الخرافة السابعة عشرة

اعتاد شكسبير أن يكتب منفردًا

نميل إلى اعتبار العبقرية فنًّا منعزلًا؛ إذ يعمل الكاتب وحيدًا في صومعته. يُظهر فيلم «شكسبير عاشقًا» شكسبير في مراحل عدة من عثرة المؤلف — حيث ظهر وهو يتدرب على إتقان توقيعه، ويتحدث إلى مُعالجه، ويبدأ باستهلال خاطئ («روميو وإيثيل ابنة القرصان») — قبل أن ينتهي من الصفحة تلو الأخرى بجنون إبداعي مدفوع بالحب. إن الكاتب ليكتب (أو يخفق في الكتابة) وحده، سواء في نجاحه أو في إخفاقه. وينطبق هذا النموذج أيضًا على أشكال أخرى من الفنون، كالموسيقى؛ فلا يمكننا أبدًا أن نتخيل أن سيمفونية بيتهوفن التاسعة ألفها «بيتهوفن ومساعده ومراجعوه» (صياغتنا مستقاة من نسخة ريفلز لمسرحية «د. فاوست» التي حررها ديفيد بيفينجتون وإريك راسموسن، وتُعلن صفحة عنوانها عن الأيادي المتعددة التي شاركت في صنع مسرحية مارلو). وما زالت مقطوعة «قداس الموت» لموتسارت معروفة باسمها هذا، رغم معرفتنا بأنها لم تُستكمل قبل وفاة موتسارت وأن جزءًا منها — ربما حتى الجزء الأكبر — يُنْسَب إلى فرانس اكسافر سوسماير.

ولكن إذا كان العبقري انعزاليًّا، فالمسرح تآزري بحكم التعريف؛ فهو يتطلب مشاركة وتنسيقًا من مجموعات كثيرة من الناس: الممثلين، ومصممي الأزياء، والموسيقيين (على سبيل المثال لا الحصر). هؤلاء هم الشركاء المتعاونون (أو على الأقل بعضهم) في مرحلة الإنتاج؛ فكيف كانت الأمور في مرحلة التأليف؟

يسجل المدير المسرحي الإليزابيثي، فيليب هينسلو، بانتظام الدفعات المالية لفِرَق المؤلفين. وغالبًا ما تُظهر مخطوطات المسرحيات الباقية أكثر من خط يد واحد. وأشهر تلك الأعمال مسرحية «السير توماس مور» التي عمل عليها خمسة مؤلفين/مراجعين (وكان شكسبير واحدًا من مراجعيها). وعندما اشترك توماس ميدلتون وصامويل رولي في تأليف مسرحية «المُسْتَبْدَل» (١٦٢٢)، كتب رولي الحبكة الفرعية الكوميدية بينما اختص ميدلتون نفسه بالحبكة الأساسية التراجيدية. وعندما كان روبرت دابورن متخلفًا في مهمة كلفه بها فيليب هينسلو عام ١٦١٣، تعاقَد من الباطن من أجل تأليف فصل لتسريع العمل. من الواضح أن هناك الكثير من نماذج التعاون في المسرح الإليزابيثي.

ولكن، إذا كان من الواضح أن التآزر لم يكن غريبًا؛ فمن الجلي بالقدر نفسه أن كثيرًا من المؤلفين ألفوا فُرادى، وفضلوا أن يكتبوا بمعزل عن الآخرين. يضرب أنطوني برجس على هذا الوتر في روايته «سيدة إندربي السمراء» إذ يصور ثنائي التأليف الجيكوبيِّ بومونت وفليتشر اللذين لم يتشاطرا مكتبًا واحدًا وحسب، ولكن عشيقة واحدة أيضًا، كما ذُكِرَ عنهما. يدلف شكسبير، كما يصوره برجس، إلى حانة، ويجلس «على مسافة ليست بالبعيدة عن بومونت وفليتشر وعشيقتهما المشتركة التي كانت مسرورة بمنح قبلاتها وأحضانها لكليهما بالتساوي، إذ كانت من مواليد برج الميزان.» ألقى فرانك بومونت بالتحية على شكسبير على استحياء، قائلًا:
«سيد شكسبير، ثمة مسألة نود أن نتحدث إليك بشأنها، ألا وهي التعاون بيننا وبينك هنا.»
«إنها قادرة على مداعبة اثنين فما بالك بثالث.»

يرفض شكسبير الذي صوره برجس أي شكل من أشكال التعاون، لكن الأدلة تشي بقصة مختلفة.

