته في مجالَيِ التهريب والمراباة، وديونه اللاحقة. ونعرف هُوِيَّة جيران شكسبير في ستراتفورد، ونعلم ميراثه من الممتلكات، وشراءه لها، واستثماره فيها؛ منازل في شارع هنلي، ونيو بليس، وكوخ في تشابل لين، وأرض في أولد تاون في ستراتفورد، وبيت حارس في منطقة بلاكفرايرز بلندن، وحصة في أعشار ستراتفورد. ونعلم بنزاعه القضائي (فقد كانت ثقافة عصره حافلة بالنزاعات). ونعلم بوفاة ابنه صغيرًا، وزيجتَيِ ابنتيْه. وإننا نفتقد معلومات يمكن مقارنتها بذلك عن كثير من معاصري شكسبير الإليزابيثيين والجيكوبيين.

جزء من أسباب معرفتنا الثرية نسبيًّا عن شكسبير هو أنه حافظ على صِلات بمَسْقَط رأسه فقدم لنا أحد الثوابت في حياته. ومع ذلك، نعترف بأن هناك فجوات؛ فنحن لا نعلم ما كان يفعله شكسبير خلال الفترة المحورية ما بين مغادرته ستراتفورد وظهوره في لندن، وهي تحديدًا «السنوات المفقودة» من أواخر ثمانينيات القرن السادس عشر. (يُلاحظ كولين بوروز أن «الآراء تتباين حتى فيما يتعلق بعدد السنوات المفقودة»).3 هل قصد لندن مباشرةً، وعمل بها ممثلًا؟ (حدثت جلبة كبيرة بسبب وفاة ممثل فرقة «رجال الملكة» ويليام نيل عام ١٥٨٧ بينما كانت الفرقة تقوم بجولة فنية لها، وتحديدًا قبل زيارتها ستراتفورد. هل اسْتُعين بشكسبير ليحل محله؟) أم هل عمل، كما أخبر جون أوبري لأول مرة في أواخر القرن السابع عشر، مديرًا لمدرسة بالريف، ربما في لانكشير، في مقاطعة وضمن عائلة (في هوتون تاور) ذات روابط كاثوليكية وعلاقات مع وركشير (طالع الخرافة السابعة)؟ من الواضح أن هناك الكثير من المعلومات التي نود أن نعرفها، لكن هذا لا ينبغي أن يعمينا عن حجم المعلومات التي نحيط بها علمًا «بالفعل». ما نفعله بما نعرفه — وأعني كيفية تقويمنا للدليل (والدليل السلبي)، والاستنتاجات التي نخلص إليها — هو المهم.
أحد الأشياء المحورية التي يمكن أن نفعلها بما نعرفه هو أن نضعه في سياقه. وعليه، فإن الزواج الذي حدث بالإكراه بين آن هاثاواي وويليام شكسبير، إلى جانب حقيقة كونها أكبر منه بثماني سنوات، كثيرًا ما يُترجَم بأن آن حاصرت عشيقها المراهق فأرغمته على الزواج منها (طالع الخرافة العاشرة). وحقيقة الأمر أن النساء الحبالى غير المتزوجات لم يَكُنَّ ظاهرة غير شائعة في ستراتفورد، ويُقَدِّر المؤرخون أن ٢٥٪ من العرائس في أواخر القرن السادس عشر كُن حبالى عندما تزوجن.4 وفي ظروف خاصة، كان يُنْظَر إلى العلاقة الجنسية ما قبل الزواج بوصفها ميزة، لا عيبًا؛ لأنها مكَنت العاشقين من الزواج رغم أنف آبائهم، ما دام الآباء كانوا يفضلون على الأرجح أن يُولَد أحفادهم من زواج شرعي ممن رفضوا تزويجه من قبل، على أن يأتوا من سِفاح. ويمكن تفسير زواج شكسبير المتعجل بأنه دليل على رغبته في الزواج، كما يمكن تفسيره بأنه دليل على وقوعه في شرك الزواج.
ويعتمد كون زواج هاثاواي وشكسبير، أو استمراره، «أسرًا … إراديًّا» (كما يصف فرديناند الزواج في مسرحية «العاصفة» الفصل الثالث، المشهد الأول، البيتان ٨٩-٩٠) على كيفية وضعنا هذه المسألة في السياق إلى جوار الأدلة اللاحقة. وقد يشير إخفاق الزوجين في إنجاب المزيد من الأطفال إثر وفاة ابنهما الوحيد عام ١٥٩٦ (طالع الخرافة العاشرة)، كما تعتقد كاثرين دنكان-جونز، إلى أن العلاقة الزوجية توقفت لفترة طويلة منذئذ، أو قد تعكس على نحو أكثر حيادية عقم آن بعد الولادة المتعسرة للتوءمين.5 يمكن أن تُحْكَى القصص بأكثر من طريقة استنادًا إلى الدليل عينه.
