الفصل الثاني عشر

وهم اللاوعي والإدراك اللاحق: «من سجل حالة عُصاب طفلي» (رجل الذئاب)

روزين جوزيف بيرلبِرج

مقدمة

في الفترة ما بين فبراير عام ١٩١٠ ويوليو عام ١٩١٤، عالج فرويد شابًّا روسيًّا، عُرِف لاحقًا باسم رجل الذئاب. وُلِد الشاب في السادس من يناير عام ١٨٨٧ لِثريٍّ روسي من ذوي الأملاك مات في عمر التاسعة والأربعين بسبب جرعةٍ زائدة من الفيرونال، تاركًا ابنه وزوجته بثروةٍ تكفل لهما حياةً كريمة. خلال حياته شُخِّصَ الأب بأنه مُصابٌ بالهَوَس الاكتئابي. وكانت له ابنةٌ أخرى تكبر المريض بعامَين ونصفٍ أَقدمَت على الانتحار. بعد الفترة الأَوَّلية لتحليل فرويد له التي استمرَّت أربع سنوات، عاد رجل الذئاب إلى روسيا وتَزوَّج ممرضةً ألمانية وأنهى دراساته في القانون بنجاحٍ وحصل على ترخيصٍ بمزاولة المحاماة.

أشار جيمس سترايتشي في مَعرِض مُقدِّمته لهذه الحالة إلى أنها «كانت بلا شكٍّ الحالة الأعقد والأهم بين كل سجلاتِ حالاتِ فرويد» (فرويد، ١٩١٨، صفحة ٣). كما ذكر إرنست جونز أنها كانت:

بالتأكيد الأفضل من بين مجموعة الحالات. كان فرويد آنذاك في قمة تمكُّنه، أستاذًا واثقًا من منهجه، وكان الأسلوب الذي يعرضه في تفسير وتركيب المادة الشديدة التعقيد لا بد أن ينال إعجاب كل القُراء. (جونز، ١٩٧٤، الكتاب الثاني، صفحة ٣٠٧)

بدأ العلاج مع فرويد بعد بضعِ سنواتٍ من إصابة رجل الذئاب بعَدوى السيلان، التي تَركَته عاجزًا ومعتمدًا على الآخرِين. خلال طفولته وحتى عامه العاشر، حسبما يخبرنا فرويد، كان المريض يعاني من هستيريا القلق في شكلِ رُهاب حيوانات، تحوَّل إلى عُصابٍ وسواسي بمحتوًى ديني. في الوصف الكتابي للحالة، يُركِّز فرويد على فهمه للعُصاب الطِّفلي والذي أُعيد تشكيله وعُولج بعد انتهائه بخمسة عشر عامًا. لذا، فإن هذا يُعد وصفًا للطفولة بعينَي وفهمِ شخصٍ ناضج، الذي يُعتبَر في حدِّ ذاته مثالًا للإدراك اللاحق (انظر الطرح الخاص بهذا المفهوم لاحقًا). يشير بيتر جاي إلى أنه بالتركيز على عُصاب الطفولة، كان فرويد يُجري حوارًا مع يونج وأدلر. كان يونج يؤمن بأن ذكريات جنسانية الطفولة هي حدثٌ لاحق يُعرَض مجددًا، بينما كان أدلر يؤمن بأن الدوافع الجنسية المبكرة ليست جنسية بل عدوانية (جاي، ١٩٨٨، صفحة ٢٨٦).

ينقسم بحث فرويد إلى تسعةِ أقسام، ويبدأ بمقدمةٍ عامة يعقبها وصفٌ لبيئة المريض وتاريخ الحالة. يُقال إن والدَي رجل الذئاب كانا ينعمان بحياةٍ زوجيةٍ سعيدة، حتى بَدأَت والدته تُعاني من اضطراباتٍ بالمعدة وبدأ والده يُعاني من الاكتئاب. منذ البداية كان رجل الذئاب في رعايةِ ممرضةٍ كانت تُكِن له حبًّا جمًّا وكان طفلها قد مات صغيرًا.

كان رجل الذئاب طفلًا هادئًا خلال طفولته حتى إنه كان يُقال عنه إنه «كان يجب أن يكون فتاة.» اعتادت العائلة قضاء الصيف في فيلا بالريف حيث كان يزورهم العديد من أقاربهم. في إحدى السنوات، تُرِك رجل الذئاب وشقيقته مع مربيةٍ إنجليزية وعندما عاد أبواه، كان قد تحول؛ إذ «أصبح ساخطًا ونزقًا وعنيفًا» (فرويد، ١٩١٨، صفحة ١٥). اعتَقدَت والدته أن هذا التغيُّر بسبب المُربِّية الإنجليزية التي كانت غريبةَ الأطوار ومدمنةً على الشراب. وظنت جدته أن سلوك الصبي كان بسببِ نزاعٍ بين السيدة الإنجليزية والمُمرِّضة. في هاتَين المرتَين كان الصبي يختار جانب مُربِّيته. ثَمَّةَ ذكريان مُشوَّشَتان مُرتبطتان بتلك الفترة؛ الأُولى: عندما كانت المُربِّية الإنجليزية تمشي أمام الأطفال وقالت «انظروا لذيلي الصغير» (المصدر السابق، صفحة ١٩). والأخرى: عندما طارت قُبَّعتها عندما كانوا في جولة بالسيارة وكان الأطفال فرحِين بها. وهنا يُشير فرويد إلى عقدة الإخصاء.

هناك كذلك ذكرياتٌ متعلقة بتجربة المريض مع إغواء شقيقته؛ ففي إحدى المرات اقترحت عليه أن يُري كلٌّ منهما مُؤخِّرته للآخر. وفي مرةٍ أخرى، عَبثَت بقضيبه مخبرةً إياه أن مربيته تفعل هذا طيلة الوقت (المصدر السابق، صفحة ٢٠). ويشير فرويد إلى أن هذا لم يكن وهمًا؛ إذ أكَّدَت ابنةُ عمه لاحقًا أنها فَعلَت معه الشيء نفسه.

كانت شقيقته شديدة الذكاء بطريقةٍ جعلت المريض يشعُر بالدونية وهو طفل. وبالتدريج بَدأَت تعاني من الاكتئاب وانتهى الأمر بأن تناولَت السم وماتت بعيدًا عن المنزل. ويعتبر فرويد تاريخها كأحد الأدلة على «إرث الاعتلال العصبي الواضح في العائلة» (المصدر السابق، صفحة ٢١). في مرحلة المراهقة، تحسَّنَت العلاقة بين الشقيقَين، وبذل المريض محاولاتٍ لإغواء شقيقته وقُوبِلَت بالرفض من جانبها. وحوَّل المريض اهتمامه نحو فتاةٍ قروية كانت تعيش في المنزل وتحمل اسم شقيقته نفسه. ووفقًا لفرويد، كان لهذا عاقبةٌ على اختياره المستقبلي لنوع الموضوع؛ إذ كان دائمًا ما يختار امرأةً يعتبرها أقلَّ منه مكانة.

كان لديه ذِكرى تتعلق بمُعاناته من الخوف. كان ثَمَّةَ كتابٌ به صورةٌ لذئب يقف على ساقَيه الخلفيتَين، وقد اعتاد أن يصرخ كلما رأى الصورة خشيةَ أن يفترسه الذئب، كما كان يخاف من الحيوانات الأخرى؛ فذات مرةٍ أثارت خوفه فَراشةٌ صفراءُ ذات أجنحةٍ مُخطَّطة ومُدبَّبة. خلال تلك الفترة كان يَتذكَّر كذلك تعذيبه للخنافس واليرقانات. وكان يخاف كذلك من مُشاهدة ضرب الخيول، وفي أحيانٍ أخرى كان هو نفسه يضرب الخيول. فكان تقيًّا ومُجدِّفًا في آنٍ واحد. لم يكن فرويد متأكدًا من تتابُع الأحداث، لكنه يفترض أن أعراض العُصاب الوسواسي ترجع لفترةٍ لاحقة على فترة القلق والمُعامَلة القاسية للحيوانات. يتحدث فرويد كذلك عن وجودِ علاقةٍ غير مُرضية بين المريض ووالده.

يُقدِّر فرويد عمر المريض وقت إغواء شقيقته بثلاثِ سنوات وثلاثةِ أرباعِ السنة، وكان ذلك متزامنًا مع التغيُّر الذي طرأ على شخصيته. يربط فرويد بين الحدثَين وبين يقظة النشاط الجنسي لديه (المصدر السابق، صفحة ٢٤). يلجأ رجل الذئاب إلى المُربِّية التي هدَّدَته بالإخصاء؛ فالصبية الذين يستمنون يُصابون بجرحٍ في تلك المنطقة. وصارت مُشاهدته لشقيقته وإحدى صديقاتها تأكيدًا لهذا التهديد. يقول إنه أقلع عن الاستمناء بعد وقتٍ قصير من استنكار مُربِّيته وتهديدها له. ومع كبت الاستمناء، اتخَذَت حياة الصبي الجنسية طابعًا ساديًّا شرجيًّا، «لذلك، انهارت حياته الجنسية — التي كانت قد بدأت تُصبح تحت تأثير المنطقة التناسُلية — أمام عقبةٍ خارجية، وأُلقِيَت مرةً أخرى بفعل تأثيرها في مرحلةٍ سابقة في النظام ما قبل التناسلي» (المصدر السابق، صفحة ٢٥). كذلك عامل المريض نفسه بقسوة بواسطة أوهام الضرب حتى تحولت السادية إلى مازوخية (المصدر السابق، صفحة ٢٦). وهكذا أصبح التذبذُب بين النشاط والسلبية جزءًا من شخصيته. غير أنه كان هناك طريقٌ مُؤدٍّ من مربيته إلى والده؛ فقد قاده إغواء شقيقته له إلى تماهٍ سلبي، مما منحه هدفًا جنسيًّا سلبيًّا. وحل اختيار الموضوع محل التماهي. حاول إجبار والده على معاقبته، مُحاولًا بذلك إدراك الموضوعات الجنسية المازوخية التي كان يرغب فيها؛ لذا فإن سوء سلوكه كان محاولة للإغواء.