إن مجموع أعمال شكسبير من تأليف شخص واحد بجميع أنواعها الأدبية: الأعمال الكوميدية والتاريخية والتراجيدية. ومن بين المسرحيات الثمانية والثلاثين في أعمال شكسبير الكاملة، وُجِدَ أن ست مسرحيات فقط تعاون فيها شكسبير مع مؤلفين آخرين، ألا وهي: «هنري السادس – الجزء الأول»، و«تيتوس أندرونيكوس»، و«تيمون الأثيني»، و«بريكليس»، و«القريبان النبيلان»، و«كل شيء حقيقي» (هنري الثامن). (ويرتفع هذا الرقم إلى ٨ مسرحيات إذا ما ألحقنا بما سلف الجزأين الثاني والثالث من مسرحية «هنري الخامس»، وهو الأمر الذي ليس عليه إجماع). للمقارنة: نصف أعمال توماس ميدلتون الكاملة، تقريبًا، تَعاوُنِيٌّ؛ وأكثر من نصف المسرحيات الإليزابيثية مؤلَّفة تأليفًا مشتركًا.1

عرفنا منذ فترة طويلة أن شكسبير تعاون مع آخرين في نهاية مشواره الأدبي. نُشِرَت نسخة «القريبان النبيلان» الصادرة عام ١٦٣٤، وهي المسرحية التي لم تُدْرَج ضمن مجموعة أعمال شكسبير عام ١٦٢٣، باسميْن على صفحة العنوان: «النبيلان السيد جون فليتشر والسيد ويليام شكسبير». وكان الاثنان قد تُوُفِّيَا قبل عام ١٦٣٤ (تُوُفِّيَ فليتشر عام ١٦٢٥، وشكسبير عام ١٦١٦). وتصفهما صفحة العنوان ﺑ «أجدر أهل عصرهما بالتذكر.» كان فليتشر واحدًا من أنجح المؤلفين المسرحيين بفرقة «رجال الملك» لعقديْن من الزمان، وما برحت مسرحياته تُنْشَر ويُعاد نشرها. وفيما بين عامَيْ ١٦٢٠ و١٦٤٣، كان هناك عشر طبعات لست من مسرحياته، ومنها مسرحية «القريبان النبيلان». ولم يشهد عام ١٦٣٤ نشر مسرحية «القريبان النبيلان» وحسب، ولكن كذلك مسرحية «الراعية المخلصة» التي ألفها فليتشر منفردًا، وشهد العام التالي مسرحيتيْن أخريين لفليتشر طُبِعَتا لأول مرة. ولذلك فإن اسم فليتشر وحده كان ميزة تسويقية مضمونة عام ١٦٣٤. من الممكن أن يكون هناك سبب واحد يدعو لإضافة اسم شكسبير على صفحة عنوان مسرحية «القريبان النبيلان»، وهو أنه كان حقًّا مؤلفًا مشاركًا.

من السبل القليلة التي يمكننا بها تعيين الإسهامات في الأعمال المشتركة، البصمات اللغوية للمؤلفين: وأعني اللازمات اللفظية التي تتجلى على مستوًى لا شعوري. وعليه، على سبيل المثال، يُفَضِّل فليتشر شكل الضمير المحور «هُم» بالإنجليزية «’em»، ويفضل شكسبير «them». وفي مسرحية «القريبان النبيلان»، نجد المشاهد التي تحوي هاتيْن الصيغتيْن المتباينتيْن محددة بوضوح إلى حدٍّ بعيد. لكن بعض المشاهد تحوي الصيغتيْن معًا. من الواضح أن المؤلفيْن المتعاونين قرأ الواحد منهما مشاهد الآخر وساهم فيها.
أُلِّفَت مسرحية «القريبان النبيلان» عام ١٦١٣. وكُلِّلَت الشراكة بالنجاح: تعاون فليتشر وشكسبير مجددًا في العام نفسه في تأليف مسرحيتَيْ «كل شيء حقيقي» (هنري الثامن) و«كاردينيو» (مفقودة حاليًّا). ورغم أن شكسبير بدأ أعماله الرومانسية المتأخرة بالتعاون مع مؤلفين آخرين، حيث كتب «بريكليس» (عام ١٦٠٧) بالتعاون مع جورج ويلكنز،2 فلم تتكرر شراكته مع ويلكنز. وكان شكل التعاون بينهما نفسه مختلفًا؛ فمن الواضح أن شكسبير كان مسئولًا عن الفصول من الثالث حتى الخامس من «بريكليس»، بينما كتب ويلكنز الفصليْن الأول والثاني.

