الفصل الحادي عشر

هل توجد ذرات؟

من الأمور التي يعُدها المثقف اليوم حقيقةً مُقرَّرة، أن المادة تتألف من جزيئات تُسمَّى بالذرات. فإذا لم يكن قد تعلَّم ذلك في المدرسة، فإن الصحف تُنبِئه به؛ إذ يبدو من الواضح أنه ما دامت هناك قنابل ذرية، فلا بد أن تكون هناك ذرات أيضًا.

أما مؤرِّخ العلم فيتخذ من هذه المسالة موقفًا أقرب إلى الروح النقدية؛ فهو يعلم أن وجود الذرات أمرٌ قيل به منذ العصور القديمة، ولكنه كان على الدوام مَثارًا للجدل، ويعلم أن حُججًا قوية قد أُدلي بها تأييدًا لفكرة الذرة ومعارضة لها. فإذا كان التاريخ الذي يكتبه للعلم يشتمل على الأعوام الخمسة والعشرين الأخيرة، فإنه يعلم أيضًا أن نظرية الذرة، وإن بلغت خلال القرن التاسع عشر مرحلةً بدا فيها وجود الذرة أمرًا لا يتطرق إليه الشك، قد عادت فأصبحت مثارًا للجدل نتيجةً للتطورات الأخيرة، بحيث أصبح الشك في وجود الذرة أقوى مما كان في أي وقت مضى.

ويبدأ تاريخ نظرية الذرة بفلسفة ديمقريطس (٤٢٠ق.م)، وهو مِن أبرز الشخصيات في الفلسفة اليونانية؛ فقد رأى ديمقريطس أن من الممكن تقديم تفسير مُقنِع للخصائص الفيزيائية للمادة، مثل قابليتها للانضغاط والانقسام، إذا افترضا أن المادة تتألف من جزيئات صغيرة؛ فعندئذٍ يكون ضغط مادة معيَّنة معناه زيادة التقريب بين الذرات، على حين أن الذرات ذاتها صلبة تمامًا، ويظل حجمها بلا تغير. والواقع أن نظرية ديمقريطس إنما هي مثل واضح لما يستطيع الاستدلال العقلي أن يحقِّقه، وما لا يستطيع بلوغه؛ ففي استطاعة الاستدلال العقلي أن يقدِّم تفسيرات ممكنة، أما كون التفسير صحيحًا أو غير صحيح، فهو أمر لا يمكن معرفته عن طريق الاستدلال، وإنما ينبغي أن يُترَك للملاحظة. ولم يكن في استطاعة اليونانيين أن يحقِّقوا نظرية الذرات باختبار تجريبي، وإنما حاولوا تكملة النظرية بنظرية أخرى، بدلًا من تكملتها بالملاحظة؛ فقد كانوا يعتقدون أن الذرات تتماسك بواسطة «خطافات» صغيرة، وكانوا يعتقدون أن المادة ذات الطبيعة الألطف، كالنفس أو النار، تتألف من ذرات شديدة الصغر والنعومة، أما الأجسام الأكبر حجمًا فتتكوَّن بالجمع بين ذرات متساوية الحجم، وهي عملية طبيعية يوجد لها مثيل في انتقاء أمواج البحر للحصى ذي الأحجام المتساوية، غير أن الخيال إذا لم يكبح جماحَه اختبارٌ تجريبي ما، يفسح المجال للتأمل القائم على غير أساس. مثال ذلك أنه كان من الخلافات الفلسفية التي أُثيرَت حول موضوع الذرة مسألةُ ما إذا كان المكان الخالي بين الذرات تصورًا يمكن قبوله منطقيًّا؛ ذلك لأن المكان الخالي هو «لا شيء»، وإذا كان هناك «لا شيء» بين الذرات، فلا بد أن تكون متلامسة تكوِّن مادة صلبة. وفي هذه الحالة لا تكون هناك ذرات.

على أن نظرية الذرة قد اقتُلعت من تربة التأمل الفلسفي، وأُعيدَ غرسها في تربة البحث العلمي عندما وُضع لها أساس من التجارب الكمية قبل مُستهلِّ القرن التاسع عشر مباشرة؛ فقد قاس جون دالتون John Dalton نِسَب الأوزان التي تدخل بها العناصر الكيميائية في مركبات، واكتشف أن هذه النِّسب ثابتة، تُعبِّر عنها أعداد صحيحة بسيطة. مثال ذلك أن العنصرَين المكوِّنين للماء، وهما الهيدروجين والأكسجين، يتحدان دائمًا بنسبة واحد إلى اثنين، فإذا كانت توجد في الأصل أكثر من مادة واحدة، فإنها لا تدخل في المركب. وقد أدرك دالتون أن هذه النِّسب الكمية تقتضي تفسيرًا ذريًّا؛ فأصغر أجزاء المادة، وهي الذرات، تتحد بنِسَب ثابتة؛ أي إن ذرتَين من الهيدروجين تتحد مع ذرة واحدة من الأكسجين، وتنعكس نسبة أوزان الذرات على النسبة التي لُوحِظت في قياسات دالتون.

ومنذ ظهور قانون دالتون، أصبح تاريخ فكرة الذرة يسير في طريقه محقِّقًا نصرًا بعد نصر؛ فحيثما كان مفهوم الذرة يُستخدم في تفسير القياسات الملاحظة، كان يقدِّم تفسيرًا مُقنِعًا، وأصبح هذا النجاح ذاته دليلًا قاطعًا على وجود الذرة. ففي النظرية الحركية للغازات لم يكن من الممكن فقط تفسير السلوك الحراري بالمفاهيم الذرية، بل كان من الممكن أيضًا حساب عدد الذرات، أو الجزيئات في البوصة المكعبة الواحدة، ويدل هذا العدد الهائل، الذي يُحسَب بواحد وعشرين رقمًا، على شدة صغر الذرة الواحدة. أما التركيبات المُعقَّدة للأجسام العضوية فيمكن تفسيرها على أساس أنها مُؤلَّفة من جُسيمات يتألف كلٌّ منها من مئات الذرات. ولا شك أن النجاح الذي حقَّقته الكيمياء في ميدان الصناعة ما كان ليتحقق لولا النظرية الذرية.

