الخرافة الثامنة

لم تكن مسرحيات شكسبير تحوي مناظر

المناظر المسرحية كما نعرفها — الأسطح المطلية التي تهبط مِنْ عَلُ أو تنزلق من الجانبين لتغيير المشهد — هي نتاج مرحلة المسرح القديم. أدى ممثلو شكسبير أدوارهم على مسارح ناتِئَة. وكما يوحي الاسم؛ فالمسرح الناتئ ممتد للأمام إلى داخل صالة الجمهور؛ حيث يحيط به الجمهور من جوانبه الثلاثة، ولم يكن به مكان لجناحين. كانت خشبة المسرح القديم شكلًا مستعارًا من فرنسا خلال القرن السابع عشر؛ فقد أُعْجِبَ الفرسان المنفيون بالطُّرُز المسرحية للبلاط الفرنسي خلال فترات خُلُوِّ العرش، وعندما رجعوا إلى إنجلترا في عصر «الإصلاح»، جلبوا معهم ممارسات المسرح الفرنسي، وانقطعت كل الصلات بممارسات المسرح الإليزابيثيِّ على نحو حاسم. وبينما كان مسرح شكسبير متنوعًا ديموغرافيًّا (طالع الخرافة الثالثة عشرة)، كان مسرح عصر الإصلاح بُرْجُوازِيَّ الطابَع. وبينما كانت أدوار الإناث في العصر الإليزابيثي يلعبها الصبية، قدم مسرح الإصلاح الممثلات. وبينما كانت دراما شكسبير تُؤَدَّى في الهواء الطلق بمسرح مُدَرَّج (فيما خلا الأعمال الممتدة من عام ١٦٠٨ فصاعدًا؛ إذ بدَّلت فرقة «رجال الملك» ما بين مسرح بلاك فرايرز المغلق ومسرح جلوب المفتوح بحسب المواسم) كانت دراما عصر الإصلاح تُؤَدَّى على خشبات مسارح قديمة مغلقة. ومِنْ ثَمَّ، عُولِجت مسرحيات شكسبير بحيث توائم الأنماط الجمالية والمسرحية لعصر الإصلاح.

إذا كانت المناظر المسرحية نتاجًا للقرن السابع عشر، فإن الإرشادات المسرحية التي تبيِّن أين سيقع المشهد هي نتاج القرن الثامن عشر. في عام ١٧٠٩، أنتج نيكولاس رو أول نسخة علمية لأعمال شكسبير، تامةً، بمقالة استهلالية عن حياة شكسبير ومشواره الفني. واسْتَحَثَّت تلك النسخة سيلًا من النسخ: بأقلام ألكسندر بوب عام ١٧٢٥، ولويس ثيوبولد عامَيْ ١٧٢٦ و١٧٣٤، وتوماس هانمر عامَيْ ١٧٤٣-١٧٤٤، وويليام وربوتون عام ١٧٤٧. واستحدث هؤلاء المحررون العديد من الإرشادات المسرحية التي ما زالت موجودة في نسخ أعمال شكسبير إلى الآن. لكن مسارحهم كانت ضخمة، وكذا فِرَقهم المسرحية، ولا تَعْكِس الممارساتِ الإليزابيثية. في الفصل الأول من نسخة رو من مسرحية «العين بالعين»: تقع أحداث المشهد الأول من الفصل الأول في «قصر»، والمشهد الثاني في «الشارع»، والمشهد الثالث في «دير»، والرابع في «مسكن للراهبات». وبحلول القرن التاسع عشر، يمكننا أن نجد نسخًا لمسرحية «كما تشاء» تُحَدِّد «المنظر: الغابة؛ المنظر: جزء آخر من الغابة.» لكن أحداث مسرحيات شكسبير لا تقع في قصر ولا في غابة؛ بل إنها تحدث على خشبة مسرح عارية. ولقد أوجب استحداث المناظر المسرحية استحداث الإرشادات المسرحية التي كانت تُعَيِّن تغييرات المنظر.