وتحيط حاجة مثيلة إلى السياق بالتعليم الذي حصَّلَه شكسبير (طالع الخرافة الثانية)؛ فكثيرًا ما يستشهد النقاد بزواج شكسبير بوصفه حدثًا ربما منعه من الالتحاق بالجامعة. في هذه الفترة، كان الحاصلون على ليسانس الآداب عُزَّابًا حرفيًّا. ولكن شكسبير تزوج في الثامنة عشرة من عمره، وهو عمر متأخر للالتحاق بالجامعة في القرن السادس عشر. (هناك الكثير من السجلات لطلاب التحقوا بالجامعة وأعمارهم تتراوح ما بين الحادية عشرة والثالثة عشرة). بحلول عام ١٥٨٢، إذًا، كان من الواضح أن الجامعة لم تكن من أولويات عائلة شكسبير لابنهم البكر. وحقيقة الأمر، كما كشف لويس بوتر، فإن واحدًا فقط من أبناء ستراتفورد المولودين عام ١٥٦٤ هو الذي التحق بالجامعة (وأخذ رتبة كهنوتية، كانت الجامعة هي التدريب اللازم للوصول إليها).6
الواضح من السجلات أنه رغم أننا نحيط علمًا بكم كبير من المعلومات عن معاملات شكسبير وأنشطته وشئونه المالية، فإن لدينا إحساسًا قليلًا جدًّا بشخصيته. ويناقض ذلك غيره من المؤلفين المسرحيين الإليزابيثيين؛ فشخصية بِن جونسون واضحة تمامًا لنا. كان، وفق موجز ستانلي ويلز اللاذع «الشخصية الأدبية والمسرحية الأكثر عنادًا وتكبُّرًا ومشاكسةً وجعجعةً وترويجًا للذات على نحو شَرِس في عصرها.»7 ويتضح أن مارلو كان غير تقليدي فكريًّا واجتماعيًّا، وربما كان مُدَّعيًا وحسب. وكانت عائلته بأسرها حادة الطباع وعفوية: تذكر السجلات أبًا «مشاغبًا وشكسًا وأخرق ومنشغلًا ومعتدًّا بذاته»، وأختًا متهمة بالتودد للرجال خارج نطاق العلاقات الزوجية، وأخرى عوقبت لكونها «مجدفة باسم الرب نزَّاعة للسباب واللعن.»8 أعلن توماس كيد — بعد أن اعْتُقِلَ عام ١٥٩٣ لحيازته مستندات إلحادية — أن تلك المستندات مملوكة لمارلو، وبعد أن تعرض للتعذيب أقر بالمزيد من التفاصيل عن معتقدات مارلو، قائلًا إنه كان يؤمن بأن المسيح ابن غير شرعي، وأن العذراء غير مخلصة، وأن يسوع ويوحنا المعمدان كانا عاشقَيْن شاذيْن، وأن الدين لم يؤسَّس إلا «لإرهاب الإنسان» وأن «كل الذين لا يعشقون التبغ والفتيان بلهاء.» أما ريتشارد بينز، العميل السري الذي أفضت ادعاءاته لاعتقال مارلو، فاتهمه بتحريض الناس على الإلحاد. ولا شك أن مارلو خالط المفكرين الأحرار (أمثال السير والتر رالي، وعالم الرياضيات توماس هارييت، وإيرل نورثمبرلاند المجوسيّ)، لكن كيد وبينز ليسا شاهديْن نزيهيْن: كان كيد خاضعًا للتعذيب، وكان بينز في الخدمة الحكومية. ولعل الطالب مؤلف مسرحيات «برناسوس» التي عُرِضَت في كامبريدج في مطلع القرن أكثر موثوقية؛ فهو لم يعرف مارلو، لكنه أخبر عنه ما ظن الجميع أنهم يعرفونه عنه إذ قال:
من أسف أن تسكن الفطنة عليلًا هكذا؛
فالعبقرية منحة من السماء بينما الآثام لعنة من الجحيم.
(الفصل الأول، المشهد الثاني، البيتان ٢٨٨-٢٨٩)9

