مقدمة

إتيكا فن الوجود

حين شرع فوكو في كتابة «تاريخ الجنسانية» كان يعي أنه حان الوقت كيما يُواجَه السؤال المؤجَّل طيلة أعماله السابقة وهو: وكيف يمكن للذات، أن تَسلُك بمعزل عن المعرفة والسُّلطة؟ إنه السؤال الذي ينقل إشكالية الجينالوجيا والأركيولوجيا معًا، من صعيد الطرح الموضوعي لتقنيات المعرفة والسُّلطة وتشابكهما الخارجي الاجتماعي والتاريخي، إلى النهج السلوكي الذي كان على الأفراد أن يتبعوه من أجل الفوز ثانية بنوع من الاستقلالية عن كل من الأنظمة المعرفية والسُّلطوية. ولا شك يمكن اعتبار هذا القسم الأخير من كتابة الفيلسوف والذي تضمَّن ثلاثة كتب، وكان يمكن أن يتَّصِل بكتاب رابع وأكثر لولا قطيعة الموت الأخيرة، إنه هو القسم الذي يُنهي عادة كل فيلسوف كلاسيكي إنتاجه، مُتوِّجًا إياه بالأخلاق.

و«تاريخ الجنسانية» بكتبه الثلاثة يمكن اعتباره حقًّا أنه فلسفة فوكو في الأخلاق. ولكن أية أخلاق تلك التي يقاربها؟ إنها أولًا تريد أن تتجاوز كل الأدبيات الفلسفية التي تُطرَح عادة تحت هذا العنوان، وأول ما يفعله فوكو هو تأكيد الفصل بين الأخلاق (La Morale) وبين الإتيكا (L’éthique). وهذا الفصل يُميِّز بين الأخلاق باعتبارها منظومة القِيم والأوامر والنواهي التي تنتصب في مستوى الشخصية القمعية للمجتمع، وبين سلوك الأفراد الذي لا يمكن اعتباره — مقدَّمًا — أنه مُندمِج في الأخلاق أو خارجي عنها؛ إذ يبقى السلوك هو أقرب إلى أصحابه ومُنفِّذِيه، من كل ما يمكن أن يُضاف إليه قسرًا أو طوعًا من الأوامر والنواهي، فالأركيولوجي لا يهمه منظومة الأخلاق من حيث هي مؤسَّسة اجتماعية أو دينية أو تاريخية، ولكنه يتوجَّه إلى سلوك الأفراد الفعلي تجاه ذواتهم أولًا. وهو ما يسميه فوكو بتقنيات ممارَسة الذات، بجعْلِها تكون بالنسبة للخارج كثَنْيَة مَوجَة في خِضَم العالم، كما يقول دولوز، بحيث تكون هي الداخل في الخارج، وهي الخارج في الداخل.

فحين سئل فوكو من قِبَل مُؤلِّفَي الكتاب الأمريكيين دريفوس، ورابينوف، عن فلسفته، ماذا سيكتبُ بعد الانتهاء من شروح تاريخ الجنسانية؟ أجاب الفيلسوف فورًا: سأهتم بذاتي … ليس معنى ذلك بالطبع أن فوكو أجَّل الاهتمام بذاته إلى ما بعد الانتهاء من مشاريعه الفلسفية الكبرى، كما أجَّل الكتابة في إتيكا الذات. فلقد كان الانشغال الذاتي — بالذات هو عنوان الهم الفوكوني الفلسفي، والفردي الخاص به في آنٍ منذ البداية. وهو منذ «تاريخ الجنون»، و«مولد العيادة» وصولًا إلى «الكلمات والأشياء»، «المراقَبة والمعاقَبة» كان محور تفكيره هو التحفير العميق الشامل عمَّا يقع على الذات من تقنيات الخارج الذي يمنع وُلوج الذات كداخل إليه، وصولًا في النتيجة إلى اكتشاف النَّقلة المختلفة التي تُشكِّلها تقنيات الذات إزاء ذاتها، ليس بمعزل عن هذا الخارج نفسه، ولكن في صميمه، وفي طريقة اختراقه، وجعله يقبل كذلك، بخارجيتها وسط خِضَمِّه.

لكن فوكو عندما كان يخطط للفوز أخيرًا بتلك الفُسحة من الوقت والمِساحة كيما يَنكَب على الانهمام بهموم ذاته فحسب، إنما كانت عَينه على ذلك الشعار الجَمالي الأخَّاذ الذي وضَعه نُصْب عينه وهو يبحث له عن أصول عريقة في ممارَسات الإتيكا اليونانية، والذي سمَّاه: فن الوجود. إذ إنه كان ثَمَّة تقنيات تُدار عبْرها الذات، فهناك كذلك جهد دءوب يشتغل على تزييح هذه التقنيات ودفعها إلى الخروج من آلية الفعل والانفعال، والتحرُّر من هَم مقاوَمة القمع، لتبلغ ذلك الحد التحوُّلي الذي يقلب سلوك الذات من مجرَّد ممارَسة آلية إلى تقنيات قادرة على إعادة إنتاج وجود الذات باعتباره إبداعًا فنيًّا هو نفسه.

ولكن من أجل بلوغ مثل هذه الرتبة حقًّا في نوعية التقنيات المتَّبعة في ممارَسة الذات التي تسمح بجعل هذه الممارَسة تتفوق على مختلف آثار المعارك مع القمع، والقولبة، والتجهيزيات، وآليات التصنيف والتعليب المُعدَّة، إنما ينبغي تحقيق القطيعة في بِنية معرفتنا للذات نفسها، التي يجب أن تُعادِل قطيعتها البنيوية نفسها الحادثة فعلًا وواقعًا. فالذات تقطع مع النصب الذي تنحدر عنه، مع الذاتية. إنها تخرج من مفهوم الذاتية «بالحرف الكبير» إلى أفهوم/ذات، بدون «أل» التعريف، «وبدون الحرف الكبير». وحين تتم النقلة من الأخلاق إلى السلوك (إتيكا) فلا بد أن نصادف تلك الذوات الكثيرة، التي تحملها أجسادها وتملأ علينا المكان. إنها تلك الذوات هي هذه الأجساد التي تسلك، تتحرك، تمارس أفراحها وأتراحها، وتعيش ليلها ونهارها، وتعصف بها المتغَيِّرات، ومتغيراتها الأخص بها، وتجعلها مختلفة وعادية وناقصة دائمًا … وساعية وغير ساعية. فالحديث عن سلوك يُجسِّد أمامنا صاحبَه. إنه الجسد الذي يحمل هيئته الخاصة، واسمه الفريد، وهو ما يحقق هَمَّ تكوينه بذاته. فهو الفرد الجديد الواحد القائم هنا أو هناك. وحيثما يتوقف يقوم مركز. وحيثما تدوس قدماه يرتسم محيط، فما أكثر مَراكزه ومُحيطاته.

فالذات تقطع مع الذاتية إذن. وانبثاقة الجسد هنا والآن تُغْني عن الذات نفسها. والفرد يصنع تكوينَه جسدُه الخاص. ويغدو الفردُ هكذا تُحفة وجوده. وهو ما يطمح إلى تحقيقه عصر فوكو المبكر الذي يبشر بمولد هذا الشكل من الفرد، شكل الفرد فحسب، وشكل الفرد هو ما يُولَد معه ويموت بموته. إنه الشكل الذي يعجز دائمًا عن أن يكون النموذج أو العام. وعجزه هذا هو سر حداثته الآتية بعد نموذج الحداثة، حداثة بدون نموذج. حداثة بعدية. ولكن فوكو لم يدَع هذا الاسم. ولقد فضَّل التمسك بمصطلح الذات، وأضاف إليه أيقونة الفرد؛ شرط أن يكون لكل فرد أيقونته غير القابلة للاستعارة أو النقل.