ورغم أن المسرح الإليزابيثي لم يكن يحوي مناظر بالمعني المفهوم لدينا، فقد كان يستعين بطرق عدة لتهيئة المشهد. يُضَمِّن مدير المسرح فيليب هينسلو في حصره عام ١٥٩٨ للممتلكات «مدينة روما» (ربما لزيارة مفيستوفيليس وفاوست في مسرحية مارلو «دكتور فاوست»)، وتوحي أداة مساعدة طموحة بالقدر ذاته — «قماش الشمس والقمر» — بكيفية عرض تلك المناظر الخلفية؛ إذ كان ذلك يتم على ستائر ملونة في خلفية المسرح. لكن الستائر الخلفية من هذا النوع نادرة الوجود في حصر هينسلو الحافل على نحو أكثر نموذجية بأدوات مساعدة ضخمة، مثل: شجرة تانتالوس، وقوس قزح للإلهة إيريس، والعديد من القبور (مميزة بحسب مالكها: قبر جويدو، وقبر ديدو)، وحصان ضخم (ربما كان حصان طروادة الخاص بالمسرحية التي تتناول قصة طروادة)، وقِدْر كبيرة (لمسرحية مارلو «يهودي مالطا»)، وتِنِّين (لمسرحية «دكتور فاوست») وثغر الجحيم (ربما أيضًا لمسرحية «دكتور فاوست»).

كانت للمسرح الإليزابيثي «سماوات» عُلْوِيَّة (وكانت تُسَمَّى بهذا الاسم لأنها رُسِمَت بعلامات البروج) حَوَت ماكينات رفع وإنزال، يمكن الاستعانة بها في إنزال الأدوات المساعدة والممثلين. ويمكن دفع الأدوات المساعدة الضخمة — كالأَسِرَّة — للداخل وللخارج من باب أو من أبواب في قلب الجزء الخلفي للمسرح؛ «سرير مدفوع للأمام» إرشاد مسرحي شائع (يحتوي حصر فيليب هينسلو عام ١٥٩٨ للأدوات المساعدة الخاصة بفرقة «رجال الأدميرال» على «هيكل سرير واحد»). وتخبرنا الأداة المساعدة الأساسية أين نحن، بقدر ما يخبرنا منظر خلفي حقيقي تمامًا.

تَشِي الأدوات المساعدة الصغيرة المحمولة، والملابس أيضًا، بالمكان. تشير المرآة وفرشاة الشعر إلى غرفة سيدة ما (وأحيانًا غرفة رجل)، والمَحْرَمَة التي يمسح بها المَرْء الفُتات الخيالية تشير إلى أن الشخصية أنهت عشاءها تَوًّا، والحذاء ذو المِهْماز يشير إلى منظر ارتحال. وتستعين الإرشادات المسرحية التي تقتضي دخول الشخصيات «وكأنهم نهضوا من أَسِرَّتهم»، أو «عادوا من رحلة صيد»، أو «وراء القضبان»، أو «كأنه جالس في مكتبه» بملابس وأدوات مساعدة صغيرة لتهيئة المشهد؛ قميص نوم يوحي بالفِراش، وصَقْر على الساعِد يوحي بميدان مفتوح، أَغْلال الأقدام توحي بالسجن، والكتب المطروحة على طاولة توحي بخزانة كتب بالخلفية.1 ولكن، كما تُبين لنا تلك الأمثلة، فإن من أهم أدوات تجهيز المشهد جسد الممثل؛ فحركات الممثل، لا الأدوات المساعدة، هي التي تُنْجِز العمل: «كما لو كان يزيل الفُتات من ملابسه بمَحْرَمَة وكأنه قام من عشائه تَوًّا.» (توماس هيوود، «امرأة قتلتها الشفقة»، الفصل الثاني، المشهد الأول، البيت ١٨١). وليس من الواضح في هذا المثال ما إذا كانت المحرمة موجودة فعليًّا أم أنها محكومة نحويًّا بفرضية «كما لو».

