الفصل السادس

«اللاوعي»

لويس إدواردو برادو دي أوليفيرا
في الأول من أبريل عام ١٩١٥ كتب فرويد إلى لو أندرياس-سالومي:

الأعداد القادمة من «الجريدة» ستتضمن توليفةً نفسية من نوعٍ ما تضم عددًا مُتنوعًا من أفكاري مصنفةً تحت ثلاثةِ عناوين: الغرائز وتَقلباتها، والكبت، واللاوعي، وهي توليفة لم تكتمل بعدُ مثل معظم ما أطرحه، وإن كانت لا تخلو من مضمونٍ جديد. وسيتضمن المقال الخاص باللاوعي تحديدًا تعريفًا جديدًا لهذا المُصطلَح، يُعد بحق بمثابةِ إعادةِ صياغةٍ له. (أندرياس-سالومي، ١٩١٢-١٩١٣، صفحة ٣٨)

تُوحي هذه اللفظة الجديدة، المشتقة من الكلمة الألمانية Agnoszierung (بمعنى اللاأدرية أو الحياد الديني) بطابعٍ ديني أو مُقدَّس، يُميِّزه اعتقادٌ قوي يرتبط سلفًا باللاوعي. يهدف فرويد إلى طرحِ تعريفٍ جديد ذي طابعٍ محايد دينيًّا. وستُتيح لنا دراسةٌ متأنية لنصه تحديدَ من أيِّ منظورٍ اعتبر تعريفه جديدًا، ليس فيما يخُص الأطروحة السائدة في زمانه حول الموضوع، بل فيما يخص الأساليب الفرويدية نفسها في المقام الأول.
على سبيل المثال كتب مُحرِّرو النسخة الكاملة لأعمال فرويد في مقدمتهم لبحث فرويد حول «اللاوعي»:

في أيامه الأُولى وفي بيئته الأقرب، كانت المقاومة لفكرته عظيمة؛ فبقدر اهتمام أساتذة فرويد المباشرِين، مثل ماينرت، بعلم النفس، فقد كانوا محكومِين بالأساس بآراء جيه إف هيربرت (١٧٧٦–١٨٤١)، ويبدو أن فرويد كان يدرُس منهجًا يُجسِّد مبادئ هيربرت في المدرسة الثانوية. (فرويد، ١٩١٥ج، صفحة ١٦٢)

إن تلك الآراء، بقدْر كونها مثيرةً للاهتمام، لا تُغطِّي المجال الكامل لموضوع الإسهامات التي ربما أَثَّرت في فرويد من زاويتَين: زاوية الإسهامات الأكثر حداثة والمعاصرة لوقت كتابة فرويد لبحثه، وكذلك زاوية الإسهامات الأسبق، التي كانت أكثر شهرةً وانتشارًا من إسهامات ماينرت وهيربرت.

(١) المصادر والمناهج المختلفة فيما يخص اللاوعي

نشر إدوارد فون هارتمان (١٨٤٢–١٩٠٦) في عام ١٨٦٩ كتاب «فلسفة اللاوعي»، الذي لاقى استحسانًا عامًّا واسعًا وصنع له شهرةً بين ليلة وضحاها. في هذا الكتاب يشيد هارتمان بسابقِيه؛ شيلينج، وهيجل، وشوبنهاور. يعقد هارتمان في هذا الكتاب، الذي استهلَّه بطرحِ تحليلٍ للظواهر العضوية، مقابلةً بين الغرائز «الكريهة»، مثل الخوف من الموت أو التقزُّز من ناحية، والغرائز «العاطفية» مثل حب الأم أو الحب الجنسي من ناحيةٍ أخرى. تضرب الفضيلة وعلم الجمال والتصوُّف بجذورها في هذا التناقُض، وذلك وفقًا لمبدأ التسامي، الذي نلاحظ حُضوره في الفكر الألماني بدايةً من كانط فصاعدًا، ويُلقي بظلاله على مفهوم فرويد، حتى وإن لم يَحظَ هو عينه بدراسةٍ من قِبل هارتمان (برادو دي أوليفيرا، ١٩٩٨، الصفحات من ١١١٧–١١٢٦). وبينما يرى هارتمان أن اللاوعي ينتمي إلى الميتافيزيقا وليس له تمثيلٌ زمني، يُبقي فرويد على هذه السمة الأخيرة لكنه يُحوِّلها إلى مفهوم ميتاسيكولوجي. ويبدو أن هذا التناقُض بين مجموعتَين أساسيتَين من «الغرائز» وحله الكامن في الموت قد ترك بصمته على التحليل النفسي؛١ فبالنظر إلى إسهام هارتمان، يَسهُل إدراكُ أنَّ فرويد ربما رغب في إضفاءِ طابعٍ لا أدريٍّ على مفهوم اللاوعي كي يُجرِّده من أي دلالةٍ دينية.
أمَّا فيما يتعلق بمُعاصرِي فرويد الذين ربما أَثَّروا في فكره وكانوا الحافز له في مسعاه لوضع أساسٍ نظري لمفهوم اللاوعي، نجد بالطبع بليولر الذي نشَر عام ١٩٠٦ كتابه «اللاوعي والتداعي» كإسهامٍ في دراسات يونج حول التداعيات الحرة، والذي يظهر في كتابه «دراسات التداعي». ويستدعي هيرشمان هذا الكتاب في إسهامه المُعنوَن «عرضٌ عام لنظريات فرويد (دعايةٌ مُوجَّهة للأطباء)» الذي قدَّمه إلى اجتماع جمعية فيينا للتحليل النفسي في ٢١ أبريل عام ١٩٠٩؛ حيث يقول:

إن الصعوبات التي نُواجهها في فهم العُصاب النفسي تضرب بجذورها في مفهوم اللاوعي والجنسانية الطفلية، اللذَين يجب إقامة الدليل عليهما في إطارِ علمٍ تجريبي بحت. علينا إذن استهدافُ نطاقٍ أَبعدَ في الدراسة المُوسَّعة والمُفصَّلة حول [مفهوم] اللاوعي، والخوض بقدْر من التفصيل في دوره الخبيث [المُستحِث للمرض]. في الوقت نفسه يمكن طرح بعض المعلومات التي من الضروري [معرفتها] عن الأحلام والدعابات والحياة اليومية.

وأخيرًا يجب التعرُّض بإيجاز للتحليل النفسي، باعتباره الطريقة الوحيدة التي يمكن عَبْرها معرفةُ شيءٍ عن اللاوعي. وفيما يخُص [اللاوعي]، يجب مراعاة الأمور التالية: أولًا مدى احتوائه على المادة المكبوتة (هيرشمان، مقتبس من كتاب بليولر «اللاوعي والتداعي»)، ثانيًا عجزنا عن فهم اللاوعي دون [دراية] بظواهر التنويم المغناطيسي، والإيحاء، والوعي المزدوج. (نانبرج وفيدرن، ١٩٠٨–١٩١٠، صفحة ٢٠٩)٢
في الواقع كان اهتمام فرويد باللاوعي حاضرًا منذ بداية أبحاثه في التحليل النفسي؛ ففي عام ١٨٩٥ عندما كان يُفكِّر في علاج لحالة إيمي فون إن، كتب فرويد في حاشية سفلية يقول:

ومن ثَمَّ كان اندهاشها في مساء اليوم السابق من مرور فترةٍ طويلة منذ آخر مرةٍ أُصيبت فيها بتشنُّج في العنق نذيرًا بحالةٍ مَرَضية وشيكة الحدوث، كانت في طَور الإعداد وقتها ومُدرَكة في اللاوعي؛ كان هذا النذير الغريب يظهر بانتظام في حالة السيدة ساسيلي إم المذكورة سابقًا. على سبيل المثال، إذا قالت لي وهي في أتمِّ صحة: «لقد مضى وقتٌ طويل منذ شَعَرتُ بالخوف من الساحرات ليلًا.» أو «كم أنا مسرورةٌ أن آلام عيني لم تُعاوِدني منذ فترةٍ طويلة.» أُصبِح على يقينٍ من أنها في الليلة التالية ستُراودها نوبةٌ شديدة من الخوف من الساحرات ستستلزم جهدًا إضافيًّا من مُمرِّضتها أو أن النوبة القادمة من آلام العين قد أَوشكَت على البدء. في كل مناسبةٍ كان ما هو حاضرٌ بالفعل كمُنتَجٍ نهائي في اللاوعي يبدأ في الظهور على نحوٍ غامض؛ فقد كان الوعي «الرسمي» غير المُتشكِّك (حسب مصطلح شاركو) يُعيد صياغة هذه الفكرة، التي بَرزَت كفكرةٍ مباغتة، إلى إحساسٍ بالرضا، يتضح سريعًا وعلى نحوٍ دائم أنه غيرُ مُبرَّر. وقد أشارت السيدة ساسيلي نفسها، التي كانت امرأة في غاية الذكاء وأَدين لها كثيرًا فيما تَوصَّلتُ إليه من فهمٍ للأعراض الهستيرية، إلى أن الأحداث من هذا النوع ربما أدت إلى ظهور خرافاتٍ حول خطر التفاخُر أو تَوَقع الأحداث السيئة. (بروير وفرويد، ١٨٩٣–١٨٩٥، صفحة ٧٦)

إذن كان لنظرية اللاوعي أُسسٌ تحليلية دون شك. وإذا كان هذا المُصطلَح قد ظهر للمرة الأُولى في أعمال فرويد في هذه الحاشية، فمن المهم أن نُدرك تمامًا أنه قد ظهر عقبَ تساؤلِ فرويد عنه في حاشيةٍ سابقة، تُعتبَر بلا شكٍّ واحدةً من أطول الحواشي في تاريخ أدبيات علم النفس. وقد أعاد فرويد هذا التساؤل برُمَّته في بحثه الصادر عام ١٩١٥ (فرويد، ١٩١٥ج) مراتٍ عدة لا مرةً واحدة كما سنرى. أحد تلك التساؤلات هو السؤال المتعلق بالتدوين أو التسجيل المزدوج للتمثيلات والتأثيرات أو الأفكار، إضافة إلى ما ينتج عن تلك التدوينات أو التسجيلات المزدوجة. في هذه الحاشية يُشدِّد فرويد على «انفصال» الوعي، وتكوين التمثيلات ما قبل الواعية وتَحرُّكِها من سجلٍّ إلى آخر، مع ملاحظة أنه لم يتخلَّص ها هنا بعد من مفهوم الكبت، لكنه يُؤكِّد «التداعيات الكاذبة»، التي تتبع تمثيلاتٍ مُحدَّدة للوعي (بروير وفرويد، ١٨٩٣–١٨٩٥، الصفحات ٦٧-٦٨).

يبدو لي أن محرري النسخة الكاملة الأساسية من الكتاب لا يُولُون انتباهًا كافيًا للقواعد التحليلية في الأساس، وحتى قواعد التحليل الذاتي لمفهوم اللاوعي وإن أشاروا إليه:

على الرغم من ذلك، يجدُر التوضيح فورًا أن اهتمام فرويد بالافتراض لم يكن فلسفيًّا مطلقًا — وإن كانت المعضلات الفلسفية بلا شكٍّ تقبع في الأفق لا محالة. لقد كان اهتمامه اهتمامًا «عمليًّا»؛ فقد وجد فرويد أنه بدون طرح هذا الافتراض، لم يكن قادرًا على تفسير أو حتى وصفِ مجموعةٍ كبيرة ومُتنوِّعة من الظواهر التي صادَفها. ومع طرح الافتراض، على الجانب الآخر، وجد الطريق مفتوحًا للوصول إلى منطقةٍ شديدة الخصوبة من المعرفة الجديدة. (فرويد، ١٩١٥ج، صفحة ١٦٢)

إن مُحرِّري النسخة الأصلية، في الواقع، لا يذكرون ولو واحدةً من هذه المناسبات «العملية» حيث كان مفهوم اللاوعي مفيدًا للدرجة. على العكس، فهم يتعاملون على نحوٍ كبير مع الجانب النظري الذي ربما كان ضروريًّا لتكوين فهمٍ نظري لاستخدام فرويد للمفهوم. وربما يتبعُهم المرء في ذلك، مدعومًا بالتقدُّم النظري الذي تحقَّق منذ ذلك الحين، وهو ما يعني العودة إلى الاعتبارات الإكلينيكية والاعتبارات التحليلية الذاتية من أجل نشرِ ثراءِ علمِ فرويد وتعقيده.

على سبيل المثال، كتب هؤلاء المُحرِّرون يقولون:

في الواقع إن الأساس الكامل لنظرية كبت الهستيريا وللأسلوب التطهيري في العلاج كان يدعو بشدة لإيجاد تفسيرٍ نفسي، وعن طريق أكثر الجهود تعقيدًا فقط، أمكن تفسيرها من وجهة النظر العُصابية في الجزء الثاني من كتاب «المشروع». وبعد بِضعِ سنوات، وفي كتاب «تفسير الأحلام» (فرويد، ١٩٠٠)، حدَث تحوُّل غريب؛ فلم تختفِ الرواية العُصابية لعلم النفس اختفاءً كاملًا فحسب، بل اتضح الآن أن كثيرًا مما كتبه فرويد في «المشروع» فيما يتعلق بالجهاز العصبي سليمٌ وأكثر وضوحًا بكثيرٍ عندما تُرجِم إلى مُصطلحاتٍ عقلية.

ويختتمون هذه الفِقرة قائلِين (وهذا ما أريد التركيز عليه):

لقد أُرسيت أُسس اللاوعي على نحوٍ حاسمٍ ونهائي. (فرويد، ١٩١٥ج، صفحة ١٦٤)

يبدو الجانب النظري الأساسي راسخًا، لكن ثَمَّةَ بعض الأفكار غير المُرضية؛ فافتراض أن اللاوعي قد ترسَّخَت أُسسه على نحوٍ حاسم ونهائي من شأنه أن يُغلق الباب أمام أي مفاجأة؛ ومن ثَمَّ أي حَيرة وكذا أي خوفٍ خلال مهمة إعادة اكتشافه. وهذا يُمثِّل مشكلةً كبرى. على الجانب الآخر، يبدو فهم أيِّ مسارٍ فردي نحو هذا الاكتشاف، والبدء فيه من جديد، بمثابةِ طريقةٍ لإطلاق تجربة اللاوعي مرةً تلو الأخرى؛ ومن ثَمَّ لم تكن أول محاولة لفرويد لفهم السوداوية في بحثه «مشروع لعلم النفس» عام ١٨٩٥، الذي يضيف له المترجمون غالبًا كلمة «علمي»، فيما يعني أنه يُعد إلى حدٍّ كبير نموذجًا هندسيًّا لجهاز الفكر الذي ينتمي له اللاوعي، بل ظهرت هذه المحاولة في وقتٍ سابق في رسالة إلى فليس؛ فيسأل نفسه: «كيف يلعب فقدان الحس هذا الدور في السوداوية؟» (فرويد وفليس، ١٩٨٥ (١٨٨٧–١٩٠٤)، الصفحات ١٠٠–١٠٢.) وللإجابة عن هذا السؤال، يصنع فرويد مُسوَّدةً أُولى لجهاز الروح؛ حيث تظهر مُصطلَحات مثل حدود الأنا، والعالم الخارجي، والموضوع الجنسي، والتوتُّر الجنسي، والمجموعات النفسية، إلخ. وهذا المخطط، في شكلِه العام، يتكرر ويُبسَّط لتفسير الكآبة والجنون على نحوٍ خاص.