وقد رأى العالم الفيزيائي، فضلًا عن ذلك، أن المبدأ الذري لا يقتصر على المادة؛ فالكهرباء بدورها ينبغي أن يُنظَر إليها على أنها مُؤلَّفة من ذرات. وقد اكتُشفت ذرات الكهرباء حوالَي نهاية القرن التاسع عشر، وسُمِّيت إلكترونات، وكان من الغريب أنها كلها تحمل شحنة كهربائية سالبة، وظل علماء الفيزياء يعتقدون طوال بضع عشرات من السنين أن الذرات الكهربائية المُوجَبة لا يمكن أن تنفصل عن المادة. غير أن الأبحاث القريبة العهد أثبتت أن هناك إلكترونات موجبة أيضًا، يُسمَّى كل منها عادةً باسم «البوزيترون Positron»، وكشفت أبحاث أخرى قريبة العهد عن وجود جزيئات أولية أخرى للمادة، تحتل بينها «النيوترونات» مكانة هامة.
ولكن، على حين أن المسيرة الظافرة لفكرة الذرة قد استمرَّت في عدد كبير من مجالات العلم، فإنها توقَّفت في مجال واحد هام، هو نظرية الضوء؛ فقد كان إسحاق نيوتن، الذي اشتهر بفضل وضعه لنظرية الجاذبية، من أعظم الباحثين في علم الضوء أيضًا، وقد أدرك أن من الممكن تفسير سَير الأشعة الضوئية في خطوط مستقيمة بافتراض أن الضوء يتألف من جزيئات صغيرة تنبعث بسرعة هائلة من المصدر الضوئي، ولا بد أن تسير هذه الجزيئات، تبعًا لقوانين الحركة، في خطوط مستقيمة. وهكذا كان نيوتن واضع النظرية الجسيمية في الضوء، وهي النظرية التي ظلت سائدة حتى أوائل القرن التاسع عشر. أما النظرية التموجية في الضوء، التي ابتدعها مُعاصِره كريستيان هويجنز C. Huyghens، فلم تُصادِف في بداية عهدها نجاحًا كبيرًا. وانقضى قرنٌ كامل قبل أن تُجرى بعض التجارب الحاسمة، التي أثبتت الطابع التموجي للضوء؛ وبذلك وضعت هذه التجارب حدًّا للتفسير الذري للأشعة الضوئية. وقد تركَّزت هذه التجارب حول ظاهرة «التداخل interference» التي يُوضَع فيها شعاعان ضوئيان كلٌّ فوق الآخر فيمحو أحدهما الآخر، وهي نتيجة لا يمكن تصوُّرها في نظرية جسيمية؛ ذلك لأن الجزيئَين اللذَين يتحركان في نفس الاتجاه لا يمكن أن يُنتِجا إلا تأثيرًا أقوى، ويزيدا مِن كثافة الضوء، أما الموجتان اللتان تتحركان في اتجاه واحد، فإن كلًّا منهما تُلغي الأخرى إذا كانت قِمَم إحدى الموجتَين تتطابق مع سفوح الأخرى. وظاهرة التداخل معروفة في الموجات المائية، وهي تفسِّر النماذج العجيبة التي تنتج عن تقاطع موجات تسير في اتجاهَين. ومع ذلك فقد كان معروفًا أن الوسيط الذي تنتشر فيه الموجات الضوئية ليست له طبيعة المادة المألوفة، كالماء أو الهواء، وإنما كان يُفترض أنه عنصر له تركيبه الخاص الذي يكاد يكون تركيبًا لا ماديًّا، يُسمَّى بالأثير.
وبعد الكشوف التجريبية مباشرة، استُحدثت الوسائل الرياضية لتحليل الموجات، وأخيرًا تم الربط بين نظرية الموجات الضوئية وبين النظرية الكهربائية في أعمال جيمس ماكسويل James Maxwell، وأدَّى الدليل التجريبي الذي قدَّمه هينريش هرتس Heinrich Hertz على وجود موجات كهربائية، إلى تبديد آخر الشكوك التي كانت تحيط بإمكان وجود الموجات الأثيرية، وأصبحت النظرية التموجية في الضوء «يقينًا، بقدر ما يتسنى للبشر الكلام عن اليقين»، كما عبَّر عنها هينريش هرتس في خطاب ألقاه في اجتماع للجمعية الألمانية للعلماء في عام ١٨٨٨م.

وقُربَ نهاية القرن التاسع عشر، كانت الفيزياء قد وصلت إلى مرحلة تبدو نهائية؛ فقد بدا أن التركيب النهائي للضوء والمادة، وهما أعظم مظهرَين للواقع الفيزيائي، أصبح معروفًا. فالضوء مُركَّب من موجات والمادة من ذرات، وكان كلُّ من يجرؤ على الشك في هذَين الأساسين اللذين يقوم عليهما العلم الفيزيائي يُعَد دخيلًا على العلم أو شخصًا غريب الأطوار، ولم يكن أي عالم جاد يقبَل أن يتجشم عناء مناقشته.

على أن النظريات الفيزيائية إنما تقدِّم تفسيرًا للمعرفة المبنية على الملاحظة في عصرها، وهي لا تستطيع أن تدَّعي أنها حقائق أزلية. وقد حرص هينريش هرتس على أن يصوغ عبارة «يقين، بقدر ما يتسنى للبشر الكلام عن اليقين»، وربما لم يكن هناك تصريح لفيزيائي يعبِّر عن طبيعة العلم بمثل العمق الذي تعبِّر به عنها هذه العبارة المتواضعة. وإن التحول الذي طرأ على النظرية في العقد التالي لكلمة هرتس هذه، لدليلٌ على الحدود التي تُفرَض على يقين النظريات العلمية.

فقد شهد عام ١٩٠٠م ظهور كشف بلانك للكم (الكوانتم)، وكانت هذه المصادفة أوضح الأمثلة تعبيرًا عن التغير الجذري الذي طرأ على فهمنا للواقع الفيزيائي في القرن العشرين. فلِكَي يفسِّر بلانك القوانين التي تم الاهتداء إليها تجريبيًّا بالنسبة إلى صدور الإشعاع عن الأجسام الساخنة، استحدث الفكرة القائلة إن كل إشعاع، وضِمنه الضوء، يخضع لتحكم أعداد صحيحة؛ أي إنه يسير تبعًا لأعداد صحيحة لوحدة أولية للطاقة، أطلق عليها اسم «الكم (الكوانتم quantum)». فتبعًا لرأيه تكون الطاقة مُؤلَّفة من وحدات أولية، هي «الكمات quanta»، وحيثما تنبعث الطاقة أو تستوعب، يُنقَل كوانتم واحد أو اثنان أو مائة كوانتم، ولكن لا يكون هناك أبدًا جزء أو كسر من الكوانتم؛ فالكوانتم هو ذرة الطاقة، ولكن مع ملاحظة أن حجم هذه الذرة، أي كمية وحدة الطاقة، تتوقف على طول موجة الإشعاع الذي يُنقَل به الكوانتم، فكلما كان طول الموجة أقصر، كان الكوانتم أكبر. وهكذا يبدو كشف بلانك نصرًا جديدًا للنظرية الذرية. وعندما توسَّع ألبرت أينشتين في تطبيق نظرية بلانك على الفكرة القائلة إن الضوء يتألف من حُزَم من الموجات شبيهة بالإبرة، تحمل «كوانتم» واحدًا من الطاقة؛ بدا أن فكرة الذرة قد غزت أخيرًا نفس ميدان الفيزياء الذي ظل طويلًا بمنأًى عن المفاهيم الذرية، كما كانت فكرة معادلة المادة والطاقة، التي ظهرت في السنوات الأخيرة بصورة درامية واضحة في انشطار ذرة اليورانيوم، دليلًا آخر على أن الإشعاع يمكن أن يندرج تحت النظرية الذرية.
ولقد كان أهم تطبيق للكوانتم هو نظرية الذرة عند نيلز بور Niels Bohr؛ ففي هذه النظرية توحَّد أخيرًا اتجاها التطور، أعني اتجاه نظرية الذرة واتجاه نظرية الإشعاع؛ ذلك لأن دراسة الذرة كانت قد أوضحت أن الذرة ذاتها ينبغي أن تُعَد مجموعة من الجزيئات الأصغر منها، التي تتماسك مع ذلك بقوة تجعل الذرة تسلك، بالنسبة إلى جميع التفاعلات الكيميائية، كوحدة ثابتة نسبيًّا. ولقد كان أول كشف اتضح فيه أن للذرة تركيبًا داخليًّا هو ذلك الذي قام به العالم الروسي مندلييف Mendeleieff، الذي أدرك في أواسط القرن التاسع عشر أنه إذا رُتِّبت ذرات العناصر الكيميائية حسب الوزن، فإن خواصها الكيميائية تتخذ ترتيبًا دائريًّا. وربط العالم الفيزيائي الإنجليزي رذرفورد E. Rutherford بين هذه الكشوف الكيميائية وبين كشف الإلكترون، ووضع الأنموذج الكوكبي للذرة، وبمقتضاه تكون الذرة مُؤلَّفة من نواة يدور حولها عدد معيَّن من الإلكترونات، وكأنها كواكب تسير في مداراتها. وفي عام ١٩١٣م اكتشف «نيلز بور»، الذي كان في ذلك الحين مساعدًا شابًّا لرذرفورد، أن أنموذج الذرة عند رذرفورد ينبغي أن يُربَط بفكرة «كم الطاقة» عند بلانك؛ فالإلكترونات لا يمكنها أن تدور إلا في مدارات تقع على مسافات محدودة معيَّنة من المركز، وهذه المسافات محدَّدة بحيث إن الطاقة الميكانيكية التي يمثِّلها كل مدار إما أن تكون كمًّا واحدًا، أو اثنين، أو ثلاثة، وهكذا دواليك. وعلى الرغم مما بدا في هذا الرأي من غرابة في نظر الفيزيائي في مبدأ الأمر، فقد أدَّى إلى نجاح مُذهِل في إيضاح الوقائع الملاحظة؛ إذ إن نظرية «بور» أتاحت تفسيرًا على أعظم جانب من الدقة لوقائع القياس الطيفي spectroscopy؛ أي لسلسلة الخطوط الطيفية التي تميِّز كل عنصر. وفي السنوات الواقعة بين ١٩١٣ و١٩٢٥م طُبِّقت نظرية بور وتأيَّدت على نطاق واسع، كما عمقت بحيث تقدِّم تفسيرًا للتركيب الذري لكل عنصر على حدة.