وهكذا يُقسِّم فرويد فترة الطفولة إلى مرحلتينِ: مرحلةٍ أولى خاصة بسوء السلوك والانحراف من سن الثالثة وثلاثة أرباع السنة حتى إتمام العام الرابع. تليها مرحلةٌ ثانيةٌ تسود فيها سمات العُصاب. وقد ميَّز الانقسامَ بين هاتَين المرحلتَين حُلمٌ (المصدر السابق، صفحة ٢٨).

في كتاب «الحلم» والتحليل الخاص به، يروي فرويد هذا الحلم:

حلمتُ أن الوقت كان ليلًا وكنتُ مستلقيًا في سريري (كانت نهاية السرير ناحية النافذة، التي كان أمامها صَفٌّ من أشجار الجوز القديمة. كنت أُدرِك أننا في فصل الشتاء عندما راودني الحلم وكان الوقت ليلًا). فجأة انفَتحَت النافذة من تِلقاءِ نفسها وأصابني الرعب عندما رأيتُ بعض الذئاب البيضاء تجلس على شجرة الجوز الضخمة أمام النافذة. كان ثَمَّةَ ستةٌ أو سبعة منها. كانت الذئابُ بيضاء، وتبدو أقربَ إلى الثعالب أو كلابِ الرعي؛ إذ كان لها ذيولٌ كبيرة، وكانت آذانها منتصبة مثلما تفعل الكلاب عندما تنتبه لشيءٍ ما. وفي رعبٍ شديد، من الواضح أنه كان بسبب افتراسي من قِبل الذئاب، أخذتُ أصرخ ثم استيقظت. (المصدر السابق، صفحة ٢٩)

يتتبع فرويد التداعيات الحرة التي ترتبط بكل جزءٍ من الحلم، ويحتل تحليل هذا الحلم مرحلةً أساسية في فهم العُصاب الطِّفلي الخاص بالمريض. ذَكَّرتِ الذئابُ رجلَ الذئاب بصورة الذئب الواقف على ساقَيه الخلفيتَين التي اعتادت شقيقته أن تُريها إياه في طفولته. يُشير لون الذئاب الأبيض إلى قطيعٍ من الغنم كان قد نفَق في وباء. أمَّا الشجرة، فكانت تُذكِّره بقصةٍ أخرى عن خيَّاط اقتحم ذئبٌ بيتَه جاء عبر النافذة، لكن الخيَّاط نجح في نزعِ ذيله وفَرَّ الذئب مرعوبًا. قابل الخيَّاط الذئب المبتور الذيل لاحقًا، لكن هذه المرة كان الأخير بصحبة ذئابٍ أخرى. نجح الخيَّاط في الاحتماء بإحدى الأشجار، لكن الذئاب نَجحَت في الوصول إليه على قمة الشجرة بأن اعتلى كلٌّ منها الآخر وكان الذئب المشوه في الأسفل. ونجح الخيَّاط في إخافته بتذكيره بمواجهتهما السابقة وفَرَّ قطيع الذئاب بأكمله. كانت ذيول الثعالب التي تمتلكها الذئاب في الحُلم إشارة إلى فقدان الذئب لذيله في القصة وتجسيدًا لعقدة الإخصاء.

أدى عدد الذئاب إلى تداعٍ آخر وهو قصة الأطفال «المَعيز السبع الصغيرة» حيث تسرد قصة ستِّ مَعيزٍ التهمها ذئب، بينما نَجحت السابعة في الهرب. ويتساءل فرويد ما إذا كان الخوف من الذئاب في الحكايات الخُرافية «ربما لا يكون خوفًا طفوليًّا من الأب» (المصدر السابق، صفحة ٣٢).

يُشير فرويد إلى أن تحليل الحُلم وفهمه استمرَّ على مدى فترة العلاج، وأن الفهم لم يحدث إلا قرب نهاية جلسات التحليل. يشير سكون الذئاب ونظرة التربُّص التي كانت تنظر بها إلى المريض إلى العكس؛ أي الحركة الشديدة (العنف) التي تخلَّلت المشهد الجنسي الأولي الذي رآه يحدث بين أبويه.

يتقدم النص ببطء متبعًا دائمًا طريق تداعيات المريض. إن الإحساس الشديد بالواقع يرتبط بأمر سُجِل في الذاكرة لكنه ظل مجهولًا (المصدر السابق، صفحة ٣٣). فالنوافذ التي تُفتَح ترتبط بفتح عينيه. «النظر المتمعن الذي نُسِب إلى الذئاب في الحلم يجب أن يُنسَب إليه» (المصدر السابق، صفحة ٣٤). يتكرر هذا التحوُّل في المواضع في جلوس الذئاب في الحلم على الشجرة، بينما في الحكاية الخيالية لم تستطع تسلقها؛ بالمثل، يمكن أن يكون السكون في الحلم هو النقيض للحركة العنيفة.

يتتبَّع فرويد تداعيات الحالم ويُرجِع توقيت الحُلم إلى ما قبل عيد ميلاد المريض الرابع مباشرة. على الرغم من ذلك، ثمة نقطة أقترح أنها تحوي قفزة منهجية، وهي عندما يصيغ فرويد بناءه الخاص للعملية التحليلية: «لقد وصلت الآن إلى مرحلة تحتم عليَّ التخلي عن الدعم الذي كنتُ أحصل عليه حتى الآن على مدى عملية التحليل. أخشى أنها ستكون كذلك المرحلة التي سأخسر فيها إيمان القارئ بي» (المصدر السابق، صفحة ٣٦). ويواصل قائلًا: «إن ما نشط في تلك الليلة من الفوضى الخاصة بآثار الذاكرة اللاواعية للمريض هو صورة الاتصال الجنسي بين أبوَيه …» كان عمر المريض أثناء مشاهدته لهذا المشهد عامًا ونصف العام عندما كان يُعاني من الملاريا، وهو السبب الذي ربما جعله ينام في غرفة أبوَيه. في ذلك الوقت «شاهد مضاجعةً من الخلف تكرَّرَت ثلاث مرات، واستطاع أن يرى أعضاء أُمه التناسُلية وكذلك قضيب أبيه …» (المصدر السابق، الصفحات ٣٦-٣٧).

تُتيح الحاشية الواردة في هذه الصفحة للقارئ السرد الكامل لِتصوُّر فرويد لمفهوم الإدراك اللاحق. في عمر العام ونصف، شاهَد المريض مشهدَ جماعٍ بين أبوَيه (المشهد الجنسي الأولي). المشهد الذي بدا أنه استدعاه كان فيه «الرجل في وضعٍ عمودي بينما كانت المرأة مُنحنِية»، علمًا بأن وضع الرجل المُنتصِب ارتبط بالذئب الواقف على ساقَيه الخلفيتَين. غير أن استيعاب المريض لما كان يحدث أُرجي حتى وقتِ حدوث الحلم، عندما كان المريض قادرًا على فهمه بفضل تطوُّره والاستثارات والبحوث الجنسية (المصدر السابق، الصفحات ٣٧-٣٨، ٤٥). وهكذا يُفعِّل الحُلم ذلك المشهد (المصدر السابق، صفحة ٤٤).

يعقب ذلك فكرتان غايةً في الأهمية في أعمال فرويد: فكرة الإدراك اللاحق (والتي سُميت في النسخة الأصلية «فعلًا مؤجلًا»). وفكرة أن المشهد الجنسي الأَوَّلي الخاص بجماع الأبوَين (في عقل الطفل الصغير) هو فعلٌ عنيفٌ ينطوي على ألمٍ ينزله الأب بالأم (المصدر السابق، صفحة ٤٥). علاوةً على ذلك، فإن مُشاهدة ذلك المشهد، بالنسبة إلى الطفل، تؤكِّد حقيقة إخصاء الأم؛ فهناك تثبيتٌ على المؤخرة كأكثر أجزاءِ جسدِ المرأة جاذبية.

يَتتبَّع فرويد عملية التداعي الحر التي تأخذه في رحلةٍ عبر التحوُّل إلى «المشهد الجنسي الأَوَّلي» المادي، ويقصد به قصة الذئب وحكاية المعزات السبع الصغيرة اللتَين تُفسَّران في إطار الشوق إلى والده، والإخصاء، والخوف من الأب (المصدر السابق، صفحة ٤٢)؛ إذ يُقدِّم فرويد تفسيرًا لكل تفصيلة في الحلم (المصدر السابق، الصفحات ٤٢-٤٣).

