الخرافة التاسعة عشرة

لو كان شكسبير يؤلف في عصرنا، لكانت هوليوود قِبْلَةً لأعماله

ثمة تقنية جديدة وسريعة التطور سيطرت على إنتاج المسرحيات وتوزيعها، وسمحت بعرض عدد كبير من المنتجات كل عام. مصنع للأحلام، يشكل خيال أجيال من مرتادي المسرح. عمل ترفيهي تجاري مستقر بعيدًا عن متناول السلطات. صناعة نبذت الأفكار الأولى المشبوهة التي ارتبطت بها لتخاطب الملوك والبلاط والعوام. ومن السهل أن نسمع أصداء المسرح الحديث المبكر في هوليوود القرن العشرين، وكلنا على دراية بالحجة المفضلة لدى المتحذلقين، وهي أن المسرح كان وسيلة الترفيه الشائعة على أيام شكسبير. وعليه، أمِنَ المنطق افتراض أنه لو كان شكسبير موجودًا في عصرنا الحديث لكتب لصالح هوليوود؟

إن نقاط التوازي بين عالمَيِ الترفيه هذَيْن مُوسَّعَة وموحية؛ فكما نمت صناعة المسرح في أوائل العصر الحديث على الضفة الجنوبية لنهر التيمز، لتفادي رقابة سلطات لندن المدنية، تطورت هوليوود على مقربة من الحدود المكسيكية، حيث كانت على مقربة منها منطقة آمنة خارج اختصاص المحاكم. وتصل كلتا الصناعتين إلى جمهور عريض من المشاهدين (طالع الخرافة الأولى) وهما ناجحتان تجاريًّا وجماليًّا، وتحققان الثراء لأبرز المشاركين فيهما (ومنهم شكسبير، المساهم في فرقة «رجال اللورد تشامبرلين»). والحجج التي سِيقَت فيما يتعلق بأخلاقيات هذين الوسطين التمثيليين متماسة أيضًا؛ فقد كانت غاية قانون هيز المفروض على هوليوود منذ عام ١٩٣٠ ضمان أنه «لا يجوز إنتاج أي فيلم من شأنه الحط من المعايير الأخلاقية لمشاهديه»، واعْتُمِدَ مبدأً حاكمًا أن الأفلام «تؤثر في المعايير الأخلاقية للذين يستقبلون أفكارها ومُثُلَهَا عبر الشاشة.» كتب فيليب ستَبْز عام ١٥٨٣ شاكيًا من المسرح بألفاظ مثيلة، ولو أنها أكثر إيحاءً:
تقولون إن هناك مُثُلًا عظيمة يمكن أن نتعلمها فيها (المسرحيات)، وصحيح أن فيها ذلك إن شئت أن تتعلم الزيف، وإن شئت أن تتعلم التدليس، وإن شئت أن تتعلم الخداع، وإن شئت أن تتعلم ادعاء الفضيلة، وتداهن وتكذب وتزور، وإن شئت أن تتعلم التهريج والضحك والسخرية والتجهم والإيماء والتكشير، وإن شئت أن تتعلم ادعاء الرذيلة، وتقسم وتدمع وتلعن السماوات والأرض، وإن شئت أن تتعلم كيف تصبح قَوَّادًا ونَجِسًا وكيف تُفْقِد العذراوات عذريتهن وتَفُضُّ بكارة الزوجات المخلصات، إن شئت أن تتعلم القتل والنحر والفتك والنشل والسرقة والسطو والتشرد، وإن شئت أن تتعلم التمرد على الأمراء، واقتراف الخيانات، وتبديد الثروات …1

وهكذا دَوَالَيْك. وكون آنية رؤية الأفعال وهي تمثَّل — سواء على المسرح أو على الشاشة — ربما تدفع المشاهدين إلى أخلاقيات غير محمودة على سبيل المحاكاة يتجلى في صورة هاجس مشترك.