في الواقع، وفي ٢٧ أبريل من عام ١٨٩٥، كتب فرويد إلى فليس يخبره أنه مُنخرِط بشدة في مشروعه «علم نفس لأطباء الأعصاب»، وفي يوم ٢٥ مايو من العام نفسه، يُفسِّر عدم قدرته على التخلي عن عمله:

بَيدَ أن السبب الأساسي كان هذا: إن رجلًا مثلي لا يستطيع العيش دون موضوعٍ يُركِّز عليه، دون شغفٍ يستحوذ عليه، دون طاغيةٍ كما يقول شيلر. وقد وَجدتُ واحدًا، ولا أعرف حدودًا في العمل عليه. إنه علم النفس، الذي كان دائمًا هدفي البعيدَ المنال الذي يدعوني، والذي اقتربتُ منه كثيرًا الآن منذ أن صادَفتُ مشكلة العُصاب. ثَمَّةَ هدفان يُؤرِّقانني؛ أولًا: فحص ماهية الشكل الذي تتخذه نظرية النشاط الوظيفي العقلي حالَ قدَّم المرء اعتباراتٍ كمِّية، أو نوعٌ من نظم القوى العصبية. وثانيًا: الحصول على مكسبٍ لعلم النفس التقليدي من علم الأمراض النفسية. في الواقع، إن الوصول إلى تصوُّرٍ عامٍّ مُرضٍ لاضطرابات الذُّهان العصبي أمرٌ مستحيل إذا لم يستطع المرء ربطه بافتراضاتٍ واضحة عن العمليات العقلية المعتادة. (مقتبس من فرويد في ماسون، ١٩٨٥، صفحة ١٢٩)

استُلهِم مشروع «علم نفسٍ لأطباء الأعصاب» على نحوٍ جزئي فقط من النموذج الهندسي الذي يظهر في رسالة فرويد إلى فليس، على الرغم من ظهور اللاوعي بوضوح مرةً أخرى، وهو حقًّا مشروع نفسي أيضًا على الرغم من أن علم الأعصاب يعمل كمجاز، بالنظر إلى كونِ أيِّ انشغالٍ بعلم الأعصاب كان بعيدًا عن عقل فرويد في ذلك الوقت. أخيرًا، وليس آخِرًا، يرتبط اللاوعي بوضوح بالأحلام في هذا النص (فرويد، ١٩٥٠ [١٨٩٥] الصفحات ٣٤١–٣٤٣).

ولعل أفضل مثال وختام لتأمُّلات فرويد في ذلك الوقت يظهر في أحد خطاباته إلى فليس والذي كتبه في نهاية العام التالي، وهي تأمُّلات أكثر وضوحًا وصراحةً بكثيرٍ من أي شيءٍ كتبه من قبلُ (فرويد وفليس، ١٩٨٥ [١٨٨٧–١٩٠٤]، الصفحات ٢٠٧–٢١٥). يُعتبر هذا الخطاب بحق مُسوَّدةً حقيقية للفصل السابع الشهير من كتاب «تفسير الأحلام» لفرويد، وفيه يسرد نموذجه الطبوغرافي بالكامل للجهاز النفسي ومشروعه النفسي بوضوحٍ أكبر.

في كتاب «تفسير الأحلام»، يعمل فرويد مرةً أخرى على نموذجه؛ لكي يزيل أيَّ إشارةٍ إلى نظرية فليس عن الدورات البيولوجية الإيقاعية والتي ظل مُعترِفًا بها في رسالته. وفي هذا الإطار فقط يُمثِّل كتاب «تفسير الأحلام» نسخةً مكتملة من الجانب الطبوغرافي لعلمِ ما وراء النفس الخاص به؛ ومن ثَمَّ، التكوين الطبوغرافي للاوعي. يظهر الإدراك في أحد طرفَي جهاز التفكير؛ وسيكون تراكُم آثار الذاكرة في هذا الطرف مصدرًا للاوعي، ومن هناك فصاعدًا ربما تُصبِح بعض تلك الآثار آثارًا قبل شعوريةٍ في الطرف الآخر من الجهاز، قبل تفريغ الشحنة الحركية مباشرة، والتي يعود بها إلى العالم الخارجي الذي جاءت منه في البداية في صورة إدراك (فرويد، ١٩٥٣ [١٩٠٠-١٩٠١]، الصفحات ٥٣٧–٥٤١). علاوةً على ذلك، قد تُسجِّل بعض العناصر التي تنتمي إلى الإدراك السليم نفسها مباشرة على سجلِّ ما قبل الوعي.

كان كلٌّ من رسائلِ فرويد إلى فليس، وكذلك مشروع علم النفس، متشابكًا مع تحويل المشاعر والشواغل التحليلية. أمَّا كتاب «تفسير الأحلام»، فهو ممزوجٌ بحزن فرويد على والده، وكذلك حزنه على نهاية علاقةِ صداقة؛ لذا يُعتبَر هذا الكتاب أهم إنجازٍ تَحقَّق في مجال التحليل الذاتي.

(٢) بحث اللاوعي

نشر فرويد في عام ١٩١٢ عددًا من الكتابات المُهِمة، كان من بينها بالطبع «الطوطم والتابو»، أيضًا إلى جانب «آليات التحويل»، و«عن النزعة العامة إلى المهانة في عالم الحب» (وكان ضمن ثلاثة مقالاتٍ جاءت تحت عنوان «مساهمات في سيكولوجية الحب»)، و«توصيات إلى الأطباء الممارسين للتحليل النفسي»، و«أنواع نوبات العُصاب»، و«مساهمات في نقاش حول الاستمناء» (وكان هذا الموضوع من أكثر الموضوعات التي نُوقِشَت في جمعية التحليل النفسي في فيينا؛ حيث عُقِدت تسعة اجتماعات كُرِّسَت لهذه المسألة، التي تناوَلَت بأسلوبٍ جديد موضوعات الاستمناء، والسرية، والحياة المؤسَّسية)، وأخيرًا «تعليق على اللاوعي في التحليل النفسي». ويُعتبر بحث ١٩١٥ج عن هذا الموضوع نسخةً مُنقحة من هذا البحث الأخير في عدة جوانب منه.

في العام نفسه، حدث شِقاقٌ بين فرويد وستيكل في الوقت الذي كان فيه فرويد يُنهي شقاقه مع أدلر وشرع في الانفصال عن يونج. ومرةً أخرى، ارتَبطَت أفكاره عن اللاوعي بالحزن؛ ففي الثاني من يناير عام ١٩١٢ كتب إلى كارل أبراهام يقول: «لا تُوجد أيُّ توقُّعات تُستحَق لنفسي؛ هناك أوقاتٌ عصيبة قادمة، وربما لن يأتي التقدير إلا من الجيل القادم» (فرويد وأبراهام، ١٩٠٧–١٩٢٥، صفحة ١٤٥). بعد انفصاله عن ستيكل، الذي كان أول تلاميذه، أَسَّس فرويد «الجريدة الدولية للتحليل النفسي» في العام نفسه. تخلَّل هذه الفترة العديد من الكتابات والعديد من المبادرات، وكان هذا ما أسماه «فترة حالكة»!