يستيقظ المريض من الحلم في حالة من القلق. تُكبَت الرغبة في جماع والده (تماهيًا مع الأم)، ويظهر خوفه من والده بدلًا من ذلك في صورةِ رُهابِ الحيوانات. لقد وصل إلى مرحلةٍ من النظام التناسلي (رغبته في أن يُلمَس قضيبه)، ولكن يعقب ذلك نكوص ويظهرُ بدلًا منها رغبة في أن يُضرَب ويُعاقَب.

في الجزء الخامس، يناقش فرويد عمليات التذكُّر مقابل عمليات البناء في العلاج التحليلي؛ فالذكريات يتخلَّلها عناصر تخيُّلية (المصدر السابق، صفحة ٥١) والحلم نوعٌ من التذكُّر. وهنا يُشير فرويد إلى علاقتَين مختلفتَين بين الماضي والحاضر. يُشير النكوص إلى اتجاهٍ واحد، لكن ثَمَّةَ اتجاهًا آخر يشير من الماضي إلى الحاضر:

أُساند الرأي القائل إن تأثير الطفولة يجعل نفسه محسوسًا بالفعل في الموقف في بداية تشكُّل العُصاب؛ إذ يلعب دورًا حاسمًا في تحديدِ ما إذا كان الفرد سيفشل في السيطرة على مشاكل الحياة الحقيقية وفي أيِّ مرحلة. (المصدر السابق، صفحة ٥٤)

تُوضِّح حالة رجل الذئاب كيف أن العُصاب الذي أصابه في مرحلة الرشد قد سبقه عُصابٌ في الطفولة؛ ومن ثَمَّ يبدأ فرويد نقاشًا عن العلاقة بين الواقع والوهم سأعود إليه لاحقًا.

يُعتبر الجزء السادس وصفًا وطرحًا للعُصاب الوسواسي الخاص برجل الذئاب. عندما كان في سن الرابعة والنصف، عرَّفَته والدته الدين، وحلَّت أعراض الوسواس محل أعراض القلق؛ ومن ثَمَّ يُقسِّم فرويد طفولة رجل الذئاب إلى أربعِ فترات: الفترة حتى حدوث الإغواء عندما كان سنه ثلاثَ سنوات وربع السنة عندما حدث ذلك الإغواء؛ التغير في شخصيته حتى راوده حلم القلق في سن الرابعة؛ فترة الخوف المرضي من الحيوانات حتى تَعرُّفه الدين؛ ومن فترة العُصاب الوسواسي حتى بلوغه عامه العاشر. بعد رفض المُربِّية إياه، أخذ يتطوَّر في اتجاه السادية والمازوخية من خلال تعذيب الحيوانات الصغيرة وتخيل ضربه للخيول. في ساديَّته، تماهى مع والدِه، لكنه اختاره كموضوع في مازوخيته. كان يمكن أن يؤدي الحلم، بتأثير المشهد الجنسي الأَوَّلي، إلى احتلال النظام التناسُلي للأولوية. ولكن بدلًا من ذلك، استيقظ في حالة من القلق والخوف المرضي شكَّلَت نفسها في إطار خوفه من أن يفترسه ذئب؛ لذا يشير فرويد إلى أنه في وقتَ حدوث الحلم، كان رجل الذئاب مثليَّ الجنس على نحوٍ لا واعٍ؛ لقد كان في عُصابِه وحشيًّا، بينما ظل السلوك المازوخي مسيطرًا. وفي كل هذه الأنماط الثلاثة كانت له موضوعاتٌ جنسيةُ سلبية (المصدر السابق، صفحة ٦٤).

في خِضَم انشغال تفكيره بالمسيح، تساءل رجل الذئاب ما إذا كان للمسيح مُؤخِّرة وما إذا كان يستخدمها للتغوُّط مثل البشر. وفي هذا الإطار يُشير فرويد إلى أن هذه الشكوك الوسواسية إنما تُعبِّر عن رغبته في مُضاجعة الأب له من الشرج. كان رأسه مكتظًّا بأفكارٍ تجديفية فهمها فرويد باعتبارها تعبيراتٍ عن مشاعرَ عدائيةٍ نحو والده. كان عليه أن يتنفس بطريقةٍ مُعيَّنة في ظروفٍ بعينها، على سبيل المثال عندما يرى مُتسوِّلِين أو مُعاقين أو أشخاصًا بمظهرٍ رَث؛ لأنه كان لا يرغب في أن يُصبح مثلهم. وقد ربط فرويد هذا بزيارته لوالده في إحدى المصحَّات العقلية وهو طفل؛ إذ أصبح الأب «النموذج الأَوَّلي لكل العجزة والمُتسوِّلِين والفُقراء الذين كان مُجبرًا في وجودهم على زفرِ أنفاسه» (المصدر السابق، صفحة ٦٧). غير أنه عندما يتنفس، كان أيضًا يُقلِّد تنفس الأب أثناء المشهد الجنسي الأَوَّلي.

وهكذا، وقبل حلول عيد ميلاده الرابع، كان رجل الذئاب مصابًا بهستيريا القلق (في شكل رُهاب الحيوانات) تحوَّلَت إلى عُصابٍ وسواسي بمحتوًى ديني وهو ما استمر حتى بلغ العاشرة. عندما كان عمره يزيد على الثلاث السنوات بقليل، أغوته شقيقته ليمارسا ألعابًا جنسية، حيث عبثَتْ بقضيبه، ولكنه قاومها وسعى بدلًا من ذلك لإغواء مُربِّيته بتجريد نفسه والاستمناء أمامها (المصدر السابق، صفحة ٢٤). حذَّرَته مُربِّيته من أن الأطفال الذين يقومون بمثل هذه الأشياء يُصابون ﺑ «جرح» في ذلك المكان. استغرق تهديدها بعض الوقت ليُسجَّل في الذاكرة، لكن بعد أن شاهد شقيقته وإحدى صديقاتها تَتبوَّلان وتيقن أن بعض البشر لا يمتلكون قضيبًا، بدأ ينشغل بمسألة الإخصاء.

ارتَدَّ رجل الذئاب إلى مرحلةٍ مُبكِّرة من التطوُّر الجنسي وهي السادية والمازوخية الشرجية؛ فكان يُعذِّب الفَراشات ونفسه بأوهام الضرب. وكان في ذلك الوقت قد اختار والده كموضوعٍ جنسي؛ فكان يتوق إلى أن يضربه والده واستَفزَّه حتى يُنزل به عقابًا بدنيًّا. تغيَّرت شخصيته ورأى حُلم الذئاب بعد ذلك بفترةٍ قصيرة قُبيل عيد ميلاده الرابع مباشرة.

بعد مرورِ نصفِ عام كان قد تمكَّن منه عُصابٌ وسواسي متكامل، واكتمل برُهاب الحيوانات. وكان يُمارس مجموعةً متنوعة من الطقوس قهريًّا، وعانَى من نوباتِ غضبٍ شديد وصارع شهوانيته اليافعة، التي لعِبَت فيها الرغبات المثلية جزءًا خفيًّا إلى حدٍّ كبير. يصف فرويد «الحياة الغرائزية الجامحة» للمريض (المصدر السابق، صفحة ١٠٤).

تلخيصًا لفرضيات فرويد عن الحالة، كان رجل الذئاب على أعتاب النظام التناسُلي، لكن بسبب تهديدِ مُربِّيته بالإخصاء انهار هذا النظام وانتكَس هو إلى المرحلة التي تَسبِقه (وهي مرحلة النظام السادي الشرجي).

حافَظ رجل الذئاب على سلبية أهدافه الجنسية. وفي هذا الإطار يُشير فرويد إلى أن رد فعل الطفل لمشاهدته للجماع بين والدَيه في سن العام ونصف العام كان سلبيًّا في الأغلب الأعم (المصدر السابق، صفحة ١٠٩).

أدَّت رؤية رجل الذئاب للحُلم في سن الرابعة إلى تحويل مشاهدته للجماع في سن العام ونصف إلى فعلٍ مؤجل؛ فأُعيد بناء نظامه التناسُلي الذي كان قد انهار، لكن كان ثمة رفضٌ لعنصرٍ جديد واستبدال الخوف المَرَضي به.

وهكذا استمر النظام السادي في التواجُد خلال مرحلة الخوف المَرَضي من الحيوانات الذي كان قد نشِط الآن، كما استمر الطفل في ممارسة نشاطاتٍ سادية ومازوخية. إن ما كان مكبوتًا هو إدراك وجودِ الإخصاء والسلوك المِثلي بمعناه التناسُلي. وكان هذا الكبت نتيجةً لذكورته (المصدر السابق، صفحة ١١٠)؛ إذ يشير فرويد إلى احتمالية أن يكون ذلك الكبت نتيجةً للصراع بين الميول الذكورية والأُنثوية؛ أي ازدواجية الميول الجنسية. غير أن الأنا هي ما فعَّلَت هذا الكبت.

