الفصل الثاني والأربعون

الثورة

الصورة تمثِّل جزءًا من لوحة زيتية رسمها مارك شاجال (Marc Chagall) (١٨٨٧–١٩٨٣م) في سنة ١٩٣٧م. وكان شاجال قد رجع بعد قيام ثورة أكتوبر الكبرى إلى مسقط رأسه «فيتبسك»، حيث عيَّنه الحزب الشيوعي مسئولًا عن الفنون الجميلة، وقام هناك بتأسيس أكاديمية فنية. ويُلاحَظ أن الشطر الأيسر من اللوحة يمثِّل الثورة السياسية، ويُرى فيه البحارة رافعين البنادق والأعلام، أمَّا الشطر الأيمن منها فيعبِّر عن الثورة الفنية والإنسانية. وربما أمكننا أن نميِّز فيها سفينةً تندفع إليها مجموعة من الناس فضَّلَت الهجرة إلى بلد آخر، وحفلًا يشارك فيه نساء ورجال وأولاد وبنات، وعلَمًا أحمر مطروحًا على الأرض، وحمارًا وقورًا يتربَّع فوق كرسي. أمَّا في وسط اللوحة فنرى مائدةً وقف عليها رجل في وضع مقلوب، وهذا الرجل هو إليتش لينين بلحيته وقُبعته المعروفة، وقد استند جسده على يده اليمنى، ومدَّ ذراعه اليسرى كبهلوان، أو بطل رياضي يعرض ألعابه البارعة! وأمَّا الطرف الآخر من المائدة فقد استند إليه يهودي حزين، لعله شاعر أو متشرِّد، أو مُرابٍ أو رجل متدين، يتكئ رأسه على يده اليسرى، وتحمل يده اليمنى لفافةً تشبه أن تكون طفلًا — كما تصوَّرت صاحبة القصيدة التالية التي شاهدت اللوحة مطبوعةً على بطاقة بريدية — بينما هي في الواقع نسخة من التوراة أو صحف منها على لفائف من الرق. وثمة أشياء ووجوه أخرى عديدة وُضعت بجانب بعضها على طريقة شاجال في شَغل الفراغ بموضوعات تتجاور بصورة غير مألوفة، وتسبح قلقةً في فضاء اللوحة، وتوحي في الغالب برموز دينية وشعرية وذكريات عن الريف الروسي. استلهم الصورة الشهيرة عدد من شعراء العصر نذكر منهم:

(١) سارة كيرش (Sarah Kirch)

وُلدت الشاعرة سنة ١٩٣٥م في ليملنجرود في منطقة الهارس من شمال ألمانيا. درست علم الحياة (البيولوجيا) في جامعة هالَّة، كما درست الأدب في جامعة ليبزيج، وعاشت فترةً من حياتها في برلين الشرقية قبل أن تنتقل إلى شطرها الغربي. تُعَد اليوم من ألمع الشعراء في الأدب الألماني، وتُذكَر لها ترجماتها للشعر الروسي (خصوصًا ألكسندر بلوك وأخماتوقا وغيرهما)، ويُلاحَظ أن التاجر الذي يشير إليه السطر العاشر من قصيدتها (شاجال في فيتبسك، ١٩٦٦م) موجود على الحافة السفلى للوحة، إلى اليمين، وأن البحارة الذين يلوِّحون ببنادقهم في الطرف الأيسر منها، وأن الرسام الذي يقف أمام الحامل ويستعد لتسجيل ظواهر الثورة موجود في الجزء الأعلى من اللوحة إلى اليمين. أمَّا الطفل الذي يضعه اليهودي على ركبته فهو كما سبقت الإشارة نسخة من التوراة وليس طفلًا.

«الثورة»

كان المصباح الزيتي لا يزال مشتعلًا
عندما جاء العُمال في الليل رافعين الأعلام المشدودة.
على المائدة وقف على رأسه في مهب الريح
رجل له ذقن «لينين» وقبعته.
الكأس تنقلب وتسيل، يهودي عجوز
يشبه إليتش في عامه الأخير،
يضع على ركبته طفلًا في لفافة حمراء.
الحيوانات لم تَعُد تسكن الهواء.
تسع شمعات والقصور تحترق بلهب ناعم.
التاجر يحمل كيسه، يقفز بمعطفه الأخضر في السفينة
لكي يغادر هذه البقعة من الأرض.
كتائب البحارة تُلوِّح بالبنادق،
الرسام يهيِّئ القُماش على الحامل
ليعرض علينا الانقلاب الذي تمَّ بنجاح.

(٢) كورت بارتش (Kurt Bartsch)

وُلد الشاعر سنة ١٩٣٧م في برلين الشرقية، وتقلَّب بين مختلِف الحِرف العملية والوظائف المكتبية والتعليمية. درس في معهد الأدب بجامعة ليبزيج. وهذه القصيدة التي سماها «عيد الثورة» — عن لوحة لمارك شاجال — نُشرت في مجموعته الشعرية «ماكينة الضحك» التي صدرت عن دار فاجنباخ ببرلين سنة ١٩٧١م.

«الثورة»

على المائدة الفارغة
يقف العَلَم الأحمر فوق رأسه،
يفرش المائدة بالأمل المخضر،
يقف على رأسه، فتصبح السماء تحته
تُفرِّق بياضها على السطوح والأسوار الخضراء،
وتخيط للنساء — بملء الحنجرة — مناديل الرأس.
يتشقلب، أحمر، يقف على رأسه،
يفقد من الجيوب الخضراء تفاحة،
تتفجَّر في قلب المُلاءة الكبيرة.

(٣) بول إيلوار (Paul Eluard)

من المعروف أن الشاعر الفرنسي العظيم كان على علاقة حميمة بعدد كبير من المصوِّرين الذين اشترك معهم في مطلع حياته — سنة ١٩١٧م — في تأسيس الحركة السريالية (مثل بيكاسو وكيريكو وماكس أرنست، بجانب الشاعرَين المشهورَين بريتون وأراجون). ومع أنه انشقَّ عن الحركة السريالية وانخرط في مقاومة الاحتلال النازي لبلاده وانضمَّ سنة ١٩٤٢م للحزب الشيوعي، فقد بقي على صداقته وحبه لكبار المصوِّرين، ومن أهمهم بيكاسو. وهذه القصيدة التي جعل عنوانها «إلى مارك شاجال» (كتبها سنة ١٩٤٦م) لم تُسْتَوحَ من هذه اللوحة وحدها، وإنما تشير إلى «موتيفات» أو إيحاءات وموضوعات ابتعثتها أعمال شاجال ورموز عالمه الفني المحلِّق على جناحَي الخيال الشعري المبدع والعاطفة الصوفية المكتئبة في أجواء غريبة وبسيطة بساطة أرواح الأطفال ونفوس أهل الريف المتدينين.

«الثورة»

حمار أو بقرة ديك أو حصان،
حتى جلدُ عازفِ كمان،
إنسان مغنٍّ طائر وحيد،
راقص بارع مع زوجته،
زوجان مغموسان في ربيعهما.
ذهب العشب، رصاص السماء
يفصل بينهما اللعب الأزرق.
من صحة ندى الصباح
يسطع الدم، يرن الفؤاد.
عاشقان أول الظلال،
وفي نفق تغطيه الثلوج.
ترينا الكَرْمة الباذخة
وجهًا له شفتا قمر
لم ينَم الليل أبدًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