في العام نفسه، وباللغة الإنجليزية مباشرة، وردًّا على طلبٍ من جمعية البحوث النفسية في لندن، كتب فرويد نصًّا قصيرًا بعنوان «تعليق على اللاوعي في التحليل النفسي». قدَّم هذا النص بالفعل أساسياتِ ما طوَّره فرويد لاحقًا عام ١٩١٥، ويطرح بالأساس تناولًا لجهاز التفكير واللاوعي يأخذ في الاعتبار جوانبه الطبوغرافية والديناميكية والوصفية. وقد كتب مُحرِّرو النسخة الكاملة لمؤلفات فرويد:

إن السرد الحالي أكثر تفصيلًا ووضوحًا من السرد الآخر الأكثر اختصارًا والمُوضَّح في القسم الثاني من البحث العظيم؛ فلا يُوجد تمييز سوى بين استخدامَين فقط: «الوصفي»، والمنهجي»، ولا يبدو أن هناك أي تمييزٍ واضح بين الأخير وبين مُصطلَح «ديناميكي»؛ وهو المصطلح الذي ينطبق في الورقة البحثية الحالية على اللاوعي «المكبوت». (فرويد، ١٩١٢ج، صفحة ٢٥٨)

وقد كانوا على حق بالفعل!

يستهل هذا النص القصير والشديد الوضوح بمقترح:

دعونا الآن نطلق كلمة «واعٍ» على التصوُّر الحاضر في وعينا والذي ندركه جيدًا، ولنجعل هذا هو المعنى الوحيد لمصطلح «واعٍ». أمَّا بالنسبة للتصورات المستترة، إذا كان لدينا أي سبب لافتراض وجودها في العقل — كما كان الأمر في حالة الذاكرة — فلنشر إليها بمصطلح «لا واعٍ». (المصدر السابق، صفحة ٢٦٠)

إن ما يسمح له بالإصرار على هذا الفارق، بخلاف الذاكرة وتداعيات الأفكار، هو إيحاءُ ما بعد التنويم المغناطيسي، وفي المقام الأول تجربة برنهايم في فرنسا التي يصفها فرويد (المصدر السابق، صفحة ٢٦١)؛ فهذه التجربة تتيح له التفريق بين الأسلوب الديناميكي لفهم اللاوعي وبين وصفه المنفرد. يدرك الأسلوب الديناميكي وجود فكرة الاحتفاظ بالأفكار بعيدًا عن الوعي رغم حدَّتها ونشاطها. لذا، وبجانب الحالات العقلية للوعي واللاوعي، يُعيد فرويد التأكيد على وجود حالاتِ ما قبل الوعي، وهو الوجود الذي ذُكِر بالفعل في كتاب «تفسير الأحلام».

يعود فرويد كذلك إلى أطروحته الصادرة عام ١٩٠١، والتي تنُصُّ على أن النشاط النفسي يكون نشاطًا لا واعيًا في البداية ويظل هكذا أو يسلك طريقه نحو الوعي بحسب المُقاوَمات التي يُقابلها (أو لا يُقابلها) والقادمة من تمثيلاتٍ نفسية مختلفة، بل إن فرويد يُقارِن العلاقة بين اللاوعي والوعي بالعلاقة القائمة بين الصورة الموجبة والسالبة عند تحميضِ صورة. ومن المثيرِ للاهتمام إدراكُ الروابط العديدة التي صَنعَها فرويد بين هاتَين الفكرتَين، عندما يُقرِّر مثلًا أن العُصاب هو «الصورة السلبية» للانحراف الذي يُنظَر إليه «كصورةٍ إيجابية» (فرويد وفليس، ١٨٨٧–١٩٠٤، صفحة ٢٢٧).٣ علاوة على ذلك، لا يصبح اللاوعي وعيًا فحسب، بل غالبًا أيضًا ما تحدُث حركةٌ عكسية عندما تعود العناصر التي تنتمي للوعي إلى عالم اللاوعي، مثلما يحدُث للأفكار الكامنة في الأحلام.
في نهاية هذا النص، يُصرِّح فرويد بتصريحَين مهمَّين: أَوَّلهما: يُشكِّك في قوانين فكر اللاوعي في ظل اختلافها عن قوانين فكر الوعي. أمَّا الثاني فيتعلق بالطبيعة المستقلة لنظام اللاوعي. ويقترح فرويد تحديدَه بثلاثة أحرف وهي Ucs أو بالألمانية Ubw. وقد ذُكر هذا الاقتراح بالفعل في رسالةٍ إلى فليس في نهاية عام ١٨٩٦.

ينقسم بحث اللاوعي موضوع النقاش إلى سبعةِ فصولٍ تتعلق بتبرير مثل هذا المفهوم، والمعاني العديدة للمُصطلَح ووجهة النظر الطبوغرافية، كما تتعلق بالعواطف اللاواعية وطبوغرافية الكبت وآلياته، والسمات الخاصة بنظام اللاوعي، والتواصُل بين نظامَي اللاوعي والوعي، وأخيرًا تقييم اللاوعي. ولهذه الفصول أهميةٌ لا مثيل لها، وتَعرِض لفرضيةٍ وُضِعت سلفًا بأسلوبٍ لا مثيل له. والحماسُ الذي أظهره فرويد في رسالته المُؤرَّخة بتاريخ الأول من أبريل إلى لو أندرياس-سالومي مَحلُّ جدلٍ كبير؛ فقد كان فرويد قد وضع بالفعل أساسًا للتكهُّن باللاوعي قبل كتابة النص الجديد، والأمرُ اللافت للنظر هو كيف تمكَّن فرويد من عدم الاقتباس قَطُّ من أيٍّ من أسلافه أو مُعاصرِيه ممن تناولوا المفهوم نفسه أو حتى دَحضِ آرائهم. على الرغم من ذلك، فإن لهذا النص أهميةً كبيرة؛ فهو يُمثِّل مجهودًا عظيمًا بُذل للإجابة على مجموعة من الأسئلة كثيرًا ما تظهر في أعمال فرويد من قبيل: هل يمكن لشيءٍ واحد التواجُد في الوقت عينه في عدةِ أماكنَ مختلفة والكشف عن نفسه بطرقٍ عِدَّة مختلفة؟ وكذلك: هل يمكن لشيئَين أو أكثر شغلُ حيِّزٍ واحد على نحوٍ متزامن والكشف عن نفسيهما بأنماطٍ متشابهة؟ إن إجابة هذه الأسئلة دائمًا ما تكون إيجابية، وأساس هذه الإجابة هو مفهوم التحديد المُفرِط أو التحديدات المُتعدِّدة، ذاك الذي تنبثق منه كلُّ تفرعاته. يبقى هذا المفهوم، الذي يُعد أَحدَ أكثرِ أفكارِ فرويد ثورية، غير مُستكشَف إلى حدٍّ كبير ليس فقط في التحليل النفسي، بل في العموم.

