الفصل الرابع عشر
وعاد فريزن في المساء إلى فِلَّا إليزابث ثانية، وطلب مقابلة جلالته فجيء به إلى غرفة سيرل الخاصة، فما كاد الأوستوري يدخل حتى بادره سيرل بقوله: فريزن، إنني أسعد رجل على وجه الأرض.
فابتسم فريزن وقال: إنك أنت الشيطان نفسه.
– اجلس أيها الرجل العجوز، وخذ كأسًا، ماذا تحب أن تأخذ؛ شرابًا إنجليزيًّا، ويسكي أسكتلنديًّا؟
وصب سيرل له كأسًا، وأخذ فريزن الكأس الذي قدمه إليه وهو يقول: وما الذي فعلته بنفسك لتكون أسعد رجل على وجه الأرض؟
– لقد جمعت لنفسي ذخيرة من الذكريات سوف تبقى معي طوال الحياة.
فابتسم فريزن بتهكم خفيف ثم قال: إنه ليدهشني أن أعثر على رجل غيرك يمكنه أن يجد سعادته في الذكريات وحدها!
– إذا لم يكن لديه سواها!
– بل يستطيع أن يجد سواها، وعلى الأخص في مثل مسألتك.
ولم يجب سيرل، فما كان ذهنه ليقف على الغرض الذي يرمي فريزن إليه.
واستأنف فريزن مهاجمته فقال بلطف: أما تعتقد يا برتراند أنَّ الأمر يتوقف عليك وحدك، فيما إذا كنت ترغب في إقامة سعادتك المستقبلة على أساس من الذكريات الواهنة أو على أساس أكثر اطمئنانًا وثباتًا؟
فقطب سيرل وجهه ثم عاد فضحك وقال سائلًا: يا للشيطان! ماذا تعني؟
– أعني أنه ليس في الظروف الراهنة ما يمنع من استمرارك في دورك.
وعبس وجه سيرل مرة أخرى، ولكنه كان أكثر دهشة من قبل، ثم قال: أظن أنني كثيف الذهن أكثر من اللازم أيها الرجل العجوز، ولكن ألا تستطيع أن تكف عن التكلم بالألغاز؟
– إنني لا أتكلم بالألغاز، وإني جاد فيما أقول، اصغ إلي، إن أخاك غير الشقيق في بادن بادن وقد اتصل بأمه وأخبرها بأنه لا يستطيع أن يتحمل مهام المُلك، إذ لا يرغب في الحياة أكثر من العيش بين ذراعي المرأة التي يحبها، ولا إخالك تجهل أنها سان أماند، وفوق هذا فهو سيتنازل عن جميع حقوقه في العرش لعمه الدوق دي بوردو. ومن هذا ترى أنك سوف لا تؤذي أحدًا، بل على العكس فإنك سوف تؤدي أعظم خدمة له ولأمك بتوليك قيادة مشروع الأسرة، الذي يكاد ينهار تحت رياسة جلالته الحاضرة، بل ولسوف تؤدي خدمة للآنسة كريستوف أيضًا … أوه! لا تقاطعني حتى أتم حديثي، نعم سوف تقدم لها أجلَّ خدمة، فإنَّ المسألة ستمر أمامها سهلة مستساغة، وأنا لم أصل لدرجة من الغباوة أو كبر السن ليبعد عن ذهني ما حدث بينكما هذا النهار؛ فقد لاحظت ليلة أمس أنك عاشق للفتاة من قبل. على أنني الآن أقول لك بصراحة: إنَّه سوف لا يعترضك أي عائق تخشى منه على سعادتك معها لو قبلت الأخذ بالاقتراح الذي عرضته عليك.
وساد صمتٌ طويلٌ كان فيه سيرل غارقًا في تفكير عميق، وأخيرًا تجاسر فريزن واسترسل قائلًا: سوف لا تكون هناك أي صعوبة في الطريق، هل فهمت يا برتراند؟
فرد سيرل كأنَّما قد قام من حلم: آسف! إنني لم أدرك تمامًا ما عنيته.
– أردت أن تعرف أنَّ كل شيء سوف يسهَّل من أجلك.