تكاد مسرحيات شكسبير تخلو من الإرشادات المسرحية. والتفسير التقليدي لهذه الظاهرة هو أنه لكونه شريكًا في فرقته فقد كان متاحًا للإدلاء بتعليماته؛ ولذا، فإن الإرشادات المسرحية المفصلة لم تكن ضرورية. ربما كان هذا صحيحًا جدًّا؛ فالملاحظ أن مسرحياته الأولى (قبل أن يكون شريكًا) ومسرحياته الأخيرة (إذ كان شبه متقاعد؛ فهل باع أسهمه بالشركة كي يشتري الجيتهاوس عام ١٦١٠؟) تحوي تعليمات أكثر تفصيلًا، مثل: «موسيقى مهيبة وغريبة للعاصفة، وبروسبيرو بأعلى (مستترًا)، تدخل أشكال غريبة عدة، جالبةً معها وَلِيمَة، وترقص حولها بحركات لطيفة على سبيل التحية، وتدعو الملك وآخرين لتناول الطعام، ثم ترحل.» (الفصل الثالث، المشهد الثالث؛ الاقتباس من مجموعة الأعمال ١٥٣٥–١٥٣٨ بحسب نظام ترقيم الأسطر). لكن تمثيليات تلك الفترة تتسم أيضًا بإرشادات مسرحية مفصلة، ولعل السمات الشبيهة بالتمثيليات التي تتحلى بها مسرحياته المتأخرة تَدِين بالفضل لتلك التمثيليات. وكان المؤلفون الإليزابيثون بارعين وسلسين في متطلباتهم المسرحية. في نهاية مسرحية روبرت جرين «ألفونسو ملك أراجون»، نجد الإرشاد المسرحي الآتي: أخرِج فينوس، أو، إن تسنى لك، دَعْ كرسيًّا يهبط من أعلى المسرح، واسحبها لأعلى (١١-٢١٠٩-٢١١٠). وربما أن شيئًا إبداعيًّا بالقدر نفسه يَكْمُن وراء الكثير من الإرشادات المسرحية في الدراما الإليزابيثية التي تكتفي بمجرد قول «أَخْرِجْ كذا.»

كان المسرح الإليزابيثي، بما تمتع به من أدوات مساعدة ضخمة وكراسيَّ هابطة، فضاءً بصريًّا عامرًا. وتُعَدُّ العربات التي تجرها الأحصنة سمة مذهلة في كلٍّ من مسرحية جورج بيل «معركة ألكازار»، ومسرحية كريستوفر مارلو «تمبرلين» اللتين فصل بينهما عام واحد. ولا يجب أن نقلل من شأن الأثر الدرامي لهذه الأشياء على مسرح صغير. عندما أُخْلِيَ مسرح روز الواقع على الضفة الجنوبية لنهر التيمز عام ١٩٨٩، اتضح أنه كان يحوي خشبة مسرح صغيرة على شكل مُعَيَّن: بلغ عرضها ٣٧ قدمًا و٦ بوصات عند المؤخرة، وتراجع ذلك العرض عند مقدمتها إلى ٢٤ قدمًا و٩ بوصات، بينما بلغ أقصى عمق لها ١٥ قدمًا و٦ بوصات (نَقَلَت أعمالُ إعادة البناء الإليزابيثية اللاحقة خشبة المسرح إلى الشَّمَال بقدر أكثر لكنها لم تُبَدِّل كثيرًا من حجمه). عندما يُلقِي تمبرلين وهو على متن عربته كلمة تمتد ١٨ بيتًا عن رُؤاه الطموحة — «ما بَرِحْتُ أسعى في الآفاق وراء المعرفة اللانهائية / وأتحرك دومًا كالأجرام الكُروية التي لا تهدأ أبدًا.» (الفصل الثاني، المشهد السابع، الأبيات ١٢–٢٩) — نراه يتحدث باللغة الأفلاطونية الجديدة عن الحركة العُلْوِيَّة نحو الألوهية. لكن الحركة الوحيدة الممكنة لعربته التي تجرها الأحصنة على خشبة مسرح روز الصغيرة دائرية. وصورة خشبة المسرح تُوهِن الأثر اللفظي؛ إذ نسمع لغة الصعود اللانهائي، لكننا لا نرى سوى شخصية لا تبرح مكانها. وعليه فإن الأدوات المساعدة تساعد على تأسيس المشهد، لكنها، على خلاف ستارة خلفية، تستطيع أيضًا أن تُدْمَج مَوْضُوعِيًّا في مَغْزى المسرحية (طالع الخرافة السابعة والعشرين).