ولقد حاول المدافعون عن الوسطين الفنييْن الإيحاء بأن العكس هو الصحيح: أن الأفلام/المسرح يمكنها تلقين المشاهد سلوكيات إيجابية. جمعت ليندا روث ويليامز ملاحظات عن سلوك الجماهير أثناء حضورهم فيلم المغامرات الإيروتيكي «جاذبية قاتلة» (من إخراج أدريان لين، ١٩٨٩)، ويبدو أنها أثبتت أن النساء والرجال على حد سواء استجابوا بقوة معارضين تصوير علاقة خارج الزواج. وكتب واحد من النقاد الذين استشهدت بهم أنه «إذا لم يردعك الإيدز، فإن هذا الفيلم سيردعك.»2 وهذا الفيلم ليس ببعيد جدًّا عن حكاية توماس هيوود عن امرأة نورفولك التي كانت تشاهد مسرحية تدور أحداثها حول زوجة خائنة تقتل زوجها، و«فجأة طَفِقَت تصرخ وتولول: آهٍ يا زوجي! زوجي! إني أرى شبح زوجي يهددني ويتوعدني بقسوة.» ويتبين أن المرأة نفسها كانت قد سَمَّمَت زوجها، وبعد «اعترافها الطوعي» الذي أملته عليها المسرحية حُكِمَ عليها بالموت.3
وكما ارتبطت الاستوديوهات المنافسة بنجوم بأعينهم ونوعية أفلام محددة، استمد الاحتكار الثنائي الفعال بين فرقتي «رجال الأدميرال» و«رجال اللورد تشامبرلين» خلال تسعينيات القرن السادس عشر قوته التجارية والفنية من طاقمي عمل الفرقتيْن المتناقضين وأسلوبيهما المختلفين. على سبيل المثال، يبدو أن فرقة «رجال الأدميرال» استثمرت السخط على مسرحية «هنري الرابع – الجزء الأول» إذ اعترض أحفاد السير جون أولدكاسل على التصوير المهين له حيث ظهر على هيئة جندي بدين متبجح (غُيِّر اسم الشخصية إلى الاسم المألوف الآن فالستاف)، ومسرحيتهم المُعَنْوَنَة «السير جون أولدكاسل» تصوير مُتَمَلِّق لسلفهم البروتستانتي الهوى. وفي المقابل، نجد أن الأعمال الرائجة من مفضَّلات مارلو لدى «رجال الأدميرال» قُلِّدَت في ذخيرة تشامبرلين الفنية. ومثل نجوم هوليوود، ذاع صيت إدوارد ألين الذي اشْتَهَرَ بأدواره المحورية في مسرحيات مارلو البارزة المدوية، وريتشارد بربيج أول من مَثَّلَ أدوار ريتشارد الثالث وهاملت. وتشهد حكاية واردة في يوميات طالب الحقوق جون مانينجهام على ذلك:
إِبَّان الفترة التي كان يلعب فيها بربيج دور ريتشارد الثالث، أُعْجِبَتْ به إحدى المواطنات أيما إعجاب حتى إنها طلبت إليه قبل أن تغادر المسرح أن يرافقها تلك الليلة باسم ريتشارد الثالث. وبعد أن استرق شكسبير السمع وعرف اتفاقهما سبق الممثل وحصل على نصيبه من الترفيه قبل أن يظهر بربيج. وبعدها وصلت رسالة مفادها أن ريتشارد الثالث على الباب، لكن شكسبير أعادها وجعلها تفيد بأن ويليام الغازي سبق ريتشارد الثالث.4

وعند وفاة بربيج، ندبت مرثيته الكثير من الخسائر:

مات ويا للعالم الذي مات بموته.
وداعًا للشاب هاملت وهيرونيمو العجوز5
وداعًا لير الرحيم والمغربي المحزون وغيرهم،
الذين عاشوا داخله والآن ماتوا إلى الأبد.
أيضًا تحلى الممثلون الكوميديون بشعبية كبيرة، ومنهم المهرج ريتشارد تارلتون الذي اشْتَهَرَ بتجهماته و«موهبته ما وراء المسرحية بوصفه صانعًا للمداخل والمخارج»6 وويل كيمب الذي يحل اسمه محل ذاك الشرطي البهلوان دوجبري في مسرحية «جعجعة بلا طِحْن» في الطبعة الأولى للمسرحية. إبَّان بداية القرن، قدَّمت مسرحية طلابية في جامعة كامبريدج بربيج وكيمب باعتبارهما نجميْن عصريَّيْن.