ورغم أن هناك الكثير من التفاصيل التي نود معرفتها عن مارلو — كأنشطته الدقيقة في ريمز حينما كان غائبًا عن كامبريدج في مهمة حكومية، وسكه للعملات بالمخالفة للقانون بمدينة فلاشينج، وأنشطة آخر يوم من حياته، وحقيقة لحظاته الأخيرة — فإن هذه المعلومات من المستبعد أن تبدل شعورنا نحو مارلو الإنسان. ولأننا نعرف الكثير عن شخصيته فإننا نقرأ أبطاله — مثل تمبرلين وفاوست — باعتبارهم تعبيرات عن آرائه الشخصية، ومن المفارقة أنه لأننا لا نعرف إلا «القليل» عن شخصية شكسبير، فإننا نقرأ مسرحياته على أنها تعبيرات شخصية.

لدينا رسالة مكتوبة واحدة فقط موجهة إلى شكسبير خلال حياته كلها، وهي رسالة عمل من اثنين من أعضاء مجلس ستراتفورد المحلي عام ١٥٩٨ يحاولان فيها جذب انتباه شكسبير إلى مشروع استثماري.10 وأقرب شيء يرقى إلى كونه رسالة من شكسبير الإهداءات المطبوعة التي أرسلها إلى إيرل ساوثهامبتون، وصدَّرَ بها قصيدتيه الروائيتيْن «فينوس وأدونيس» (١٥٩٣) و«اغتصاب لوكريس» (١٥٩٤). وكانت تلك الإهداءات أشبه بالرسائل الغرامية: «كل ما أنجزته لك، وكل ما ينبغي أن أنجزه لك أيضًا، فأنت شريك في كل ما أملك، المخلص لك» (اغتصاب لوكريس). كان يمكن أن تكون هذه كلمات جولييت (كُتِبَت «روميو وجولييت» في العام التالي لنشر قصيدة «لوكريس»، عام ١٥٩٥) أو على لسان بورشيا في مسرحية «تاجر البندقية» التي كُتِبَت عام ١٥٩٦. وإنه لتعبير تصاعديٌّ أنيق. تنتقل البنية الثلاثية للعبارات من الزمن الماضي (ما أنجزته) إلى المستقبل (ما سأنجزه) ومنه إلى الزمن المستمر (شريك في كل ما أملك) الذي يتجاوز على نحو غير عادي علاقة الاعتماد والإخلاص المتوقعة القائمة على راعٍ ورعية إلى علاقة تكافل ووحدة (فأنت شريك في كل ما أملك). وهذه الكلمات بسيطة ونابعة من القلب، أو هكذا تبدو. ومن هذا المنطلق بالطبع، فهي تفي بغايات نوع الإهداءات الذي كان أدبه يتسم بالتملق والإخلاص في الوقت عينه: في هذا العصر الذي اتسم بالبلاغة الإنسانية الواعية بالذات، نجد أن الأسلوب المجرد له بناء فني شأنه شأن غيره من الأساليب. والصوت الذي قد يبدو أشبه بصوت شكسبير قد يكون أبعد ما يكون عنه.