عادةً ما يُقال، على سبيل المزاح، إن مقدمة مسرحية «هنري الخامس» تُبَيِّن أن شكسبير يتمنى لو يخترع أحدٌ أفلام هوليوود: «فكروا إذ نتحدث عن الأبطال أنكم ترونهم.» (مقدمة ٢٦؛ طالع الخرافة السادسة والعشرين). تعتذر الجَوْقَة في الفصل الرابع «سَنُحَقِّر من شأنها / وسنمثلها بمبارزة بأربعةٍ أو خمسةٍ من أكثر السيوف القصديرية اهتراءً، محاكاة ساخرة للمعركة — عذرًا — تجلب العار لاسم أجينكورت.» (الفصل الرابع، المقدمة، الأبيات ٤٩–٥٢). لكن في المسرح، لا تعتذر إلا عن أغراضك الأكثر مَوْثُوقِية. من الواضح أن شكسبير كان واثقًا ثقة كاملة بقدرة لغته على الإيحاء بوجود فرسان، وقدرة ممثليه على تحويل أربعة أسلحة أو خمسة إلى معركة مَلْحَمية.

تُعْنَى مسرحيات شكسبير بالمؤثرات والتجهيزات البصرية التي يمكن خلقها بالاستعانة بأجساد الممثلين، ولا سيما المواكب والتحركات. يشير إرشاد مسرحي مُطَوَّل ومفصل على غير العادة في صدر مسرحية «تيتوس أندرونيكوس» إلى الشكل الذي ينبغي أن تكون عليه خشبة المسرح (وفيما يلي نسخة للإرشاد المسرحي على النحو المبيَّن في نسخة قطع الرُّبْع):

يصدر صوت طُبول وأَبْواق، ثم يدخل اثنان من أبناء تيتوس، ثم رجلان يحملان كفنًا مغطًّى بالسواد، ثم اثنان آخران من أبناء تيتوس، ثم تيتوس أندرونيكوس. ثم تدخل تامورا ملكة القوطيين وابناها شيرون وديميتريوس [حقيقة الأمر أنهم ثلاثة، ومنهم ألاربوس] بصحبة آرون المغربي وغيرهم بأكبر عدد ممكن، ثم يضعون الكفن على الأرض، ويتكلم تيتوس.

يبدأ المشهد بأصوات طَقْسِية («طُبول وأَبْواق»). والترتيب الموكبيُّ مُصَمَّم بدقة بسلسلة من حرف العطف «ثُمَّ»، وهو لفظ مميز للتتابع الزمني، يعمل في الوقت عينه عمل واسمة مكانية. والفعل محدد: «ثم يضعون الكفن على الأرض.» وبعدها فقط يبدأ الكلام. يَنْصَبُّ تركيز شكسبير على صورة خشبة المسرح. تُفْتَتَح مسرحية «هنري السادس – الجزء الأول»، قبل المسرحية السابقة الذكر ببضعة أعوام، بموكب جنائزي طقوسي، يعترضه تَتابُع ثلاثة رسل يسارعون إلى خشبة المسرح وفي جَعْبَتِهم أنباء سيئة على نحو متفاقم عن الإقليم الفرنسي المفقود. هذان المثالان كلاهما من المناظر الافتتاحية، يشير كلٌّ منهما إلى المكان بالتأسيس للمناسبة (جنازة في مسرحية «هنري السادس» وانتصار في مسرحية «تيتوس») والمزاج العام (رسمي في كليهما).