ومع ذلك فقد اتضح أن كشف الكوانتم كان، على الرغم من كل هذا النجاح، نعمةً مقيَّدة بشروط؛ ففي مُقابِل قدرته التفسيرية بالنسبة إلى علم القياس الطيفي، ظهرت في مجالات أخرى تعقيدات غير قابلة للتفسير؛ ذلك لأن نفس الأُسس التي يرتكز عليها مفهوم الكوانتم بدت غير متمشِّية مع النظرية الكلاسيكية في توليد الموجات الكهربائية، ومع ظاهرة التداخل المعروفة في مجال علم الضوء. وهكذا كانت النظرية الجديدة تهدِّد اتساق الفيزياء بالخطر؛ فقد كان بعض الظواهر يقتضي تفسيرًا جسميًّا للضوء، وبعضها الآخر يقتضي تفسيرًا تموجيًّا، وبدا أنه لا توجد وسيلة للتوفيق بين النظريتَين المتناقضتين.

على أن أغرب ظاهرة في نظر المُشاهِد الفلسفي هي أن البحث الفيزيائي لم يتوقف نتيجةً لهذه المتناقضات، بل عمل الفيزيائي على السير في طريقه، على نحوٍ ما، بهاتَين النظريتين المتناقضتين، وتعلَّم كيف يطبِّق إحداهما تارة، والأخرى تارة أخرى، وذلك بنجاح مُذهِل فيما يتعلق بالكشوف المبنية على الملاحظة. وأنا لا أعتقد أن هذه الحقيقة تُثبِت أن التناقض مُنقطِع الصلة بالنظريات الفيزيائية، وأن النجاح المرتكز على الملاحظة هو وحده الذي يهمُّ، أو أن التناقض، كما يعتقد الهيجليون، كامنٌ في الفكر البشري، وهو القوة الدافعة له، وإنما أعتقد بدلًا من ذلك أنها تُثبِت أن كشف الأفكار الجديدة يخضع لقوانين مُغايِرة لقوانين التنظيم المنطقي، وأن معرفة نصف الحقيقة يمكن أن تكون مرشدًا كافيًا للذهن الخلَّاق في طريقه نحو الحقيقة الكاملة، وأن النظريات المتناقضة لا يمكن أن تكون مفيدة إلا لأن هناك نظرية أفضل تشتمل على كل الوقائع الملاحظة، وتخلو من المتناقضات، وإن لم تكن معروفة في ذلك الوقت؛ ففي الوقت الذي يبحث فيه البشر، تكون الحقيقة في سبات، ولن يُوقِظها إلا أولئك الذين لا يتوقفون في بحثهم، حتى عندما تعترض طريقَهم عقباتُ التناقض.

ولقد كانت نقطة التحول في تطور نظريات الضوء والمادة هي فكرة تقدَّم بها العالم الفيزيائي الفرنسي لوي دي بروليي Louis de Broglie؛ ففي الوقت الذي كان فيه علماء الفيزياء يُكافحون من أجل حل مشكلة ما إذا كان الضوء مُؤلَّفًا إما من جزيئات وإما من موجات، تجرَّأ بروليي بإعلان الفكرة القائلة إن الضوء مُؤلَّف من جزيئات ومن موجات معًا، بل لقد بلغت به الجرأة إلى حد نقل هذه الفكرة إلى ذرات المادة، التي لم يفسِّرها أحد مِن قبله على أساس موجي، فوضع نظرية رياضية يكون فيها كل جزيء صغير من المادة مقترنًا بموجة. وهكذا حلَّ محلَّ «إما … وإما …»، فكرةُ «معًا»؛ ومِن ثَم فإن كشف دي بروليي يمثِّل بداية عهد التفسير المزدوج، الذي تأكَّد منذ ذلك الحين بوصفه نتيجة محتومة للطبيعة التركيبية للمادة. وقد أجرى ديفيسون وجيرمر Davisson and Germer تجربةً استخدما فيها ترتيبًا تداخليًّا، أوضحت أن من الممكن إثبات وجود موجات دي بروليي بالنسبة إلى شعاع من الإلكترونات، بحيث إن وجود موجات من المادة أصبح أمرًا مُؤكَّدًا على نحوٍ لا يتطرق إليه الشك.
وقد أخذ إ. شرودنجر E. Schroedinger بآراء دي بروليي، ووضع معادلة تفاضلية أصبحت هي الأساس الرياضي للنظرية الحديثة في الكم (الكوانتم)، وهي النظرية التي يُطلَق عليها عادةً اسمُ ميكانيكا الكوانتم. وتتفق نظريته الرياضية مع بعض النظريات الأخرى التي بدت لأول وهلة مختلفة عنها كل الاختلاف، والتي وضعها على نحوٍ مستقلٍّ هيزنبرج Heisenberg وماكس بورن Max Born وجوردان P. Jordan من جانب، وديراك P. Dirac من جانب آخر، وقد تم الاهتداء إلى هذه الكشوف جميعًا في عامَي ١٩٢٥-١٩٢٦م. وفي وقت قصير نسبيًّا أمكن وضع فيزياء جديدة لعناصر المادة، أتاحت لعالم الفيزياء أداةً رياضية قوية كان عليه أن يتعلم الموجات والجسيمات، فما معنى القول إن المادة تتألف من موجات وجزيئات في آنٍ واحد؟ على الرغم من أن النظرية الرياضية كانت موجودة، فإن تفسيرها كان ينطوي على صعوبات جمة. وهنا نجد أنفسنا إزاء تطور يكشف عن الاستقلال النسبي للنسبة الرياضية؛ فللرموز الرياضية حياة خاصة بها، إن جاز هذا التعبير، وهي تؤدي إلى النتيجة الصحيحة حتى قبل أن يفهم من يستخدم الرموز معناها النهائي.

كان دي بروليي قد فسَّر الجمع بين النظريتَين الجزيئية والتموجية بأبسط مَعانيه، فكان يعتقد أن هناك جزيئات تصحبها موجات تسير مع الجزيء وتتحكم في حركته. أما شرودنجر فكان يعتقد أنه يستطيع الاستغناء عن الجزيئات، وأنه لا توجد إلا موجات تتجمع، مع ذلك، في بقاع صغيرة معيَّنة، فينتج عنها شيء يُشبِه الجزيء. وهكذا قال بوجود حِزم موجية تسلك على نحوٍ شبيه بالجزيئات، ولكن بعد أن اتضح أن الرأيَين معًا لا يمكن قبولهما، اقترح بورن الفكرة القائلة إن الموجات لا تكون أي شيء مادي على الإطلاق، وإنما تمثِّل احتمالات. وأدى تفسيره هذا إلى حدوث تحوُّل غير مُنتظَر في مشكلة الذرة؛ فقد افترض أن الكيانات الأولية جزيئات لا تتحكم في سلوكها قوانين سببية، وإنما قوانين احتمالية من نوع مُشابِه للموجات فيما يتعلق بتركيبها الرياضي. وفي هذا التفسير لا تكون للموجات حقيقة الموضوعات المادية، بل تكون لها حقيقة المقادير الرياضية فحسب.

