الفصل الأول

نحن، الفيكتوريين

Nous autres, Victoriens

لعلَّنا تحمَّلْنا طويلًا نظامًا فيكتوريًّا، وربما ما زِلنَا نتحمَّله حتى اليوم. فقد تكونُ المرأة الإمبراطورية المُتزمِّتة قد انطبعت صورتُها على شعار جنسانيَّتنا، مُتحفِّظة بكماء، منافقة.

حتى بداية القرن السابع عشر، شيء من الصراحة كان لا يزال رائجًا، على ما يقال. فالممارَسات لم تكن تبحث عن السِّرِّية، والكلمات كانت تُقال دون تَكتُّم مُفرِط، ويفصح عن الأشياء دون إفراط في الإخفاء. ويتعامل الناس مع المُنكر في أُلفة وتسامُح. كانت قواعد البذاءة والمجون والفحش لَيِّنة إذا ما قارنَّاها بقواعد القرن التاسع عشر. إشارات مباشرة، كلمات لا خَجَل فيها، مَعصِيَّات في وضَح النهار، أجسام عارية للجنسين تتشابك، أطفال وَقِحون يطوقون في حرية، ولا خوف من إثارة الشكوك وسط قهقهات الكبار، تستدير الأجسام على نفسها في رقصة جنونية.