ولا ينطبق ذلك وحسب على المناظر الافتتاحية؛ فالركوع يُشكل منظرًا كاملًا في مسرحية «ريتشارد الثاني»؛ إذ تتوسل دُوقَة يورك راكعة على ركبتيها إلى الملك هنري الرابع الْمُعْتَلي العرش حديثًا أن يغفر لابنها الخائن أوميرل، ويتوسل زوجها دُوق يورك أيضًا، راكعًا مثلها، إلى هنري أن يُعاقب الخائن. وكل منهما يرفض أن ينهض حتى يمنحه هنري أمنيته. (حقيقة الأمر أنه ليس من الواضح أنهما انتصبا قط من ركوعهما. ويقترح شيلدون زيتنر أننا يجب أن نقتبس إرشادًا مسرحيًّا من مسرحية «الناقد» لشريدان مفاده: «يخرج راكعًا».)2 إن شكسبير لا يكتب خُطُبًا وحسب، ولكنه يرسم صورًا مسرحية أيضًا. وفي مسرحياته: «تيتوس»، و«هنري السادس – الجزء الأول»، و«ريتشارد الثاني» لا يخلق شكسبير الصور المسرحية بالمناظر، ولكن بأجساد الممثلين.

وتُقدم الإنتاجات الحديثة لمسرحيات شكسبير أمثلة عديدة للمؤثرات البصرية المذهلة التي يمكن إنجازها بجسد الممثل. كان إنتاج باري كايل لمسرحية «القريبان النبيلان» مُفتتحًا لمسرح سوان بستراتفورد عام ١٩٨٧. ولعبت إيموجين ستَبْز دور ابنة السجَّان، وفي أول مشهد جُنون لها، دَلَفَت إلى خشبة المسرح من الخلف واقفةً على يديها، وسارت على يديها عبر القُطر الطويل لخشبة المسرح، وصولًا إلى الجانب الأيسر، وهي تنشد أنشودة مجنونة. ولم تكن هذه بالصورة التي لا تُنْسَى وحسب، بل هي صورة عبَّرَت عن النظرة العامة المقلوبة إلى المرأة المجنونة على نحو أكثر بلاغة وإيجازًا من أي «مُؤَثِّر خاص». إن جسد الممثل على خشبة المسرح هو ذاته مؤثر خاص. ويوظف مارلو أجساد الممثلين بطريقة إبداعية بالمثل في مسرحيته «دكتور فاوست»، عندما يُحيل مفيستوفيليس اثنين من المهرجين إلى سَعدان وكلب. ويتم التحول باستخدام مواهب الممثلين في تقليد الحيوانات.

لكن شكسبير لديه تكتيك آخر لتجهيز المنظر ملك يمينه: ألا وهو اللغة؛ فهو غالبًا ما يستهل المنظر بنقاش للمكان. (وهذا سبب من الأسباب التي تيسر نقل مسرحياته إلى الإذاعة بسلاسة). تسأل فيولا — التي تحطمت سفينتها في مسرحية «الليلة الثانية عشرة»: «أي دولة هذه أيها الرفاق؟» فيجيبها قُبطان البحار «هذه إيليريا سيدتي.» مُوَجِّهًا فيولا والجمهور على حدٍّ سواء (الفصل الأول، المشهد الثاني، البيتان ١-٢). حتى تلك المرحلة، لا نعرف هوية فيولا أو القبطان، ولم يقدم لنا الكاتب اسميهما. لكننا على يقين من أمر واحد، ألا وهو مكاننا. تسأل الملكة في مسرحية «ريتشارد الثاني» — الفصل الثالث، المشهد الرابع، البيت الأول: «أي لهو سنبتكره هنا في هذا البُسْتان / كي ندفع عنا عِبْء التفكير الجاثِم على صدورنا؟» وتقول روزاليند في مسرحية «كما تشاء» (الفصل الثاني، المشهد الرابع، البيت ١٣): «حسنًا، هذه غابة الأردين.» وهذا البيت يضبط النبرة (فأداة التعجب «هاه» قد تكون إعادة صياغة دقيقة: أي إنها لم تَنْبَهِر بعدُ. أو ربما تَشِي النبرة بالتعجب التفسيري.) وتُمَهِّد للمشهد.