لنرجع إلى بداية مشوار شكسبير الأدبي، بما أن تلك الفترة تحمل في طياتها نقاط تماس مع المنهج التآزري مع ويلكنز. لطالما شك النقاد في أن ثمة يدًا غريبة تدخلت في تأليف الفصل الأول من مسرحية «هنري السادس – الجزء الأول»، وفي الفصل الأول من مسرحية «تيتوس أندرونيكوس». وكان تعيين تلك اليد (الأيادي) الغريبة أمرًا شاقًّا. وكان المرشح المفضل لمسرحية «تيتوس أندرونيكوس» هو جورج بيل. ومما عَقَّدَ مسألة التعاون في تأليف «هنري السادس – الجزء الأول» أين نضعها، من حيث التسلسل الزمني، في الترتيب المعروف الآن ضمن أجزاء مسرحية «هنري السادس» من الأول إلى الثالث. يعتقد كثير من النقاد أن مسرحية «هنري السادس – الجزء الأول» كُتِبَت بعد «هنري السادس – الجزء الثالث» كجزء تمهيدي؛ فبعد أن كتب شكسبير جزأين متتابعين عن عائلتي يورك ولانكستر، وقعت بين يديه مصادفةً مسرحية (ربما بقلم بيل أو ناش؟) واقتبسها بتصرف. لكن هذه النظرية لا تضع في الحسبان بما يكفي البساطة (بل وحتى الدونية) اللغوية لمسرحية «هنري السادس – الجزء الأول» مقارنة بالأجزاء الأخرى من المسرحية نفسها؛ فمسرحية «هنري السادس – الجزء الأول» واحدة من أيسر المسرحيات التي يمكن أن يطالعها المرء لشكسبير. وكل بيت فيها يوازي فكرة واحدة؛ فما من بِنًى نحويَّة أو صور بيانية أو أفكار معقدة على الإطلاق. ومن الصعب أن ننظر إلى هذه المسرحية على أنها من بنات أفكار شخص كتب للتو «هنري السادس – الجزء الثالث»، وكان بصدد تأليف مسرحية «ريتشارد الثالث.»