قبل أن يستعيد فوكو جمالية الفرد المبدِع، أو هذا الذي يمكنه أن يتحقق عبْر إتيكا فن الوجود، فإنه يُطبِّق نهج التكوين الأركيولوجي (الجينالوجيا/الأركيولوجيا) على حفريات تاريخ التقنيات المعروفة في الحضارات من أجل ممارسة الذات. وبالطبع فإن النموذج الأول الذي يُقدِّم أول شكل حقيقي واعٍ لمقاييسه وتَقيِيماته عن الفرد وممارسته لسلوكه الخاص، إنما تُوفِّره الثقافة اليونانية. فعند اليونان برزَت قيادة النفْس باعتبارها أعلى ما تُحقِّقه حكمة الفيلسوف، وهنا يستخدم فوكو مصطلحه عن «المركب الحيوي» ليعيد مضاعفة الذات بالخارج أو بالعكس؛ إذ إنه كيف يمكن للمرء أن يُوجِّه سلوكه وسط الآخَرين، إن لم يكن قادرًا على توجيه نفسه في انفعالاتها وأهوائها وأحوالها الخاصة. فإن تقنيات ممارَسة الذات إنما تشكل وجه الذات نحو ذاتها في الوقت نفسه الذي تُشكِّل فيه الذات عينُها نوعًا من ثَنِيَّة أو طَوِيَّة لأمواج العالَم الخارجي. ويفهم فوكو سيطرة الفيلسوف اليوناني على نفسه ليس إلغاء لحيويتها كما سوف يَحدُث مع الأخلاق المسيحية ونزعَتِها التَّطهُّرية والنُّسكية المُغالية، وليس تدخلًا لسُلطات العالَم الخارجي فيما تعنيه النفس لدى ذاتها. ولذلك كان هذا التفريق النوعي بين الجنسانية والجنس. إذ إن الأُولى تشتمل على مُجمَل التقنيات التي تدار بها الحياة الجنسية بمعناها الواسع والشامل. في حين أن الجنس كعملية حيوية مباشرة تؤلِّف جزءًا من رتابة العضوية. وهي لا تعني هذه التقنيات مباشرة. فالجنسانية تدخل مجال التحفير الأركيولوجي للكشف عن التقنيات التي تستطيع الذات خلالها التَّفلُّت من ضغوط السُّلطات الخارجية المحدِّدة لسلوكيتها، والانزياح خارج وطأة المعرفة الرُّتَبية أو المَقامية المعلَّقة فوقها، إنها تلك القوة الحيوية القادرة على تحقيق نجوعها الخاص، أو بالأحرى سُلطتها القُووية التي لا تنتمي لغير فعاليتها المباشرة، وقادرة على مقاومة إغراءات السلطات الأخرى وموانعها وزواجرها. والتخلص من موازين القوى ونسبها المتكلِّسة والتراتُبية، والفوز بالقوة القووية الخالصة، خارج علاقات قوى السلطات وموازينها فيما بينها.

ذلك ما يدعوه فوكو ممارَسة الذات. إذ إن هذه الممارَسة يجب أن تحقق الكشف والتأويل في وقت واحد لكل التقنيات المتبعة في خطاب فلسفي أو اجتماعي، أو خلال ظروف حضارية معيَّنة، عبْر هذه الممارَسة ينمو التأويل. ويترافق معه نوع من الحض على تحقيقها بما يفتح مجالًا للتبرُّؤ منها والفرار من تحت وطأتها إلى فسحة تتيح التغرُّب عنها والانقذاف إلى الخارج، كوسيلة لا تلبث أن تعيدنا إليها، وإلى التآلف معها. ذلك ما دعا دولوز إلى اكتشاف جدل الخارج والداخل عند فوكو الذي يبلغ أوج تعبيره وتكامله الفكري في هذه المسافة الأخيرة من رحلة الفكر الأركيولوجي عنده، والتي نحس الآن هذه العلاقة المباشرة مع الذات دون حاجة إلى ارتجاعات مستمرة نحو البِنَى الموضوعية لتشكُّلات المعرفة والسُّلطة، كما عرضَت مداخلها الرئيسية في الأعمال السابقة لفوكو. وهي تلك الأعمال التي ما كان يمكن للفيلسوف أن يواجه أخيرًا تقنيات الذات وممارستها وتأويها دون المرور بها والكشف عن حَفرِياتها التاريخية والتكوينية.

ولا شك أننا إذا سألنا ما هي الممارَسة الحقة التي يحض عليها البحث عن أركيولوجيا الذات، لكان جواب فوكو سريعًا، مشيرًا إلى أن أعلى أشكال هذه الممارَسة إنما تكون في التفكير، في تأمُّل وكتابة خطابها الذي لا ينتهي. في محاولة التقاطها، والكشف عنها وهي في حال التَّلبُّس بفعل الفكر والسلوك معًا. ها هنا يمكن للفكر كذات أن يتدخَّل في الفكر كذات ممارِسة من أجل تأويلها وبناء تجربة التغيير التي تقع عليها قبل أن تقع على أيِّ موضوع مرتبط بها. فإنه عبْر فعل التغيير إنما تنقذف ممارَسة الذات بين خارجها وداخلها، أو بينها وهي على مسافة منها، وبينها وهي في حال إلغاء هذه المسافة. فليس ثمة هدف كالتطابق يمكن أن تُوصِّل إليه تقنيات ممارَسة الذات، وإلا لكنا عُدْنَا إلى وحدانية الأنا المثالية. فحرض فوكو على فكر الخارج يجعله لا يفارِق أدواته الأركيولوجية أبدًا؛ إذ إن المطلوب هو الفوز بالذات وهي في أوج حيويتها، عبْر فعلها وانفعالها بالعالم، وليس التقاطَ الذات وهي جثةُ ذاتها.

فكر الخارج يقيم دائمًا مملكة الآخَر. والذات مشدودة إلى الآخَر لتُبقِي على استرواحها وإمكانية تهويتها وهي في حال الابتعاد عن مركزيتها، والالتقاء بالآخَر، والانخراط دائمًا في معركة الغُربة والاغتراب عن البيت والدخول في كنفه والالتجاء تحت سقفه.

كما أن أركيولوجيا الجنسانية هي غير سيكولوجية الجنس أو التحليل النفسي على طريقة فرويد أو لاكان وأتباعهما، كذلك خارجية الذات، وتقنيات ممارستها، ليست هي التواصلية مع الآخَر. فالتواصل، كما فلسفة هابرماز، يرفضه فوكو. ويعتبره سياقًا إعلاميَّا، في حين أن الالتقاء بالآخَر، هو التقاء بالجسد، لاكتشاف جسد الآخر كذات، أو ذات الآخر كجسد. والالتقاء هذا مثلمَا لا يكون ضمن حدود الذات تطابقًا بين الذات ونفسها، كذلك لا يكون في حدود الآخر تطابقًا معه أو مع ذاته. لكنه يشكِّل سباقات للرهان على الفوز بالحقيقة التي ليست فوزًا بتواصلية مُعيَّنة مع الخارج، أو فكر الخارج، ولا مع الآخَر القابع هناك. بل تتيح تجربةُ خروج الذات والالتقاء مع الآخر مناسبةً للتغيير. فلا تعني منطق علاقات القوى الذي يُشكِّل أساس التحليل النفسي الفرويدي؛ إذ ليس هناك نزوع لتمَلُّك تبسيطي للآخَر بقدر ما يكون البحث عن الآخَر فرصةً نادرة لإحداث تجربة تغيير للذات نفسها. إنها تشكل شروعًا أو استئنافًا لتشكيل بِنية أو انبناء للذات، تتيح مجالًا أو فُسحة من الفكر يمكن للذات عبْرها أن تنشِئ علاقة بنفسها في الآخر، وليس بواسطته أو من خلاله.

