الفصل الرابع

جاهزية الجنسانية

La Dispositif de Sexualité

ما هو المقصود في سلسلة الدراسات هذه؟ إدراج حكاية الحلى المفشية للأسرار في التاريخ:

في عداد شعاراته، يحمل مجتمعنا شعار الجنس الذي يتكلم. الجنس الذي نباغته ونستجوبه، والذي يجيب باستفاضة، كونه مكرهًا وذَلِق اللسان بآنٍ معًا. فثمة إوالية (ميكانية) معينة، سحرية بما يكفي لتصير هي ذاتها خفية، قبضت عليه ذات يوم. وهي تستنطقه في لعبة تختلط فيها اللذة اللاإرادي، والرضا مع التحقيق، وحقيقة الذات مع حقيقة الآخرِين. إننا نعيش جميعًا، منذ سنوات عديدة، في مملكة الأمير مانغوغول (Mangogul): فريسة فضول كبير بشأن الجنس، مُصرِّين على استجوابه، لا نشبع من الإصغاء إليه ومن الاستماع إلى الكلام عنه، مُتأهِّبين لاختراع جميع الحلقات السحرية التي يمكن أن ترغمه على التخلِّي عن كتمانه.١ كما لو كان من الجوهري أن نتمكن من أن نَستمِد من ذلك الجزء الصغير من ذاتنا، ليس فقط شيئًا من اللذة إنما أيضًا من المعرفة، ولعبة بارعة تنتقل بين هذه وتلك: معرفة اللذة، لذة في معرفة اللذة، ولذة — معرفة؛ وكما لو كانت لذلك الحيوان العجيب الذي نأويه، هو أيضًا، أُذن فضولية، وعينان يقظتان، ولسان وعقْل مُحْكَمان بما يكفي ليعرف كثيرًا من الأشياء، ويكون قادرًا تمامًا على الإفصاح بها حالما يطلب إليه ذلك بقليل من اللباقة، بين كل واحد منا وجنسنا، بسط الغرب طلبًا مُلِحًّا بمعرفة الحقيقة: علينا نحن أن ننتزع حقيقته، بما أنها تَفوته؛ وعليه أن يقول لنا حقيقتنا، بما أنه هو الذي يحتفظ بها خفية. هل الجنس مخفي؟ مستور بألوان جديدة من الحشمة، وهل فَرضَت متطلبات المجتمع البورجوازي المُعمَّة إخفاء حقيقته؟ إنه بالعكس متوهِّج. فمنذ مئات من السنين، وُضع الجنس في وسط عريضة معرفية رائعة. وهي عريضة مزدوجة؛ لأننا ملزمون بمعرفة وضع الجنس، بينما يشتبه بأنه يعرف، من جهته، وضْعَنا نحن.
ثمة اتِّجاه دفَعنا، في بضعة قرون من الزمن، إلى أن نطرح على الجنس مسألة ماهيَّتنا، وليس على الجنس — الطبيعة فقط (عنصر من نظام الحي، موضوع لعلم بيولوجي) إنما على الجنس — التاريخ، أو الجنس — المعنى والجنس — الخطاب. لقد وضعْنا أنفسنا، نحن بالذات، تحت تأثير الجنس، إنما تحت تأثير منطق للجنس — وليس لفيزياء٢ له. يجب ألا نشك في ذلك: فوراء السلسلة الكبيرة للتعارضات الثنائية (جسد — روح، بدن — نفس، غريزة — عقل، نزوات — وعي) التي يبدو أنها تَردُّ الجنس إلى إوالة بحتة مجرَّدة من العقل، تُوصِّل الغرب ليس فقط وليس تمامًا، إلى إلحاق الجنس بميدان عقلاني، مما لا ينطوي طبعًا على أي شيء بارز ما دمنا مُتعوِّدين منذ عهد اليونانيين على مثل هذه «الفتوحات»، بل إلى إخضاعنا بكليتنا تقريبًا. نحن، جسدنا، روحنا، فرديتنا وتاريخنا، لمنطق الشهوة والرغبة. ما إن يكون المقصود هو معرفة مَن نحن، حتى يغدو هذا المنطق مفتاحًا عامًا بِتصرُّفنا، منذ عقود عدة، لم يعد اختصاصيو علم الوراثة يتصورون الحياة كتنظيم مُتمتِّع فوق ذلك بالقدرة العجيبة على التكاثر؛ فهم يرون في إوالية التكاثر ذلك الشيء ذاته الذي يدخل في بُعد البيولوجي: ليس فقط قالب الأحياء، بل قالب الحياة. والحال أنه منذ قرون، وبصورة غير «علمية» جدًّا طبعًا، جعل مُنظِّرو الشهوة وممارسوها المتعدِّدون، جعلوا من الإنسان وليد جنس قسري وقابِل للفهم، فالجنس هو سبب كل شيء.
لا مجال لطرح السؤال: لماذا الجنس إذًا سِرِّي إلى هذا الحد؟ وما هي تلك القوة التي أسكتته والتي تكاد ترتخي الآن، ربما لتتيح لنا استجوابه، إنما دائمًا انطلاقًا من قمعه، ومن خلاله؟ في الواقع، ليس هذا السؤال المكرَّر غالبًا في عصرنا، سوى الشكل الجديد لتأكيد مهم ولأمر قديم مُفاده: هناك تكمن الحقيقة؛ فامضوا لاكتشافها. إنه قرار قديم العهد (Acheronta monebo).
أنتم، أيها الحكماء الممتلئون بعلم عالٍ وعميق.
أنتم الذين تتصوَّرون وتعرفون
كيف ومتى وأين يَتَّحد كل شيء.
… أنتم، أيها الحكماء العظام، قولوا لي ما الأمر؟
اكتشفوا لي ما يحدث بي.
اكتشفوا لي أين وكيف ومتى
ولماذا حدث في مثل هذا الشيء؟٣