ولعل السبب الذي يعلل رغبتنا باستماتة في أن تتحدث إلينا المسرحيات هو أن القصة التي تمليها علينا المستندات القانونية ليست دائمًا القصة التي نصبو لسماعها. هناك عدد كبير من كُتَّاب سير الحياة ممن ساءهم قصور أعمال شكسبير الخيرية الأهلية أو المؤسسية (رغم يُسْر حاله) في وصيته، أو شعروا بالإحباط بسبب توفر أدلة على تخزينه الحبوب عام ١٥٩٩ حينما هددت المجاعة أبناء ستراتفورد بسبب سوء المحاصيل، ولا سيما أن شكسبير كتب عن هذا السيناريو تحديدًا في مستهل مسرحيته «كوريولانوس»،11 أو لعلهم خاب ظنهم بسبب حقيقة أن شكسبير، خلال احتجاج اندلع في ستراتفورد ضد تسييج الأراضي الذي اقترحه ويليام كوم عامَيْ ١٦١٤–١٦١٥، استعان بمحامٍ لحماية أراضيه، وبدا أنه سَانَدَ كوم. والواقعة مُسجلة تسجيلًا دقيقًا، وتتحدث لويس بوتر بلسان كثيرين إذ كتبت: «يبدو سلوك كوم … مستفزًّا جدًّا، ومن المحبط أن نجد شكسبير في صفه.»12 التاريخ حافل بأمثلة للفنانين المبدعين الذين لم يكونوا ألطف الناس (موتسارت أحد هذه الأمثلة، والكاتب المسرحي الإليزابيثي أنطوني مانداي مثال آخر). لكن الإبداع الأدبي يُعَقِّد قَبول التناقض. (ربما) من المقبول تأليف الموسيقى الراقية والتصرف على نحو غير راقٍ، ولكن وضع الإنسان والمتعاطف في مركز العالم الدرامي لشخص ما (كما يفعل شكسبير)، ثم مجافاة هذا في الحياة الخاصة لشخص ما، أو اضطهاد الكاثوليكيين (كما فعل مانداي)، ثم تأليف مسرحية متعاطفة مع السير توماس مور …13

وعلى ذلك، فإن ويليام شكسبير ليس وحده الذي لا نعرفه؛ إننا لا نعرف كيفية التفاعل أو التداخل أو التناقض ما بين الحياة الواقعية والإبداع الفني. والشخص الذي يحمل كل اللوم على خيبة أملنا هو شخصية آن هاثاواي الغامضة التي يحتمل تاريخها الزواجي أكثر مما يحتمله تاريخ شكسبير من علاقات برواية ستيفن البسيطة الوقائعية: تزوجت، وأنجبت ثلاثة أطفال، وماتت. إننا نفتقر إلى أي إحساس متصل بشخصية شكسبير، وهذا الافتقار، بحسب ما جاء على لسان جيرمين جرير في كتابها «زوجة شكسبير» (٢٠٠٨، طالع الخرافة العاشرة)، هو الذي يؤجج القراءات المُعادية للرومانسية والكارهة للنساء، من حيث الأساس، لشخصية آن هاثاواي، باعتبارها شخصية مُحاصِرة لزوجها بدلًا من أن تكون (مثلًا) داعمة دعمًا وجدانيًّا، أو مُمَكِّنَة لشكسبير في مشواره الفني. وتوحي جرير بأن الحسد هو ما يكمن وراء هذه الرؤية. نحسد آن هاثاواي لأنها تملك شيئًا لا نملكه: ألا وهو القرب من شكسبير، وفهم هُوِيَّته، ومعرفة الأفكار التي جالت بعقله والمشاعر التي شعر بها.