ونجد الأمر نفسه في مسرحية «حلم ليلة منتصف صيف»؛ إذ يقول بيتر كوينس في مستهل الفصل الثالث: «هذا هو المكان المثالي لتدريبنا.»، «ستكون هذه البقعة الخضراء مسرحنا، وستكون أَجَمَة الزَّعْرُور البَرِّي هذه غرفة ملابسنا.» (الفصل الثالث، المشهد الأول، الأبيات ٢–٤). هذا البيت ليس فقط طريقة موجزة للتمهيد للمشهد، بل هو جزء من مزحة تمتد طوال المسرحية، يقابل فيها شكسبير ما بين إمكاناته البارعة في خلق مشاهد بالأسلوب الحَرْفي للآليين (وهو الاسم الذي تحمله مجموعة الممثلين الذين يؤدون مسرحية مصغرة داخل المسرحية الأساسية). ففي مسرحيتهم القصيرة، لا يرى الآليون من وسيلة لبيان أنَّ ثَمَّة مشهدًا سيُعْرَض ليلًا إلا بالاستعانة بضوء القمر فعليًّا (وكانوا يستعينون حرفيًّا بممثل ليلعب دور رجل القمر)، أو لبيان أن ثمة عقبة تعترض طريق عاشقين وتحول دون لقائهما إلا بجلب جدار حقيقي. وعندما يلتقي الآليون للتدريب، يُسهب شكسبير في المزاح؛ فالبُقْعة الخضراء التي يشير إليها كوينس للاستعانة بها كخشبة مسرح هي في واقع الأمر ليست إلا مسرحًا تخيله هو لأول وهلة قطعة أرض خضراء، وأَجَمَة الزَّعْرُور البَرِّي التي يُقْحِمها في المشهد كغرفة ملابس هي حقًّا غرفة ملابس يُخَيَّل إلى الجمهور والممثلين أنها أجمة زعرور بري. حتى في تلك الفترة المبكرة من مشواره الأدبي، يطرح شكسبير على جمهوره حينئذ بدائل للتمثيلات المسرحية الحرفية؛ فستارة خلفية المسرح لا تمثل من وجهة نظره «مدينة روما» أو «غابة خارج أثينا». وربما كان شكسبير سيعتبر المناظر الفكتورية والإدْوارْدِيَّة لمخرجين مثل هربرت بيربوم أسوأ كوابيسه مطلقًا؛ فإنتاج بيربوم تري عام ١٩٠٠ لمسرحية «حلم ليلة منتصف صيف» ظهر فيه القمر بازِغًا أعلى قلعة الأكروبوليس، وظهرت فيه فرقة باليه كاملة من الجِنِّيَّات اللائي يرتدين تنورات قصيرة ويجلسن على الفُطْر الْمُتَسَلِّق، علاوة على أرانب حية تَتَقافَز في شتى أرجاء خشبة المسرح. وعرض المخرج نفسه الحياة الريفية لمسرحية «حكاية شتاء» مُستعينًا بفُرْجة في غابة، وكوخ راعٍ، ونُهَيْر هادِر، واستهل مسرحية «العاصفة» بنسخة طبق الأصل من سفينة إليزابيثية وعاصفة واقعية. أما نسخته من «تاجر البندقية» فأعاد فيها خَلْق معزل فينيسيٍّ ينتمي لعصر النهضة. ولخلق المزيد من الواقعية في المواضع التي أسقطها شكسبير لأسباب مجهولة، أضاف المخرج عرض الميثاق العظيم إلى مسرحية «الملك جون»، ومراسم تتويج آن بولين إلى مسرحية «هنري الثامن»؛ تلك هي أعمال شكسبير كما أخرجها بيتر كوينس.

هوامش

(1) Alan Dessen, Elizabethan Stage Conventions and Modern Interpreters (Cambridge: Cambridge University Press, 1984); id., Recovering Shakespeare’s Theatrical Vocabulary (Cambridge: Cambridge University Press, 1995).
(2) Shelden P. Zitner, “Aumerle’s Conspiracy,” Studies in English Literature, 14 (1974), pp. 239–57.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