إذًا، يجدر بنا التساؤل قبل كل شيء: ما هو هذا الأمر؟ ولماذا هذه المطارَدة الكبيرة لحقيقة الجنس وللحقيقة في الجنس؟

في رواية ديدرو (Diderot)، يكتشف الجني الطيب كوكوفا (Cucufa) في قعر جيبه وبين بعض الأشياء التافهة؛ حُبَيْبَات مبارَكة، تماثيل رصاصية صغيرة وعددًا من الملبَّسات العَفِنة — الخاتم الفضي الصغير الذي، إذا ما قُلِب قَفَص فصِّه، يحمل الحاضرين على الكلام عن حياتهم الجنسية؛ ويعطيه للسلطان الفضولي. أما نحن فعلينا أن نعرف أي خاتم رائع يَمنحنا قوة كهذه، وفي إصبع أيِّ سيد قد وُضع؛ وأية لعبة سُلطوية يُتيح أو يفترض؟ وكيف استطاع كل منا أن يصبح نوعًا من السلطان اليقظ والطائش بالنسبة لجنسه الشخصي وجنس الآخرِين. إن هذا الخاتم السحري، هذه الحيلة المُفْشِية للأسرار عندما يكون المقصود حمْل الآخرين على الكلام المتحفظ حول آليتها الخاصة، هذا الخاتم الذي يَجدُر بنا أن نجعله بدوره ثرثارًا يجب عليه أن يتكلم. يجب كتابة تاريخ تلك الإرادة في الحقيقة، وتلك العريضة المطالِبة بالمعرفة التي تغري بالجنس منذ قرون عدة: تاريخ عِناد وحماس. ماذا نطلب من الجنس، أبعد من ملذاته الممكنة، حتى نُعاند ونصر على هذا النحو؟ ما هو هذا الجلد أو هذا التلهُّف إلى تكوينه باعتباره السر، والسبب الكُلِّي القدرة، والمعنى الخفي والخوف المستمر؟ ولماذا انقلبَت أخيرًا مهمة اكتشاف هذه الحقيقة الصعبة إلى دعوة لإلغاء النواهي والمحظورات وتَذليل العوائق؟ هل كان العمل شاقًّا إلى حد أنه كان لا بد من إغوائه بهذا الوعد؟ أم أن قيمة هذه المعرفة — السياسية والاقتصادية والأخلاقية — بلغَت حدًّا أوجب طمأنة كل فرد؛ بُغية إخضاعه لها، بأنه سيجد فيها تحرُّره، ولو كان في ذلك شيء من المفارَقة؟