وهكذا فإن المقدمة لهذا النص المكتوب عام ١٩١٥ تبدأ بمقارنةٍ بين المكبوت واللاواعي، وهي المقارنة التي تُؤكِّد في الحال على كِبرِ مُحيطِ عالم اللاوعي الذي لا يقتصر على المكبوت؛ الأمر الذي من شأنه أن يثير تساؤلًا جديدًا: كيف لنا أن نتوصل إلى معرفة باللاوعي؟ (فرويد، ١٩١٥ج، صفحة ١٦٦). ثَمَّةَ إجاباتٌ عدَّة لهذا السؤال، أَوَّلها أن ثَمَّةَ ترجمةً جارية بين اللاوعي والوعي. وسيكون من الصعب الإفراط في التشديد على الأهمية الطاغية لفكرة الترجمة في أعمال فرويد.

يُقدِّم الفصل الأول نفسُه إجابةً ثانية للسؤال موضعِ النقاش، وهي إجابةٌ تنقسم إلى جزأين:

إن الوعي يجعل كلَّ واحدٍ منا واعيًا فقط بحالاته الذهنية، أمَّا امتلاك الآخرين لوعيٍ أيضًا مثلنا، فذاك استنتاج نتوصل إليه بالقياس من واقع أفعالهم وأقوالهم القابلة للملاحظة، لكي نجعل سلوكهم هذا مفهومًا بالنسبة إلينا … وقد كان هذا الاستنتاج (أو هذا التماهي) فيما سبق يمتد بواسطة الأنا إلى البَشرِ الآخرِين والحيوانات والنباتات والجمادات وللعالم عمومًا … ولا يتطلب التحليل النفسي أكثرَ من تطبيقِ عملية الاستنتاج هذه على أنفسنا كذلك … إذا فعلنا هذا، يجب أن نقول: كل الأفعال والمظاهر التي أُلاحِظها في نفسي ولا أدري كيف أربطها ببقيةِ عناصرِ حياتي العقلية يجب الحُكْم عليها كما لو كانت تنتمي لشخصٍ آخر؛ يجب تفسيرها من خلال حياةٍ عقليةٍ منسوبة إلى ذلك الشخص. (المصدر السابق، صفحة ١٦٩)

إضافة إلى ذلك:

في التحليل النفسي، لا يُوجد أيُّ خيارٍ أمامنا إلا التأكيد على أن العمليات العقلية هي في حدِّ ذاتها عملياتٌ لا واعية، وتشبيه إدراكها بواسطة الوعي بإدراك العالم الخارجي بواسطة الأعضاء الحسِّية. (المصدر السابق، صفحة ١٧١)

إن ما سبق يُمثِّل في الواقع إجابتَين مختلفتَين: الإجابة الأُولى تُقرِّر أهمية الإجراءات القياسية، بينما تُقرِّر الثانية احتمالية تطبيق هذه الإجراءات على العلاقة الفعلية بين الوعي واللاوعي. لكن منذ بداية الفصل يجب على القارئ إدراكُ أنَّ الحقائق المهمة التي تخضع للمُلاحَظة، وذلك فيما يتعلق بالتحليل النفسي، هي في الأساس هَفَوات، وأحلام، وأعراض، وأفعالٌ قهرية، وكذلك «أفكارٌ تخطر بأذهاننا لا ندري من أين، يصاحبها استنتاجاتٌ فكرية لا ندري كيف تَوصَّلنا إليها» (المصدر السابق، الصفحات ١٦٦-١٦٧).

وهكذا فإن الفصل الخاص بتبريرِ مفهومِ اللاوعي يتجاوز كثيرًا مُجردَ عرضِ قائمةِ حقائقَ تتيح تأسيس فرضية؛ إذ يُقدِّم كذلك منهجيةً لملاحظة هذه الحقائق؛ أي ترجماتٍ وقياساتٍ تمثيلية، وإدراك المرء لنفسه كعنصرٍ ينتمي إلى العالم الخارجي.

أَودُّ هنا التركيز على القياس التمثيلي بين الإدراك الذي يحدث داخل العقل وإدراك بقية العالم. كذلك يرتبط هذا القياس بالبيانات اللازمة لفهم أساليب التحليل النفسي المعاصرة. يقول فرويد: «إن حكمنا النقدي اليوم في ريبةٍ بالفعل فيما يخص الوعي عند الحيوانات؛ فنحن نرفض الاعتراف بوجوده لدى النباتات وننظر إلى افتراضِ وجوده في الجمادات كأمرٍ أشبه بالتصوُّف» (المصدر السابق، صفحة ١٦٩). لكن المشكلة لم تعُد وثيقة الصلة بالموضوع فيما يبدو؛ فمثل هذا التناوُل الخاص بالتصوُّف يبدو مرتبطًا بالاختزالية على نحوٍ ما. في الوقت الحاضر، وبناءً على المعرفة المتوافرة عن العُصاب والمُنبثِقة من التحليل النفسي، بعيدًا عن الطابع العلمي الذي يُميِّز زمن فرويد، يبدو أن تلك الاعتقادات تتطابق مع خطواتٍ أولية نحو إدراك المرء لذاته كإنسان، بعد إدراكِ انتماءِ الذات للعالم ومن ثَم الانتماء لعالمَي الجمادات والنباتات.

يُناقِش الفصل الثاني المعاني المتعددة لمفهوم اللاوعي والأسلوب الطبوغرافي. يبدو هذا الفصل حاليًّا معضلًا إلى حدٍّ كبير. وكما أشار المُحرِّرون البريطانيون للنسخة الأساسية، فإن هذا الفصل أقلُّ جودة من بحث ١٩١٢ج؛ نظرًا «لعدم وجودِ تمييزٍ اليوم سوى بين استخدامَين فقط للمفهوم وهما «الوصفي» و«المنهجي»، دون وجود أيِّ تمييزٍ واضح بين الأخير وبين «الديناميكي»» (المصدر السابق، صفحة ١٦٤)، وأيضًا لأن الربط بين الوعي وما قبل الوعي واللاوعي قد تَرسَّخ ووُضِع منذ زمنٍ طويل.

وإذا كان لا يزال لهذا الفصل أهمية، فهذا يُعزى إلى المقترحات التحليلية التي يعرضها والتي تظهر في إحدى فِقراته الأخيرة؛ حيث كتب فرويد يقول:

إذا أَوصَلنا للمريض فكرةً ما كان قد كَبتَها في وقتٍ ما لكننا اكتشفناها داخله، فإن إخبارنا له بها لا يصنع في البداية أي تغيير في حالته العقلية. وفوق ذلك، لا يُزيل ذلك الكبت ولا يُبطِل آثاره، كما قد يكون مُتوقَّعًا من حقيقةِ أن الفكرة التي كانت لا واعيةً فيما سبق أصبحت واعيةً الآن. على العكس، فكل ما سنحصل عليه في البداية لن يتجاوز الرفض المُتجدِّد للفكرة المكبوتة. لكن المريض، في واقع الأمر، يمتلك الآن الفكرة نفسها بشكلَين مختلفَين في مكانَين مختلفَين في جهازه العقلي: أولًا: يمتلك الذكرى الواعية للأثر السمعي للفكرة، الذي وصل عن طريقِ ما أخبرناه به. وثانيًا، يمتلك أيضًا — كما نعرف بالتأكيد — الذكرى اللاواعية لتجربته كما كانت في شكلها الأَوَّل. في الواقع، لا يحدث أي إلغاءٍ للكبت حتى ينشأ رابط بين الفكرة الواعية، بعد تجاوز المقاومات، وبين أَثرِ الذكرى في اللاوعي. وفقط من خلال تحويل الأخيرة إلى ذكرى واعية، يتحقق النجاح المنشود. وبنظرةٍ سطحية، يبدو لنا أن هذا من شأنه أن يُوضِّح أن أفكار الوعي واللاوعي تُعتبر تسجيلاتٍ منفصلة طبوغرافيًّا، تشترك في المحتوى نفسه. لكن التأمُّل للحظاتٍ من شأنه أن يكشف أن هُوية المعلومات المُعطاة للمريض مع الذكرى المكبوتة ظاهريةٌ فحسب؛ فسماع شيءٍ وتجربته أمران مختلفان تمامًا في طبيعتهما النفسية حتى لو كان محتوى الاثنَين واحدًا. (المصدر السابق، الصفحات ١٧٥-١٧٦)