هناك ميزة وحيدة لافتقارنا إلى اليقين بشأن شخصية شكسبير: ألا وهي ترك الباب مفتوحًا للكُتَّاب المبدعين لسد الفجوة. لا ترصد رواية أنطوني بيرجس «لا شيء كالشمس» (١٩٦٤) حياة شكسبير العاطفية فقط، ولكنها ترصد أيضًا الحياة الإليزابيثية نفسها من خلال نثره الإليزابيثي المستساغ (وهو الإنجاز الذي كرره بعد أن كتب عن حياة مارلو في رواية «رجل ميت في دتفورد»، ١٩٩٣). ويسلط فيلم جون مادن الضوء على الحياة العاطفية للمؤلف المسرحي الغِرِّ سيئ الطالع في عنوانه — «شكسبير عاشقًا» (١٩٩٨) — ويتناول شكسبير من الطرف الآخر للطيف التاريخي لبيرجس، صائغًا مشاهد عصرية بإبداع للحياة الإليزابيثية (مراكبي، وهو المقابل الإليزابيثي لسائق الأجرة، يفرض نصوصه على رواد المسرح، والنادل يفسر قائلًا: «طبقنا الخاص اليوم قدم خنزير منقوع في خل العرعر، وتُقَدَّم فطيرة مُحلاة ومصنوعة من الحنطة السوداء»). لكن الكاتبيْن قدما إلينا شكسبير بوصفه شخصًا يتحكم فيه قلبه. وكذلك يفعل بيتر ويلان في مسرحيته «مدرسة الليل» (١٩٩٢) التي يتناقش فيها مارلو وشكسبير عن نظرياتهما عن الكوميديا. من وجهة نظر مارلو، ينكشف البشر عندما يضحكون، والضحك «السمكة الفاغِرة فاهَهَا»، والكوميديا هي «الطُّعم الذي يُخْفِي الخُطَّاف.» وبهذه الفلسفة يشعر مارلو بالاضطراب حتمًا بسؤال شكسبير: «ولكن، ماذا لو أنك تود أن تُطعم السمكة لا أكثر … دون أن تصطادها؟»14 فشكسبير شخص عطوف، وتعاطفه موجه للإنسانية.

تقدم رواية كريستوفر راش «الوصية» منهجًا مختلفًا: يصوغ راش من ست صفحات قانونية بالأرشيف الوطني سيرة حياة خيالية، يُملي فيها شكسبير طريح الفراش وصيته. يلحظ محامي شكسبير أن وصية الإنسان وشهادته الأخيرة لا تربطهما أي قواسم مشتركة بمسرحية من مسرحيات شكسبير؛ فلا عاطفة فيها ولا غموض؛ فيجيبه عَمِيلُه: على العكس تمامًا، فالوصية فيها الكثير من المشاعر و«القليل من الدراما» مستترة بين السطور المحايدة. تُفْضِي تفسيرات شكسبير لتَرِكات وصيته إلى ذكريات منطقية عن علاقاته في ستراتفورد ولندن (عن منافسته لمارلو: «لقد وُلِدَ قبلي حتى؛ حيث سبقني بشهريْن»). وهناك الكثير من الأبيات المقتبسة بتصرف وبإبداع من شكسبير وآخرين: آن هاثاواي «ملهمته الآتية من الجحيم»، «هذا المرض العضال، زوجتي.» إذا كان الزواج بلوى، فالكتابة مرض أيضًا («السعداء لا يؤلفون المسرحيات. السعداء يلعبون البولينج»)، ونلمح إحساس شكسبير بالفشل زوجًا وأبًا وتاجرًا ودارسًا وشهيدًا. كل الخرافات التي نناقشها في هذا الكتاب تعالجها رواية راش بإبداع.