ومن أجل تحديد موقع الأبحاث المقبلة، نعرض بعض المقترحات العامة المتعلقة بالرهان، والطريقة، والميدان المطلوب اجتيازه، والتقسيمات المرحلية التي يمكننا إقرارها مؤقتًا.

(١) رهان Enjeu

لماذا هذه الأبحاث؟ إنني أعرف جيدًا أن ظلًّا من الشك قد خرق الملاحظات الإجمالية الواردة أعلاه، ويوشك الشك حقًّا أن يقضي على التحقيقات الأكثر تفصيلًا التي صمَّمتُ أن أجريها. كرَّرتُ مائة مرة أن تاريخ القرون الأخيرة في المجتمعات الغربية، قلما كشف عن دور سلطة قمعية أساسًا. لقد صممتُ أن أستبعد من خطتي مفهوم القمع، متظاهرًا بالجهل بأن ثَمَّة نقدًا تم توجيهه وبشكل أكثر جذرية طبعًا، نقدًا جرى على مستوى نظرية الرغبة. أن لا يكون الجنس «مقموعًا»، فهذا ليس في الواقع زعمًا جديدًا. منذ زمن بعيد، قال بعض المحللين النفسانيين ذلك. لقد رفضوا التسليم بالآلية البسيطة التي يتصورها المرء بطيبة خاطر، حين يجري الحديث عن القمع. وبدت لهم فكرة طاقة عاصية يقتضي إخمادها، فكرة غير ملائمة لتفسير كيفية تمفصل السُّلطة والرغبة. وهم يفترضون أنهما مرتبطتان بطريقة أكثر تعقيدًا وأصالة من تلك اللعبة التي تحصل بين طاقة وحشية، طبيعية وحية، صاعدة من أسفل دائمًا، وبين نظام آتٍ من فوق في محاولة لإعاقتها. لا مجال للتصور بأن الرغبة مقموعة، وذلك لسبب بسيط هو أن القانون المكون للرغبة والنقص، هو الذي ينشئها. فتوجد العلاقة السُّلطوية حيث توجد الرغبة: من الوهم إذن أن نُشهِّر بها في قمع قد يحصل بعد فوات الأوان. ومن التفاهة أيضًا أن ننطلق بحثًا عن رغبة خارج إطار السُّلطة.

والحال، أنني تكلَّمتُ على نحو غامض بإصرار، كما لو كان الأمر يتعلق بمعانٍ متناظرة، تارة عن القمع وطورًا عن القانون، والنهي والرقابة. تجاهلت — عن عناد أو إهمال — كل ما قد يميز مَضامِين هذه المعاني النظرية أو العملية. وأدرك جيدًا أنه يحق للبعض أن يقول لي: حين تستند بلا انقطاع إلى تقنيات سُلطوية إيجابية، تحاول أن تخرج رابحًا في الحالتين: تُربِك خصومك، بالظهور بمظهر الشخص الأضعف؛ وبمناقشة مسألة القمع وحْدَها، تريد أن تقنعهم تعسفيًّا، بأنك تخلَّصتَ من مشكلة القانون؛ ومع ذلك، فإنك تحتفظ بالنتيجة العملية الأساسية من مبدأ السُّلطة — القانون، وهي أن المرء لا يستطيع أن يَفلِت من السُّلطة، وأن السُّلطة موجودة دائمًا في الأصل، وأنها تشكِّل الشيء ذاته، الذي يحاولون مقاومتها به، فمن فكرة سُلطة — قانون، احتفظت بالنتيجة السياسية الأكثر تعقيمًا لتبقيها في تصرفك الشخصي.