تبعَ وضح النهار هذا غسق سريع إلى أن خيَّمَت الليالي الرتيبة للبورجوازية الفيكتورية. فيُحبَس الجنس آنئِذٍ بعناية. ينتقل. تصادره العائلة. تستوعبه كليًّا فيما للإنجاب من وظيفة جادَّة، فحول الجنس يصمتُ الناس، والزوجان، شَرعِیَّان مُنجبان، وهما يصنعان القانون. يقيمان المعيار. يحفظان الحقيقة. ويحتفظان بحق الكلام مع احتكار مبدأ السرِّ. في الحيِّز الاجتماعي، كما في قلب كل منزل، هناك مكان واحد للجنس مُعترَف به، ولكنه نافع وخصب: إنها غرفة الأبوين. وكل ما عداه عليه أن يَمَّحِي. «إذ تحل هنا» لياقة المواقِف التي تتجنَّب «كشف» الأجساد. كما أن احتشام الكلمات يُبيِّض الخِطاب. أما العقيم، إذا ما أصرَّ وعرض نفسه للعيان، فإنه يتحول إلى الشاذ، ويُفرَض عليه وضعه «ذاك كشاذٍّ»، ويتعرض للعقوبات.١
ما لا يهدف إلى الإنجاب، أو ما يُجمِّله الإنجاب، فإنه يفقد وجوده وحقه في الوجود، وحق التعبير عنه أيضًا، فهو مطرود، ومحذوف، ومحكوم عليه بالصمت في آنٍ معًا. فليس هو غير موجود فقط، بل عليه ألا يُوجَد، ويعمل على إخفائه ما إن يكون له أدنى ظهور — سواء بالكلمات أو الأفعال — فالأولاد، مثلا، نحن نعلم تمامًا أن ليس لهم جنس: وذلك هو السبب في أن يُحرَّم الجنس عليهم، وهو سبب في أن يُمنَعوا من الحديث عنه، وفي أن يغمض الكبار عيونهم ويَسدُّوا آذانهم حين يُبرزه الأولاد إلى العلن، سبب في فرض صمْت شامل ومُطبق. تلك هي خصائص القمع التي تُميِّزه عن الممنوعات التي يحافظ عليها قانون الجزاء؛ إذ يعمل القمع كحُكم على الشيء بالزوال كإلزام، إنما أيضًا كتأكيد لعدم الوجود، وكأن لا شيء يجب أن يُقال، أو يُشاهَد، أو أن يُعرَف عن كل هذا. هكذا، في منطقه الأعرج، يسير نفاق مجتمعاتنا البورجوازية. لكنه يضطر إلى إعطاء بعض التسهيلات، إذا كان لا بد من إعطاء مكان لأعمال الجنس غير المشروعة، فلتذهب ولتحدث ضجيجها في مكان آخر، حيث يمكن إدراجها في دوائر الاستثمار وجَنْي الأرباح، إن لم يكن في دوائر الإنجاب. البيت المُغلق ودار الصحة سيكونان مَكانَي تسامح: المُومس والزبون والقواد، الطبيب النفساني ومريضه الهستيري. هؤلاء «الفيكتوريون الآخرون» كما يقول ستيفان ماركوس (Marcus) نقَلوا خفية اللذة — التي لا تُسمَّى — إلى إطار الأشياء المهمة. هناك يتبادل المذكورون الكلمات والإشارات المسموح بها، ويدفَعون ثمنها باهظًا. هناك، وهناك فقط، يحق للجنس المتوحِّش أن يتمتع بأشكال من الواقع، أشكال كأنها معزولة في جزيرة، بأنماط من الكلام، من الخِطاب السِّري، المحدود، والمرمَّز. في مكان غير هذا المكان، تَفرِض النزعة التطهيرية العصرية مراسيمها الثلاثة: تحريم، لا وجود، صمت مطبق.
هل نحن تحرَّرنَا حقًّا من هذين القرنين المَديدَين، حيث كان تاريخ الجنسانية ينبغي أن يُقرأ أولًا باعتباره تتابعًا لقمع مُتنامٍ؟ فيقال لنا إننا لم نتجاوزها بعدُ إلا قليلًا. ولعلَّنا قد فعلنَا ذلك بعض الشيء بفضل فرويد. ولكن بأي قدْر من الحذر، والاحتراز الطبي، وبأي قدْر من الضَّمان العلمي لوقوع أقل ضرر، ومن الاحتياطات للإبقاء على كل شيء حبيس الحيِّز الأكثر أمانًا وخفاء، دون أي خوف من أن يتعدَّى حدوده بين الخطاب والسرير، ولكنْ ثَمة قليل من الهمسات المُفيدة فوق سرير. وهل من الممكن أن تسير الأمور على غير هذا النحو؟ يوضِّح لنا بعضهم أنه إذا كان القمع منذ العصر الكلاسي حقًّا يُشكِّل صيغة العلاقة الأساسية بين السُّلطة، المعرفة والجنس، فإننا لا يمكن أن نتجاوز ذلك إلا بثمن باهظ؛ فما كان علينا أقل من «اقتراف» مخالفة القانون، وإلغاء المُحرَّمات، ومن هجمة الكلام «لكشف الحقائق»، وإعادة اللَّذة إلى مكانها من الواقع، «وإقامة» نظام اقتصاد جديد لإواليات السُّلطة: ذلك أن أقل وميض للحقيقة إنما يخضع لشروط سياسية، فكل هذه المفاعيل لم يكن بالمستطاع توقُّعها من مجرد ممارسة طبية، ولا من خطاب نظري، حتى لو كان دقيقًا؛ لذلك فنحن نعارض محافَظة فرويد، والوظائف التطبيعية «العلاجية» للتحليل النفسي، وكل هذا الخجل الذي كان يختفي تحت جُموحات رايش٢ النَّزَقية، وكل نتائج الدمج الاجتماعي التي أحدثها «علم» الجنس، أو الممارَسات المشبوهة للسيكولوجيا.
هذا الخطاب حول القمع الحديث للجنس يبدو مقنعًا؛ لأنه من السهل الأخذ به. فثمة ضمانة خطيرة تاريخية وسياسية تحميه، إذ إننا حين نجعل ولادة القمع ترجع إلى القرن السابع عشر، بعد مئات السنين من الهواء الطلق، والتعبير الحر، فإننا نفرض عليه أن يتزامن مع نمو الرأسمالية: فالقمع والنظام البورجوازي يُشكِّلان جسمًا واحدًا، أخبار الجنس ومعاكساته تنتقل فورًا إلى التاريخ الاستعراضي لأنماط الانتاج، وتتبدَّد تفاهتها. ويظهر من جرَّاء ذلك أساس تفسيري: إذا قُمِع الجنس بمثل هذه الشدة، فلأنه لا يتلاءم مع العمل العام والمكثَّف. ففي الحقبة التي تستثمر فيها قوة العمل بشكل منهجي، هل كان من الممكِن أن يسمح لها بالتشتت في الملذَّات، غير تلك المقتصرة على الحد الأدنى التي تسمح لقوة العمل بالتجدُّد؟٣