ورغم أن دور الكاتب المسرحي في المسرح الحديث المبكر لم يكن مكافئًا تمامًا لدور مؤلف الأفلام في هوليوود، فالتناظر مستفز؛ فقد طُبِعَ الكثير من مسرحيات شكسبير الأولى مع ذكر فرقة التمثيل، لا مؤلفها، ومثال على ذلك صفحة العنوان الزاخرة في الطبعة الأولى لمسرحية «ريتشارد الثالث»: «مأساة الملك ريتشارد الثالث. / تحوي مؤامراته الغادرة ضد أخيه كلارينس: ومقتل أبناء أخيه الأبرياء المؤسف: واستحواذه المستبد على العرش: إضافة إلى مسار حياته البغيضة، وموته المستحق. كما مثَّلَها مؤخرًا خُدَّام اللورد تشامبرلين الموقر.» ومثل أحد أعمال هوليوود الأيقونية كفيلم «كازابلانكا» (١٩٤٢) — الذي ربما لا ينسى أغلبنا أشهر عباراته واسم أبطاله الرومانسيين، ويستطيع البعض حتى تحديد هوية مخرجه، لكنَّ القليلين هم الذين يذكرون اسم مؤلفه؛ يبدو أن الذين يؤدون هذه المسرحية وموضوعها أهم للمشترين المرتقبين من هوية مؤلفها.

وأخيرًا، تشترك هوليوود ومسرح شكسبير في تَوْقِهما للإيهام والفانتازيا، ولا ينجذبان إلى الدراما المغرقة في الواقعية. وكما سيكتسب مؤرخو المستقبل نظرة غريبة جدًّا حول ثقافة القرن الحادي والعشرين المبكرة انطلاقًا من مطالعتهم لأفلام هاري بوتر على سبيل المثال أو «ثلاثية بورن» أو فيلم «الجنس في المدينة» باعتبارها صورًا تعكس الحياة اليومية، فمن المغالاة في التبسيط أيضًا البحث عن انعكاسات مباشرة للتجربة الإليزابيثية أو الجيكوبية في مسرح تلك الفترة؛ فنساء الحقبة المبكرة من العصر الحديث لم يرتدين ملابس الرجال لحل الصعوبات التي يواجهنها، ولم يقع كل الأزواج في الحب من النظرة الأولى، ولم تَنْتَهِ دومًا النزاعات العائلية بمذبحة، أو تحل الواحدة من النساء محل الأخرى في سرير الرجل، وبالقدر نفسه فإن الرجال ليس لهم رءوس حمير، ولا يجوب التوءم المتطابق مدينة ما والواحد منهم يجهل بوجود الآخر. إن خشبة المسرح التي تَعِجُّ بالجثث في نهاية مسرحية «هاملت» أو «تيتوس أندرونيكوس» هي مؤشر على النوع الأدبي للتراجيديا لا على مجتمع أكثر عنفًا.

الدراما شأنها شأن هوليوود هي عالم الادِّعاء. لم يذهب الناس إلى المسرح ليروا عوالم واقعية أو مألوفة ممثلة أمامهم ولكن ليَخْبروا أشياء غريبة؛ كما صرح توماس بلاتر — وهو نفسه كان سائحًا تردد على مسرح جلوب عام ١٥٩٩: «لا يسافر الإنجليز في الأعم الأغلب كثيرًا، لكنهم يفضلون التعرف على الأمور الأجنبية والاستمتاع في أرض الوطن.»7 وشأن منطقة بانكسايد الحافلة بالمسارح شأن هوليوود، كانت ضربًا من أراضي الأحلام كما صرح باك للجمهور في نهاية مسرحية «حلم ليلة منتصف صيف»، قائلًا: «فكروا … لقد ركنتم إلى الكسل هنا / بينما ظهرت تلك الرؤى / وهذه الفكرة الواهنة الساكنة / لم تَتَمَخَّضْ إلا عن حلم.» (الخاتمة، الأبيات ٢–٦). وباستثناء مسرحية «زوجات ويندسور البهيجات» والمشهد الاستهلالي لمسرحية «ترويض النمرة»، لم يخصص شكسبير مسرحًا لأحداث مسرحياته في إنجلترا المعاصرة له، ولم يجعل من لندن العاصمة موطن جمهوره مسرحًا لأحداث مسرحياته. وإذ اتبع هذا النهج، كان يقاوم موضة «الكوميديا المدينية» المزعومة لتوماس ميدلتون أو جون مارستون، وهي النوع الأدبي الذي ما بَرِحَ تُشَكِّله التقاليد والأفكار المُعَلَّبَة ويتخذ من أخلاقيات لندن وموقعها الجغرافي نفسه موضوعه الأساسي. وبدلًا من ذلك، نرى أن مسرحيات شكسبير تستند إلى حدٍّ بعيد إلى مصادر أدبية ونماذج عامة، ويمكن تصنيف جل أعماله باعتبارها «اقتباسًا بتصرف»، وإعادة صياغة لنصوص موجودة بالفعل، وتحويل مادته المستقاة من المصادر المختلفة إلى الوسط الجديد للمسرح.