وتاريخَا هاتين المسرحيتين قريبان جدًّا (أواخر الثمانينيات أو أوائل التسعينيات من القرن السادس عشر لمسرحية «هنري السادس – الجزء الأول»، وأوائل تسعينيات القرن السادس عشر لمسرحية «تيتوس أندرونيكوس»)؛ فهما ليستا مبكرتيْن في مشوار شكسبير الأدبي فقط، ولكنهما مبكرتان في حياة المسرح الإليزابيثي الاحترافي أيضًا. وهناك أيضًا أسباب عملية للتعاون؛ إذ تسير الكتابة بسرعة أكبر؛ فمسرحيتان أفضل من مسرحية واحدة، وثلاث أو أربع أفضل وأفضل. كان المسرح الذي اكتسب الطابع الاحترافي حديثًا بحاجة إلى مسرحيات جديدة. وبين الفترة من ٢٧ ديسمبر ١٥٩٣ و٢٦ ديسمبر ١٥٩٤، تُسجل يوميات هينسلو ٢٠٦ عروضًا مسرحية ﻟ ٤١ مسرحية مختلفة، وإذا كانت حاشيته ne تعني «جديد»، فإن هذا يقتضي أن ١٥ من تلك المسرحيات كانت جديدة. وكان الكاتب المسرحي روبرت دابورن يلجأ إلى الاستعانة بمؤلفين من خارج الفريق كلما كان بحاجة للوفاء بموعد نهائي معين. وكذلك فعل بومونت وفليتشر شخصيتا برجس الخياليتان. يصحح بيومون (سوء) تفسير شكسبير الجنسي لتعاونه المُقترح: «أعني تعاونك معي ومع جاك؛ فنحن بصدد كتابة مسرحية كوميدية بعنوان «اللعنة عليك أيتها اللعوب»، ويجب أن تكون جاهزة للتدريبات المسرحية في غضون يوميْن من الآن، لكننا لم نشرع في كتابتها رغم أننا استلمنا أموالها.» وثمة اعتبار عملي ثانٍ يسري في هذا السياق: كان التعاون يعمل كنظام للتمرين، يتعلم في سياقه المؤلفون المسرحيون قليلو الخبرة من الآخرين بالتعاون معهم. وفي الفترة ما بين عامي ١٦١٢ و١٦١٣، ربما كان شكسبير يُدَرِّب خلفه (أمسى جون فليتشر كاتبًا مسرحيًّا «ملحقًا» (أي متعاقدًا) مع فرقة «رجال الملك» خلفًا لشكسبير).
ماذا عن الفترة الوسيطة من مشوار شكسبير المهني؟ في عام ١٦٠٧، تعاون شكسبير مع توماس ميدلتون في المسرحية الساخرة «تيمون الأثيني». ولعل المسرحية غير مكتملة (فهي تحوي نهايات فضفاضة)، ولو أنها قابلة للأداء على خشبة المسرح بالتأكيد. (اقتبس ميدلتون فيما بعد بتصرف «ماكبث» و«العين بالعين» بعد وفاة شكسبير؛ طالع الخرافة الرابعة والعشرين). لقد بدأنا توًّا في استكشاف مدى علاقة العمل بين ميدلتون وشكسبير خلال تلك الفترة. من بين الشخصيات المحورية في كوميديا ميدلتون المدينية «عالم مجنون أيها السادة» (١٦٠٧)، التي كتبها قبل مسرحية «تيمون الأثيني» مباشرة، فارس مُغالٍ في السخاء يُدعى السير باونتيوس بروديجال. وبالنظر إلى أن تيمون هو نفسه سير بونتيوس بروديجال في صيغة تراجيدية، فربما استهل ميدلتون مسرحية «تيمون الأثيني» التعاونية في واقع الأمر بوصفها خطوة تالية منطقية من حيث النوع الأدبي، إثر اكتشافه الإسراف في الشكل الكوميدي.3 لقد قدمنا مؤخرًا دليلًا يوحي بأن ميدلتون كان مؤلفًا مشاركًا لشكسبير في مسرحيته «الأمور بخواتيمها» (حوالي عام ١٦٠٧). ولطالما لاحظ النقاد شذوذات في النص المطبوع الأول لهذه المسرحية (مجموعة الأعمال الكاملة لعام ١٦٢٣)، وأعني تنويعات في تسمية الشخصيات في سوابق الكلام والإرشادات المسرحية وفي الحوار؛ إرشادات مسرحية روائية فضولية على نحو غريب تَعِد بحوار لا يقع لاحقًا، ولهجة حضرية غير شكسبيرية حاسمة، وما إلى ذلك. ويتطابق الكثير من السمات النصية واللهجية والأسلوبية مع التفضيلات والعادات المعروفة لتوماس ميدلتون، ونراها مُرَكَّزَة تحديدًا في مشاهد بعينها — الحبكة الفرعية الكوميدية الخاصة بباروليس مثلًا — لكنها تظهر في بعض مشاهد هيلين أيضًا.4 وعليه فإننا بحاجة إلى تعديل القصة التقليدية الخاصة بالتأليف المشترك في مشوار شكسبير المهني، وهي القصة التي تعاون فيها، لفترة قصيرة، ولكن بنجاح، في بداية مشواره، ثم بانتظام أكبر في نهاية مشواره المهني ولكن بلا نجاح يُذْكَر، أو على نحو منتظم في منتصف مشواره. يبدو لنا الآن أن التعاون كان نشاطًا مستساغًا وعمليًّا من وجهة نظره على طول الخط، وناجحًا بالقدر الكافي من وجهة نظره لكي يرغب في التعاون مع مؤلفَيْن آخريْن (ميدلتون وفليتشر) مجددًا.

بحثنا إلى الآن مسرحيات مُشْتَرَكَة التأليف. لكنَّ هناك نوعًا آخر من أشكال التعاون، يُسْهِم فيه المؤلف بخطبة أو مشهد أو تتابع وجيز لمسرحية مؤلف آخر. وهذا ما حدث في مخطوط مسرحية «جون البرديلي»، وهي تتمة لمسرحية روبرت جرين الكوميدية الشعبية «الراهب بيكون والراهب بانجاي» (١٥٨٩) حيث كتب هنري شيتل خطبة واحدة (تُرِكَت مساحة خالية كبيرة لهذا الغرض). وهذا هو الحال أيضًا في المسرحية التاريخية المجهولة المؤلف «إدوارد الثالث» التي ألَّفَ فيها شكسبير مشاهد كونتيسة سالزبري (١٥٩٦ تقريبًا). وهذا هو الحال كذلك في مسرحية «السير توماس مور»، حيث أضاف شكسبير خُطبًا يُخاطب فيها مور المشاغبين ويُهدئ من ثورتهم. وهذه حالة مثيرة لاهتمام خاص وجديرة بالتوقف عندها.