لعله ليس من السهل حل رموز الجنس وآثاره. وهكذا، على العكس، فحين يُعاد ربط القمع من خلال تطور الرأسمالية، فإنه سيكون من الأسهل القيام بتحليله. فنجد أن قضية الجنس — حريته، وكذلك ما لَنا من معرفة عنه، وما لنا من الحق في الكلام عنه — مرتبطة ارتباطًا مشروعًا بشرف قضية سياسية! فالجنس هو أيضًا يندرج في إطار المُستقبَل. ولعل الفكر المتشكك يتساءل فيما إذا كانت كل هذه الاحتياطات العديدة المُتَّخذَة من أجل منْح تاريخ الجنس هذه الرعاية الكبيرة، لا تزال أيضًا تحمل آثار التحشُّم القديمة، كما لو أن هذه العلاقات المتبادَلة بينهما (أي بين الجنس والتحشم) ينبغي لها ألَّا تكون أقل تقديرًا حتى يكون خطاب الجنس ممكنًا أو مقبولًا.

ربما هناك سبب آخر يجعل، بالنسبة لنا، التعبير عن علاقات الجنس والسُّلطة في إطار القمع مفيدًا: وهو أنه بوسعنا أن نُسمِّي هذه الفائدة رِبْح المتكلم. إذا كان الجنس مقموعًا؛ أي محكومًا عليه بالمنع، باللاوجود والخرس، فإن مجرَّد الكلام عنه، والكلام عن قمعه، يكاد يَتَّخِذ شكل عصيان مقصود. مَن يتحدث عن قمع الجنس يضع نفسه إلى حدٍّ ما خارج السُّلطة، يستعجل القانون، يَستبقُ ولو قليلًا الحرية المُستقبلية. لذلك يتحدث الناس اليوم عن الجنس بمثل هذا الاحتفاء. والديموغرافيون الأوَّلون «المختصون في إحصاءات الشعوب» وأطباء القرن التاسع عشر النفسيون، حين كانوا يَذكُرون الجنس، كانوا يَستمِيحون العذر من قُرَّائهم؛ لأنهم مضطرون أن يُسلِّطوا انتباههم على موضوعات دنيئة وتافِهة إلى هذا الحد، أما نحن، منذ عشرات السنين، فلا نكاد نتحدث عن الجنس بدون شيء من الزَّهْو والتكلُّف: شعورٌ يتحدى النظام القائم، نبرة صوت تشير إلى أنَّنا نعرف أن موقِفَنا هدَّام، اندفاع نحو إبعاد شَبح الحاضر، ومناداة مستقَبل نشعر أنَّنا نساهم في تقريبه. شيء من الثورة، من الحرية الموعود بها، من العصر القريب يسود فيه قانون آخر، يجتاز في يُسرٍ خِطابَنا حول قمع الجنس. وبذلك تُعاد الحياة في هذا الخطاب إلى وظائف النبوءة التقليدية القديمة. الجنس الجيد سينتشر غدًا. وباعتبار أنَّنا نُؤكِّد هذا القمع، فإنه يمكننا أيضًا أن نعمل على أن نجمع سِرًّا، ما كان الخوف من التعرُّض للسخرية أو مرارة التاريخ يمنع غالِبيَّتنا من الدُّنو منه: وهما الثورة والسعادة، أو الثورة أو جَسدٌ آخر أشد يَفاعَة وأكثر جمالًا، أو أيضًا الثورة واللَّذة. فالتحدث ضد السُّلطات، قول الحق، الوعد بالمتعة؛ الربط بين نور الحقيقة والتحرُّر والمُتَع الكثيرة، إنشاء خطاب تجتمع فيه الرغبة في المعرفة، إرادة تغيير القانون، والأمل في دخول فِردَوس المَلذَّات: هذه هي الأمور التي تُدعِّم فينا الاندفاع نحو الحديث عن الجنس باستخدام عبارات القمع. هذا أيضًا ما يُفسِّر ربما القيمة التجارية التي تُنسَب ليس فقط إلى كل ما يقال عن قمع الجنس، بل أيضًا إلى مجرَّد الإصغاء إلى الذين يريدون إزالة آثاره. فنحن في النهاية، الحضارة الوحيدة التي يتلقَّى فيها أتباعها مكافأة مقابل إصغائهم لكل إنسان يُسِر إليهم حديثًا عن جنسه، كما لو أن الرغبة في الكلام عن الجنس، والفائدة المرجُوَّة من سماع هذا الكلام، قد تَجاوزتَا بعيدًا جميع إمكانيات الإصغاء مما جَعلَتا بعض الناس يؤجرون آذانهم.