فضلًا عن أن أركيولوجيا الكشف عن تقنيات الذات تنأى بنا عن التحليل النفسي بشكليه الكلاسيكي (فرويد) والحداثوي (لاكان)، فإنها تضع حدًّا لكل ذلك التأويل الفني الناشط لفكرة الوساطة التي حرَّكت تراث المثالية الألمانية وصولًا إلى الماركسية والكانْطِيَّة المُحدَثة، فإن الآخر سواء كان العالَم أو الإنسان الآخَر، لم يَعُدْ مجرَّد واسطة معرفية وأدائية للاغتراب عن الذات، عن مركزيتها، ثم العودة إلى التطابق الكامل مع نفسها، فالتاريخ ليس عرضًا لإمكانيات الذات، ولا مرآة ترد إليها هويتها غَنية مُحمَّلة بفتوحاتها المعرفية في أرجائه الرَّحبة. ها هنا، أركيولوجيا فإن الداخل ليس سوى ثَنِيَّة للخارج، وإن الخارج يبقى امتدادًا سكونيًّا إن لم تحدث فيه تموُّجَات، ثَنيات، طَوِيَّات أو طَوايا، والثَّنِيَّة لا تتصل أو تتواصل ببحرها معرفيًّا، لكنها تُوجَد فيه. فالموجة تنشأ من سطح الخِضَم وهي كائنة من كينونته، لكنها تختلف عنه، تَعبُر بسطحه وعلى سطحه ولا تدوم. لكنَّ دوامَها الموقَّت هو سبب أو ظاهرة نُتوئِها الخاص فوق السطح الأملَس الممتَد إلى ما لا نهاية. إنها لو تنازلت عن نُتُوئها لاختفَت ذرة في لانهائِيَّته. ولذلك فالفيلسوف اليوناني أمَر بالتحكُّم في الذات كسلوك. وليس كأخلاق؛ لأن ما يَعنيه منها هو إمكانية أن يَسوسَها ليستطيع أن یَسوس الآخَرِين، لا أن يُخضِعهم. إذ إن إخضاع الذات يعني إلغاء وجودها، كذلك فإن إخضاع الآخَرِين يأتي نتيجة تدمير حريتهم. بينما الهدف هو أن تكون الذاتُ حرَّة، وبين ذوات أحرار آخَرين. لكن ذلك ليس هو واقع الحال، بل الواقع هو أنَّ الذات تَدخُل كقوة في صراع مع قوى الآخَرِين. هناك شبكيات لا تنتهي مِن نسيج السُّلطة والمعرفة، تَعُم علاقات الأفراد جميعًا فيما بينهم. وحتى يمكن التحرُّر من هذه الشبكيات ولو نسبيًّا، فإنه لا يتبقَّى إلا خلاص الفرد الفيلسوف بطريقة أن يعيد إنتاج ذاته كتُحفة فنية، كإنتاج لفردانيته المكتَشفة عبْر ممارَسة الذات في جسد الآخر الحقيقي، الذي ليس هو في النهاية إلا جسد الفلسفة، أو الجسد الفلسفي. بمعنى أن ممارَسة تقنيات الذات ليست شأنًا نخبويًّا فحسب، بل إنها هي التي تميِّز الإنسان المفكِّر. إنها ما يؤلِّف حقيقة الإبداع الفلسفي من حيث إن وجود الفيلسوف ذاته يغدو دليل قوته التي لا تنتمي إلا لذاتها، تغدو حقًّا قوة قووية.

حين يكشف فوكو أن السلوك الفلسفي عند اليونان لم يكن مجرَّد كبْح لانفعالات الذات من أجل التطابق مع فضائل أخلاقية مُعلَّقة في الفراغ، بل إن قيادة النفس ليست سوى هذا الانهمام الكلي بالذات الذي يُعبِّر عنه المصطلَح اليوناني بلفظ: Epimeleia Heautou. وهذا الانهمام يختلف عن شعائرية عبادة الأنَا التي أشاعَتها الحضارة الصناعية، والتي غدَت أشْبَه بنظام حياتي مُعلَّق لدى نخبة أهل كاليفورنيا في أميركا، كما يذكر فوكو، معبِّرًا عنه تحت اسم Salffashining، وهو نوع من تقديس الأنَا شِبْه السحري. والحق فإن المشروع الفوكوني للانهمام بالذات في الحياة الثقافية الراهنة، إنما يعتمد نهْج البناء والانبناء؛ إذ إن الانهمام يتحقق في عملية الانبناء للذات بالذات المستمِرة. خاصة وأن هذه العملية هي في جوهرها جمالية استطيقية وكينونية، أكثر منها أخلاقية أو أنانوية؛ لأن مثل هذا البعد الكينوني الذي لم يُصرِّح عنه فوكو إلا من خلال فَهمِه لما يَعنيه الانبناء، هو الذي يكفُل إمكانية أن تتحرر الذات من شبكيات الأنظمة المعرفية/السُّلطوية التي تسد على النفس منافذ الوجود والانطلاق من كل جهة؛ لأن هذه الشبكيات في النهاية لا تتيح للذات أن تَنبني حقًّا عبْر علاقات القوى. فهذه العلاقات إنما تُصوِّر الصراع على أنه تَملُّك من الذات أو خسارة لها. في حين أن الانهمام يعني طرحًا مختلفًا لمفهوم هذا الصراع واختيارًا مختلفًا لساحته وجَبهاته وبالتالي لمقاييسه ومعاييره. فليس المهم التملُّك من الذات، ولكن الأساس هو القدرة على بنائها. هو أن تُعبِّر الذات في كل لحظة انبناء عمَّا تكون عليه من قوة الانبناء، كثَنِيَّة أو طَوِيَّة على سطح البحر. إنها وهي في فكر الخارج دائمًا، هي ما تجعل هذا الخارج على شيء من الاختلاف، حين تطبعه أو تعيد تشكيله بداخليتها.

مثلما لا يكون الانهمام بالذات شأنًا أنانويًّا، ولا يؤدِّي إلى عزل الذات عن الآخرين واستعلاء الفرد على أنداده، فإن فوكو يُقصِي من ساحة اهتمامه كل أشكال صراعات الأنانية الغيرية التي ليست هي إلا حالًا معقدة من ظاهرات سوء التفاهم — كما يصفه — بين الذوات، وهي من رواسب الأنظمة السُّلطوية المعرفية التي لا تأتي مقاومتها والثورة عليها إلا باختراع أنظمة أخرى مضادَّة لها، وهو في الوقت نفسه يحاذر من الوقوع في أفخاخ الافتنان والتعلُّق بهيجاناتها. فالإخلاص لنموذج الانهمام بالذات اليوناني يفترض الوصول بالذات إلى حال من الاعتدال والتحديد لانفعالاتها، ذلك ما يؤسِّس حقيقة السعادة التي تحدث عنها الأبيقوريون. وشتَّان بين الأنَا المُفتَنَة بذاتها الساعية إلى تحقيق رغباتها مهمَا كانت، والجموح بها إلى أقصى أهوائها وانفعالاتها، كما تعرضها عبادة الأنَا المعاصرة وليدة الفُردوية في العصر الرأسمالي، وبين الذات التي تبحث عن تقنياتها خارج شبكيَّات القوى وصِداماتها المدمرة لبعضها.