(١) مزيد من الملاحظات عن علاج رجل الذئاب

مع اندلاع الثورة البلشفية، خسِر رجل الذئاب كل ثروته الضخمة، وعاد إلى فيينا عام ١٩١٩ وظل فرويد يُتابِعه لبضعة أشهُر بدونِ أي أتعاب، بالإضافة إلى جمعه أموالًا من العديد من زملائه وطلابه لتغطية النفقات المعيشية للمريض ولزوجته المريضة آنذاك. وفيما بين أكتوبر عام ١٩٢٦ وفبراير عام ١٩٢٧، عُولِج رجل الذئاب على يد روث ماك برونزويك، وعاد إليها مرةً أخرى عام ١٩٢٩ ثم ظل على اتصالٍ مُتقطِّع بها حتى حوالي عام ١٩٤٠.

عندما ذهب ليقابل «د. ماك» عام ١٩٢٦، أَصرَّ رجل الذئاب على أنه كان ضحيةَ إصابةٍ أنفية بسبب التحليل الكهربائي الذي استُخدم في علاج الغُدد الدهنية المسدودة داخل الأنف. كان يظن أنه قد تَركَ ندبة أو ثقبًا في أنفه، وأن أحد الأطباء تعمَّد إصابته ليؤذيه. ولجأ إلى فرويد لشعوره بأن انشغاله بالتفكير في حالة أنفه قد استحوذ عليه تمامًا وأنهك قواه. ورغم أنه لم يكن ثَمَّةَ أيُّ إصابةٍ واضحة للناظر، كان رجل الذئاب مهووسًا تمامًا بإصابة أنفهِ المزعومة إلى حدٍّ سيطر على حياته وجعله غيرَ قادرٍ على العمل.

أمَّا فيما يتعلق بحياته الخاصة، فقد استطاع رجل الذئاب الحصول على وظيفةٍ صغيرة في شركة تأمين بفيينا ظل بها حتى التقاعُد. ولنحوِ ستِّ سنوات، كان فرويد يجمع أموالًا مرةً كلَّ عامٍ ليساعده في نفقات الحياة، ومنها نفقاتُ علاجِ زوجته المريضة بالمستشفى (المصدر نفسه، الصفحات ٩٦-٩٧).

في أبريل من عام ١٩٢٣، خضع فرويد لأول عمليةٍ صغرى له وتلاها أخرى في الخريف. وقد أُشير إلى أن التدهوُر في حالةِ رجل الذئاب العقلية كان مرتبطًا بقلق الاضطهاد لدى رؤيته لفرويد مريضًا. وفي نوفمبر، جاءت والدة المريض من روسيا، وكان ثَمَّةَ ثؤلولُ يعلو أنفها نصحها الطبيب بإزالته، بل إن المريض نفسه اضطُر لإزالة سنتَين من فمه لدى طبيبِ أسنان يُدعى الدكتور وولف (ذئب). وبَدأَت أعراض الهوس بالأنف في الظهور في فبراير من عام ١٩٢٤.

أثار تغييرٌ واحدٌ بعينه في شخصية المريض دهشةَ روث ماك برونزويك وهو كذبُه وعدمُ أمانته؛ فلم يكن لديه أدنى مشكلةٍ في أن يجمع فرويد المال لمساعدته وأَخفَى وجودَ بعض المُجوهرات التي نجح في إنقاذها من أملاكه في روسيا، والتي كان يعتقد أنها تساوي الكثير من المال (وهو ما اكتشف لاحقًا أنه غير صحيح). كشف التحليل عن رغباتٍ عدائية بموت الأب/المحلل فرويد لدى الابن المنبوذ، وكذلك التماهي مع أبٍ مخصي. كان المريض يائسًا، وهدَّد ذاتَ مرةٍ بقتل كلٍّ من فرويد ومُحلِّلته النفسية الحالية وانفصل عن الواقع. كان ممتلئًا بقلق الاضطهاد وبدا في حالةٍ من الجنون. في التحليلات المُتدرِّجة لعدة أحلام، تُشير المُحلِّلة إلى العملية البطيئة لتفسيرِ بعض هذه الأفكار. وفي تحوُّلٍ للحُلم الخاص بالذئاب، ثَمَّةَ حُلم يمكن فيه رؤية مشهدٍ طبيعي هادئ وجميل جدير بالإعجاب وأَفرُعٍ متداخلة بشكلٍ جميل يمكن تفسيرها بالأَبوَين في عناقٍ جنسي محب. قرب نهايةِ فترةِ علاجه، كان المريض مصدومًا من سلوكه. وثَمَّةَ دليلٌ تبين من مقولته أن «النساء دائمًا هكذا؛ كثيرات الشك والارتياب ويخشين فقدان شيءٍ ما» (المصدر نفسه، صفحة ٩٤). وإذ يُعبِّر عن الرغبة في أن يصبح امرأةً على هذا النحو، فإنها ترتبط بالرغبة في الحصول على المتعة الجنسية من الأب.

أشارت المُحلِّلة إلى عدةِ نقاطٍ في التشخيص الخاص به؛ ضلال الوسواس المرضي، وضلال الاضطهاد، ونكوص إلى النرجسية، وغياب الهلوسة في وجود الضلالات، وأفكار أو ضلالات إشارة خفيفة، وغياب التدهور العقلي، والطبيعة الأحادية العَرَض للذُّهان، فيما يعني أن المريض عندما كان يُفكِّر في أي شيءٍ آخر خلاف أنفه، كان سليم العقل. وتُؤكِّد ماك برونزويك استحالةِ اختراق المريض خلال فترة الذُّهان؛ إذ إن «القناع» الذي غلَّف المريض في مرضه السابق تواجَد مرةً أخرى. فقد كان التماهي مع والدته مهيمنًا تمامًا.

ظل رجل الذئاب على اتصالٍ مُتقطِّع مع ماك برونزويك على مدى سنين عدة. وفي عام ١٩٣٨، انتَحرَت زوجته بالغاز وقت الاجتياح النازي، رغم عدمِ وجودِ أي رابطٍ واضح بين الحدثَين. وبعد انتحارها مباشرة، شهِدَت حالة رجل الذئاب العقلية تدهورًا خطيرًا. وبدأ التواصل مع مورييل جاردنر، وهو طبيبٌ ومُحلِّلٌ نفسي كان يعيش في فيينا في ذلك الوقت لكنه هاجر إلى أمريكا فيما بعدُ. واستمر هذا التواصل حتى نهايةِ حياة رجل الذئاب من خلال العديد من المقابلات على مدى السنينَ إلى جانب المراسلات. وكان جاردنر هو من حَفَّز رجل الذئاب على كتابةِ مُذكِّراته. وقد نُشِر ما حدث بينهما عامَ ١٩٨٩ في كتاب «رجل الذئاب وسيجموند فرويد».

ثَمَّةَ وثائقُ وتقاريرُ مهمة أخرى عن رجل الذئاب، من بينها تسجيلاتٌ مُدَّتُها أربعون ساعة لأوبهولزر وهي التي بَدأَت فيما يبدو عندما كان رجل الذئاب يقترب من عيد ميلاده الثامن والثمانين، إلى جانب شرائطَ لإيسلر تُغطِّي مئات الساعات من المحادثات مع رجل الذئاب.

(٢) مناقشة

أشار بيتر جاي إلى أن حالة رجل الذئاب تحوي تشابهاتٍ مع قصص فرويد الأولى؛ فعلى غِرارِ دورا، كان رجل الذئاب يعرض حلمًا، وكان تفسيره هو المفتاح لتشخيص العُصاب. ومثل هانز الصغير، كان يُعاني من رُهاب الحيوانات في طفولته. ومثل رجل الجرذان، كانت تُسيطِر عليه بعض الأحيان سلوكياتٌ استحواذية وتأمُّلاتٌ عُصابية.

يُشير سترايتشي في مُقدِّمته إلى أن العديد من الأفكار التي تدعم النص؛ مثل مسألة الجنسانية الطِّفليَّة والتأكيد على النظام الفموي للغريزة الجنسية، والروابط بين الدمج والتماهي وتكوين مثل الأنا الأعلى والشعور بالذنب وحالات الاكتئاب المرضي، والعلاقة بين المشهد الجنسي الأَوَّلي والأوهام الأَوَّلية، ومسألةِ ما إذا كان يُمكن توارُث المحتويات العقلية لهذه الأوهام الأَوَّلية، ومسألة الدوافع الأُنثوية الأَوَّلية لدى الرجال.

أَودُّ كذلك أن أُضيف الأهمية البالغة للأفكار والمفاهيم المختلفة عن الزمن وهي التي يُناقشها فرويد في النص، مع إشارةٍ خاصة إلى الإدراك اللاحق. إن الحديث عن فهم العلاقات المُتبادَلة بين هذه المفاهيم المختلفة للزمن وَردَ في العديد من الكتابات المتعلقة بالتحليل النفسي التي تختزل تفكير فرويد في منظورٍ تطوُّري ساذج.

فيما تبقَّى من هذا الفصل، أَودُّ مناقشةَ أربعِ قضايا أساسية: الدور التأسيسي للخيال في بناء العقل في إطار أعمال فرويد، وتصوُّر فرويد للوقت فيما يتعلق بوظيفة الصدمة والخيال؛ ومسألة الجانب الأُنثوي لدى الرجال، وأخيرًا الروابط بين الهوَس والحِداد لدى رجل الذئاب.