ولكن، أكثر من هذا التأثير الاقتصادي، يبدو لي أساسيًّا وجود خطاب في عصرِنا، حيث يترابط معًا الجنس وكشْف الحقيقة، وقلْب قانون العالم، والإعلان عن قدوم يوم آخَر، والوعد بنمط من أنماط السعادة. اليوم، الجنس هو الذي يُشكِّل ركيزة لتلك الصيغة الهرمة المألوفة والهامَّة في الغرب، صيغة التبشير والوعظ. منذ بضع عشرات من السنين، اجتازت مجتمعاتنا حركة وعظ جنسي كبيرة — كان لها لاهُوتِيُّوها البارعون وأصواتها الشعبية — جَلَدت النظام القديم، كشفَت ألوان النفاق، تَغنَّت بحق المباشِر والواقع، وجعلتِ الناس يَحلُمون بمدينة فاضلة أخرى. فلتتفكر في الوعاظ من الرهبان الفرنسيسكان. ولنتساءل كيف حصل أن الغنائية والشعور الديني اللذين رافقَا طويلًا المشروع الثوري قدِ اتَّجَها، إلى حد ما على الأقل، نحو الجنس في المجتمعات الصناعية والغربية.

فكرة الجنس المقموع ليست إذًا قضية نظرية وحسب. وعليه، فإن التأكيد على أن الجنس لم يُكبَح بصرامة أشد إلا في عصر النفاق البورجوازي المُنصرِف إلى العمل وجَنْي الربح، يَلتقِي مع خطاب مُطنَب يهدف إلى قول الحقيقة عن الجنس، إلى تبديل اقتصادِه في الواقع، إلى إسقاط القانون الذي يَتحكَّم به، وإلى تغيير مُستقبَله. فالتعبير عن وجود القَمع وصيغة التبشير يرتبطان ببعضهما بعضًا، ويدعِّم أحدهما الآخر بالتبادل. فالقول إن الجنس ليس مقموعًا، أو بالأحرى القول إن المسافة بين الجنس والسُّلطة ليست صِلة قمعية يوشك أن يَكون مُفارَقة عقيمة ليس إلا. إذا قلنا ذلك لا نكون فقط قد أنكرْنَا حقيقة مقبولة، بل نكون قد مَضيْنا عكس الاقتصاد، وكل «المَصالح» الخَطابية التي يتضمنها.