تُضفي مسرحية «السير توماس مور» صبغة درامية على حدثيْن أساسييْن بالتاريخ الحديث: أحداث شغب «يوم مايو المشئوم» التي اندلعت عام ١٥١٧، ورفْض مور تأييد المواد المتعلقة بطلاق هنري الثامن عام ١٥٣٢ (المختلط بالمسرحية مع رفضه تأييد قانون التعاقب عام ١٥٣٤). وتربط المسرحية بين الاثنين إذ تجعل مور يقنع المشاغبين بالطاعة في النصف الأول، بينما يرفض هو الامتثال لملكه في النصف الثاني من المسرحية. وتحوي مخطوطة المسرحية بصمات سبعة مشاركين: خمسة مؤلفين/مراجعين، وناسخ، والمسئول عن الاحتفالات الملكية إدموند تينلي الذي مارس رقابته على نحو متشدد جدًّا، حتى إن كثيرًا من النقاد ظنوا أن أصحابها تخلوا عنها. في مرحلة ما لاحقة، نُقِّحَت المسرحية. ومن الأسئلة التي طالما انتقدت المسرحية نقدًا لاذعًا: ما الداعي إلى تأليفها أصلًا نظرًا لأنها تصوغ في قالب مسرحي مادةً لم يكن بالإمكان مناقشتها علنًا في القرن السادس عشر؟ متى أُلِّفَت المسرحية؟ ما الذي يدعو مونداي، وهو أحد مؤلفي المسرحية ومعارض متشدد ضد الكاثوليكية، إلى تأليف مسرحية متعاطفة مع شهيد كاثوليكي؟ هل تمت التنقيحات مباشرة بعد قرارات تينلي الرقابية أم بعدها؟ مَن هم المشاركون السبعة والمؤلفون الخمسة؟

ترسم طبعة أردِن الجليلة (٢٠١١) لجون جاويت خطًّا واضحًا عبر تلك الأسئلة.5 ألَّفَ مانداي وشيتل المسرحية الأصلية، ومَارَسَ تينلي رقابته عليها، ونَسَّقَ ناسخ مسرحي مجهول مراجعات شيتل وثلاثة مؤلفين آخرين: وهم ديكر وهيوود وشكسبير. ويُسَكِّن جاويت المسرحية في أواخر الحقبة الإليزابيثية، حوالي عام ١٦٠٠ (فقد كانت المسرحيات التي تتناول فترة حكم هنري الثامن تُدْرَج ضمن ذخيرة المؤلفات الفنية للفرق آنذاك)، وأن مراجعتها كانت خلال عامَيْ ١٦٠٣-١٦٠٤. يشعر جاويت بأنه «أكثر اطمئنانًا» للتاريخ المقترح للمراجعة من ارتياحه لتاريخ التأليف الأصلي. ويدعم تاريخه ١٦٠٣ / ١٦٠٤ المنظور الجديد عن شكسبير كمتعاون مع آخرين. وبدلًا من حصر التعاون في بداية مشواره الأدبي ونهايته وحسب، أصبح لدينا سيناريو يؤيد فكرة تأليف شكسبير بالتعاون مع آخرين ولأجلهم في منتصف مشواره الأدبي. (لقد كان ضربًا من الالتزام التعاقدي أن «يُرقِّع» مسرحيات غيره، أو يضيف إليها مقدمات أو خاتمات جديدة. في عام ١٦٠٢، تَلَقَّى بِن جونسون أجرًا لقاء إضافات أنجزها لمسرحية «المأساة الإسبانية» لتوماس كيد، ولو أنه ثبت أن شكسبير هو مؤلف تلك الإضافات المنشورة.6 في العام نفسه، تلقى صامويل بيرد وويليام رولي أجرًا عن إضافات لمسرحية مارلو «د. فاوست»).