فالانهمام بالذات هو حصيلة المبدأ السُّقراطي القديم الذي يطالب الإنسان أن يعرف نفسه بنفسه. حينما تختلف هذه المعرفة عن شِرعة الرَّعوِية المسيحية ورقابة التحليل النفسي الحديث لا يتبقَّى أمام الفيلسوف إلا سبيل واحد للالتقاء بالذات … وهو الانخراط في إعادة بنائها، وجعلها تعملي عن نفسها الشكل الذي يعبر عن تكوينها المبدع الذي يحققه المفكر عندما يحيل عيشه إلى نوع من فن الوجود. فهنا الذات لیست جوهرًا علينا العثور عليه والالتقاء به في حال من التطابق السكوني البارد. كما أنها ليست أصلًا ثابتًا يمكنه تفسير كل آليات السلوك. ليست لاشعورًا خفيًّا على طريقة الفرويديين علينا الكشف عن أسراره. إنها بالأحرى مشروع انبناء وتكوين. وهي لذلك تحيا حياة صانعها، تتمتع بأجواء النور وتتعشق دياجير الأسرار الروحية وليس العُقد النفسوية. فالذات ليست «نفسًا أمارة بالسوء» يجب التطهُّر من رِجسها، وكَبْتها ومعاقَبتها. ولا هي تلك الأعماق التي تعشش فيها كل خلفيات البدائية التاريخية وما ورائية الأهواء الاجتماعية، ومنطق صراعات القوى الأنانوية العمياء. فالتحليل النفسي المعاصر ليس سوى امتداد للرعوية المسيحية التي تترصد الذات باعتبارها دائمًا كائنًا خارجًا عن الشرعية أو القانون أو السوية الأخلاقية، وتقاليد «الاعتراف» المسيحية تغدو كذلك اعترافات الوسادة أو السرير في العيادة النفسية، مثل هذه المعرفة التي تريد أن تطارد النفس إلى أدق هواجسها لتُطهِّرها منها أو تصعدها سواء دينيًّا، أو تحليليًّا، إنما تقضي على إمكانية إعادة بنائها؛ إذ يفترض كل من التطهير أو القمع أو التصعيد أن الذات أو النفس إنما هي ذاكرة ماضيها المتكوِّن مرة واحدة وإلى الأبد. فلا يمكن إذن صُنع ما تمَّت صناعته. بينما الانهمام بالذات ينفتح على إمكانية الخلق والتغيير. يفترض الذات مشروع تكوين، قابلًا كل لحظة للانبناء والنشاط والتوجيه الحر. حتى يغدو الانهماك في تكوين الذات هو مصدر الفرح الحقيقي. فرح بالخلق، وتمتُّع متجدِّد بفن الوجود، فليس الابداع إذن مقصورًا على الفن، ولكنه إمكانية تقع في متناوَل كل فرد إذا أتقن معرفة كيف يحيا (Savoir vivre)؛ أي معرفة كيف يصنع الفرد حياته، كمدخل إلى فن الوجود الذي يكون بإقصاء هيمتة نظام المعايير، والتحرر من كل أثر لأصل ميتافيزيقي يمكن أن ترد إليه الذات.
فن الوجود ليس دعوة للمستقبل خالية من كل أصل واقعي، فاليونان فكَّروه وعاشوه. وأفلاطون كان لا يزال في محاوَرة السيبياد (Alcibiade) يربط الانهمام بالذات بسياسة المدينة. غير أن (أبيقور) هو الذي جعل منه هدفًا في حد ذاته. واستمر عبر ثقافة الرِّواقيين في العصر الروماني. وفي رأي فوكو فإنه «خلال التطور البطيء لفن الحياة تحت شارة الاهتمام بالذات، كان يمكن اعتبار القرنين الأولين من العصر الإمبراطوري ذروة المنحنى، ما يشبه عصرًا ذهبيًّا في ثقافة الذات.» لكن بالطبع مثل هذه الثقافة الذاتية إنما كانت من شأن النخبة المثقفة دائمًا.

إلا أن الحضارة الاستهلاكية المعاصرة التي أغرقت إنسانها ببحر من المُتع وألعاب الحياة الضحلة، أمدته بوفرة سطحية من إغراءات المسرات الهشة. وفي الوقت نفسه وضعته في رحابة ووساعة من أسباب المتعة بحيث إنَّ مجتمع الكتلة أفرز فردية جديدة على أنقاض كل نماذج الفردويات القديمة الرأسمالية والبروليتارية والعقائدية والدينية، وحتى الاستهلاكية ذاتها. إنها هذه الفردية المقاومة، النامية من أجواء وأصول مجتمع الرفاهية، والتي لا ترفض ملذاته ومُتَعيَّته، لكنها تثور على نزعاته التسووِيَّة، وتكسر حصار نَمطِيَّاته. تحاول أن تفيد من وفرته ورفاهيته، وتنتصر عليها في الوقت ذاته باختراق الصفوف المتراصَّة والألوان المتشابهة، والشروع مجددًا في تأسيس إتيكا الانهمام بالذات. بابتكار الممارَسات، وتنويع التقنيات، وجعل الذات مشروع تكوين وخصوصية وإبداع لا ينفذ. وكل ذلك ما كان له أن يتحقق لولا ضمور أخلاق الذاتيات الكليانية القديمة التي استأثرت بالمشروع الثقافي الغربي قبل عصور أنواره وبعدها. فالتحول الجديد الذي دعا إليه نيتشه منذ أواخر القرن التاسع عشر، وفَلسَفهُ هيدغر إلى أقصى حدوده الميتافيزيقية، نفَّذه فوكو في منهج ينسف أصول المنهجية، وخلال تنمية فلسفة، تخرج عن كل عادات الفلسفة ومصطلحها وجسدها المفهومي الجاهز. وهو كان بذلك يحقق ولا يدعو فقط إلى ما سُمِّي بالحداثة البعدية.

•••

يبقى التساؤل حقًّا، لماذا جعل فوكو أساس مقاربته لإتيكا الذات هي الجنسانية. فهل هو إقرار منه بما كانت الفرويدية تحاول إثباته وهو كون الجنس مركز الحيوية؟ حتى نلمَّ بالجواب علينا أولًا أن نعيد إلى أذهاننا الاختلاف الذي حققه فوكو بين الجنس من حيث هو آلية حيوية يضعها هو نفسه بالرتابة، مخرجًا إياها بذلك من حقل التحفير الأركيولوجي، وبين الجنسانية (La Sexualité) التي تحدث نقلة وانزياحًا فاصلًا عن قاعدتها الحيوية المتمثلة في الجنس كمُعطى مباشر، وقد سمح هذا الانزياح ﻟ فوكو أن ينقل البحث من ساحة الأخلاق (La morale) إلى ميدان السلوكية (L’Ethique) والتي دعوناها بالعربية الإتيكا محافظة منها على خصوصية إشارتها اللسانية في مظانها اللغوية الأصلية.

ولقد اصطلح فوكو على مقاربة الإتيكا غير ما دعاه بتقنيات ممارسة الذات. فالذات ليست جوهرًا سابقًا على ممارستها. إنها هي التي تتكون، تنبني، تعطي نفسها عبْر انبناءات التقنيات التي تجسدها كسلوك أولًا. وبالتالي فالذات هي التي تنبني عبْر الممارَسة، وليست هي البانية فحسب، وهنا يتجاوز الجنس صورته المجرَّدة كوظيفة عضوية آلية، ويدخل مجال السلطة الحيوية التي تعبِّر عنها، أو تجسدها بالأحرى، سلوكيات الذات. فليس المهم هو الجانب البيولوجي المخالِف الذي يحدده الجنس كما فعلت الفرويدية. ولكن هذا الجانب البيولوجي نفسه هو الذي يتبين عبْر اللغة، وعلى شاكلة أنظمتها اللسانية والفاعلة المتعلقة بها، كما حاول لاكان أن يقفز بالمفهوم الجنسي الفرويدي بهذه النقلة النوعية البعيدة المدى، لكنه كما رأي فوكو فإن لاكان لم يستطع أن يتحرر من كل عبء التحليل النفسي الذي ألقاه على عاتِقه هو نفسه بحكم حِفاظه على التراث الفرويدي مع الأمل بتطوير تأويله إلى حيز لساني محدود.