(٣) الوهم اللاواعي والواقع الخارجي

يُشير لابلانش وبونتاليس إلى المعاني المختلفة للوهم المذكورة في كتابات فرويد، وهي التي تتراوح بين الأوهام الواعية وأحلام اليقظة إلى الأوهام اللاواعية والأوهام الأولية (١٩٨٥، الصفحات ٣١٤–٣١٨).

في البداية، كان الوهم ينتمي إلى فئةِ ما قبل الوعي أو الوعي. وقد استغرق فرويد فترةً امتدت حتى صدور الأبحاث الميتاسيكولوجية عام ١٩١٥ ليمنح فكرة الوهم اللاواعي مكانة في علمِ ما وراء النفس. إن الروابط بين الأنماط المختلفة هي ما يمنح للمعنى الذي خلَص إليه فرويد تعقيدًا. واقتباسًا من لابلانش وبونتاليس: «يبدو أن الشغل الشاغل لفرويد … لم يكن يتعلق بإنشاءِ مثلِ هذا التمييز بقدْر ما تعلَّق بالتأكيد على الروابط بين هذه الجوانب المختلفة» (١٩٨٥، صفحة ٣١٦). ويقود هذا لابلانش وبونتاليس إلى الاختلاف في الرأي مع التمييز الذي طرحه إيزاكس بين كلمتي Fantasy (ليشير إلى أحلام اليقظة والتخيُّلات، وما إلى ذلك) وPhantasy للدلالة على المحتوى الأَوَّلي للعمليات العقلية اللاواعية (إيزاكس، ١٩٥٢)؛ إذ يرى لابلانش وبونتاليس أن هذا التمييز لا يتناسب مع «التعقيد الذي يتسم به فكر فرويد، وأن التمييز بينهما واختيارَ واحدةٍ منهما دون الأخرى في كتابات فرويد في حدِّ ذاته من شأنه أن يقود إلى قراراتٍ اعتباطية.» وما ينبغي التأكيد عليه لدى فرويد هو «تغايُر الحياة النفسية» (لابلانش وبونتاليس، ١٩٨٥، صفحة ١٨).

علاوةً على ذلك، فإنهما يؤكدان تأكيدًا جوهريًّا الرابط بين الوهم والرغبة. بالنسبة إلى فرويد، يحدُث التوهم عند هجر الموضوع الخارجي، وهو ما يُناقِض مفهوم التوهُّم الذي يُحدِّدانه في بحث إيزاكس، وهو المفهوم الذي يتعلق بفكرة «أريد أن أفعل هذا بالموضوع». ويُشيران إلى أن التمييز بين الفرد والموضوع يُمحى في التوهُّم (المصدر السابق، صفحة ٧٣)، وما يتبقى للفرد هو مجرد «مشهد».

إن الوظيفة الأساسية للأوهام هي «صنع مشهد للرغبة؛ مشهد دائمًا ما يكون فيه الممنوع حاضرًا في التكوين الفعلي للرغبة أو الأمنية» (لابلانش وبونتاليس، ١٩٨٨ [١٩٧٣]، صفحة ٣١٨).

سأعود الآن إلى التسلسُل الزمني الخاص بفرويد. يقول فرويد في إحدى الرسائل التي كتبها إلى فليس عام ١٨٩٧: «لم أعد أُومن بنظريتي عن العُصاب» (النظرية التي تقول إن العُصاب كان سببه إغواء الطفولة). تُشير هذه المقولة إلى تغيُّرٍ كبير في تفكير فرويد؛ فالحوادث المتعلقة بسِفاح القُربى التي يستعيدها مرضاه إلى الذاكرة، والتي كان يُنظَر إليها من قبلُ لشكلها الظاهري، صار يُنظَر إليها الآن كتمثيلٍ لأُمنيات من جانب مرضاه تُشبَع بتحقيقِها في الأوهام.

وقد أتاح له تخلِّيه عن نظريته عن العُصاب إحداثَ تغييرٍ كبير، وإرساء تمييزٍ بالغ الأهمية في التحليل النفسي، وبالتحديد بين الحقيقة التاريخية والنفسية، وكذلك اكتشاف الجوانب الرئيسة لنظرية التحليل النفسي (مثل الكبت، والصراع، والتكرار القهري، والإسقاط). علاوةً على ذلك، تُصبِح كل الأحداث في التحليل النفسي مُغلَّفةً بالتوهُّم، بحيث لا تتألف الذكريات من وقائعَ وأحداثٍ فحسب، بل أفكار وتخيُّلات أيضًا. وقد حدث هذا التغيُّر، المُتمثِّل في ربط الأوهام بالعمليات اللاواعية، داخل النموذج الطبوغرافي للعقل، وجاء عقب العديد من التفصيلاتِ في كتاب «تفسير الأحلام»، وحالاتٍ طبية لدى فرويد، والبحوث الميتاسيكولوجية. ولكن كما يشير لابلانش وبونتاليس، يُدرَك الوهم اللاواعي من خلالِ عمليةِ تحليلٍ تصل إلى المحتوى المُستتِر الذي يقف وراء العَرَض (١٩٨٥، صفحة ٣٨). وبين عامَي ١٨٩٧ و١٩٠٦، تركَّزَت أعمالُ فرويد على تحوُّل الأوهام والخيالات («تفسير الأحلام»، «علم النفس المرضي للحياة اليومية»، و«الدعابات وعلاقتها باللاوعي»).

على مدى الطرح الذي قدَّمه عن حالةِ رجل الذئاب، يُثير فرويد تساؤلًا يتعلق بمدى إنتاجِ التاريخ الفعلي للأوهام؛ وبالعكس، إلى أيِّ مدًى يكون إنتاج الحدث نفسه محكومًا بأوهامٍ موجودة مسبقًا (بيرون، ٢٠٠١). إلى أيِّ مدًى يُحدِّد التاريخ الموضوعي للشخص تطوُّره النفسي وهيكله الوظيفي؟ على الجانب الآخر، إلى أيِّ مدًى يكون الواقع الخارجي نتاجًا للواقع النفسي؟ إلى أيِّ مدًى يُنتج التاريخ الفِعلي أوهامًا، وبخاصةٍ الأوهام الأولية، وإلى أيِّ مدًى تتحكم الأوهام في إنتاج الحدث نفسه؟

خلَص فرويد إلى أن الوهم في النهاية يجب أن يشتمل على عناصرَ مما يُسمَع ويُشَاهد، وأن الذكريات كذلك مُتشرِّبةٌ بالأوهام والتخيُّلات. ولهذا الاستنتاج تداعياتٌ عميقة بالنسبة إلى التحليل النفسي؛ إذ يُرسي الاختلاف بين الواقع المادي والواقع النفسي.

في كتابه «صيغ لمبدأَي النشاط الوظيفي العقلي»، أشار فرويد بالفعل إلى:

صعوبة التمييز بين الأوهام اللاواعية والذكريات التي أصبحت لا واعية. لكن يجب مطلقًا عدم السماح لأنفسنا بأن ننخدع بتطبيقِ معايير الواقع على بِنًى نفسيةٍ مكبوتة، مما قَد يُؤدِّي بالتبعية للانزلاق نحو التقليل من أهمية الأوهام في تشكيلِ الأعراض على أساسِ أنها ليست وقائعَ فعلية … (فرويد، ١٩١١، صفحة ٢٢٥)

وعن حالة رجل الذئاب، يتحدث قائلًا:

لا تُعتبر المشاهد المترسبة من الطفولة المبكرة، كتلك التي يستدعيها تحليلٌ مرهق للاضطرابات العُصابية (كما في الحالة التي بين يدَينا على سبيل المثال)، استنساخًا لوقائعَ حقيقية يمكن أن يُنسَب إليها تأثير على مدى حياة المريض اللاحقة وعلى تشكُّل الأعراض لديه. على العكس، فهي تُعتبر نواتج للخيال تجد حافزًا لها في مرحلة النضج، الهدف منها أن تعمل كنوعٍ من التمثيل الرمزي لاهتماماتٍ وأُمنياتٍ واقعية، ويرجع أصلها إلى نزعةٍ ارتدادية أو انصرافٍ عن مهامِّ الحاضر. (فرويد، ١٩١٨، صفحة ٤٩)

في موضعٍ لاحق من طرحه عن رجل الذئاب، يُضيف فرويد أن مَشاهد الطفولة لا يُعاد إنتاجها خلال العلاج كذكريات، بل هي «نواتجُ عمليات البناء» (المصدر السابق، صفحة ٥١)، عن طريقِ عمليةٍ مُرهقة تنبثق «من مجموعة من المُؤشِّرات». كذلك قد تظهر هذه الذكريات في الأحلام مُتَّبِعةً قواعد العملية الأَوَّلية، بما أن «الحلم هو شكلٌ آخر من أشكال التذكر». وهذه الذكريات تمنح الفرد إحساسًا بالقناعة بشأن واقع المشاهد الأَوَّلية (المصدر السابق، صفحة ٥١).