إن الملاحظات عن الفارق وعن الروابط بين التجربة التي مَرَّ بها الشخص وتلك التي سمع بها ليست بجديدة؛ فقد ظَهرَت لأَوَّل مرةٍ عام ١٨٩٧، عندما كانت تلك الروابطُ أكثر تطورًا عما كانت عليه عندما ظَهرَت مرةً أخرى عام ١٩١٥. وفي عام ١٨٩٧، ذكرها فرويد مرتَين: الأولى في رسالة إلى فليس في السادس عشر من مايو في قوله: «تنبثق الأوهام، كما يحدث في الهستيريا، مما سُمِع ثم فُهِم فيما بعدُ.» يمكننا أن نفهم من هذه العبارة أن ثَمَّةَ مسافةً زمنية بين مصدر الفعل المُؤجَّل والتأجيل نفسه، وقد أَورَد في المسودة M، التي تضمنتها رسالةٌ أرسلها بعد بضعةِ أيامٍ لصديقه آنذاك الصياغة المُعدَّلة التالية: «تنشأ الأوهام من مزيجٍ لا واعٍ من الأشياء المسموعة والمُجرَّبة طبقًا لميولٍ مُحدَّدة» (فرويد وفليس، ١٩٨٥ (١٨٨٧–١٩٠٤)، الصفحات ٢٤٣، ٢٤٧).

يضعُف الرابط بين ما سُمِع وما جُرِّب في عام ١٩١٥؛ فقد أصبح المسموع الآن هو ما يسمعه المريض من المُحلِّل، دون أن يُوضِّح فرويد أن هذا يُضاف لما سمعه في وقتٍ سابق خلال طفولته التي تُعد بمنزلة «بلدٍ أجنبي» بالنسبة إليه. ويبدو هذا التعريف الجديد هو الأساس لمنهجٍ يتركز الشغل الشاغل للمُحلِّل فيه هو تفسيرُ تحويلِ المشاعر، مُستبعدًا بذل أيِّ جهد لإعادة البناء اعتمادًا على الذكريات أو أي تداعٍ جديد للأفكار.

تقود معرفة فرويد التحليلية إلى التشكيك في وجود عواطف لا واعية في الفصل الثالث، ومواجهة تعقيد الإجابات المحتملة. والحق أنه من المستحيل التحدُّث عن «مشاعرَ لا واعية» مثلما يستحيل التحدث عن دوافعَ لا واعية، بالنظر إلى أن التمثيلات الخاصة بالدافع تصبح محفورةً في اللاوعي؛ فالدوافع نفسها تنتمي إلى العالم البيولوجي، ومع ذلك، وكما تقدم لغة المحلل النفسي المعتادة فكرة المشاعر اللاواعية، فإنها تُحاوِل البحث كذلك عن التطابُق بين طريقتها في الحديث والواقع الذي تسعى بالتالي لوصفه. لذا يوجد بالفعل تَوازٍ محدد بين الدوافع والعواطف؛ لأن لها أساسًا بيولوجيًّا (تسارع دقات القلب، والتعرُّق، إلخ). على الجانب الآخر، يكون للمشاعر تمثيلاتها الخاصة في النظام الواعي. وربما تكون المشاعر نفسها إلى حدٍّ كبير مضاهيةً لترجمةٍ للدافع إلى شيءٍ يسهل عليه الوصول إلى الوعي:

ربما يمكننا القول إنه طالما يتحكم وعي النظام في إثارة المشاعر والقدرة على الحركة، فإن الحالة العقلية للشخص محل النقاش تُعتبر طبيعية … أمَّا إذا كان تحكم الوعي في الحركة الإرادية متجذرًا بقوة، ويقاوم على نحو منتظم هجوم العصاب وينهار فقط في حالة الذُّهان؛ فإن تحكُّم الوعي في تطوُّر المشاعر يكون أقل إحكامًا. (فرويد، ١٩١٥ج، صفحة ١٧٩)

وتُوضَح هذه الملاحظة اللافتة للنظر في حاشية:

يُفصِح التعبير عن العواطف عن نفسه على نحوٍ أساسي في شكل تفريغٍ حركي (إفرازي وحركي) ينتج عنه تغيُّرٌ (داخلي) في جسد الفرد دون أي إشارةٍ إلى العالم الخارجي؛ فالحركة في الأفعال تهدف إلى تفعيل التغيُّرات التي تحدُث في العالم الخارجي. (المصدر السابق، صفحة ١٧٩)

يبقى الأمر مَحلَّ جدالٍ وبحث لإثباتِ ما إذا كانت العواطف والمشاعر مرتبطةً بالأحداث الخارجية.

يُمهِّد هذا الفصل الثالث للفصل التالي، وهو غنيٌّ إلى حدٍّ كبير بالتأمُّل الإكلينيكي للتحليل النفسي. يُناقش الفصل الكبت، وهو مفهومٌ تأسيسي، وعنوانه «الطبوغرافيا وآليات الكبت». يقول فرويد إن الكبت يتوافَق مع «انسحاب لتركيز الطاقة النفسية»، لكن السؤال هو: في أي نظامٍ يحدث الانسحاب ولأي نظامٍ ينتمي ذلك التركيز الفكري المنسحب؟ (المصدر السابق، صفحة ١٨٠).

عندما يناقش فرويد هذه الأسئلة، يقتبس بكثرة من مقالٍ آخر من مقالاته، وهو الذي يظهر كذلك في «بحوث عن علمِ ما وراء النفس»، وكان بعنوان «الكبت». ولعل من المنطقي هنا أن نتساءل ما إذا كان من الضروري بالفعل تقديمُ جزءٍ مُخصَّص للكبت داخل دراسةٍ عن اللاوعي، بينما قدَّم المؤلف لِتوِّه دراسةً كاملة عن المسألة عينها منذ بضعِ صفحاتٍ مضت.

يأتي التساؤل عن منطقية هذا الأمر في ضَوء ما يبدو من إغفالٍ من جانبِ مُحرِّري النسخة الكاملة لجانبَين مُهمَّين من استكشاف النظرية الفرويدية فيما يخص هذه المسائل أثناء تقديمهم للبحث الخاص بالكبت، وفي مقدمتهم لبحوث اللاوعي. يقول فرويد هنا إن الكبت مُقسَّم إلى لحظتَين مختلفتَين: الأُولى، «كبتٌ أوليٌّ»، عندما يحدث انقسامٌ داخل الدافع حيث يُحظَر الولوج إلى الوعي والتمثيل الخاص بهذا الدافع. خلال تلك المرحلة، يحدث «تثبيت».