وحقيقة الاعتراض الفوكوني على التحليل النفسي، ليس كمنهج علمي أو علموي وممارسة عيادية، وخطابية نفسية اجتماعية متشابكة، فحسب، بل إن هذا الاعتراض ينسحب كذلك على الشكل اللساني الذي بلغة تأويل لاكان للفرويدية؛ ذلك أن لاكان لم يستطع أن يتجاوز النهج السببي أو العِّلِّي لفهم العلاقة بين الخطاب الجنسوي الخالص — إن صحت النسبة واللفظة — والخطاب اللساني. هو يظل يمارس عُدَّة التحليل النفسي كما لو كانت هي المؤهَّلة الوحيدة للكشف عن هذه العلاقة. وبالتالي فإن لاكان لم يخرج فعليًّا عن الأطروحة الفرويدية. بينما لم يرَ فوكو سببًا يدعوه إلى ممارسة مثل هذه الثنائية، والدخول في لعبة الغُمَّيضَة بين بُنى السلوك، وما يتصور على أنه الأسباب الخفية المحركة له في لغز هذا (الجنس، أو الليبيدو) الذي تُسند إليه من جديد كلَّ خصائص وقدرات الجوهر الميتافيزيقي، المنتج والفاعل لكل شيء!

فما تملكه أمامنا وفي ذاتها هو هذا الجسد، وهو فاعل اللذة كما هو فاعل القمع. ليس قوة تنوب عن سواه من قوى الخارج والداخل، ولكنه وهو يسلك ويفعل إنما يشكل حقل لقاء وصراع لهذه القوى وتمييز وتفريق لها، وتوزيع لمجاريها ومساراتها في آنٍ معًا. إنه الجسد/المركز الذي تقع عليه خطابات المراقبة والمعاقبة. وهو الذي يحمل كقاعدة حيوية المريض والمجنون والسجين، والإنسان اليومي الذي تقع في حيزه عقد المقاومات وأشكال القمع. ذلك ما يؤلف في كُلِّيته السُّلطة الحيوية. فليس ثمة سؤال: من أين تبدأ هذه السلطة الحيوية، وما هي عناصرها ومركباتها. كل ذلك يرجع إلى مناهج علموية مدعية. وقد أتى فاعل الجنس باعتباره هذه القوة السحرية التي تفك كل العُقد، وتحلل كل مركب، وتوضح كل غامض. وحتى الذين عارَضوا سلطته الوحدانية، فإنهم تبنوا ذات النظام المعرفي الذي أَنتج وحدانيته، فأعطوا تسميات أخرى لفواعل وحدانية كالطبقة أو الدور الاجتماعي أو الوظيفة إلخ.

فالقمع لا يتوجه إلى فاعِل مُعيَّن أو معزول في ذاته ضمن منطوق السُّلطة الحيوية، حتى ولو كان سمَّى هدفه المباشر والرئيسي بالجنس؛ إذ إن الجنس ينبغي تناوله عبْر الجنسانية التي تعيده إلى مكانه الطبيعي من شبكية أكثر تعقيدًا، تغدو فيها السُّلطة الحيوية مركبًا حركيًّا، لا سكونيًّا، يُولِّد باستمرار من حوله وفي ذاته تشكيلات سُلطوية معرفية، تلزم الخارج بأزمة الداخل، وتلزم الداخل بأوامر ونواهي وتشكيلات الخارج غير المتناهية، من تقاطعات السُّلطة والمعرفة حول الجسد وعليه وفيه. وحتى لا يتطور مفهوم السلطة إلى أُقنوم ميتافيزيقي أو شبهه، كما يحذر شارِحَا فوكو: (دريفوس، ورابينوف)، فإن تحديدها بالسُّلطة الحيوية في هذا القطاع الذي يريد إعادة استكشاف تقنيات الذات، يمكن أن يعطيها ما يشبه التجسيد الحسي والمادي المباشر. وتأتي السلوكيات الخارجية، والموصوفة بالاجتماعية لتضفي على تحققاتها اليومية بُنى عملية قابلة للتأويل الأركيولوجي والجينالوجي الذي يقدم عنه مشروع «تاریخ الجنسانية» سردًا تاريخيًّا بنيويًّا من نوع جديد، في كتبه الثلاثة التي ظل ينقصها الكتاب الرابع؛ وهو «اعترافات الشهوة» وقد ألغاه موت كاتبه الفُجائي، بعد الإعلان عنه من ضمن برنامجه في مشروعه عن تاريخ الجنسانية.

يوسع فوكو من مفهوم القمع وآلياته حتى يمكنه أن يراه في كل ما من شأنه إدخال الجنس تحت شبكيات العلوم المادية والنفسية والتربوية والأخلاقية. إذ إن التحليلية التأويلية لقصة هذه العلوم وتدخلاتها المتنامية في أخصِّ أسرار الحياة الفردية تكشف عن أشكال الاستراتيجيات التي اتبعتها مركبات السُّلطة والمعرفة من أجل إخضاع الجسد الإنساني، وإعادة تربيته وتوجيهه بما يحفظ في النهاية التوازن الديموغرافي والصحة الاجتماعية، ويتماشى مع تطورات أوضاع الإنتاج وسوق العمل. بحيث يظل الفرد دائمًا سواء في العصور المسيحية، أو البرجوازية والرأسمالية وحتى ما بعد العصور الصناعية المتأخرة، يظل الفرد هدفًا للتسلط على أسراره، وكشف خفايَا ذاته، ومطاردة أدق أحاسيسه، حتى لا تفلت من الرقابة التي تخدمها العلوم وتقدم عنها كشوفًا معرفية أشمل وأدق في كل مرحلة مِن تقدُّم العلم بالنسبة لمراحله السابقة. فهذه المعارف تجعل قوام الشخص شفافًا مكشوفًا إلى أدق خلاياه تحت مجاهر التجارب والتحليلات والاستمارات. فالسلطة الحيوية تنتج منها وضدها سلطة رقابية، وذات فعالية في قولبة وسبك الشخصية الإنسانية بما يتناسب واستراتيجية السُّلطة العامة المُنبثَّة في مختلف خلايا المجتمع والفرد ومؤسساتهما الذاتية والموضوعية.

حتى التحرُّر الجنسي الذي بلغَتْه أخيرًا أوروبا فإنه يدخل في شبكية هذه الاستراتيجية الشمولية ولا يكاد يخرج عنها، بالرغم من كل مظاهره في التمرد وتجاوز الحدود وإشاعة شتَّى الانحرافات. فالطبيب الفيزيولوجي والمحلل النفسي والمرشد الديني والموجِّه الأخلاقي والتربوي هم فعلاء اجتماعيون ينفذون تعاليم وتوجيهات تلك الاستراتيجية الشمولية لمركَّبات المعرفة والسلطة. يحددون مقاييس الخطأ والصواب، الصحة والمرض، حالات الاستواء والانحراف. ويجعلون سبيلهم إلى کشف ذاتية الفرد، وتوجيهها، تقنيات الاعتراف المشتقة أصلًا من الاعتراف من الاعتراف المسيحي. فلا تتبقى رغبة للجسد خارج خطاب منظَّم ومُصنَّف.