وقد واصل هيزنبرج السير في هذا الطريق، فبيَّن أن هناك قدرًا محدَّدًا من اللاتحدد indeterminacy فيما يتعلق بالتنبؤ بمسار الجزيء؛ مما يجعل من المستحيل التنبؤ بهذا المسار بدقة، وهي نتيجة صاغها في مبدئه المعروف ﺑ «مبدأ اللاتحدد Principle of indeterminacy». وبفضل كشوف بورن وهيزنبرج اتُّخذت الخطوة التي أدَّت إلى الانتقال من تفسير سببي للعالم الأصغر، إلى تفسير إحصائي له، فأصبح مِن المُعترَف به أن الحادث الذري المنفرد لا يتحدد بقانون سببي، بل يخضع لقانون احتمالي فحسب، واستُعيض عن فكرة «إذا كان … فإن …» التي عرفتها الفيزياء الكلاسيكية، بفكرة «إذا كان … فإن … في نسبة مئوية معيَّنة». وأخيرًا جمع بور Bohr بين نتائج بورن ونتائج هيزنبرج، فوضع مبدأ التكامل Principle of complementarity، وهو المبدأ القائل إن تفسير بورن لا يقدِّم إلينا إلا وجهًا واحدًا للمشكلة، ومن الممكن أيضًا أن ننظر إلى الموجات على أنها ذات حقيقية فيزيائية، وهو رأي لا يكون فيه للجزيئات وجود. ولا سبيل إلى التمييز بين هذَين التفسيرين؛ لأن اللاتحدد كما يقول به هيزنبرج يجعل من المستحيل القيام بأية تجربة فاصلة؛ أي إنه يؤدي إلى استبعاد التجارب التي تبلغ من الدقة حدًّا يكفي لتحديد أي التفسيرَين هو الصحيح وأيهما الباطل.
وهكذا تتخذ ثنائية التفسير صورتها النهائية؛ فالكشف الذي توصَّل إليه دي بروليي، والقائل إن الذرات جزيئات وموجات «معًا»، ليس له ذلك المعنى المباشر القائل إن الموجات والجسيمات توجد في وقت واحد، بل إن له معنًى غير مباشر هو أن نفس الواقع الفيزيائي يقبَل تفسيرَين ممكنين، كلٌّ منهما يُماثِل الآخر في صحته، وإن يكن من غير الممكن الجمع بين الاثنين في صورة واحدة. وهذا ما يعبِّر عنه المنطقي بقوله إن واو العطف هذه (بين الموجات والجزيئات) ليست في لغة الفيزياء، وإنما فيما بعد اللغة metalanguage؛ أي في لغة تتحدث عن لغة الفيزياء، أو بعبارة أخرى، فإن واو العطف هذه لا تنتمي إلى الفيزياء، وإنما إلى فلسفة الفيزياء، وهي لا تشير إلى موضوعات فيزيائية، وإنما إلى أوصاف ممكنة للموضوعات الفيزيائية؛ وبذلك تكون منتمية إلى عالم الفيلسوف.

هذه، في الواقع، هي النتيجة النهائية للخلاف بين أنصار الموجات وأنصار الجسيمات، وهو الخلاف الذي بدأ بين هويجنز ونيوتن، وبلغ قمته، بعد تطوُّر استمر قرونًا، في ميكانيكا الكوانتم عند دي بروليي، وشرودنجر، وبورن، وهيزنبرج، وبور. فالسؤال «ما المادة؟» لا يمكن الإجابة عنه بالتجارب الفيزيائية وحدها، وإنما يحتاج إلى تحليل فلسفي للفيزياء؛ ذلك لأن الإجابة عنه تتوقف على السؤال «ما المعرفة؟» ففي خلال القرن التاسع عشر استُعيض عن التفكير الفلسفي الذي كان موجودًا في مهد المذهب الذري بالتحليل التجريبي، ولكن البحث وصل آخرَ الأمر إلى مرحلة من التعقيد تقتضي العودة إلى البحث الفلسفي. ومع ذلك فإن فلسفة هذا البحث لا يمكن التوصل إليها بالتأمل النظري البحت، بل إن الفلسفة العلمية هي وحدها التي تستطيع معاونة الفيزيائي في هذا المجال. ولكي نفهم هذا التطور الأخير يتعين علينا أن نبحث في معنى القضايا المتعلقة بالعالم الفيزيائي.

إن المعرفة تبدأ بالملاحظة؛ فحواسنا تُنبِئنا بما يوجد خارج أجسامنا. غير أننا لا نكتفي بما نلاحظه، وإنما نودُّ أن نعرف المزيد، ونبحث في الأشياء التي لا نلاحظها مباشرة. ونحن نبلغ هذا الهدف بعمليات فكرية، تربط بين الوقائع الملاحظة، وتقدِّم لها تفسيرًا في ضوء الأشياء غير الملاحظة. وهذه الطريقة تُتَّبع في الحياة اليومية مثلما تُتَّبع في العلم؛ فهي تُطبَّق عندما نستدل من وجود بِرك صغيرة في الطريق على أن السماء قد أمطرت قبل وقت قصير، أو عندما يستدل العالم الفيزيائي من انحراف الإبرة المُمغنَطة على أن هناك كيانًا غير مرئي، يُسمَّى بالكهرباء، في السلك، أو عندما يستدل الطبيب من أعراض المرض على أن هناك نوعًا معيَّنًا من البكتريا يسري في دم المريض. فلا بد لنا من دراسة طبيعية هذا الاستدلال، إذا شئنا فهم معنى النظريات الفيزيائية.

إن الاستدلال قد يبدو أمرًا هيِّنًا طالما أننا لا نفكر فيه، غير أن التحليل العميق له كفيل بأن يكشف عن تركيب شديد التعقيد؛ فأنت تقول إن بيتك يظل في مكانه دون تغيير أثناء بقائك في مكتبك، فكيف عرفت ذلك؟ إنك لا ترى بيتك عندما تكون في مكتبك، ولكنك ستُجيب بأن من السهل التحققَ من هذه القضية بالذهاب إلى البيت والتطلع إليه. وصحيحٌ أنك سترى بيتك عندئذٍ، ولكن هل تؤدي هذه الملاحظة إلى تحقيق عبارتك؟ إن ما قلته هو أن بيتك هناك عندما كنت تراه، فكيف تستطيع أن تتأكد من أنه كان هناك عندما كنت غائبًا؟

وإني لأدرك أنك، أيها القارئ، قد أخذت تشعر بالحنق، وتقول: عجبًا لأمر هؤلاء الفلاسفة الذين يريدون الضحك على عقول الجميع! إن البيت إذا كان هناك في الصبح وبعد الظهر، فكيف لا يكون موجودًا قبل الظهر؟ أيعتقد الفيلسوف أن هناك مُقاولًا استطاع أن يهدم البيت في دقيقة ويُعيد بناءه في دقيقة أخرى؟ وفيمَ يُفيد مثل هذا السؤال الذي لا معنى له؟

إن المشكلة هي أنه، ما لم يمكنك الاهتداء إلى إجابة عن هذا السؤال أفضل من تلك التي يأتي بها الفهم العادي للإنسان، فلن نتمكن مِن حلِّ مشكلةٍ ما إذا كان الضوء والمادة يتألفان من جزيئات أو موجات. وهذه هي النقطة التي توصَّل إليها الفيلسوف؛ فالفهم العادي قد يكون أداة مفيدة بالنسبة إلى مشكلات الحياة اليومية، ولكنه يصبح أداةً غير كافية عندما يبلغ البحث العلمي مرحلة معيَّنة من التعقيد. فالعلم يقتضي إعادة تفسير لمعرفة الحياة اليومية؛ لأن المعرفة تكون لها آخرَ الأمر طبيعة واحدة، سواء أكانت متعلقة بالأشياء العينية، أم بمركبات التفكير العلمي. وعلى ذلك فمن الضروري الاهتداء إلى إجابات أفضل من الأسئلة البسيطة للحياة اليومية، قبل أن نستطيع الإجابة عن الأسئلة العلمية.