تُؤثِّر المرحلة الثانية من الكبت، الكبت الحقيقي، على الاشتقاقات العقلية للتمثيل المكبوت، أو تدخل تسلسُلات الأفكار الشبيهة، التي تنشأ في مكانٍ آخر، في اتصالٍ ترابطيٍّ معه. (المصدر السابق، صفحة ١٤٨)

في كلا البحثَين، البحث الخاص باللاوعي من الفصل الرابع والآخر الخاص بالكبت الحقيقي، تُوصَف الأمثلة التحليلية نفسها: تأثير الكبت في «هستيريا القلق»، وفي «الهستيريا التحوُّلية»، وفي حالات «العُصاب الوسواسي» (المصدر السابق، الصفحات ١٥٥–١٥٧، ١٨٢–١٨٥).

في مُقدِّمتهم لبحث الكبت، قَصَّر مُحرِّرو النسخة الكاملة تأثير الكبت على «عُصاب القلق»؛ حيث يكون الكبت، وفقًا لفرويد، أقرب إلى «الآليات الدفاعية». وفوق كل ذلك، وفي مُقدِّمتهم للبحث الخاص باللاوعي، يُقدِّمون كذلك للارتباك بين اللاوعي وعلمِ ما وراء النفس (المصدر السابق، الصفحات ١٤٣–١٤٥، ١٦١–١٦٥).

لكن أكثر النظريات اكتمالًا لدى فرويد عن الكبت من وجهةِ نظرٍ تحليلية هي تلك الواردة في نصه عن شريبر الصادر عام ١٩١١، الذي يَتتبَّع استكشاف المؤلِّف وتفصيله له خلال تبادُله للرسائل مع يونج وفرينزي، بينما تُستَقَى أوائل المناهج الفرويدية الخاصة بعلمِ ما وراء النفس من رسائله عن السوداوية مع فليس وأبراهام (برادو دي أوليفيرا، ١٩٩٧). يُعتبر جنون الارتياب والسوداوية من الموضوعات التي تُحتِّم أساليبَ فكريةً جديدة، وأعني تحديدًا نظرية التحليل النفسي والمنهج ما وراء النفسي للعقل؛ حيث يلعب الكبت دورًا كبيرًا. ويجب عدم الخلط بين علمِ ما وراء النفس وموضوعات دراسته، سواء كانت الوعي أو اللاوعي، أو الأعراض، أو الوهم. ويُؤسِّس فرويد لهذا في الفصل الرابع بالمُصطلَحات نفسها تقريبًا التي استَخدمَها في رسائله إلى أبراهام:

أقترح أنه عندما ننجح في وصفِ عمليةٍ نفسية بجوانبها الطبوغرافية والديناميكية والاقتصادية، يجب أن نتحدث عنه كتمثيلٍ «ميتاسيكولوجي». (فرويد، ١٩١٥ج، صفحة ١٨١)

وتَحرِّيًا للدقة، فإنه يقصد بكلمة «عنه» هنا الوصف الخاص بعقول العمل وليس العقل أو عمله نفسه؛ فأيُّ عمليةٍ عقلية أو حالةٍ عقلية بمفردها لا تُعتبر تمثيلًا «ميتاسيكولوجيًّا»؛ فقط يمكن لطريقة تفكيرنا به أو كيفية وصفنا لوجوده أن تكون هكذا.

من المثير مُقارنة الأمثلة التحليلية التي تظهر في البحث الخاص بالكبت والطريقة التي يتناولها بها فرويد في هذا الجزء من نصه عن اللاوعي؛ فبعد مقارنة الكبت بأنواع العُصاب الثلاثة الأساسية آنذاك — هستيريا القلق والهستيريا التحوُّلية والعُصاب الهَوَسي — في بحثه عن اللاوعي، نجده يصف ببساطةٍ تطبيقَ نمطِ الكبت في عُصاب القلق على النوعَين الآخرَين من هذا الاضطراب العقلي.

يعود فرويد في الفصل الخامس إلى دراسة اللاوعي الحقيقي، وفيه يُعرِّف فرويد السمات الخاصة لنظام اللاوعي. ويُعتبر هذا الجزء من البحث محل التدقيق جزءًا استثنائيًّا؛ فهو يُقدِّم قراءةً موجزة للغاية للعديد من أبحاثه الأخرى عن اللاوعي. على سبيل المثال، عندما يقول فرويد إن «نواة اللاوعي تتألف من تمثيلَين غرائزيَّين يسعيان إلى تفريغِ طاقتهما النفسية؛ بمعنى آخر، تَتألَّف من دوافعَ رغبية» (المصدر السابق، صفحة ١٨٦)، أو عندما يُلخِّص آلية عمل الأحلام؛ أي لا مجال لإنكار، أو إزاحة، أو تكثيف، أو سرمدية، أو خضوع لمبدأ اللذة، أو الاستبدالِ بواقعٍ داخلي آخرَ خارجي؛ حيث تظهر كل هذه التصريحات لأول مرة في كتاب «تفسير الأحلام». يمكن الدفع بأن الحلم يختلف عن اللاوعي، ومع ذلك، فإنهما يتشاركان الكثير من السمات، طبقًا لتعريف فرويد لكلٍّ منهما.

ومع ذلك، وبعد تعريفِ سمات اللاوعي، يمضي فرويد ليضع السمات الرئيسة لما قبل الوعي، بطريقةٍ تجعل سمات اللاوعي مُحدَّدة على نحوٍ قاطع بمناقضتها لسماتِ ما قبل الشعور. ويُدرك فرويد هذا فورًا إذ يقول:

لا يمكن تقدير الأهمية الكاملة لسماتِ نظام اللاوعي المذكورة أعلاه إلا بمقارنتها ومفاضلتها بسماتِ نظامِ ما قبل الوعي. (المصدر السابق، صفحة ١٨٨)

ثم يمضي نحو تفسيرٍ تفصيلي للسمات الأساسية لما قبل الوعي، وتتمثل في: تأسيسِ تواصُل بين محتوى التمثيلات بطريقةٍ تجعلها قد تُؤثِّر بعضها في بعض، وتنظيم عناصر هذا المحتوى وفقًا للزمن، وإدخالِ رقابة أو حتى مستوياتٍ عديدة من الرقابة، وتأسيس اختبارٍ للواقع ومبدأ الواقع، وأخيرًا، تعزيز تطوير الذاكرة في مواجهةِ آثار الذاكرة، التي تنتمي على نحو مُتفرِّد إلى تسجيلِ تجارب اللاوعي.

إن هذا الافتراض بوجود آثار للذاكرة لافتٌ للنظر، وربما يُشكِّك في بعض تصريحاتِ فرويد في الفصل الخامس وكذلك في العديد من الطرق التقليدية للتعامُل مع علمِ ما وراء النفس، والتحليل النفسي أو أساليبه.