لكن كل ذلك لا يعني أن الفرد قادر على النجاة بذاته. وأنه يمكنه أن يبتكر خطابه الخاص، ويؤسِّس تقنيات شخصية يمارس من خلالها معرفته الخاصة بجسده، ورغباته ونوازعه الشخصية، فقد يمكن للاستراتيجية العامة للرقابة أن تتحسَّس وتدخل حس الفرد وجسده، ولكنها بالمُقابل تخضع بدورها لتقنيات قد يبتكرها ويبدعها الفرد ذاته ويستخدمها لصالح تكونه الخاص. وهنا يعود تراث الفردانية ليزود الفيلسوف المعاصر بخبرات لا تنفذ في مجال احتيال الفرد ودهائه من أجل الفوز مجددًا بالحياة المختلفة. ذلك أن القسر الخارجي ليس دائمًا عنفًا، في رأي فوكو، لا يمكن تزييحه وإزاحته. وهو بقدر ما يستخدم وسائل الإكراه حتى بالإقناع واستخدام الأنظمة المعرفية المتسربة إلى أعماق العقل الفردي، ويستعملها لتسهيل مهمة الهيمنة والقولية، بقدر ما يفعل ذلك فإنه تتبقى لتقنيات ممارسة الذات فُرص حقيقية عديدة لإعادة الفصل في مركَّب المعرفة والسُّلطة، بين هذين الحدين والشطرين. واسترجاع منطوق المعرفة مجرَّدًا عن حبائل السلطة، بهدف أن تغدو المعرفة باعثة على سلطتها الخاصة؛ أي قادرة حقًّا على تنمية أنواع لا تُعَد ولا تُحصَى من خِطابات التحرر، تُكافئ عدد الأفراد غير المتناهي، الباحثين عن ذواتهم، والمُناضِلين من أجل الفوز بها سليمة معافاة، والتمتع بها كمصدر حقيقي ووحيد للحرية والحياة معًا. وهي تلك الحال التي تصبح فيها السُّلطة الحيوية مجرَّد قوة قووية، خارجة سليمة من كل معارك إثبات الذات ونفيها، صناعة الذات واستلابها. إنه إنقاذ مشروع الذات، من الأفخاخ والتي تترصَّده لتدمره أو تُزيِّفه على الأقل حتى في عين نفسه.

•••

لكن إذا أمكن لنا أن نكتشف من خلال أركيولوجيا ممارَسة الذات نماذج العلاقات التي أقامها الإنسان المُفكِّر مع ذاته، فإنه لا يزال أمام فوكو بصورة خاصة أن يحدد تلك العلاقة مع الجنسانية، مع الحياة الجنسية، إذ إن السؤال حول: أين تقع الجنسانية من الذات؟ وكيف تكون العلاقة مع الذات هي علاقة في الوقت نفسه مع الجنسانية؟ هذا السؤال، كما تَنبَّه إلى خصوصية إشكاليته دولوز عند فوكو، فإنه يجيب عنه أن هذه العلاقة لا تقوم ولا تتبدَّى إلا من خلال تَحقُّق سلوكية الذات نفسها عبْر الجنسانية، أو خلال الخطابات المتنوعة والمُتصارِعة للجنسانية سواء ضمن الأطر الاجتماعية والظروف التاريخية، أو عبْر ظرف الفرد نفسه وآنية وجوده المباشر. هناك إذن نزوع نحو التشكل دائمًا. وليس ثمة تشكُّل جاهز أبدًا.

فكما لا يمكن تعليم الفنان المبدِع كيف يخلق سمفونيته أو لوحته، كذلك فليست هناك تعاليم جاهزة ومُعدَّة لتجهيز الفرد بتقنيات معينة للفوز بذاته كقوة قووية. لكن بناء الداخل، وتحقيق الثَّنِيَّة (ثنية الموج) في سطح الخِضَم، لا يتم إلا وسط الخِضَم نفسه. بمعنى أن بناء العلاقة بالذات إن كانت تبدو في بدايتها حركة خَلاص نحو الداخل، إلا أنها ما إن يتم انبناؤها حتى تعود إلى الخارج، وتتورط من جديد في صراع السُّلطات التي هي مَعارف، والمعارف التي هي سلطات. فإن انبناء الذات عبْر توازن الاعتدال الذي دعا إليه أفلاطون، يساعد على إدارة شئون المنزل، وتلطيف طواعية الزوجة، والمشاركة الإيجابية في مواطنية المدينة/الدولة.

فما ينبغي أن نُنبِّه إليه عبر هذه التأويلية التحليلية لإتيكا الذات أن الأصل هو في تحقیق انبناء الذات، وليس في التطابق معها. إذ لا يمكن للذات أن تنبني إلا في ممارَسة تقنيات العلاقة مَعها التي عليها أن تصل بما ليس هو مُتحقِّق منها بعد، أكثر من أن تتصل بما هو متحقق فعلًا. وتلك هي المسافة التي يقطعها فكر فوكو بعيدًا عن مُسلَّمات عصره، سواء منها في مجال التحليل النفسي أو بقية العلوم الإنسانية المأخوذة بجدلية الهويات الذاتية، أكثر مما هي مهتمة أو دارية حقًّا بما يمكن للذات أن تفعل وهي مجردة من «أل» التعريف؛ أي وهي ذات بعيدة عن أية ذاتية (بالحرف الكبير)، أو ذاتوية، غير أنه، كما أخذ على هيدغر أنه لم يستطع أن يُميِّز بين الذاتية والذات، أو بين الذات والفرد، فإن فوكو يظل أسير هذه اللعبة هنا كذلك وإلى حد ما. وقد شغل في کتابه «استعمال اللذات» بتصنيف حالات تذويت الذات، أو تحقيقها. ويأتي دولوز ليبرز هذا التصنيف على طريقته، التي يحلو له عبْرها الذهاب في تأويل الفوكونية إلى حدود الامتزاج المبدِع بالدولوزية — إن صح التعبير — فإن فكرة أو مصطلح الثَّنِيَّة تغدو همًّا رئيسًا عند دولوز ليحل مشكلة خارجية الداخل، وداخلية الخارج. وهو يرى أنَّ التذويت ليس هو إلا حركة تَثَنِّي الداخل على الخارج، أو بالعكس. وأن هناك أربعة أشكال من التَّثَنِّي التي تصلح في رأيه للتعبير عن أشكال انبناء «أو تذويت» الذات. فما يتعلق بالجانب المادي منها إنما يضمُّه الجسد عند اليونان، وملذَّاته. غير أنه عند المسيحيين يغدو هو الشهوة، اللحم ورغائبه. والرغبة هنا تأخذ صياغة جوهرية مختلفة تمامًا عن مفهوم اللَّذة اليونانية؛ لأنه في حين تكون متعة الجسد عند اليوناني مقبولة ومرحَّبًا بها، شرط أن تخضع لمبدأ الاعتدال في معاناتها وفي أسلوب تحقيقها، فإن المتعة تتحول إلى مفهوم الشهوة المحرَّمة في المسيحية المرادفة لأفعال الخطيئة أو المتسبِّبة في حدوثها، والتي لا تَلقَى إلا حدًّا أدنى من القبول في تحويلها إلى مجرَّد واجب مكروه لإنجاب الأولاد والحفاظ على النَّسل البشري، دون أدنى تورُّط في عشق اللحم بحد ذاته.