ولقد عُرِف الفيلسوف اليوناني بروتاجوراس، زعيم السفسطائيين، بتعبيره عن مبدأ النزعة الذاتية، الذي صاغه على النحو الآتي: «الإنسان مقياس الأشياء جميعًا، تلك التي توجد على أنها موجودة، وتلك التي لا توجد على أنها غير موجودة.» ولسنا ندري بالضبط ما كان يعنيه بهذه العبارة التي كانت «مُتسفسِطة» بحق، ولكن لنفرض أنه كان سيقول عن مشكلتنا السابقة ما يأتي: «إن البيت لا يوجد إلا عندما أنظر إليه، أما حين لا أنظر إليه فإنه يختفي دائمًا.» فما الذي يمكنك أن تعترض به عليه؟ إنه لا يقول إنه يختفي ويعود إلى الظهور بطريقة سحرية من نوعٍ ما. وهو يؤكِّد أن ملاحظة المُشاهِد البشري هي التي تُنتج البيت، وأن البيوت غير الملاحظة لا توجد بالتالي، فأية حُجَج نستطيع أن نعترض بها على مثل هذا الاختفاء السحري، والخلق الذي يتم على يد المُشاهِد البشري؟

قد تقول إنك تستطيع أن تتصل تليفونيًّا ببواب البيت من مكتبك، وتسأله إن كان البيت ما زال موجودًا. غير أن البواب إنسان مثلك، وقد تكون مشاهدته هي التي تخلق البيت مثل مشاهدتك، فهل سيكون البيت هناك حين لا يشاهده أحد؟

وقد تقول إنك تستطيع أن تُدير ظهرك للبيت وتشاهد ظله، ويكون معنى ذلك أن البيت ينبغي أن يكون موجودًا دون أن تلاحظه لأن له ظلًّا. ولكن كيف تعلَم أن الأشياء غير الملاحظة لها ظل؟ إن ما رأيته حتى الآن هو أن الأشياء الملاحظة لها ظلال، وفي استطاعتك أن تفسِّر الظل الذي تراه حين لا ترى البيت، بافتراض أن الظلال تظل موجودة عندما يختفي الشيء، وإن هناك ظلًّا بدون بيت. وليس مِن حقك أن تردَّ بأن مثل هذه الظلال الخاصة بأشياء غير موجودة لم تُلاحَظ أبدًا من قبل؛ فهذه الحجة لا تكون صحيحة إلا إذا افترضت ما تريد إثباته، وهو أن البيت يظل وجودًا حين لا تعود تراه. فإذا افترضت العكس، كما فعل بروتا جوراس، فإن لديك عددًا كبيرًا من الأدلة على رأيه هذا؛ لأنك رأيت ظلالًا على شكل بيوت دون أن ترى بيوتًا في نفس الوقت.

وقد تُدافِع عن موقفك بالإهابة من جديد بالفهم العادي السليم، فتُجيب قائلًا: «لم أفترض أن قوانين علم البصريات مختلفة بالنسبة إلى الموضوعات غير الملاحظة؟ إن من الصحيح أن هذه القوانين وُضعت بالنسبة إلى الموضوعات الملاحظة، ولكن ألا توجد لدينا أدلة دامغة على أنها ينبغي أن تسري على الموضوعات غير الملاحظة بدورها؟» ومع ذلك فإن قليلًا من التفكير اللاحق كفيلٌ بإقناعك بأننا لا نملك أدلة كهذه على الإطلاق. وأقول إنه لا توجد أدلة كهذه؛ لأن الموضوعات غير الملاحظة لم تُلاحَظ أبدًا.

ولا يبقى بعد ذلك إلا مَخرجٌ واحد من هذه الصعوبة، فمن الواجب أن ننظر إلى قضايانا المتعلقة بالموضوعات غير الملاحظة، لا على أنها قضايا قابلة للتحقيق، بل على أنها مُواضَعات أو اصطلاحات، نأتي بها نظرًا إلى ما تؤدي إليه من تبسيط شديد للغة. فما نعرفه هو أننا إذا ما أخذنا بهذا الأمر الاصطلاحي، فمن الممكن المُضيُّ فيه دون تناقض؛ أي إننا إذا افترضنا أن الموضوعات غير الملاحظة هي ذاتها الموضوعات الملاحظة، فإنا نصل إلى نسق للقوانين الفيزيائية يسري على الموضوعات الملاحظة وغير الملاحظة معًا. وهذه القضية الأخيرة، التي هي قضية من نوع «إذا» (أي قضية مشروطة)، هي أمرٌ واقع تحقَّقنا من صحته، وهي تُثبِت أن لغتنا المعتادة عن الموضوعات غير الملاحظة هي لغة مقبولة، غير أنها ليست هي اللغة المقبولة الوحيدة. ففي استطاعة شخص مثل بروتاجوراس، يقول إن البيوت تختفي حين لا تُلاحَظ، أن يتكلم لغة مقبولة أيضًا، إذا كان على استعداد لقبول النتيجة المترتبة على قوله هذا، وهي أن علينا أن نضع نسقَين مختلفَين للقوانين الفيزيائية، أحدهما للموضوعات الملاحظة، والآخر للموضوعات غير الملاحظة.

وحصيلة هذه المناقشة الطويلة هي أن الطبيعة لا تُملي علينا وصفًا واحدًا بعينه، وأن الحقيقة لا تقتصر على لغة واحدة؛ ففي استطاعتنا أن نقيس البيوت بالأقدام أو بالأمتار، ودرجات الحرارة بمقياس فهرنهيت أو بالمقياس المئوي، وفي استطاعتنا أن نصف العالم الفيزيائي بهندسة إقليدية أو بهندسة لا إقليدية، كما بيَّنا في الفصل الثامن. وعندما نستخدم نُظمًا مختلفة في القياس أو الهندسة، فإننا نتحدث لغات مختلفة، غير أننا نقول نفس الشيء. فالكثرة من الأوصاف تتكرر على نحوٍ أعقد عندما نتحدث عن الموضوعات غير الملاحظة. وهناك طرق كثيرة لقول الصدق، وكلها متكافئة بالمعنى المنطقي، كما أن هناك أيضًا طُرقًا متعددة لقول الكذب. مثال ذلك أن من الكذب القول إن الثلج يذوب في درجة حرارة اثنتين وثلاثين، إذا استخدمنا المقياس المئوي؛ وعلى ذلك فإن فلسفتنا لا تمحو الفارق بين الصدق والكذب، غير أن مِن قِصر النظر أن يتجاهل المرء كثرة الأوصاف الصحيحة. فالواقع الفيزيائي يقبَل فئة من الأوصاف المتكافئة، ونحن نختار أحدها على سبيل التيسير على أنفسنا، وهذا الاختيار لا يرتكز إلا على عُرف أو اصطلاح؛ أي على قرار إرادي. مثال ذلك أن النظام العشري يُتيح وصفًا للقياسات أيسر مما يُتيحه غيره من النظم؛ فعندما نتحدث من موضوعات غير ملاحظة، فإن أيسر لغة هي تلك التي يختارها الذهن المعتاد، والتي بمقتضاها لا تكون الموضوعات غير الملاحظة مختلفة عن الموضوعات الملاحظة، ولا يكون سلوك الأولى مختلفًا عن سلوك الثانية، غير أن هذه اللغة مبنية على عُرف أو اصطلاح.

ومن مزايا نظرية الأوصاف المتكافئة أنها تُتيح لنا التعبير عن حقائق معيَّنة لا تستطيع لغة الذهن المعتاد أن تضع صيغة لها. وأنا أعني بذلك تلك الحقيقة التي تعبِّر عنها القضية الشرطية السابقة؛ فمِن الصحيح أننا إذا افترضنا أن الموضوعات غير الملاحظة في هوية مع الموضوعات الملاحظة، فإننا لا نصل إلى تناقضات، أو إن مِن الصحيح بعبارة أخرى أنه يوجد، مِن بين الأوصاف المقبولة للعالم الفيزيائي، وصفٌ تكون فيه الموضوعات غير الملاحظة على قدم المساواة مع الموضوعات الملاحظة؛ فلنُطلِق على هذا الوصف اسم «النظام السوي normal system». وإن مِن أهم الحقائق أن العالم الفيزيائي يمكن أن يوصف بنظام سوي، وقد كنا على الدوام نأخذ هذه الحقيقة قضية مُسلَّمًا بها، بل إننا لم نعمل على صياغتها؛ وبذلك لم نعلم أنها حقيقة. فنحن لم نرَ فيها أية مشكلة، شأننا شأن الشخص الذي لا يرى مشكلة في سقوط الأجسام إلى الأرض؛ لأن هذه الملاحظة تمثِّل تجربة عامة إلى أبعد حد. ومع ذلك فإن الميكانيكا العلمية بدأت بقانون سقوط الأجسام، وبالمِثل فإن الفهم العلمي لمشكلة الموضوعات غير الملاحظة يبدأ بالتعبير عن إمكان وصف الموضوعات غير الملاحظة بواسطة نظام سوي.