في هذا الموضع، أوَد أن أضع سلسلة التحليلات التاريخية التي يُشكِّل كتابي هذا في آنٍ واحد مُقدِّمة لها وتحليقًا أوَّليًّا فوقها: أريد الكشف عن بعض نقاط لها دلالة تاريخية وإثارة بعض مُعضِلات نظرية. فالمقصود إجمالًا هو تساؤل عن حالة مُجتمَع، يؤنب نفسه بصخب على نِفاقه، يتحدَّث مطولًا عن صَمْتِه، يُفصِّل ما لا يقوله، يُهاجم السُّلطات التي يمارسها ويَعِد بالتحرر من القوانين التي سَيَّرَته. لا أريد فقط أن أستعرِض الكلام حول هذه الخطابات فحسب، بل أريد أن أتعرَّض للإرادة التي تَحمِلها، وللنِّيَّة الاستراتيجية التي تُسانِدها. السؤال الذي أَودُّ أن أطرحه ليس: لماذا نحن مقموعون؟ ولكن لماذا نقول إنَّنا مقموعون بمثل هذا الإصرار، بمثل هذا الحقد؛ ضد ماضينا الأقرب، ضد حاضرِنا، وضد ذواتنا؟ عبْر أية دورة لولبية توصَّلْنا إلى التأكيد بأن الجنس مُنْكَر، إلى إظهار جهارًا أنَّنا نُخبِّئه، إلى القول بأننا نكتمه … نقول ذلك بكلمات صريحة، ساعِين إلى كشف ذلك في واقعه الأكثر عراء، وأن نُؤكِّده في يقينية سلطته وتأثيراته؟ لنا الحق، بكل تأكيد، في أن نتساءل لماذا ربط الناس بين الجنس والخطيئة زمنًا طويلًا إلى هذا الحد — ولكن يجب علينا أن نرى كيف حصل هذا الربط، وأن نَتجنَّب القول بصورة عامة ومتسرعة إن الجنس كان «مُدانًا» … إنما ينبغي التساؤل أيضًا لماذا نُدين أنفسنا إلى هذا الحد لكونِنا صنَعنا من الجنس خطيئة فيما مضى؟ عبر أية طرق وصلنا إلى الشعور بأننا «مُذنبون» تجاه جنسنا؟ وإلى أن تكون حضارة فريدة بما يكفي لتدعي أنها ارتكبت «خطيئة» في الماضي، ولا تزال ترتكبها اليوم ضد الجنس عن طريق سوء استعمال السُّلطة خطأ، كيف حدثَت هذه النقلة التي حين ادعت تحريرنا من طبيعة الجنس الآثمة، فإنها حمَّلَتنا خطأ تاريخيًّا كبيرًا، لهذا السبب بالذات، وهو تَخيُّل الطبيعة الخاطئة، واستخلاص نتائج كارثية من هذا الاعتقاد؟

سيقولون لي إنه إذا كثر اليوم عددُ الذين يُؤكِّدون وجود هذا القمع؛ فذلك لأنه واضح تاريخيًّا. وإذا كان الناس يتكلمون عن القمع بهذه الوفرة، ومنذ عهد بعيد، فذلك لأنَّ القمع راسخ في العمق، ولأن له جذوره وأسبابه المتينة، ولأنه يؤثِّر على الجنس بشدة، بحيث لا تستطيع إدانةٌ واحدة أن تُخلِّصَنا منه. فلن يكون العمل إلا طويلًا. سيكون طويلًا لأن مَزية السُّلطة — خصوصا السُّلطة التي تعمل في مجتمعنا — هي في أن تكون قمعية، وأن تقمع بانتباه خاصًّ الطاقات غير المُجدية، والملذَّات الحادَّة وأنواع السلوك الشاذَّة. يجب إذا أن نتوقَّع أن تكون نتائج التحرر من هذه السُّلطة القمعية بطيئة الظهور؛ فعملية التحدث عن الجنس بِحُرِّية، وقبوله في واقعه، هو مشروع يتعارَض مع مسار تاريخ بَلغ عمره اليوم ألف سنة، كما أنه يتعارَض مع الإواليات الذاتية للسُّلطة، بحيث سيراوح هذه المشروع طويلًا في مكانه قبل أن ينجح في مهمته.

والحال، أنه بالنسبة لما سأسميه هذه «الفرضية القمعية» يمكن إثارة ثلاثة شكوك كبيرة:
  • الشك الأول: هل قَمْع الجنس بداهة تاريخية واضحة فعلًا؟ هل إن ما ينكشف للنظرة الأولى — وما يخولنا من ثَمَّ بطرح فرضية للانطلاق — هل هو حقًّا تشديد أو نظام لقمع الجنس ابتداء من القرن التاسع عشر؟ هذا السؤال تاريخي صرف.
  • الشك الثاني: هل إن آلية السُّلطة، خصوصًا السُّلطة التي تمارَس في مجتمع كمجتمعنا، هي في جوهرها ذات طبيعة قمعية؟ هل الحظر والرقابة والإنكار هي حقًّا الأشكال التي تمارَس بها السُّلطة في كل مجتمع بوجه عام، وفي مجتمعنا بوجه خاصٍّ؟ هذا السؤال تاريخي — نظري. وأخيرًا الشك الثالث: هل إن الخطاب النقدي الذي يُوجَّه إلى القمع يُجابِه آلية سُلطوية عَمِلت حتى الآن — دون اعتراض — لتقطع عليه الطريق، أم أن هذا الخطاب النقدي هو جزء من الشبكة التاريخية ذاتها، التي يشجبها (ويُحوِّرها طبعًا) بتسميتها «قمعًا»؟ هل ثمة قطيعة تاريخية بين عصر القمع وبين التحليل النقدي للقمع؟ هذا السؤال تاريخي — سياسي.