– أي شيء؟
– مثلًا، سوف لا تحتاج للظهور أمام الجمهور لبضعة أيام، سنقول: إنَّ الطبيب أمر بعدم خروجك من غرفتك حتى يندمل جرح يدك، وغاية ما هناك أنك سوف تستقبل واحدًا أو اثنين من المندوبين والممثلين الغرباء الذي سيتشرفون بالاستئذان في الرحيل، وهذا أمر بسيط كما ترى.
– أوه، تمامًا.
ثم ألقى سيرل برأسه إلى الخلف وضحك قائلًا: ولكن ألا تخبرني هل يعلم جلالة ملك فرنسا — أعني الملك الحقيقي — شيئًا عن هذه القصة التي لا نزال نقوم بأدوارها!
– لم يعلم حتى الآن، ولكنه سيعلم بها حالًا.
– هل ستخبره أنت بها؟
– سوف تخبره أمه.
– إذن فسيفسد عليكم ما رتبتموه.
– لن يتمكن من هذا، فإنَّ أمه وأمك تمنعه.
– تقصد أن تقول لي إن أمي ترغب في هذا، ترغب في أن أحمل أنا — ذلك الذي تكرهه — حقوق ولدها الذي تعبده؟! إنك تمزح، أليس كذلك؟!
– لم أكن جادًّا في حياتي أكثر مني الآن، إن والدتك قد تناست مشاعرها في سبيل الغرض الذي ترمي إليه.
وصمت فريزن لحظة، ثم استأنف في إلحاح: برتراند، يجب أن تفعل هذا من أجلي!
– من أجلك؟! وماذا تجنيه أنت من وراء هذه اللعبة القاسية؟! ثم لا تنسَ أنني ما كنت لأبدأ بالقيام بها لولا أنني كنت عاطفيًّا أبله.
– ولا بد أن تكون صديقًا لي أيضًا، والآن.
– والآن، فإني أقف أمامك وأمام نفسي موقف الكذاب المخادع، ولو تعلم كم أقاسي من جراء هذه الفكرة!
– هذه سفسطة عاطفية — إذا سمحت بهذا التعبير — إذ لا ينبغي لك أن تفكر في وجهة نظرك أنت الخاصة، بل فكر أيضًا في تلك المرأة التي تحبها وتحبك، في سعادتها وسعادتك، فكر في أمك وهي مهما كانت قد أساءت إليك في الماضي فإنها أمك على كل حال، وأخيرًا فكر في أخيك، وفيَّ أنا، فكر في هؤلاء جميعًا لا في نفسك وحدها.
وسكت فريزن ليترك كلماته تفعل فعلها، ولكنه لم يكن ليقف على شيء مما كان يجري في ذهن سيرل وقد جلس هذا سابحًا في أفكاره. ودقت الساعة العاشرة، فرفع فريزن بصره إليها وقد تتبع بعينيه حركة البندول وهو ينتقل بخفة مع كل دقة، وقد خُيِّل إليه أنَّ كل واحدة منها تقول على التتابع: نعم، لا! نفس الحالة التي كانت تشغل ذهنه.
والتفت فجأة إلى صديقه فرأى سيرل ينظر إليه في ابتسام، وإذا به يهز كتفيه ثم يقول ببساطة: هل لك في كأس آخر أيها الرجل العجوز؟
وكان من الصعب بعد هذا أن يصل فريزن إلى إدراك ما يجول بذهن سيرل؛ فقد حول هذا الحديث إلى اتجاهات شتَّى في الموسيقى والسياسة وغيرها، وملأ لفريزن كأسًا أخرى، وقد حاول هذا أن يعيده إلى النقطة التي تهمه، ولكن محاولاته ذهبت عبثًا. وأخيرًا تأمل فريزن يد سيرل المصابة ثم قال له: لقد كنت أعلم أنك لا بد ستدفع ثمنًا لهذه اللعبة، ولكني ما كنت أتصور أنك ستدفعه على هذا الوجه المروع، إنك يا برتراند إنجليزي أكثر مما تتصور في نفسك.
ولم يعلق سيرل على هذا بشيء، غير أنه تأمل في يده قليلًا وعلى فمه تلك الابتسامة العجيبة، وأخيرًا شد حبل الجرس فحضر رئيس الخدم، وودَّع سيرل صديقه، حيث شيعه رئيس الخدم إلى الباب الخارجي.