فكيف نعلم أن هذا الوصف ممكن؟ إن كل ما يمكننا قوله هو أن تجارب أجيال البشر قد أثبتته. ومع ذلك ينبغي ألا نعتقد بأن من الممكن البرهنةَ على هذا الإمكان بقوانين منطقية؛ فالأمر الواقع — لحسن الحظ — يشهد بأن عالمنا يمكن أن يُوصَف بقدرٍ من البساطة لا ينجم عنه فارق بين الموضوعات الملاحظة والموضوعات غير الملاحظة، وهذا كل ما يمكننا القول به.

لقد كنا نتحدث حتى الآن عن البيوت غير الملاحظة. على أن جزيئات المادة هي بدورها موضوعات غير ملاحظة، فلنرَ كيف يمكن تطبيق نتائجنا عليها.

إن عالم الذرة، شأنه شأن عالم الحياة اليومية، يتضمن ما يمكن ملاحظته وما لا يمكن ملاحظته؛ فما يمكن ملاحظته هو الصدمات بين جزيئَين، أو بين جزيء وشعاع ضوئي؛ إذ إن الفيزيائي قد استحدث أدوات عظيمة الدقة توضِّح كل صدمة منفردة. أما ما لا يمكن ملاحظته فهو ما يحدث خلال الفترة الواقعة بين صدمتَين، أو في الطريق من مصدر الإشعاع إلى الصدمة. وإذن فهذه الحوادث هي الموضوعات التي لا تُلاحَظ في عالم «الكوانتم».

ولكن لمَ كان من المستحيل ملاحظتها؟ ولمَ لمْ يكن في استطاعتنا أن نستخدم نوعًا أدق من الميكروسكوب، ونرقب الجزيئات في مسارها؟ إن المشكلة هي أن من الضروري، لكي نرى جزيئًا، أن نُضيئه. وإضاءة جزيء شيءٌ يختلف كل الاختلاف عن إضاءة بيت؛ ذلك لأن الشعاع الضوئي عندما يقع على جزيء يخرج به عن طريقه، وإذن فما نلاحظه صدمة، وليس جزيئًا يسير في طريقه دون أن يعترضه شيء. وتستطيع أن تُدرِك ذلك إذا تخيَّلت أنك تريد مراقبة كرة «بولنج»١ تتدحرج في مسارها في قاعة مُظلِمة، ولكنك عندما تُضيء النور، ويسقط النور على الكرة، فإنه يدفع الكرة بعيدًا عن طريقها، فأين كانت الكرة قبل أن تضيء النور؟ هذا أمرٌ لا يمكنك أن تحدِّده، ولكن من حسن الحظ أن هذا المثل لا ينطبق على كرات «البولنج»؛ فهي مِن الكِبَر بحيث إن اصطدام الشعاع الضوئي بها لا يُحدِث في مسارها أي تغير ملحوظ. أما في حالة الإلكترونات وغيرها من جزيئات المادة فإن الأمر يختلف، فعندما تلاحظها يكون عليك أن تغيِّر مسارها؛ وبالتالي لا يكون في وسعك أن تعرف ماذا كانت تفعله قبل الملاحظة.
بل إن الملاحظة تُحدِث بعض التغيير حتى في عالمنا المعتاد بأحجامه الكبيرة؛ فعندما تتحرك سيارة الشرطة عبر المرور في شارع مُتَّسع، فإن رجال الشرطة الموجودين فيها يرون كل العربات المحيطة بهم تتحرك ببطء في حدود السرعة المطلوبة.٢ ولو لم يكن الشرطي من النوع الذي يرتدي في بعض الأحيان ملابس مدنية ويركب سيارة عادية، لا يُستدل من ذلك على أن كل السيارات تسير طول الوقت بمِثل هذه السرعة المعقولة. ولنقل إننا في اتصالنا بالإلكترونات لا نستطيع أن نرتدي ملابس مدنية؛ فكلما راقبناها غيَّرنا طريق مرورها على الدوام.

وربما اعترضت على ذلك قائلًا: قد يكون مِن الصحيح أننا لا نستطيع أن نلاحظ كيف يتحرك الجزيء في مساره دون أن يؤثِّر فيه شيء، ولكن ألا نستطيع أن نحسب، عن طريق استدلالات علمية، ما يفعله عندما لا ننظر إليه؟ هذا السؤال يعود بنا إلى تحليلنا السابق للموضوعات غير الملاحظة؛ فقد رأينا أننا نستطيع أن نتحدث عن أمثال هذه الموضوعات بطُرق شتى، وأن هناك فئة من الأوصاف المتكافئة، وأننا نفضِّل أن نختار لوصفنا نظامًا سويًّا؛ أعني نظامًا لا تختلف فيه الموضوعات الملاحظة عن غير الملاحظة. ومع ذلك فإن مناقشتنا لملاحظة الجزيئات قد أوضحت أنه لا يوجد لدينا نظام سوي بالنسبة إلى الجزيئات. فمن يلاحظ الإلكترونات ينبغي أن يكون مثل بروتاجوراس؛ إذ إنه يُنتج ما يراه؛ لأن رؤية الإلكترونات تعني إحداث صدمات مع الأشعة الضوئية.

إن الحديث عن الجزيئات يعني أن نعزو إليها مكانًا محدَّدًا وسرعة محدَّدة بالنسبة إلى كل نقطة. مثال ذلك أن كرة التنس تحتلُّ في كل لحظة مكانًا معيَّنًا في مسارها، ولها في هذه اللحظة سرعة محدَّدة؛ فمِن الممكن قياس المكان والسرعة معًا، في كل لحظة، بأدوات مناسبة. أما بالنسبة إلى الجزيئات الصغيرة، فإن التغيير الذي يُحدِثه المُلاحِظ يجعل من المستحيل، كما بيَّن هيزنبرج، قياس القيمتَين معًا في نفس الوقت؛ ففي استطاعتنا أن نقيس موقع الجزيء أو سرعته، ولكنا لا نستطيع قياسهما معًا. تلك هي النتيجة التي يؤدي إليها مبدأ اللاتحدد عند هيزنبرج. وهنا قد يتساءل المرء عما إذا كانت تُوجَد طُرق أخرى لتحديد المقدار غير المَقيس؛ أعني طُرقًا نربط بها، على نحوٍ غير مباشر، بين المقدار غير المقيس وبين المقادير الملاحظة. وهذا يكون ممكنًا بالفعل إذا أمكننا أن نفترض أن المقادير غير الملاحظة تسير تبعًا لنفس قوانين المقادير الملاحظة، غير أن تحليل ميكانيكا الكوانتم قد أدَّى إلى إجابة سلبية على هذا السؤال؛ فالموضوعات غير الملاحظة لا تخضع لنفس القوانين التي تخضع لها الموضوعات الملاحظة من حيث إنه ينشأ بينهما فارقٌ نوعيٌّ فيما يتعلق بالسببية؛ فالعلاقات التي تتحكم في الموضوعات غير الملاحظة تُخالِف مُصادَرات السببية، وهي تؤدي إلى انحرافات في مجال السببية.