ومع ذلك، أَصَر فرويد على حقيقةِ أن الأوهام لا بُد أن تنطوي على رابطٍ يصلها بالواقع المادي، وهو ما يُشير إلى دَورِ التجربة في تشكيل الأوهام. لكن في الوقت نفسه «يتخلل الذكريات عناصرُ خيالية مثل ما تُدعى بالذكريات المُشوَّشة التي تُحفَظ بشكلٍ تلقائي» (المصدر السابق، صفحة ٥١)؛ فحقيقةُ أن الحاضر له جذورٌ في الماضي تُمثل بُعدًا مهمًّا للزمانية في صياغاتِ فرويد.

يناقش فرويد كذلك دور الكبت: إلى أيِّ مدًى يتعامل الشخص مع التشكيلات النفسية اللاواعية منذ البداية، وإلى أيِّ مدًى يتعامل مع التشكيلات التي تُصبح لا واعية تحت تأثير الكبت؟

يمضي فرويد في مناقشة الدور المُنظم للأوهام الأَوَّلية، لا سيما تلك المرتبطة بالمشهد الجنسي الأَوَّلي، وكذلك أصول الأوهام الأولية نفسها والأسلوب الذي تُورَّث به. وفي ذلك يشير فرويد إلى وجود ثلاثة أوهام أولية: الإغواء، والإخصاء، والمشهد الجنسي الأَوَّلي. تُشكِّل هذه الأوهام الثلاثة «كنزًا» ربما يكتشفه المُحلِّل لدى كل المُصابين بالعُصاب وربما لدى كل الأطفال (فرويد، ١٩١٥)؛ فهي جميعًا تُشير إلى الأصول: أصل الفرد في المشهد الجنسي الأَوَّلي، وأصل الجنسانية في الإغواء، وأصل الفروق بين الجنسَين في أوهام الإخصاء (لابلانش وبونتاليس، ١٩٨٥، صفحة ٥٢).

ربما يُنظَر إلى مفهوم الأوهام الأَوَّلية كنظرية عن أصول العقل؛ فهذه الأوهام معلومةٌ بشكلٍ ما، وموجودة في اللاوعي بفعل «الكبت الأَوَّلي»، ولا يمكن أن تصل إلى الوعي إلا من خلال مشتقاتها. كما أنها تُتوارث على مستوى التطوُّر النوعي؛ فهي تسبق تاريخ الفرد رغم أنها تتكرر خلال نشأته. وتُعد فكرة الإرث التطوُّري النوعي هي الأقل قبولًا بين أفكار فرويد. غير أن فكرةَ أن بعض الأوهام مُدرَكة لا تبتعد كثيرًا عن فكرةِ بيون عن «التصوُّرات المُسبقة» التي تنتظر أن تُدرَك.

بيد أن مفهوم الأوهام الأَوَّلية، في رأيي، هو، بالنسبة إلى فرويد، مطلبٌ لنموذجه عن العقل؛ فهي تتكون بسبب الكبت وهي ما يُؤسِّس الفارق بين اللاوعي وما قبل الوعي والوعي. وللسبب نفسه، لا يمكن الوصول إلى هذه الأوهام الأَوَّلية إلا من خلال مشتقاتها، وإلا انهار الفرقُ بين الأنظمة في الجهاز النفسي.

في علم ما وراء النفس الفرويدي، ثَمَّةَ إعادةُ تشكيل متواصلة للأوهام، وهي التي تحدُث في إطار الإدراك اللاحق، كعملٍ مستمرٍّ لإعادة التفصيل والتفسير وهو ما يُغيِّر الماضي باستمرار. ويأتي اكتشاف دور الأوهام متزامنًا مع اكتشاف الجنسانية الطِّفليَّة وعُقدة أوديب.

كان فرويد يعتبر الأحلام أوهامًا «صنعها الحالم عن مضمون طفولته في وقتٍ أو آخر، ربما في سن البلوغ، وطفا على السطح مرةً أخرى في هذا الشكل غير المفهوم» (فرويد، ١٩١٨، صفحة ١٩).

(٤) الوهم اللاواعي والإدراك اللاحق

في الطرح الخاص بحالةِ رجل الذئاب، يرتبط مفهوم الوهم اللاواعي جوهريًّا بمفهوم الزمن ولا سيما ما بعد الحدث. لقد تكوَّن العُصاب عبر مقياسَين زمنيَّين؛ وكان المقياس الزمني الثاني هو ما حدَّد تشكيل الوهم واختيار العُصاب؛ لذا، فإن الأمر لا يتعلق بأثرٍ خطيٍّ تراكمي نتج عنه العَرَض، وإنما هو إعادةُ تنظيمٍ لآثارِ ذكرى موجودةٍ بالفعل مرتبطةٍ بمرحلةٍ جديدة من النضج (فرويد، ١٩١٨). علاوةً على ذلك، يرتبط ذلك بالأساس، من منظور فرويد، بدور الإخصاء وقانون الأب الذي يُحرِّم الأم كموضوع للرغبة. ولا يستبعد هذا المفهوم فحسب الحتمية الخطِّية؛ ومن ثَمَّ يُؤكِّد أهمية الحاضر عند إعادة تفسير الماضي (الذي يُعد مفهومًا جوهريًّا للغاية بالنسبة إلى التحليل النفسي)، لكنه يضع الجنسانية كذلك في مِحور الصياغات النظرية.

وفيما يلي استشهادٌ أكثر توسعًا وإسهابًا من كتابات فرويد عن رجل الذئاب (المصدر نفسه، صفحة ٤٥، حاشية رقم ١):

لا بد ألا ننسى الموقف الفعلي الذي يقف وراء الوصف المختصر المقدم في الاختبار؛ فالمريض الذي يخضع للتحليل، في عمر يزيد على الخامسة والعشرين، يصوغ انطباعاته ودوافعه في سن الرابعة في كلماتٍ لم يكن ليجدها في ذلك الوقت. إذا فشلنا في ملاحظة هذا، فقد يبدو بسهولة أن من الطريف وغير المعقول أن طفلًا في الرابعة من عمره يُفترض أن يكون قادرًا على استخدام مثل هذه الآراء التقنية والمفاهيم المُكتسَبة. ويُعتبَر هذا ببساطة مثالًا آخر للفعل المؤجَّل؛ ففي سن العام ونصف العام، يتلقى الطفل انطباعًا لا يقدر على التصرُّف تجاهه على النحو المناسب؛ فهو لا يقدر إلا على فهمه والتأثر به عندما يُعاد إحياء هذا الانطباع داخله وهو في سن الرابعة؛ وفقط بعد مرور عشرين عامًا، يستطيع خلال فترة التحليل إدراك ما كان يدور داخله بواسطة عملياته العقلية الواعية. يتغاضى المريض بشكلٍ مُبرَّر عن الفترات الزمنية الثلاث، ويضع أنَاهُ الحالية في الموقف الذي ينتمي لماضٍ بعيد جدًّا. وفي الأثناء نتبعه نحن؛ إذ إنه عن طريق الملاحظة الذاتية والتفسير الصحيحَين، لا بد أن يكون الأثر «واحدًا كما لو كان بالإمكان تجاهُل المسافة بين الفترتَين الثانية والثالثة.» (التنصيص للتوكيد)

ويضيف سترايتشي ما يلي:

طرح فرويد هذه النظرية الخاصة بالفعل المؤجل بالفعل في كتاب «دراسات عن الهستيريا» [فرويد وبروير، ١٨٩٥] عندما ناقش ما أسماه حينذاك «هستيريا الاستبقاء» (النسخة الأصلية ٢، صفحة ١٦١ وما يليها). كما قدم وصفًا مفصلًّا للغاية لآليات عملها في الجزء الثاني من «مشروع علم النفس العلمي» الذي نُشِر بعد وفاته والذي كتبه كذلك عام ١٨٩٥. لكن في هذه الروايات الأُولى للنظرية، كانت آثار المشاهد الأَوَّلية مؤجلةً حتى سن البلوغ على الأقل، ولم يكن من الممكن قط تخيُّل حدوث المَشاهد الأَوَّلية نفسها في سنٍّ مبكرة للغاية كما في الحالة الحالية (النسخة الأصلية ١٧، صفحة ٤٥)؛ فالصدمة ترتبط بعمل الذاكرة، وكما أشار فرويد: «يعاني مرضى الهستيريا من الذكريات»، في إشارة إلى الصلة الجوهرية بين الصدمة والزمان والمكان في ذكرى «مشهدٍ آخر».