في الواقع، وخلال مناقشة العلاقة بين نظامَي اللاوعي وما قبل الوعي، وهو موضوع الفصل السادس في بحثه؛ حيث يُكافِح لإقامةِ جسورٍ بينهما وبين الوعي وكذلك تأسيسِ فرضية المستويات المُتعدِّدة للرقابة، لا يتردد فرويد في الإشارة إلى أنه:

بالرغم من ذلك، سيكون من الخطأ تخيُّل أن اللاوعي يظل في حالةِ سكونٍ بينما يقوم ما قبل الوعي بكلِّ عملِ العقل؛ وأن اللاوعي قد انتهى أمره وأصبح عضوًا لا وظيفيًّا وراسبًا مُتبقيًا من عملية التطوُّر. من الخطأ كذلك افتراضُ أن التواصُل بين النظامَين مُقتصِرٌ فقط على تأثير الكبت حيث يُلقي ما قبل الوعي بكلِّ شيء يبدو له مثيرًا للاضطراب في هاوية اللاوعي. على العكس، فاللاوعي حيٌّ وقادر على التطوُّر ويحافظ على عددٍ من العلاقات الأخرى مع ما قبل الوعي، من بينها التعاون المشترك. باختصارٍ، لا بد من القول إن اللاوعي يمتد إلى ما يُعرَف بالاشتقاقات؛ أي «منفتح لكل تأثيرات الحياة» التي تُؤثِّر على نحوٍ مستمر على ما قبل الوعي، بل عُرضة، من جانبه، إلى تأثيراتِ ما قبل الوعي. (المصدر السابق، صفحة ١٩٠؛ التنصيص للتوكيد)

عندما يقول فرويد إن قاعدة مبدأ اللذة أو الاستبدال بواقعٍ خارجي آخرَ داخلي هي سماتٌ خاصة باللاوعي، يبدو أنه ينسى قوله إن هذا «الواقع الخارجي»، نفسه، إلى حدٍّ كبير، هو ما يُغذِّي «الواقع الداخلي»؛ لذا فإن التمييز بين «الخارجي» و«الداخلي» جديرٌ بالتجديد والدراسة مرارًا، بداية من التقييم الدقيق لما بُذل بالفعل للحصول على فكرة عمَّن حاول الحفاظ على تمييز محدود ومُحكَم للغاية بين هذَين العالَمَين وكيف قام بذلك، هذا من جانب؛ ومن سعى إلى الإشارة إلى التداول والتحرُّكات التي تحدُث بينهما، وكيف، من جانبٍ آخر.

وقد عرض هذا التصوُّر الفرويدي الأخير مرارًا:

«لكن اللاوعي يَتأثَّر كذلك بالتجارب الناتجة عن الإدراك الخارجي.» إن كل الطرق المؤدية من الإدراك إلى اللاوعي تبقى مفتوحةً بطبيعة الحال، وتلك التي تنبُع من اللاوعي فقط هي ما تكون عُرضةً للإعاقة والتثبيط بفعل الكبت. (المصدر السابق، صفحة ١٩٤؛ التنصيص للتوكيد)

على مدى الجزأين السابقَين من بحثه، كانت الأمثلة التحليلية التي يُقدِّمها فرويد متغيرة في طبيعتها؛ إذ لم تعد تنتمي لعالم العُصاب، بل إلى عالم اللاوعي واشتقاقاته؛ أي الأحلام والأوهام، والأعراض وعلم الأمراض العامة، إلى جانب اعتباراتٍ تخص أساليب التحليل النفسي التي تجعله معتمدًا كليًّا على الوعي.

لذا ينتهي الفصل الخامس كالآتي:

علاوةً على ذلك، يجب أن نكون مُتأهِّبِين للبحث لدى البشر على الظروف المَرَضية الممكنة التي يُغيَّر في ظلها النظامان، أو حتى يتبادلان، كلًّا من محتواهما وسماتهما. (المصدر السابق، صفحة ١٨٩)

كذلك، ونحو نهاية الفصل السادس، يقول فرويد:

إن أكثر ما يُميِّز أي حالةٍ مَرَضية هو حدوث انحرافٍ كامل في اتجاهات النظامَين وفصلٍ تامٍّ بينهما. (المصدر السابق، صفحة ١٩٤)

لذا، لا غرابة في أن يكون الفصل السابع والأخير من بحثه، وهو بعنوان «تقييم اللاوعي»، مُخصَّصًا بالكامل لدراسةِ فِصامِ الشخصية وتناوُلِه بالنقاش، بناءً على حالاتٍ سريرية ونظرياتٍ عرضها فيكتور تاوسك نَسبَها فرويد إلى نفسه. إذن يمكن إجمال الافتراضات والمُقترَحات الثورية التي صِيغَت كما يلي: يتعامل مرضى الفِصام مع الكلمات كما لو كانت أشياء، وبالتوازِي مع هذا، يُطوِّرون «لغة للأعضاء»، وهو الأمر الذي يُعد أقرب إلى الوسواس المَرَضي.

يجب عدم إغفال أهمية تاوسك بالنسبة إلى تاريخ النظرية التحليلية؛ فلا يكفي تذكُّر أن مفهوم التماهي الإسقاطي مُشتقٌّ من أفكاره عن تجربته التحليلية، وأن دراسات بيون عن أسلوب التفكير لدى المُصابِين بالفِصام واستخدام الكلمات يرجع الفضل فيها إليه. على الرغم من ذلك، فإن فرويد يُؤكِّد أَسبقيَّته وأَسبقيَّة أفضلِ أتباعه عندما يظن أنه قد وجد في هذه الفرضيات حُججًا أو أدلةً لحل المعضلة التي صاغها عن «التسجيل المزدوج»؛ حيث كتب يقول:

يبدو أننا الآن نعرف جملةً واحدة الفرق بين عرضِ الوعي وعرض اللاوعي. إن هذين العرضَين، كما افترضنا، ليسا تسجيلَين مختلفَين للمحتوى نفسه في مواضعَ نفسيةٍ مختلفة، وكذلك ليسا حالاتٍ وظيفيةً مختلفة للطاقة النفسية في الموضع نفسه؛ لكن عرض الوعي يضم عرض الشيء إضافةً إلى عرض الكلمة التي تنتمي إليه، بينما عرض اللاوعي هو عرضٌ للشيء فقط. (المصدر السابق، صفحة ٢٠١)

من اللافت للنظر أن فرويد يُعلن أولًا عن بحثه عن اللاوعي إلى لو أندرياس-سالومي، ثم يُنهيه بتأمُّلٍ طويل في فرضية تاوسك وتجربته التحليلية. إن هذا المُحلِّل الشاب قد حَصَل بالفعل على الكثير من الخِدمات من أندرياس سالومي؛ لذا يبدو أن بحث فرويد ينبثق من تحويلٍ مزدوج للمشاعر نحو واحدٍ من هذَين الحبيبَين السابقَين اللذَين تركا بصمة في حياته؛ إذ يحل أحدهما محل الآخر في أفكاره الخاصة (جاي، ١٩٩١، الصفحات ٢٢٠ و٤٤٨)، شأنه في ذلك شأن اللاوعي نفسه، الذي ينبثق من عناصرَ مُستبعَدة من الحياة الواعية أو غيرِ قابلةٍ للوصول إليها، إمَّا لخطورتها البالغة أو لكونها تبدو بلا جدوى.

هوامش

(١) لدراسة أفكار فرويد وهارتمان، انظر وايت (١٩٧٤) وبريس (١٩٨٥).
(٢) الأقواس داخل النص أُضيفت بواسطة المُحرِّرين.
(٣) على سبيل المثال، في رسالته إلى فليس في الرابع والعشرين من يناير عام ١٨٩٧ قال: «لقد بدأت أستوعب فكرةً ما؛ وكأن في الانحرافات التي تكون فيها الهستيريا هي الصورة السلبية …» ومُجددًا: «لذا فإن الأعراض التي تتشكل جزئيًّا على حساب الجنسانية «غير السويَّة»؛ إذن فالاضطرابات العُصابية هي، إن جاز التعبير، الصورة السلبية للانحرافات» (فرويد، ١٩٠٥، صفحة ١٦٥). من خلال ما يكتبه فرويد عن العلاقة بين اللاوعي والوعي، يجب أن نتوقَّع تصورًا يسير في الاتجاه المعاكس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