حين ندخل هذه الشكوك الثلاثة لا ينبغي فقط أن ننشيء فرضيات مضادة، موازية للفرضيات الأولى. في اتجاه مُعاكِس ليس المقصود هو القول إن الجنس، بدلًا من أن يقمع في المُجتَمعات الرأسمالية والبورجوازية، فقد تمتَّع على العكس بنظام حرية دائمة. ليس المقصود هو القول: إن السُّلطة في مجتمعات مثل مجتمعاتنا، تَسامُحيَّة أكثر منها قمعية، وإن النقد الذي يُوجَّه إلى القمع قد يَتخِذ شكل قطيعة، وإنه جزء من سياق أقدَم منه بكثير، وأن هذا النقد سيظهر — وفقًا للمعنى الذي نعطيه لقراءة هذا السياق — كمرحلة جديدة في تخفيف النواهي، أو كشكل أكثر تكلمًا، أو دهاء من أشكال السُّلطة.

الشكوك التي أود أن أُجابه بها الفرضية القمعية لا تستهدف الإثبات بأنها خاطئة، بقدر ما تستهدف وضْعَها من جديد في اقتصاد عامٍّ للخطابات حول الجنس داخل المجتمَعات الحديثة منذ القرن السابع عشر. لماذا تكلم الناس على الجنس؟ وماذا قالوا عنه؟ ما هي آثار السُّلطة المستقرَأة فيما كان يُقال عن الجنس؟ ما التي هي الصلات التي كانت تربط هذه الخطابات بآثار السُّلطة، وبالملذات التي كانت مستثمرة من قبل السُّلطة والخطابات؟ أية معرفة كانت تتكون انطلاقًا من ذلك؟ … وباختصار، علينا أن نحدد نظام السُّلطة — المعرفة — اللذة، في سَيرورَته ومبرِّرات وجوده، الذي يدعم لدينا الحديث أو الخطاب حول الجنس عند البشر. من هنا فإن النُّقطة الجوهرية (في مرتبتها الأولى على الأقل) ليست تمامًا في أن نعرف ما إذا كان يقال للجنس نعم أو لا، ما إذا كان موضوع تحريم أم إباحة، ما إذا كنا نؤكد أهميته أم ننكر آثاره، وإذا كانت تُهذَّب أم لا الكلمات التي تستخدم للدلالة عليه، بل هي أن نقيم الاعتبار لواقع التحدُّث عنه، للأشخاص الذين يتحدثون عنه، للأماكن ولوجهات النظر التي ينطلق منها الحديث عنه، للمؤسَّسات التي تحض على الحديث عنه، التي تُخزِّن ثم تُوزِّع ماذا قيل عنه. باختصار، فإن «النقطة الخطابية» الإجمالية هي «وضع الجنس في خِطاب». من هنا أيضًا ستكون النقطة الهامة هي أن نعرف تحت أية أشكال، وعبْر أية قنوات، وخلال الانزلاق في أية خطابات، قد توصَّلت السُّلطة إلى تصرفاتها الأكثر دقة وفردية؟ وأية طرق سمحَت لهذه التصرفات ببلوغ أكثر أشكال الرغبة نُدرة وصعوبة في الإدراك. كيف تنفذ إلى السُّلطة اليومية وتراقبها؟ كل ذلك مع ما يستتبعه من نتائج قد تكون الرفض، والصَّد، والتشنيع، وقد تكون أيضًا الحض والتقوية؛ أي إن المهم هو باختصار: معرفة «تقنيات السُّلطة متعددة الأشكال». من هنا، أخيرًا فإن النقطة الهامة لن تكون هي التقرير في ما إذا كانت هذه النتاجات الخَطابية، والآثار السُّلطوية، تقود إلى تشكيل حقيقة الجنس، أو، بالعكس، إلى صوغ أكاذيب مُعدَّة لإخفائها، إنما ستكون إبراز «إرادة المعرفة» التي تقوم بآنٍ معًا مَقام الركيزة والأداة لتلك الخطابات والآثار.