قد يبدو أن أوجه التشابه بين هوليوود والمسرح في أوائل العصر الحديث تجعل من هذه الخرافة حقيقة. لو كان شكسبير يُؤَلِّف حاليًّا، لكانت الأفلام هي قِبْلته. لكنَّ هناك فارقًا أساسيًّا وحيدًا بين هذيْن الوسَطين يهدد هذه النتيجة؛ فقد كان المسرح أوائل العصر الحديث، ولا سيما في النصف الأول من مشوار شكسبير الأدبي، مسرح كلمات، حيث الصنعة اللفظية أهم بكثير من الصنعة البصرية (طالع الخرافة الثامنة). والصياغة اللفظية تشي بذلك، عندما يقتنع السمكري كريستوفر سلاي في مسرحية «ترويض النمرة» بأنه لورد، وأنه ينبغي أن يحضر مسرحية: «ظن أطباؤك … أن عليك الاستماع إلى مسرحية / وأن تعوِّد ذهنك على المرح والبهجة» (الفقرة الاستهلالية الثانية، الأبيات من ١٢٧–١٣١). والعكس ينطبق على سينما هوليوود، حيث الصور — المواقع والتعبيرات والتفاعلات — أهم بكثير من الحوار في إيصال المعنى. ويُنْصَح المؤلفون المبتدئون بإبقاء نصوصهم السينمائية موجزة، بواقع صفحة واحدة لكل دقيقة، حيث يصل النص إجمالًا إلى حوالي ٢٠٠٠٠ كلمة. ونجد أن مسرحية «كوميديا الأخطاء» فقط، وهي أوجز مسرحيات شكسبير، هي أقرب عمل لأفلام هوليوود من حيث طول نصها. وتتحرك مسرحيات شكسبير بواقع ٨٠٠–٩٠٠ سطر في الساعة في المسرح الحديث، وعليه فهي تمتد إلى قرابة ثلاث ساعات. وربما أن قلة أهمية النص في سينما هوليوود هي التي تجعل من المستحيل في نهاية المطاف على شكسبير الحداثي أن يختار هذا الوسط؛ فماذا يمكن أن يكتب إذن؟ لا الروايات (فهي توجيهية أكثر من اللازم) ولا الشعر أو المسرح (فهما أكثر نخبوية من اللازم)، أيمكن أن يكتب للإذاعة؟ يُزعم أن الأفلام أفضل.

هوامش

(1) Tanya Pollard, extracting Philip Stubbes, The Anatomie of Abuses (1583) in Shakespeare’s Theater: A Sourcebook (Oxford: Blackwell Publishing, 2004), p. 121.
(2) Linda Ruth Williams, The Erotic Thriller in Contemporary Cinema (Edinburgh: Edinburgh University Press, 2005), pp. 52–4 (p. 52).
(3) Quoted in Pollard, Shakespeare’s Theater, p. 245.
(4) John Manningham’s Diary, 1602, quoted in King Richard III, ed. Janis Lull (Cambridge: Cambridge University Press, 1999), p. 24.
(5) The revenging father in Kyd’s Spanish Tragedy; see Myth 1.
(6) Peter Thomson, “Tarlton, Richard (d. 1588),” Dictionary of National Biography (Oxford: Oxford University Press, 2004).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