الفصل التاسع والثلاثون

القبلة

figure
نحت للفنان الروماني قسطنطين برانكوزي (C. Brancusi) (١٨٧٦–١٩٥٧م)، أتمَّه سنة ١٩٠٨م.

يُعدُّ برانكوزي من أبرز ممثلي النزعة التجريدية المطلقة بين النحاتين المعاصرين، وتتميَّز أعماله ببساطة الشكل والمبالغة في صقله وتنقيته بحيث تشع بإيحاءات شعرية وصوفية متعالية. التحق بأكاديمية الفنون في «بوخارست» وهو في الثامنة عشرة من عمره، وغادرها بعد ست سنوات ليستقر — ابتداءً من سنة ١٩٠٤م — في باريس حيث وقع في البداية تحت تأثير المثَّال الفرنسي الشهير «رودان»، كما يشهد على ذلك تمثاله رأس فتًى (١٩٠٥م). وكان من أوائل الفنانين الذين تأثروا تأثرًا عميقًا بالنحت «البدائي» الذي اكتشفه الفنانون — خصوصًا في فرنسا — في أوائل القرن العشرين. وكان من أهم العوامل التي أثَّرت على الفن التجريدي الحديث. ويعدُّ نحته «القبلة» (١٩٠٨م) — الذي ترى صورته مع هذا الكلام — أول محمل هام يتضح فيه تأثره بالفن الأفريقي، وتلمس فيه نزعة التبسيط الشديد في الشكل والأسلوب الفني الناضج الذي تطوَّر بعد ذلك وإن لم يتغير تغيرًا حاسمًا حتى آخر حياته. ولعل أعماله الأخرى التي عالج فيها موضوعاته الأثيرة — وهي الرأس البشري والحيوانات البحرية والطيور — لعلها تدل على اتجاهه المتزايد نحو تجريد الشكل وتبسيطه، وتصفيته من جميع التفاصيل بحيث لا يبقى منه في النهاية إلا الكتلة البيضاوية الخالصة (مثل رأس ربة الفن النائمة ١٩١٠م، والسمكة ١٩٢٢–١٩٢٤م، ونحت للعميان ١٩٢٤م). وقد كان نحته «القبلة» بمثابة الموضوع الأساسي الملهم لأضخم نحت كُلِّف بعمله لحديقة «تيرجو-جيو» العامة بالقرب من القرية التي وُلد فيها، وهو يمثِّل عمودًا هائلًا من الصلب يبلغ ارتفاعه حوالي المائة قدم، حتى سمَّاه الناس العمود اللانهائي، كلما تَندَّر عليه بعضهم بتسميته تمثال الأبطال. ويبدو أن البساطة المطلقة التي طبعت نحت برانكوزي قد أوقعته في مشاكل عجيبة وقضايا غريبة؛ إذ رفض موظفو الجمارك في الولايات المتحدة الأمريكية سنة ١٩٢٦م اعتبار تمثاله طائر في الفضاء (ويرجع إلى سنة ١٩١٩م) عملًا فنيًّا، وأبَوا السماح بدخوله قبل دفع الضرائب الجمركية المُستحقَّة على كتلة من البرونز المُدَوَّر يبلغ ارتفاعها أربعًا وخمسين بوصة! (وهي توجد الآن بمتحف الفن الحديث في نيويورك). ومع أن برانكوزي لم يُخلِّف وراءه مدرسةً مستقلة، فقد أثَّر فنه تأثيرًا كبيرًا على عدد من المصوِّرين والنحاتين التجريديين المعاصرين نذكر منهم موديلياني، وهانز آرب، وبربارا هيبورث، وهنري مور.

حظيت «القبلة» باهتمام عدد من الشعراء نذكر منهم ستةً من مختلِف البلاد والأعمار:

(١) كاريل جونكهير (Karel Jonekheere)

شاعر بلجيكي. وُلد سنة ١٩٠٦م في أوستند. كان أبوه من كبار موظفي الشرطة، وصار من بعده من كبار موظفي الثقافة. وباب «القبلة» — وهو عنوان قصيدته التالية — هو نفسه عنوان إحدى مجموعاته الشعرية:

«باب القبلة»

عُري في الغابة،
باب مطلق،
شفتان كقوقعتَين،
وشوشتا
حول الحافة والحد،
والأفواه ثمانية
من حجر صلد،
تختلج الرعشة فيها
إذ نتذكَّر
إزميلا في اليد.
باب القبلة
رحم أزليٌّ
تطرقه دقات النوء،
البرق … الرعد.

(٢) يوجين جيليفيك (Eugéne Gullevic)

وُلد سنة ١٩٠٧م في مقاطعة بريتاني ويعيش في باريس. نشر عدة مجموعات شعرية، وظهرت قصيدته «القبلة» في كتاب عن «برانكوزي» صدر في بوخارست سنة ١٩٧٠م.

«القبلة»

أن نكون
ما كُنَّاه للأبد،
ولو يحن
برانكوزي،
كان حتمًا يرانا
في العناق غارقين،
وهو من قد صاغ «قبلة»
لجميع العاشقين،
صاغها في السر
تشبه الحجر،
حين يفنى في الحجر.