يجب أن نتفاهم جيدًا؛ أنا لا أدَّعي أن الجنس لم يمنع، أو يُلغى، أو يُقنَّع، أو يُنكَر منذ العصر الكلاسي، حتى إنني لا أؤكد كذلك أنه قد عومل منذ ذلك الحين بأقل مما كان عليه سابقًا، لا أقول إن تحريم الجنس هو خداع، ولكنه هو خداع عندما نجعل مِن تحريم الجنس العنصر الأساسي والمُكوِّن الذي يستطيع المرء انطلاقًا منه أن يكتب تاريخ ما قيل عن الجنس ابتداء من العصر الحديث. إن جميع هذه العناصر السلبية (دفاع، رفض، رقابة، إنكار) التي تجمعها الفرضية القمعية في آلية مركزية كبرى مُعدَّة للرفض، ليست سوى أجزاء لها دور موضعي، وتكتيكي، تَلعبُه في عملية صياغة خطاب، وفي تقنية سلطة، وفى إرادة معرفة التي هي أبعد من أن تقتصر على تلك العناصر.

خلاصة القول، أريد أن أُفصِّل تحليل الامتيازات التي تُمنح عادة لاقتصاد النُّدرة، ولمبادئ التندير، لأبحث، بالعكس، عن مَراتب الإنتاج الخَطابي (الذي يتضمن طبعًا فترات صمْت)، وإنتاج سلطوي (الذي تكون وظيفته المنع أحيانًا)، وإنتاجات المعرفة (التي تُروِّج أحيانًا أخطاء أو إنكارات مطلقة)؛ أود أن أكتب تاريخ هذه المَراتب وتحوُّلاتها. والحال أنَّ نظرة أوَّليَّة تلقيها مِن هذه الزاوية تشير إلى أنه منذ نهاية القرن السادس عشر، أُخضِع وضْع الجنس «في خطاب» إلى آلية تحريض متزايد بدلًا من إخضاعه لعملية تقييد، وأن تقنيات السُّلطة التي تُمارَس على الجنس لم تخضع لمبدأ اختیار دقیق، بل بالعكس لمبدأ نشر وتركيز أشكال عديدة من الجنس؛ وأن إرادة المعرفة لم تتوقَّف أمام مُحرَّم (Tabou) لا يجوز إلغاؤه، بل اندفعَت — عبْر الكثير من الأخطاء طبعًا — إلى تكوين عِلم اسمه عِلم للجِنسانية. هذه الحركات هي التي أَودُّ أن أكشف عنها الآن بشكل هيكلي، انطلاقًا من بعض وقائع تاريخية لها قيمة الدلالات، ولبلوغ هذا الهدف، سأمرُّ نوعًا ما خلْف الفرضية القمعية، وخلْف وقائع التحريم والحظْر التي تتذرَّع بها.
١  العقيم هنا: يُقصَد به استخدام الجنس لذاته. وبالطبع فإن الممارِس لهذا الهدف يتعرَّض لتحريم الأخلاق وعقاب القانون. (م)
٢  وليم رايش مِن مدرسة فرنكفورت الذي أطلق الثورة الجنسية خلال النصف الأول من القرن العشرين، ونادَى بالتحرر الجنسي الكامل كأساس لرفض الفاشية والنظام الطبقي. (م)
٣  نقد ساخر مُوجَّه إلى التفسير الماركسي الذي يربط قمع الجنس بنشوء البرجوازية وتقسيم العمل. (م)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