وكما أن فالستاف ليس سريع البديهة وحسب بحد ذاته، بل إنه «أيضًا السبب وراء تحلي غيره من البشر بسرعة البديهة» («هنري الرابع – الجزء الثاني»، الفصل الأول، المشهد الثاني، البيتان ٩-١٠)، أَجَّجَت حياة شكسبير حياوات أخرى، حياوات خيالية. وبطريقة ما، تتحول القصص الخيالية إلى حقائق. نرى هذا من شرفة جولييت في مدينة فيرونا (فهي شرفة حقيقية لشخصية خيالية)، إلى فيلم لورانس أوليفييه «هنري الخامس» الجارية أحداثه بمسرح إليزابيثي يصبح بالنسبة لكثيرين منا، على الأقل في لحظات الضعف، بمنزلة دليل على ما كان يحدث في المسرح الإليزابيثيِّ. (كان المُلَقِّنون الإليزابيثيون ظاهرين على خشبة المسرح. كيف لنا أن نعرف ذلك؟ هكذا رأيناهم في فيلم أوليفييه).

إن التشاور بشأن حياة شكسبير وحقائقها (المحبطة أحيانًا) وفجواتها المخيبة للآمال يدفعنا إلى التفكير في الخرافات. استشهدنا، في مقدمتنا، بتعريفات «قاموس أكسفورد للغة الإنجليزية» لكلمة «خرافة». وهنا، نجد أن تعريف أمبروز بيرس الساخر في «قاموس الشيطان» (١٩٠٦) مفيدًا:

الميثولوجيا، اسم. مجموعة المعتقدات التي تبناها شعب بدائي فيما يخص أصله، وتاريخه المبكر، وأبطاله، وآلهته وما إلى ذلك، تمييزًا لها عن «الروايات الحقيقية» التي «يخترعها» لاحقًا. (التنصيص من جانبنا.)

تُلازم «الحقيقة» «الإبداع» في جميع سِيَر الحياة؛ فالسِّيَر ما هي إلا قصص نقصها. وسير كريستوفر راش أو أنطوني برجس خرافية — أي إنها ابتكار حقيقي — بقدر سِيَر بيتر أكرويد أو تشارلز نيكول.

هوامش

(1) This quotation, and variants of it, appear in print and on the web.
(2) Bill Bryson, Shakespeare: The World as a Stage (London: HarperCollins, 2007), p. 7.
(3) Colin Burrow, “Who Wouldn’t Buy It?,” review of Stephen Greenblatt’s Will in the World, London Review of Books, 20 January 2005.
(4) Germaine Greer, Shakespeare’s Wife (London: Bloomsbury, 2007); Lois Potter, The Life of William Shakespeare: A Critical Biography (Oxford: Wiley-Blackwell, 2012), ch. 3, citing David Cressy, Birth, Marriage and Death (Oxford: Oxford University Press, 1997), p. 74.
(5) Katherine Duncan-Jones, Ungentle Shakespeare: Scenes from his Life, Arden (London: Thomson Learning, 2001), p. 91; Potter, The Life of William Shakespeare, p. 59.
(6) Potter, The Life of William Shakespeare, p. 48.
(7) Stanley Wells, Shakespeare and Co. (London: Penguin, 2007), p. 129.
(8) William Urry, Christopher Marlowe and Canterbury (London: Faber & Faber, 1988), p. 28; Christopher Marlowe, Dr Faustus: The A-Text, ed. Roma Gill, New Mermaids (London: A. & C. Black, 1989), p. 2, quoting Urry, “Marlowe and Canterbury,” Times Literary Supplement, 13 February 1964.
(9) The Three Parnassus Plays, ed. J. B. Leishman (London: Nicholson& Watson, 1949).
(10) Potter, The Life of William Shakespeare, pp. 235–6.
(11) Duncan-Jones, Ungentle Shakespeare, p. 109.
(12) Potter, The Life of William Shakespeare, p. 404.
(13) Sir Thomas More, ed. John Jowett, Arden (London: A. & C. Black, 2011).
(14) Peter Whelan, The School of Night (London: Warner Chappell Plays, 1992), pp. 57-8.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