أما الثنية الثانية، كما يعرضها دولوز تعبيرًا مختلفًا عن تصنيف فوكو الأصلي، فهي المرتبطة بعلاقة القوى مباشرة. وهناك دائمًا قاعدة وحيدة تقريبًا تَتثنَّى بموجبها علاقة القوى كيما تغدو علاقة بالذات. وبالطبع لا تكون هذه العلاقة نفسها عندما ترتكز إلى قاعدة طبيعية فاعلة — كما كان الأمر عند اليونان — أو قاعدة إلهية (المسيحية) أو عقلانية أو جمالية (كما هي في عصور الأنوار وما بعدها).

أما الشكل الثالث للتَّثَنِّي، فهير ثَنيَّة المعرفة أو الحقيقة، باعتبارها علاقة للحق بكينونتنا وعلاقة لكينونتنا بالحقيقة. بحيث تُشكِّل شرطًا حاسمًا لكل معرفة. ذلك هو تذويت المعرفة الذي يختلف فهمُه وممارسته ما بين اليونان والمسيحية، ما بين أفلاطون وديكارت أو كانط. وهنا المقصود أن انبِناء الذات يأخذ أشكال كيانات مختلفة بحسب علاقتها بالمعرفة، فتغدو علاقتها بذاتها مُتمفصِلة مع علاقتها بالمعرفة؛ حتى لا نقول إن بينهما رابطة السبب بالنتيجة.

يبقى أخيرًا الشكل الرابع للتثني. ويحدده دولوز، تأويلًا لفوكو، بكونه علاقة أو ثنية الخارج. وهي العلاقة القصوى التي يدعوها بلانشو: «داخلية الانتظار». فمن طوية الذات على الخارج، أو الخارج على الذات، من هذه الطوية والثنية «تنتظر الذات أن يأتيها بطرق متباينة الخلود، أو بالأحرى الأبدية، أو السلام، أو الحرية، أو الموت. والانقطاع …» ويشرح دولوز هذه الثنيات الأربع على ضوء ذلك التوزيع المنطقي (من علم المنطق) الذي تنقسم إليه أنواع العلية أو مبدأ السببية. فالشكل الأول للتثني أو الثنية الأولى يقابل مبدأ العلية الغائية. ويقابل الشكل الثاني مبدأ العلية الصورية، والثالث مبدأ العلية التوليدية، والرابع مبدأ العلية المادية للذاتية أو للداخلية باعتبارها علاقة بالذات.

والمهم أن هذه العلاقات الذات أنها تعطي كذلك صيغًا معينة للعلاقة مع الجنسانية. وهي في مجملها تؤلف أشكال تذويت الذات، أي صبها في بنى محددة من العلاقة معها وفي ممارسة تقنيات تحقيقها في آن. أما التذويت المتحرر حقًّا من كل علاقات الذات الأركيولوجية السابقة هذه فإنه يظل واقعًا على مسافة معرفية زمنية ليست بعيدة رغم عمقها التاريخي، لأن لها حضورها الراهن بحيث يجد التذويت الحداثوي نفسه مجبرًا على اختيار أحد اشكال التذويتين الرئيسين، اليوناني أو المسيحي. وهو ما يدفع إلى محاولات العودة في الآداب المعاصرة إلى أحد النموذجين بصورة مستمرة من أجل الفوز بذات غير ذاتوية. ومع ذلك تبرز النمذجة فيما يخيل للمرء أنه فرادة اختياره. وهو ما أطلق على ظاهرته المخرج الايطالي أنطونيوني هذه الوصفة: إننا نحن (الغربيين) مرضى بإيروس … — الاستشهاد لدولوز.

هذه الثنيات الأربع التي تشكل أركيولوجيا الجنسانية حسب أشكال تقنياتها في ممارَسة الذات إنما ترجع إلى التراث أكثر مما هي لها حضورها الراهن. ولذلك يستمر سؤال دولوز. ماذا يتبقى لنا نحن أبناء الحداثة من إمكانية علاقة جديدة أو متميزة بالذات تتجاوز تلك التقنيات.

لقد استهلكَت أشكالُ العلاقة بالذات كلَّ نماذج الفردية السابقة ضمن تصالبات المعرفة والسُّلطة. فهل يمكن حقًّا التأمل ببلوغ تلك اللحظة التاريخية التي فيها يمكن بناء الفرد خارج كل نماذجه السابقة، إن حالة الاستهلاك الراهنة التي تعيها الحداثة البعدية الحاليَّة تجعل العلاقة مع الذات تبدأ من هذا الفراغ عينه، من اضمحلال التشكيلات الفردية القديمة وعدم قدرة أحدثها، وهي تلك التي عاصرت هجمة التحليل النفسي، خاصة في عهد (لاكان)، على تصحيح العلاقة مع الذات، وذلك بنقل مركز الاهتمام من اللذة إلى الرغبة أو الشهوة. إلا أن لاكان، كما رأينا، لم يستطع، ومثلما كشف فوكو، أن يفصل إبستمولوجيًّا أولًا بين منهجية فرويد — التي بقي متعلِّقًا بها، وممارسًا لها، باعتباره محلِّلًا نفسيًّا أساسًا — وبين إشكالية النقلة النوعية من اللذة إلى الشهوة أو بالعكس التي تنبني الذات على أساس التعبير عنها، النطق بها، والسلوك نطقيًّا — لسانيًّا من خلالها، وعلى الرغم من صعوبة التمييز حق بين الرَّغبة (الشهوة) واللذة أو المتعة من وجهة تحلينفسية، إلا أنه على الصعيد الأنتولوجي، فإن المتعة تشغل حيزًا؛ فهي من عالم محدَّد موقعيًّا. إنها فكرة تحقق الذات خارجيًّا, فالمتعة مَواقِعية في حين أن الرغبة تجريدية أو على الأقل غير مَواقعية، حتى لا نقول غير محايثة، والرغبة ليست زمانيًّا سابقة للمتعة. ليست هي تاريخها ولا صانعتها … حتى لا نقول إنها عِلَّة لها مولِّدة ومكوِّنة. بل إن مواقعية المتعة هي التي تبين ممارَسة الذات، تجعلها تجد نفسها خارجًا منها، في هذا الموقع الذي تذهب إليه وتَتحقَّق فيه، إنها ثِنْية الداخل على الخارج من أجل أن ينثني الخارج على الداخل. فتتجسد هذه التَّمفصُلية فيما يُبَنْيِن الذات ويقدمها خارجية/داخلية، وبالعكس. عندئذ يمكن أن ينظر إلى هذا الانبناء الراهن عبْر مواقعية اللذات على أنه قد يكون لهذه اللذات ثَمَّة تاريخ وراءها، ندعوه الرغبة، ولكن بعد أن تتحقق.

فإن أركيولوجيا الجنسانية خلال الحقبة المسيحية إنما كانت تَعدم المتعة انسجامًا مع منطلقها الأيديولوجي الذي لا يرى للذات ثَمَّة موقعًا؛ لأن هذا الموقع في الأقل غير موجود، باعتباره غير مشروع، مجرَّد «خطيئة». فارتداد المتعة إلى جذر الرغبة أو الشهوة يجعلها حبيسة في ذلك المكان المجرَّد من الذات الذي لا موقع فيه. وبذلك تزول العلاقة التمفصلية بين الداخل والخارج، حين ينعزل الداخل في داخله. ويغدو اسمه ذاك معرَّضًا للاضمحلال لانتقاء العلاقة، بعد أن ينعدم أحد طرفيها وهو الخارج. فأي داخل ذاك الذي لا خارج يقابله؟! أو بالأحرى أي خارج ذاك الذي يقابله داخل مسكون برغبة مضادَّة متعالية تحاول أن تقمع لحمه إلى حد إزالته من الوجود؟!