يرتبط الإدراك اللاحق بالتفاعُل بين الذاكرة والوهم؛ ففي صيغ فرويد، تُعيد الأوهام باستمرار تشكيل الذكريات بأثرٍ رجعي، رغم أنه لا يمكن إغفال الاتجاه من الماضي إلى الحاضر (فرويد ١٨٩٦ج، انظر كذلك توما وتشيشير، ١٩٩١). يُؤسِّس الكبت للانفصال بين الوعي واللاوعي، حتى لا يمكن التحدُّث عن الأوهام اللاواعية إلا بأثرٍ رجعي في علمِ ما وراء النفس الفرويدي. ومن ذلك المنظور، فإن الأوهام، كالزمن، يحكمها عدةُ عوامل وبالنسبة لي (وهنا أختلف مع العديد من الكتاب البريطانيِّين والأمريكيِّين مثل ساندلر وناجيرا (١٩٦٣) وسبيليوس (٢٠٠١)، وأتفق مع المُحلِّلِين النفسيِّين الفرنسيِّين)، لا يمكن انتقاء أيٍّ من الطبقات في أعمال فرويد كطبقةٍ مركزية؛ فما يعطي عمقًا للنظرية الفرويدية عن العقل بالفعل هو السلاسة والديناميكية بين المفاهيم المختلفة. يكفيك فقط أن تقرأ الأبحاث التحليلية، مثل رجل الجرذان أو رجل الذئاب أو هانز الصغير أو البحث الخاص بليوناردو دافنشي لفهم الطريقة الوحيدة التي يمكن بها الوصول إلى الأوهام اللاواعية عن طريق مشتقاتها بأثرٍ رجعي في إطار الإدراك اللاحق. لكن الأوهام الأَوَّلية — كما نُوقِشَت سابقًا — موجودة منذ البداية. وفي «كلِّ» هذه الأوهام اللاواعية، يبدو فرويد مهتمًّا بكيفية بدء النشاط الجنسي لدى البشر (انظر لابلانش وبونتاليس، ١٩٨٥).

(٥) الشرجية والذكورة والأنوثة

في رسالةٍ كتبها إلى فرينزي عام ١٩١٣، يُفيد فرويد بأن رجل الذئاب قد استَهلَّ أُولى جلساته معه بعرضِ ممارسةِ جماعٍ شرجي مع فرويد ثم التغوُّط على رأسه (انظر جونز، ١٩٧٤، الكتاب الثاني، صفحة ٣٠٨).

اعترف لي شابٌّ روسي ثري، تولَّيت علاجه بسبب النزعات القهرية لديه، بتحويلات المشاعر التالية بعد الجلسة الأُولى: كان ينظر إليَّ كمحتالٍ يهودي وكان يُريد مُضاجعَتي من الخلف ثم التغوُّط فوق رأسي. في سن السادسة، مرَّ بأَوَّل عَرَض له فيما يتعلق بالإساءة إلى الإله: بوصفه بأنه كلب وخنزير، إلخ. عندما رأى ثلاثةَ أكوامٍ من الغائط في الطريق، أصبح مُنزعجًا بسبب فكرة الثالوث المُقدَّس وبحث عن كومةٍ رابعة بتلهُّف لكي يُدمِّر هذا الارتباط. (صفحة ١٣٨)

رأى بوكانوفسكي (١٩٩٥) أنه خلال الجلسة الأُولى، عاودَت الأوهام المفهومة في حلم الذئاب الحضور مرةً أخرى؛ فهذا المشهد يُجسِّد علاقةً مثلية تتسم بالشرجية والتهديد بالإخصاء: إنه يعبر عن حالة المريض العقلية في بداية رحلته العلاجية. ثَمَّةَ تكرارٌ يحدث في بدايةِ تحليل الصدمة يُشابه التكرار الذي أدَّى إلى تنشيط القلَق المرتبط بأعراض الوسواس. في تحليله لما قيل في تلك الجلسة الأُولى، يُشير بوكانوفسكي إلى شعورٍ بأنوثةٍ غير مُستدخلة جيدًا داخل رجل الذئاب، كما يُشير إلى وجود أوهام الإغواء والإخصاء والمشهد الجنسي الأَوَّلي.

في تحليله للحالة، أشار فرويد إلى النكوص الشرجي السادي والقسوة اللذَين أعقبا حرمانه من الاستمناء. كان رجل الذئاب يُعذِّب الحشرات والبشر، وكانت تنتابه أوهام الضرب ويستمتع بإساءة معاملة الخيول. وقد حدَّد فرويد ميولًا سادية مازوخية خطيرة لدى رجل الذئاب من خلال تماهيه مع المسيح المُعذَّب، وأوهام الضرب، وتأنيب الذات الاكتئابي المازوخي. استمر معه الوسواس فيما يبدو حتى عمر العاشرة. فهم فرويد رُعبَ رجل الذئاب من أن تلتهمه الذئاب كإشارةٍ إلى أمنياته المتضاربة فيما يتعلق بالأب؛ الخوف منه من ناحية، والتوق اللاواعي لإشباعٍ جنسي مثلي من ناحيةٍ أخرى. أشار فرويد كذلك إلى رجل الذئاب في بحث بعنوان «طفل يُضرَب» (١٩١٩). في حالة رجل الجرذان، فسَّر فرويد الوسواس الذي انتاب المريض في إطارِ صراعٍ بين النشاط والسلبية، بين التماهيات الذكورية والأُنثوية.

أَودُّ أن أُشير إلى أن التبايُنات بين النشاط والسلبية وبين الذكورة والأنوثة وبين السادية والمازوخية هي في الواقع أساسيةٌ بالنسبة إلى فهمِ فرويد لبنية الواقع النفسي؛ فهي المَحاوِر التي كان يدور حولها فكر فرويد بشأن معظم مرضاه، سواء مُصابِين بالهستيريا، أو عُصاب وسواسي، أو ذُهان أو لديهم انحرافات.

نُوقش جزءٌ كبير من السيكولوجية المَرَضية للرجل الذئب في إطار دوافعه المثلية التي لم تكن مقبولة لديه (وفيما يتعلق كذلك بالتماهيات المازوخية والسلبية). لا يُؤخذ في الاعتبار في هذه الحالة المرحلة ما قبل الأدويبية والعلاقة بالأم، مثلما لم يُنظَر إليهما في أيِّ حالاتٍ أخرى ناقشها فرويد. تظهر والدة رجل الذئاب البيولوجية كشخصيةٍ ثانوية كشريكٍ في المشهد الجنسي الأَوَّلي بالأساس (جاي، ١٩٨٨، صفحة ٥٠٥). والواقع أن الأُمَّ لها حضورٌ باهت في كل حالات فرويد. وبالطبع يجب أن نتذكر أن اكتشاف المرحلة ما قبل الأُوديبية كان سيظهر في كتابات فرويد اللاحقة في أبحاثه عن الجنسانية الأُنثوية.

أشار لابلانش وبونتاليس إلى أهمية المرحلة الشرجية في البناء النفسي لكلٍّ من الصبية والفتيات، وهي فكرة تتخلل كتابات فرويد، وهي التي أعتقد أنها تجد التعبير الأَهَم عنها في الكتابات الفرنسية المعاصرة.

تظهر فكرة النظام ما قبل التناسُلي حيث تسود الغرائز السادية وغرائز الإثارة الشرجية للمرة الأُولى في كتاب «النزوع إلى العُصاب الوسواسي» (١٩١٣). وفي حواشٍ لاحقةٍ في كتاب «ثلاثة مقالات عن النظرية الجنسية»، في عامَي ١٩١٥ و١٩٢٤، تظهر المرحلة الشرجية كأحد النظم ما قبل التناسُلية الواقعة بين النظامين الفموي والقضيبي. إنها المرحلة الأُولى التي يحدث فيها تناقُضٌ بين النشاط والسلبية؛ ينظر فرويد للنشاط بوصفه متوافقًا مع السادية، فيما ينظر إلى السلبية بوصفها متوافقةً مع الشهوانية الشرجية. وعلى مدى العديد من أبحاثه (يتبادر إلى الذهن فورًا أبحاث «رجل الذئاب» و«حالة شريبر»، و«طفلٌ يُضرَب») تصبح الشرجية مرتبطةً تدريجيًّا بوهمٍ مُحدَّد وبالتفاعُل المتبادل بين التماهيات في المشهد الجنسي الأَوَّلي. فالطفل يمتلك تخيلًا عامًّا عن الجماع كإيلاجٍ شرجي، تخضع فيه الأم على نحوٍ مازوخي إلى الأب الذي يُنزِل بها ألمًا، ليصبح هذا مسارًا يُعرِّف من خلاله فرويد الشرجية والمازوخية والأُنوثة. ومن الأبحاث الأخرى التي ناقش فيها فرويد على نحوٍ خاص هذا الموضوع «الشخصية والشهوانية الشرجية» (١٩٠٨)، و«عن تحولات الغريزة كما هي مُمثَّلة في الشهوانية الشرجية» (١٩١٧ب).