(٣) جي دو بوشير (Guy De Bosschere)

وُلد سنة ١٩٢٤م في فوريست، وتعلَّم في بلجيكا. انضمَّ لصفوف المقاومة أثناء الحرب العالمية الثانية، ويعيش منذ سنة ١٩٦٠م على العمل في إحدى دور النشر في باريس.

«القبلة»

وردة العين التي بلا نهاية،
حيث يدور الصمت حول نفسه،
يلتف حولها
صمت الحجر،
والجسدان
فرَّقت بينهما اندفاعة،
ظلالها دمَّرت الصفاء والوداعة،
وهذه الشفاه في عناق
وقبلة تُنظِّم الفراق.

(٤) إرنست ياندل (Ernst Jandl)

وُلد سنة ١٩٢٥م في فيينا، ودرس الأدبَين الألماني والإنجليزي، وعمل بالتدريس في المدارس الثانوية. من أبرز ممثلي الشعر المُجَسَّم، ومنه قصيدة «القبلة» هذه. لاحظ ترتيب الكلمات ونظام طباعتها بحيث تجسِّم المعنى وتشكِّل الإيحاء والإشارة. ومع أن «القصيدة» تشبه أن تكون فكاهةً أو دعابة، فهي تستحق التأمل.

«القبلة»

نعم
نعم
نعم
نعم
نعم
نعم
نعم
نعم
نعم
نعم
نعم
نعم
نعم
نعم
نعم
نعم
نعم

(٥) ماكس آلهاو (Max Alhau)

وُلد سنة ١٩٣٦م في باريس حيث لا يزال يعمل في تدريس الأدب، وقد نُشرت قصيدته في الكتاب الذي سبقت الإشارة إليه والذي يضم الأشعار والدراسات التي جمعت احتفالًا بذكرى برانكوزي في كتاب صدر سنة ١٩٧٠م في بوخارست.

«القبلة»

انشق الحجر لكي يصمد لامتحان الزمن،
بهذا العناق الذي لن يقدر شيء على تفريقه،
تنفذ الحياة في صميم الأشياء، هو شيء أشبه
ببداية العالم، حيث وُلد الإنسان من الطين،
وفتش عن المرأة ليغيب في جسدها،
هذه القبلة تُبشِّر بالفجر وتأسر الأبدية في
مسارها.

(٦) يون كارايون (Ion Caraion)

وُلد سنة ١٩٢٣م في روجافات من أعمال رومانيا، ودرس علوم اللغة في جامعة بوخارست، واشتغل مُحرِّرًا ببعض المجلات. وقصيدته «أحجار» من مجموعته الشعرية التي نُشرت بالألمانية في بوخارست ١٩٧٤م. ويُلاحَظ أن وصف الأحجار بأنها عظام أمنا الأرض قد سبق إليه الشاعر الروماني أوفيد في التحولات (الكتاب الأول، السطور ٣٨٣، ٣٨٦، ٣٩٣، وما بعدها). وتحكي الأسطورة اليونانية أن دوكاليون وبيرا، وهما الوحيدان اللذان نجَوا من الطوفان الذي سلَّطه زيوس على الأرض، راحا يلقيان عظام الأم العظيمة — أي الأحجار — وراءهما، فنشأ عنها البشر ذكورًا وإناثًا.

«حجارة مُهْداة لبرانكوزي»

حجارة بديعة
— جميلة ودون أن تُحَسَّ —
كأنها الطبيعة ..
نامت في الظل وتحت الشمس
عظام الأرض.

(٧) جورج شيرج (George Scherg)

وُلد سنة ١٩١٧م في مدينة كرونشتات من أعمال رومانيا. درس الأدب الألماني واللغات الرومانية والفلسفة، ويشتغل بتدريس الأدب الألماني بجامعة هيرمان-شتات. نشر مسرحيات وروايات ومقالات ومجموعات شعرية.

«المعرفة شيء ثمين، لكننا نعرف القليل»

المعرفة شيء ثمين
لكننا نعرف القليل،
وإن كنا نُحس ببعض الأشياء،
غير أن هنالك شيئًا واحدًا نعرفه،
شيئًا واحدًا نصونه ونحميه،
ما من قانون أسمى منه.
نحن لا نعرف
ما هو طيران الطير،
لكننا نُغوي أنفسنا ونغويه.
نحن لا نعرف شيئًا
عن قوة القبلة وخطرها،
عن نعمتها ولعنتها،
لكننا ندخل دائمًا
من باب القبلة.
من ذا الذي يفكِّر، من،
في العملات الفضية الثلاثين
التي تربو قيمة رنينها
على قيمتها؟
نحن لا نعرف
ما هو الحب،
ومع ذلك نخونه،
وكأنه عدو
لجأ إلينا كي نحميه.
نحن لا نعرف
ما هي السماء،
وإنما نكتفي بالإحساس،
لكن الإحساس
شيء أكبر من هذا.
نحن نؤمن،
أجل نؤمن
بأن ثمة عمودًا
موجودًا وراء وجودنا
قد خُلِق من الأزل ليحمل السماء.
لكن شيئًا واحدًا نعرفه،
شيئًا واحدًا نصونه ونحميه.
ما من قانون أسمى منه.
الجهل، والإحساس، والإيمان،
الغواية، والخيانة، والقبلة، والحب.
إنها لا تمحو اليقين،
بأن ذلك العمود إذا انهار
انهارت السماء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