إن تاريخ أركيولوجيا الجنسانية، كما عرضه فوكو وقبل أن يضع تصميمًا على تجاوز نصبه وحفرياته، إنما كان ينيط تقنيات ممارَسة الذات بواحد من كِلا النموذجين المطروحين، اليوناني أو المسيحي. لكن ما تُصمِّمه الفردية الحداثية هو ألا تكون تارة مع المُتعة ضد الرغبة، أو مع الرغبة ضد المتعة. فهنا مع الاعتراف بكل ساحات الصراع المشرعة دائمًا بين علاقات القوى والمعارف، وعقدهما وأوامرهما، فإن ثَمَّة مطمحًا لنقل الفكر إلى الساحة التي أبعد عنها دائمًا، وهي أنه فكر الخارج، فكر الضوء والصوت، الضوء الواقع على أشياء دائمًا ومفردات، والصوت الذي يجعل الأشياء تتكلم. والذات ليست مصدرًا ولا مركزًا للشروط أو الظروف المُطلقة، بقدر ما هي مشتَقٌّ كلامي. إنها قد تكون مركزًا تتصالب عندها الأضواء والأصوات. ولكنها هي في حد ذاتها أحد هذه الأضواء والأصوات، وقد تكون من أهمها. فهي مفردة من بين المفردات الأخرى التي تنبني عبْر الإشارات اللغوية التي تطمح إلى أن تحل محل المفرَدات والأشياء جميعًا بما فيها مُفرَدة الذات، باعتبار أن هذه الإشارات نفسها إنما تتشكل ضِمن شبكيات علاقات القوى والمعارف. فهل ثَمة بُعد آخر تستطيع الذات خلاله أن تخترق هذه الشبكيات وتبني علاقة مع ذاتها لا تمر عبْر علاقة السُّلطة أو علاقة المعرفة.

لكن مع ذلك يبقى هذا السؤال معرفيًّا (إبستمولوجيًّا) ويُذكِّر بأسئلة كانط الثلاثة الرئيسية. ويعلم هذا فوكو جيدًا وهو يعيد إنتاج الإبستمولوجيا الكانطية كلها عبْر كتابه العمدة «الكلمات والأشياء». فإذا كانت الإشكالية لم تتغير إلا أن موضوعها هو الذي ينتقل عند فوكو من البحث في مبادئ المعرفة، إلى ظروف تُكوُّن المعارف ذاتها، شرط ألا نجعل الظروف تختلف لفظيًّا فقط عن المبادئ؛ إذ إن التغيير لا يقع فقط على بِنَى المعارف، ولكن شروطها أو ظروفها هي التي تتباين كذلك ولا تعلو فوق مُعطَيات الصوت والضوء. وكل ما تهدف إليه أركيولوجيا فوكو هو ألَّا تدلَّنا فقط على بِنى المعارف وتكوُّناتها المتباينة إلى ما لا نهاية، ولكنها تريد أن توصلنا كذلك إلى أرض المعرفة العذراء؛ أي أرض الخلاء تلك التي تتخلل المساحات والشقوق المُهمَلة ما بين المعارف الكبرى، وقد صارت أنصابًا وتماثيل للتأمل والعبادة.

وهنا على صعيد ممارَسة الذات فإن استعادة العلاقة البريئة معها إنما تتطلَّب تجاوُز كل الأبنية الكلامية اللغوية التي اعتادَت أن تُعرِّفنا بها. لكن ذلك لا يعني أبدًا ألا تكون الذات مجرَّد مشتق لغوي دائمًا؛ لأنه في الحقيقة ليس وراء هذا المشتق ما يتقوَّم ذاتًا أو ذاتية، وإنما فردًا لا يملك إلا جسدًا. وهذا الجسد هو الذي يكتشف الضوء وما يُضيء، والصوت وما يصدر عن الصوت أو يأتي إليه، ويبقى سبيلنا إلى اكتشاف المساحة الوحشية التي تقع قبل أو وراء كلٍّ من السُّلطة والمعرفة، إنما ينطلق من الثِّنية المختلفة للداخل على الخارج، وللخارج على الداخل، التي هي من سر الفرد وحده، مِن طرحه لذاته باعتباره إشكالية تخصه هو وحده، وتظل تُنبئ عن لُغزه الخاص المُحايِث له، والمتكوِّن بتكوينه. هنا يشرع الفرد باكتشاف قُوَّته غير المدينة لأية علاقة قووية سُلطوية أخرى، ليس لها من صفة إلا كونها القوة المنتمية إلى تحقُّقاتها الخاصة، قوة قووية.

إذن تبدأ ممارَسة الذات من الإبستمولوجيا لتنتهي إلى الاستراتيجيا، كما يلاحظ دولوز. والشبكة التي سوف تشتغل عليها وفيها استراتيجية انبناء الذات تحددها ثلاثة أبعاد؛ هي هذه الذات التي لم تتكوَّن بعدُ — ولا تتكون نهائيًّا — والمعرفة ثانيًا، والسُّلطة ثالثًا، هي أبعاد متناضدة وليست متضمنة بعضها في البعض الآخر. وهي محتاجة دائمًا إلى مساحة الزمن؛ لأنها تاريخية قابلة دائمًا للتغيير والاختلاف، ولا تخضع لأية شروط أو مبادئ أو ماهِيَّات قبلية ومطلقة. بل هناك دائمًا حركة الجذب والنبذ المحتاجة دائمًا إلى المُحايَثة، إلى المواقعية لتشغل دائمًا الحيزات غير الاستقطابية بين الذات الفارغة هي من أية ذاتية قبلية، وبين العالم الذي يكاد يولد مجددًا من داخل الخارطة الاستراتيجية التي تَبنِيها ممارَسة الذات لتقنيات تحققها، وفق ما تكتشفه أو ما تستطيع أن توقعه من خروقات واختراقات في الشبكيات الذاتوية/المعرفية/السُّلطوية المتورِّطة فيها بدءًا منها، واستمرارًا فيها. مثل هذه الاستراتيجيا تتيح تَشكُّل مركَز مقاوَمة معينة داخل المشروع الثقافي الغربي نفسه، وإزاء عصر الرأسمالية في مراحلها الاستهلاكية التي تَسود ليس موطنها الأصلي فقط، بل العالم أجمع بما فيه من مراكز المعارَضات الأيديولوجية السابقة. فينزاح موقع المعارَضة من الأيديولوجيا الطوبائية إلى الفردانية النرجسية. تتفتَّت المراكز الكليانية في شطريها الرأسمالي والأيديولوجي، لتَبرُز مراكزُ بدون مركزيات، أفراد بدون فردويات، مفردات بدون جماعيات.

عندما يغدو الفرد قادرًا على رؤية وسماع أضواء وأصوات مواقعيته، يشرع في بَرَّانيته وبَرِّيته؛ تغدو إشكالية وجوده هي مسألة إبداع وليست تُعلُّمِيَّة اتباع. تبطل احتكارية الفن. يغدو كل فرد مشروع فنان لا يُقولِبه أحد. ويصير الوجود هو فن إبداع الفرد، جمالية وجود. إنها اليوتوبيا الجمالية «الإستطيقية» التي لا يجوز أن تظل مؤجَّلة إلى ما بعد اليُوتوبيات الأيديولوجية الأخرى. فإذا كان التاريخ الراهن يبرهن على استحالة تحقُّق لهذه اليوتوبيات، فإنه يتبقَّى حظ ما لأن ينفرد الفرد بصنع جماليته الخاصة على الأقل.

وفوكو هو الذي أجاب شارِحَيه في آخر حديث معهما على سؤال: وماذا ستفعل بعدُ … (أي بعد الانتهاء من كُتبه الثلاثة في تاريخ الجنسانية) قال: سأهتمُّ بذاتي.

مطاع صفدي

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