هذا الفارق يحدث عند إجراء تجارب تداخل؛ أعني تجارب يمرُّ فيها شعاع من الإلكترونات أو شعاع ضوئي من خلال شق ضيِّق، ويُحدِث على شاشة أنموذجًا تداخليًّا يتألف من شرائط سوداء وبيضاء. وقد كان التفسير الذي يُقدَّم لهذه التجارب دائمًا مستمَدًّا من الطبيعة التموجية للضوء، فيقال إنها نتيجة لوقوع قِمَم الموجات فوق سفوحها. غير أننا نعلم أننا عندما نستخدم إشعاعًا ضئيل الكثافة جدًّا، فإن الأنموذج الناتج، وإن يكن له نفس التركيب عندما يستمر الإشعاع وقتًا كافيًا، يكون نتيجة عدد كبير جدًّا من الاصطدامات البسيطة على الشاشة؛ وعلى ذلك فإن الشرائط تنتج بواسطة عملية إطلاق شبيهة بإطلاق النار من البندقية السريعة الطلقات. هذه الصدمات الفردية لا يمكن تقديم تفسير معقول لها على أساس أنها موجات؛ فالموجة تصل على جبهة عريضة تغطِّي الشاشة، وعندئذٍ يحدث وميض في نقطة واحدة فقط من الشاشة، وتختفي الموجة بأكملها؛ إذ يبتلعها الوميض، إن جاز هذا التعبير، وهو حادث يتعارض مع قوانين السببية المألوفة، وتلك هي النقطة التي يؤدي فيها التفسير التموجي إلى نتائج غير معقولة، أو إلى انحراف سببي. أما إذا افترضنا، على عكس ذلك، أن الإشعاع يتألف من جزيئات، لكان من السهل تفسير الصدمات التي تحدث على الشاشة. ومع ذلك فإن الصعوبات تنشأ عندما يُستخدم شقَّان؛ إذ يتعين على كل جزيء عندئذٍ أن يمرَّ من خلال هذا الشق أو ذاك؛ وعندئذٍ يكون أنموذج التداخل ناتجًا عن التأثير المتبادل بين الشقَّين، غير أن من الممكن إيضاح أن الدور الذي يُسهِم به كل شق في الأنموذج الكامل يختلف عن الأنموذج الذي يُحدِثه الشق لو أُغلِق الشق الآخر. وهذا يعني أن المسار فيما وراء الشق الذي اختاره الجزيء، يتأثر بوجود الشق الآخر؛ فالجزيء يعرف إن كان الشق الآخر مفتوحًا أم لا، إن جاز هذا التعبير. وهذه هي النقطة التي يصل فيها التفسير الجزيئي إلى انحراف سببي؛ أي إلى خرق لقوانين السببية المعتادة. ولو أُجريَت هذه التجارب بأي ترتيب آخر، وقُدِّم لها أي تفسير آخر ممكن، لأدَّت إلى خرق لهذه القوانين أيضًا. وتُصاغ هذه النتيجة في مبدأ للانحراف السببي يمكن استخلاصه من أُسُس ميكانيكا الكوانتم ذاتها.

ومن الواجب أن نميِّز بدقة بين مبدأ السببية في صورة انحرافات عن النمط السوي anomalies، وبين الامتداد الذي يعبِّر عنه الانتقال من القوانين السببية إلى القوانين الاحتمالية؛ ذلك لأن خضوع الحوادث الذرية لقوانين احتمالية، لا لقوانين سببية، يبدو نتيجةً ضررُها هيِّن نسبيًّا إذا ما قُورِنت بالانحرافات السببية التي تحدَّثنا عنها الآن. فهذه الانحرافات تتعلق بمبدأ التأثير بالاتصال المباشر، وهو المبدأ الذي يعبِّر عن خاصية معروفة من خصائص الانتقال السببي، هي أن السبب ينبغي أن ينتشر باستمرار خلال المكان حتى يصل إلى النقطة التي يُحدِث فيها نتيجة معيَّنة. فإذا ما بدأت قاطرة في التحرك، فإن عربات القطار لا تعقبها مباشرة، وإنما على فترات؛ إذ إن جذب القاطرة ينبغي أن ينتقل من عربة إلى عربة حتى يصل إلى الأخيرة في نهاية الأمر. وعندما يُضاء نور كشاف، فإنه لا يُضيء الموضوعات التي يُوجَّه إليها فورًا، وإنما ينبغي أن ينتقل الضوء في المكان الواقع بينه وبينها، ولو لم تكن سرعته هائلة للاحظنا الوقت اللازم لانتشار الإضاءة. فالسبب لا يؤثِّر في النتائج البعيدة فورًا، وإنما ينتشر من نقطة إلى نقطة حتى يؤثِّر في الموضوع بالاتصال المباشر. هذه الحقيقة البسيطة تُعَد مِن أوضح سمات جميع الحالات المعروفة للانتقال السببي، ولا يمكن أن يتخلى الفيزيائي بسهولة عن الاعتقاد بأن هذه الخاصية تمثِّل عاملًا لا يمكن الاستغناء عنه في التأثير السببي المتبادل، بل إن الانتقال إلى القوانين الاحتمالية لا يلزم عنه التخلي عن هذه الخاصية بالضرورة. فمن الممكن تكوين القوانين الاحتمالية على نحوٍ ينتقل معه الاحتمال من نقطة إلى نقطة، فيُسفِر عن سلسلة احتمالية تُماثِل التأثير السببي بالاتصال المباشر؛ ولذا فإن اضطرارنا، نتيجةً لتحليل الموضوعات غير القابلة للملاحظة في فيزياء الكوانتم، إلى التخلي عن مبدأ التأثير بالاتصال المباشر، وإلى القول بمبدأ الانحراف السببي، هو ضربة تُوجَّه إلى فكرة السببية، أقوى بكثير من الانتقال إلى القوانين الاحتمالية؛ ذلك لأن انهيار السببية على هذا النحو يجعل من المستحيل التحدث عن موضوعات غير ملاحظة في العالم الأصغر، بنفس المعنى الذي نتحدث به عن أمثال هذه الموضوعات في العالم الأكبر.

وهكذا نصل إلى فارق في النوع بين عالم الأشياء الكبيرة وعالم الأشياء الصغيرة؛ فكلا العالمين مبني على أساس الموضوعات الملاحظة بإضافة الموضوعات غير الملاحظة، غير أن هذه التكملة للظواهر الملاحظة لا تنطوي، في عالم الأشياء الكبيرة، على صعوبات؛ إذ إن الموضوعات غير الملاحظة تسير على نفس أنموذج الموضوعات الملاحظة. أما في عالم الأشياء الصغيرة، فلا يمكن تصوُّر تكملة معقولة للموضوعات الملاحظة؛ ذلك لأن الموضوعات غير الملاحظة، سواء أدخلناها بوصفها جزيئات أم موجات، تسلك بطريقة غير معقولة، وتخرق قوانين السببية المقرَّرة. وليس ثمة نظامٌ سوي لتفسير هذه الموضوعات غير القابلة للملاحظة، كما أننا لا نستطيع الكلام عنها بنفس المعنى الذي نتكلم به عنها في عالم الحياة اليومية. ففي استطاعتنا أن ننظر إلى المركَّبات الأولية للمادة على أنها جزيئات أو موجات، وكلا التفسيرَين يُلائم الملاحظات بنفس القدر من الدقة أو من الافتقار إلى الدقة.

هذه، إذن، هي نهاية القصة؛ فقد تحوَّل النزاع بين أنصار التفسير الموجي وأنصار التفسير الجسيمي إلى ازدواج في التفسير؛ ذلك لأن مسألة كون المادة موجات أو جزيئات، هي مسألة تتعلق بموضوعات غير قابلة للملاحظة، وتتميز هذه الموضوعات في عالم الأبعاد الذرية، على خلاف نظائرها في العالم المعتاد، بأن من المستحيل تحديدها بطريقة موحَّدة بواسطة افتراض نظام سوي؛ إذ لا يوجد نظام كهذا.

ولا بد أن نعُد أنفسنا محظوظين؛ لأن عدم التحدد هذا يقتصر على الموضوعات الصغيرة. فهو يختفي بالنسبة إلى الموضوعات الكبيرة؛ لأن اللاتحدد الذي يقول به هيزنبرج بالنسبة إلى الحجم الصغير للكوانتم عند بلانك، لا يكون ملحوظًا في الموضوعات الكبيرة، بل إن من الممكن تجاهُل اللاتحدد بالنسبة إلى الذرة ككل؛ لأنها كبيرة إلى حدٍّ ما، ونستطيع أن نُعامِل الذرات على أنها جسيمات، مُتجاهِلين المفاهيم التموجية. أما التركيب الداخلي للذرة، الذي تقوم فيه الجزيئات الأخف، كالإلكترونات، بدور رئيسي، فهو وحده الذي يقتضي ثنائية التفسير كما تقول بها ميكانيكا الكوانتم.