إن حشد عدد كبير من الأيدي عادةً ما يكون علامة على أن النص المنقح كان مطلوبًا بإلحاح (وخاصةً بالنظر إلى أن المراجعين كانوا يعملون في آنٍ واحد، لا بالتعاقب، كما تظهر المخطوطة). قد يساعدنا تعيين جاويت لتواريخ عمليات التنقيح في بداية عهد الملك جيمس على تحديد المناسبة. من بين الأسئلة المحيرة عن المشوار الأدبي لشكسبير: لِمَ لَمْ يؤلف شكسبير نصوصًا لمهرجانات المدينة (طالع الخرافة الرابعة عشرة)؟ فقد كانت مواكب عمدة مدينة لندن السنوية (واحتفاليات تتويج الملك جيمس عام ١٦٠٤) مناسبات مواتية تُعْلِن فيها المدينة عن الأعمال المسرحية البارزة. ولقد أُوكِلَ إلى كلٍّ من مانداي وميدلتون وجونسون وهيوود وديكر وبيل تأليف نصوص لمهرجانات المدينة. لِمَ لَمْ يُكَلَّف شكسبير بالأمر نفسه؟ كان شكسبير يعرف جميع هؤلاء المؤلفين وتعاون مع بعضهم في مراحل متعددة وبطرق متباينة (فقد مَثَّلَ في مسرحيات جونسون مثلًا، وتعاون مع بيل في مسرحية «تيتوس أندرونيكوس»). ولعل مراجعة مسرحية «السير توماس مور» على عجل في الفترة بين عاميْ ١٦٠٣ و١٦٠٤ كانت تُعْزَى إلى فعالية من فعاليات لندن.

وتُطِيحُ مُحاجَّة جاويت بشأن تأريخ إضافة شكسبير لمسرحية «السير توماس مور» حوالي عام ١٦٠٤، علاوة على اقتراحنا المتعلق بالطبيعة التآزرية لمسرحية «الأمور بخواتيمها» حوالي عام ١٦٠٧، بالكثير من فرضياتنا عن الفترة الوسيطة من المشوار الأدبي لشكسبير: نعلم أنه تعاون مع آخرين، ولكن ليس في تلك الفترة ولا على ذاك النحو. وربما أمكننا توسعة نطاق تفكيرنا. يرى جيورجيو ميلكيوري علاقة بالبلاط في مسرحية «زوجات ويندسور البهيجات» (١٥٩٧). ويحتج بأن هذه لم تكن وحسب مسرحية تُعْرَض بالبلاط كما هو حال كثير من مسرحيات شكسبير، بل إنها مسرحية تطورت من مسرحية قصيرة للبلاط كتبها شكسبير خاصة للورد هانسدون الثاني (نقَّحَ شكسبير المسرحية القصيرة وحولها إلى نسخة أطول من مشهد شجرة سنديان هيرن الذي طُبِعَ لاحقًا في الأعمال الكاملة الصادرة عام ١٦٢٣).7 وشأنها شأن نسخة جاويت لمسرحية «السير توماس مور»، تفتح لنا نسخة مسرحية «زوجات ويندسور البهيجات» لميلكويري الباب للتفكير في أنواع أخرى من الكتابة شارك فيها شكسبير. إن هذه النسخ مجتمعةً تُوَسِّع مفهومنا عن الظروف الاجتماعية، بالمدينة والبلاط، التي كان شكسبير يكتب فيها ويُكَلَّف فيها بالكتابة.

هوامش

(1) Stanley Wells, Shakespeare and Co. (London: Penguin, 2007), p. 248 n. 40, citing Eric Rasmussen, “Collaboration,” in Michael Dobson and Stanley Wells (eds.), The Oxford Companion to Shakespeare (Oxford: Oxford University Press, 2001).
(2) For an account of this insalubrious character see Charles Nicholl, The Lodger: Shakespeare on Silver Street (London: Penguin, 2008).
(3) See Laurie Maguire and Emma Smith, “‘Time’s Comic Sparks’: The Dramaturgy of A Mad World My Masters and Timon of Athens,” in Gary Taylor and Trish Thomas Henley (eds.), The Oxford Handbook of Thomas Middleton (Oxford: Oxford University Press, 2012), pp. 181–95.
(4) Laurie Maguire and Emma Smith, “Many Hands – A New Shakespeare Collaboration?”, Times Literary Supplement, 20 April 2012, pp. 13–15.
(5) Sir Thomas More, ed. John Jowett, Arden (London: A. & C. Black, 2011).
(6) Brian Vickers surveys a number of important new studies on Shakespeare’s authorship in his “Shakespeare and Authorship Studies in the Twenty-First Century,” Shakespeare Quarterly, 62 (2011), pp. 106–42.
(7) The Merry Wives of Windsor, ed. Giorgio Melchiori, Arden (Walton-on-Thames: Thomas Nelson, 2000).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