انتهى فرويد إلى أن أعراض العُصاب الوسواسي لدى رجل الذئاب كانت نتيجة نكوص الليبيدو أو الغريزة الجنسية إلى هذه المرحلة من التطوُّر التي تتسم بكثرة المُكوِّنات الشرجية والسادية. وبعد بضع سنوات، وتحديدًا في عام ١٩٢٤، غيَّر فرويد رؤاه على نحوٍ جوهريٍّ ملحوظ عن المازوخية في بحث «الإشكالية الاقتصادية للمازوخية»، حيث ميَّز بين ثلاثةِ أشكالٍ من المازوخية؛ «مشبقة»، و«أنثوية»، و«أخلاقية». تُنشئ الأولى علاقة بين المتعة والألم، والثانية موجودة لدى كل البشر، والثالثة تنتج عن إحساس لا واعٍ بالذنب. غير أن فرويد أضاف أن «النوع الأول من المازوخية، وهي المازوخية المشبقة — المتعة في الألم — تُعد سببًا مثيرًا للنوعَين الآخرَين كذلك» (النسخة الأصلية ١٩، صفحة ١٦١)؛ فهذه المازوخية الأولية المشبقة مُوجَّهة نحو صاحبها نفسه، وتُعد تعبيرًا عن التحام غريزة الموت بالدوافع الشهوانية: «حتى تدمير الفرد لنفسه لا يمكن أن يحدث دون أن يكون في ذلك إشباعٌ للشهوة الجنسية» (صفحة ١٧٠). يُعتبَر بحث «ما وراء مبدأ اللذة»، الذي كُتِب عام ١٩٢٠، هو أساس التحوُّل الذي طرأ على آراء فرويد عن المازوخية، وهو ما أدى، حسبما تقول كاثرين شابيه، إلى «الارتباط الفاضح بين الحب والعقاب، وبين الإثارة والألم». يتبع هذا البحث خطًّا حاضرًا في أعمال فرويد منذ اكتشافه للوهم الأَوَّلي لإغواءِ طفلٍ من قِبل شخصٍ ناضج؛ فالأم هي المُغوِية الأُولى؛ لكنها في الوقت نفسه تُؤسِّس إيقاعًا بعينه في تحمل الاستياء، مما يشير إلى أهميةِ دمجِ مقياسٍ للمعاناة ذات الطابع الشهواني في مرحلةٍ مبكرة من الحياة. وفي البحث المؤلَّف عام ١٩٢٤، أشار فرويد إلى أن «المُصاب بالمازوخية يريد أن يُعَامَل كطفلٍ صغير عديم الحيلة، على أن يُعامل بوصفه طفلًا مشاغبًا للغاية» (صفحة ١٦٢). وأضاف: «إذا أُتيحت الفرصة لدراسة حالات دُرِست فيها حالات الأوهام المازوخية دراسةً مستفيضة للغاية، سرعان ما سنكتشف أنها تضع الفرد محل البحث في وضعٍ أنثوي على نحوٍ خاص؛ فهي تدل على أنه يتعرض للإخصاء، أو المضاجعة، أو يلد طفلًا.» تُسلِّط هذه الأفكار، التي كُتِبَت بعد مرور ما يصل إلى عشر سنوات، ضوءًا آخر جديدًا نابعًا من إدراكٍ لاحق على الأوهام المازوخية لدى رجل الذئاب، وتستدعي ما ربما استشعر أنه خارج على السيطرة في «تقلُّبات الغريزة الجنسية الأَوَّلية» في العلاقة مع الأم (جرين، ١٩٨٦، صفحة ٢٤٥).

(٦) الوسواس والشرجية والسوداوية

في «الحداد والسوداوية» (١٩١٧أ)، قدَّم فرويد الوصف الأول لعلاقة مع موضوعٍ داخلي تضمن الإسقاط والتماهي.

يعود الشخص السوداوي إلى تماهٍ نرجسي مع الموضوع، حيث تعامل الأنا ذاتها كموضوع. تنقسم الأنا إلى جزأين يثور أحدهما ضد الآخر. وهكذا تنطوي السوداوية على استدماجٍ للموضوع وتماهٍ معه. يُلقي الشخص السوداوي اللوم على الموضوع الذي تتماهى معه الأنا، فيبدو الأمر كما لو كان يلوم نفسه. وقد اكتشف فرويد في هذا النص العملية التي تتماهى من خلالها الأنا لا شعوريًّا مع الموضوع السيئ المُستدمَج (الموضوع المحبوب الرافض)؛ ومن ثَمَّ تُصبِح ضحيةً للأنا العليا الخاصة بها. إن فكرته تتلخص في أنه عندما يشعر الشخص بأنه سيئ، فإنه في الواقع يتهم شخصًا آخر، لا شعوريًّا، يشعر الفرد بأنه ضحيته، ولكن تحوَّل إليه من خلال عملية استدماجٍ وتماهٍ.

يقول فرويد في «الأنا والهو»:

في جنون الارتياب الاضطهادي، يصد المريض ارتباطًا مثليًّا مُفرِط القوة بشخصٍ مُعيَّن بطريقةٍ معينة؛ ونتيجةً لذلك فإن هذا الشخص الذي أحبه المريض حبًّا جمًّا يصبح مُضطهِدًا؛ ومن ثَمَّ يُوجِّه المريض نحوه عدوانيةً غالبًا ما تكون خطيرة. (فرويد، ١٩٢٣، صفحة ٤٣)

في عام ١٩٢٤، أنشأ أبراهام كذلك رابطًا قويًّا بين السوداوية والعُصاب الوسواسي. في السوداوية، يكون التركيز على فقدان الموضوع. أمَّا في العُصاب الوسواسي، فيحتفظ الفرد بالموضوع الذي يُكِنُّ له مشاعرَ ازدواجية؛ ومن ثَمَّ يمكن الإشارة إلى أن الوسواس قد يُعتبَر محاولةً لصد حالةٍ من السوداوية.

يُشير أبراهام كذلك إلى أن اللاوعي ينظر إلى فقدان الموضوع كعمليةٍ شرجية وينظر إلى استدماجه كعمليةٍ فموية (أبراهام، ١٩٢٤، صفحة ٤٤٤). في جنون الارتياب، يُمثِّل المريض الشخص المُضْطهد له بجزء من جسده ويعتقد أنه يحمله بداخله.

من المثير التفكير في سيكولوجيةِ مرضِ رجل الذئاب في ضوء هذه الأفكار. وفي الواقع أَودُّ أن أُشير إلى وجودِ مشكلاتٍ تتعلق بحداد مُعلَّق يُعد محورًا مركزيًّا لسيكولوجية مرضه؛ موت والده وشقيقته، اللذَين انتحرا، وكذلك عقدة الأم المتوفاة، وهي أم كانت حيةً لكنها لم تكن موجودة؛ إذ كانت منشغلة بأعراضها الجسدية وغيرَ قادرةٍ على التواصل مع ابنها. في التحليل اللاحق مع روث ماك برونزويك، يمكن بالفعل تتبُّع أعراض رجل الذئاب الجسدية كتعبير عن التماهي مع الأم. هناك كذلك اضطهاد؛ إذ أشار أبراهام إلى أن الشخص السوداوي يدمج موضوع حبه المفقود كوحدةٍ كاملة، بينما يدمج مريض جنون الارتياب جزءًا منه فقط.

ربما يُنظَر إلى الموت كمحورٍ لأفكاره المستغرق فيها. وتُمثِّل شرجية رجل الذئاب محاولةً للتعامل مع موضوعٍ لم يكن قادرًا على التخلي عنه.

خاتمة

تُعتبَر حالة رجل الذئاب واحدةً من أكثر حالات فرويد التي تُنُوِلت بالنقاش؛ فقد حدَّد بحث لإحدى شركات الأبحاث ما يقرب من ٥٧٧ بحثًا ترتبط تحديدًا بهذا النص باللغة الإنجليزية فقط. وأشار بعض المؤلِّفِين أن رجل الذئاب — بما لديه من عُصابٍ وسواسيٍّ حادٍّ للغاية ويُسبِّب تقلُّصاتٌ مستمرة — سيكون من الأفضل تشخيصُ حالته كشخصٍ مصابٍ باضطراب الشخصية الحديِّ مصحوبًا باعتلالاتٍ شديدة في الأنا (بلوم، ١٩٧٤)، ونوبات من الذُّهان الطِّفلي وحالاتٍ بارانويدية في الكبر. ومع تطوُّر الدراسات في الحالات التحليلية ونظرية التحليل النفسي، فنحن مُضطرُّون للعودة إلى الأوراق البحثية الكلاسيكية وبيان ما تغيَّر وما ظل ثابتًا دون تغيير في علم التحليل النفسي.

لقد ركزتُ في هذا الفصل على أربعِ أفكارٍ رئيسة يمكن اشتقاقها من نقاشٍ عن بحثٍ كلاسيكي: الدور التأسيسي للوهم في بناء العقل في إطارِ عملِ فرويد، وتصوُّر فرويد للزمن فيما يتعلق بوظيفة الصدمة والوهم، ومسألة الأنوثة لدى الرجال، وأخيرًا الروابط بين الوسواس لدى رجل الذئاب والحداد.

وقد أشرتُ إلى وجودِ رابطٍ جوهري بين الوهم اللاواعي والزمن في صياغات فرويد؛ ففي الطرح الخاص بحالةِ رجل الذئاب، ارتبط مفهوم الوهم ارتباطًا جوهريًّا بمفهوم الزمن وخاصة الإدراك اللاحق؛ لذا فإن المسألة ليست مسألةَ أثرٍ خطي تراكمي أدت إلى ظهور عَرَض، بل هي إعادة تنظيم لآثارِ ذكرياتٍ موجودة بالفعل مرتبطةٍ بمرحلةٍ جديدة من النضج. علاوةً على ذلك، يرتبط ذلك جوهريًّا في نظر فرويد بدور الإخصاء، وقانون الأب الذي يُحرِّم الأم كموضوع للرغبة. لا تستبعد هذه الفكرة فقط الحتمية الخطية؛ ومن ثَمَّ تؤكد أهمية الحاضر عند تفسير الماضي (وهي فكرةٌ أساسية للغاية لعمل التحليل النفسي)، بل أيضًا تضع الجنسانية مِحورًا للصيغ النظرية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