ولكي نفهم ما تعنيه الثنائية، فلنتخيل عالمًا تسري فيه مِثل هذه الثنائية على الأجسام الكبيرة، ولنفرض أن عيارات بندقية سريعة الطلقات تمرُّ من خلال نوافذ غرفة، ثم نجد فيما بعدُ أن الرصاصات قد استقرت في جدران الغرفة، بحيث يبدو لنا من الأمور التي لا يتطرق إليها الشك أن الطلقات تتألف من رصاصات، كذلك نفترض أن مرور الطلقات عبر النوافذ يسير تبعًا لقوانين الموجات التي تمرُّ خلال الشقوق. ففي توزيع الرصاصات على الجدران، تكون الرصاصات أنموذجًا من الشرائط مُشابهًا لأنموذج التداخل؛ أي إننا عندما نفتح نافذة أخرى، مثلًا، يصبح عدد الرصاصات التي تصطدم بمكان معيَّن من الجدار أقل لا أكثر؛ لأن الموجات تتدخل عند هذه النقطة. فإذا كان من المستحيل ملاحظة الرصاصة وهي تمرُّ بمسارها مباشرة، فإننا نستطيع عندئذٍ أن نفسِّر الطلقات على أنها تتألف من موجات أو جسيمات، ويكون كلا التفسيرَين صحيحًا، وإن يكن كلٌّ منهما يستتبع نتائج معيَّنة غير معقولة.

على أن انعدام المعقولية في مثل هذا العالم سيظل على الدوام قائمًا بالنسبة إلى النتائج وحدها، لا بالنسبة إلى ما يُلاحَظ؛ فالملاحظات المنفردة لن تكون مختلفة عما نراه في عالمنا، وإنما يؤدي مجموعها إلى نتائج تتناقض مع أُسُس مبدأ السببية. ومِن حسن حظنا أن عالمنا المؤلَّف من أحجار وأشجار وبيوت وبنادق ليس من هذا النوع، بل إنه ليس من الأمور المستحبة أن يعيش المرء في بيئة كهذه، تخدعنا فيها الأشياء من وراء ظهورنا، بينما تسلك سلوكًا معقولًا ما دمنا ننظر إليها. غير أننا لا نستطيع أن نستنتج أن عالم الأشياء الصغيرة ينبغي أن يكون له نفس التركيب البسيط الذي يتصف به عالم الأشياء الكبيرة؛ فالأبعاد الذرية لا تخضع لتحديد موحَّد بالنسبة إلى ما فيها من موضوعات غير ملاحظة، وعلينا أن نتعلم أن من الممكن وصف هذه الموضوعات بلغات متعددة، وأنه لا سبيل إلى القول بأن إحدى هذه اللغات هي وحدها الصحيحة.

هذه الصفة المميَّزة لحوادث ميكانيكا الكوانتم هي التي تنطوي في رأيي على المعنى الأعمق لمبدأ التكامل عند «بور»؛ فهو عندما يُسمِّي وصف الموجة الجزيء وصفًا تكامليًّا، يعني أنه بالنسبة إلى المسائل التي يكون أحد هذَين الوصفين تفسيرًا كافيًا لها، لا يكون الآخر تفسيرًا كافيًا، والعكس بالعكس. مثال ذلك، إننا إذا كنا بصدد ملاحظات عدادات جيجر، التي تكشف لنا عن صدمات فردية موضعية، فإنا نستخدم التفسير الجزئي. وينبغي أن يُلاحَظ أن لفظ «التكامل» لا يفسِّر، أو يزيل، الصعوبات المنطقية التي تنطوي عليها لغة ميكانيكا الكوانتم، وإنما هو مجرد تسمية لها فحسب؛ فمن الحقائق الأساسية أنه لا يوجد نظام سوي لتفسير الموضوعات غير الملاحظة في ميكانيكا الكوانتم، وأن علينا أن نستخدم لغات مختلفة عندما نرغب في تجنُّب الانحرافات السببية بالنسبة إلى الحوادث المختلفة؛ ذلك هو المضمون التجريبي لمبدأ التكامل. ومِن الواجب أن نؤكِّد أن هذا الموقف المنطقي ليس له نظير في عالمنا الفعلي الكبير؛ لذلك أعتقد أنه ليس مما يؤدي إلى إيضاح مشكلة ميكانيكا الكوانتم أن يُشير المرء إلى «تكاملات» مثل الحب والعدل، والحرية والحتمية، وما إلى ذلك، وإنما أُوثِر في هذه الحالة التحدث عن «استقطابات»، بحيث يدل تغيير الاسم في هذه الحالة على أن لهذه العلاقات المنتمية إلى عالمنا الكبير المعتاد تركيبها يختلف كل الاختلاف عن التكامل في ميكانيكا الكوانتم. فليست لها علاقة بالتوسع في اللغة حين تمتد من الموضوعات الملاحظة إلى الموضوعات غير الملاحظة؛ وبالتالي فلا شأن لها بمشكلة الواقع الفيزيائي.

على أن هناك طريقة مختلفة لمعالجة المشكلة، استُعين فيها بمراجعة المنطق؛ فبدلًا من القول بثنائية لغوية، أو تكامل لغوي، وُضعت لغة من نوع أشمل، يبلغ تركيبها المنطقي من الاتساع حدًّا يُتيح الملاءمة بينها وبين الخواص المميِّزة للعالم الأصغر كما تقول به ميكانيكا الكوانتم؛ ذلك لأن لغتنا المعتادة مبنية على منطق ثنائي القِيَم؛ أي على منطق قيمتَي الحقيقة «الصدق» و«الكذب»، ولكن من الممكن تكوين منطق ثلاثي القيمة، فيه قيمة متوسطة هي اللاتحدد، وفي هذا المنطق تكون القضايا إما صادقة، وإما كاذبة، وإما لا محدَّدة، وبواسطة مثل هذا المنطق يمكن كتابة ميكانيكا الكوانتم بنوع من اللغة المحايدة، التي لا تتحدث عن الموجات أو الجزيئات، بل تتحدث عن الاتفاقات؛ أي الصدمات، وتترك مسألة ما يحدث في الطريق بين الصدمات أمرًا غير محدَّد. مثل هذا المنطق يبدو أنه هو الصورة النهائية لفيزياء الكوانتم، بالمعنى البشري لهذا التعبير.

لقد كان الطريق طويلًا من ذرات ديمقريطس إلى ثنائية الموجات والجسيمات. وقد تبيَّن أن جوهر الكون — بالمعنى الذي يستخدمه العالم الفيزيائي، لا بالمعنى المجازي عند الفيلسوف الذي وحَّد بينه وبين العقل — ذو طبيعة مشكوك فيها إلى حدٍّ ما، إذا ما قُورِن بالجزيئات الصلبة التي ظل الفيلسوف والعالم يُؤمِنان بها قرابة ألفَي عام. واتضح أن مفهوم الجوهر الجسمي، المشابه للجوهر الملموس كما يظهر في الأجسام التي نتعامل معها في بيئتنا اليومية، هو فكرة مُقحَمة من مجال التجربة الحسية. وتبيَّن أن ما بدا شرطًا عقليًّا في فلسفة المذهب العقلي — مثلما فعل «كانت» حين وصف تصوُّر الجوهر بأنه تركيبي قبلي — هو نتاج لتعوُّد أو تكيُّف مع البيئة. وإن التجارب التي تُتيحها الظواهر الذرية لتحتِّم التخلي عن فكرة الجوهر الجسمي، وتقتضي إعادة النظر في طريقة الوصف التي نصوِّر بها الواقع الفيزيائي. وباختفاء الجوهر الجسمي يختفي طابع اللغة المرتكز على قيمتَين، بل يتضح أن أُسُس المنطق إنما هي نتاج للتكيف مع البيئة البسيطة التي وُلد فيها البشر. والحق أن الفلسفة التأملية ذاتها لم تكشف أبدًا عن قدرة على التخيل مماثلة لذلك العمق الذي أبدته الفلسفة العلمية مسترشدةً بالتجارب العلمية والتحليلات الرياضية؛ فطريق الحقيقة مرصوف بتلك الأخطاء التي ارتكبتها فلسفة كانت أضيق مِن أن تتصور تنوُّع التجارب الممكنة.

١  لعبة شعبية أمريكية، يقوم فيها اللاعب بدحرجة كرة على طول مَمر ينتهي بعدد من القوائم الخشبية مرتَّبة بطريقة معيَّنة، والمتسابق الفائز هو الذى يُسقِط القوائم جميعها. (المترجِم)
٢  المقصود هو أن خوف سائقي السيارات الأخرى من رجال الشرطة الذين يركبون سياراتهم المميَّزة، هو الذي يجعلهم يسيرون في حدود السرعة المطلوبة؛ أي إن ملاحظة رجال الشرطة لهم تُحدِث تغييرًا في طريقة سيرهم. (المترجِم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