إن رهان التحقيقات التي سَتَلِي هو التقدم باتجاه، يعتمد «تحليلية» للسلطة أكثر منه باتجاه «نظرية» للسلطة؛ أعني باتجاه تحديد الميدان النوعي الذي تُشكِّله العلاقات السُّلطوية، وتعيين الأدوات التي تسمح بتحليله. ويبدو لي أن هذه التحليلية لا يمكن أن تتكوَّن إلا إذا تحرَّرْنا من تصوُّر مَعيَّن للسلطة، سأسمِّيه تصورًا «قانونيًّا — خطابيًّا» وسيعرف القارئ بعد قليل سبب ذلك. هذا المفهوم هو الذي يُوجِّه موضوعة القمع، وكذلك نظرية القانون المكون للرغبة. بعبارة أخرى، إن ما يميز الواحد عن الآخر؛ أي تحليل قمع الغرائز عن تحليل قانون الرغبة، هو بكل تأكيد، طريقة إدراك طبيعة الميول الغريزية وديناميتها، وليس طريقة إدراك السُّلطة. لقد استعان التحليلان بتمثيل مشترك للسلطة، التي تقود إلى نتيجتين مُتناقضتين، حسب طريقة ممارستها، وحسب موقعها المعترَف به إزاء الرغبة: فهي تَقود، إما إلى وعد «تحرير»، إذا لم يكن للسلطة سوى تأثير خارجي على الرغبة، وأما إذا كانت مُكوِّنة للرغبة ذاتها، فإنها ستقود إلى التأكيد التالي: إنك لا تزال واقعًا في الشَّرك. لا تظنن مع ذلك أن هذا التمثيل خاص بالذين يثيرون مسألة العلاقات بين السُّلطة والجنس؛ إنه في الواقع أكثر عمومية. غالبًا ما نجده في التحليلات السياسية للسُّلطة وهو متأصِّل بلا شك في تاريخ الغرب. وهذه بعض أهم خصائصه: العلاقة السلبية: لا تقوم بين السُّلطة والجنس، إلا علاقة سلبية دائما؛ رد، وصد، ورفض، حجز ومنع، أو أيضًا إخفاء أو تقنيع. السُّلطة لا «تستطيع» شيئًا حيال الجنس والملذَّات، ما عدا أن تقول لها: لا؛ وإذا أَنتجَت شيئًا، فهي تنتج حالات من الغياب أو فجوات. فالسُّلطة تلغي عناصر مُعيَّنة، تُحدث انقطاعات، تفصل ما هو مُتَّصل، وتُعيِّن حدودًا. وآثارها تتخذ شكلًا عامًّا هو الحدُّ والنقص.

  • سلطان القاعدة: السُّلطة هي جوهريًّا الشيء الذي يملي قانونه على الجنس. مما يعني أولًا، أن الجنس موضوع من قِبَل السُّلطة تحت نظام ثنائي: مشروع وغير مشروع، مباح وممنوع. ثم يعني أن السُّلطة تفرض على الجنس «نظامًا» يعمل في الوقت ذاته كنوع من المعقولية، يُفهَم الجنس انطلاقًا من علاقته بالقانون. ويعني ذلك أخيرًا أن السُّلطة تعمل بإطلاق القاعدة التالية: يتم تأثير السُّلطة على الجنس بواسطة اللغة، أو بالأحرى، بواسطة فِعْل خطاب يخلق حالة قانونية بمجرَّد النطق به. السُّلطة تتكلَّم وهذه هي القاعدة. أما شكل السُّلطة الصِّرف، فنجده في وظيفة المشترع. وتكون طريقة عملها بالنسبة إلى الجنس ذات طابع قانوني — خطابي.
  • دورة النهي: لن تقترب، لن تلمس، لن تستهلك، لن تَلتَذَّ، لن تتحدث، لن تظهر للعيان. وفي أقصى الحالات، لن تكون موجودًا، إلا في الظل، وفي الخفاء. لا تُمارس السُّلطة على الجنس غير قانون المنع. هدفها هو أن يتخلَّى الجنس عن نفسه. ووسيلتها تهديد الجنس بعقاب ليس سوى إزالته من الوجود، تَخلَّ عن نفسك وإلا حُذِفتَ. لا تظهر إذا كنت لا تريد أن تختفي. لن يُحافَظ على وجودك إلا في مقابل حذفك. لا تُكرِه السُّلطة الجنس إلا بنهي يُخيِّر بين لا وجودين.
  • منطق الرقابة: يُفتَرض أن يتخذ هذا المنع ثلاثة أشكال: التأكيد أن هذا ليس مسموحًا به، ومنع أن يُقال هذا، ونَفي وجود هذا، أشكال ثلاثة يصعب التوفيق بينها ظاهرًا. ولكن، هنا، يستطيع المرء أن يَتصوَّر نوعًا من المنطق التسلسلي الذي يُميِّز آليات الرقابة. إنها تربط بين اللاموجود واللامشروع والمتعذَّر التعبير عنه، بحيث يكون كل من الثلاثة أساسًا ونتيجة للآخر في آنٍ معًا: لا ينبغي أن نتحدَّث عمَّا هو ممنوع إلى أن يُلغى من الواقع، ولا يحق للاموجود بأي ظهور، حتى في نطاق الكلام الذي يُعلِن عن عدم وجوده، ما ينبغي أن نخفيه مُلغًى من الواقع كالشيء الممنوع منعًا مطلقًا. قد يكون منطق السُّلطة التي تُمارَس على الجنس هو المنطق المفارِق لقانون، يمكن التعبير عنه على الشكل التالي: أمر بِعَدم الوجود وبِعَدم الظهور، وبالصمت.
  • وحدة الجاهزية: تُمارَس السُّلطة على الجنس بالطريقة نفسها على جميع المستويات. فمن أعلى إلى أسفل، في قراراتها الإجمالية، كما في تدخلاتها الجزئية الدقيقة؛ وأيًّا تكن الأجهزة أو المؤسَّسات التي تعتمد عليها، تتصرف السُّلطة بشكل مُتماثِل ومكثَّف. إنها تعمل وفقًا لأجهزة القانون والنهي والرقابة، البسيطة والمتكررة؛ فمن الدولة إلى الأسرة، من الأمير إلى الأب، من المحكمة إلى العقوبات اليومية الصغيرة، من سلطات الهيمنة الاجتماعية إلى البنى المكوِّنة للذات نفسه، نجد شكلًا واحدًا عامًّا للسُّلطة على مستويات مختلفة. هذا الشكل هو القانون مع لعبة المشروع واللامشروع، والمخالَفة والعقاب، سواء أعطينا السُّلطة شكل الأمير الذي يصوغ القانون، أو الأب الذي يمنع، أو المراقِب الذي يُسكِت، أو المعلم الذي ينطق بالقانون، فإننا في جميع الأحوال نُبسِّط السُّلطة في شكل قانوني، ونُحدِّد نتائجها كخضوع وطاعة. أمام سُلطة هي قانون، فإن الشخص المكوَّن كتابع — الذي تم «إخضاعه» — الذي يطيع. وفي مقابل التجانُس الشكلي للسلطة على امتداد هذه الهيئات، نجد شكل الخضوع العام عند الشخص الذي تُكرِهه، سواء تَعلَّق الأمر بالتابع إزاء الملك، والمواطن إزاء الدولة، والولد إزاء الأهل، والتلميذ إزاء المعلم. من جهة، سُلطة مُشرِّعة ومن جهة أخرى مأمور طائع.

إننا نجد إوَّالة السُّلطة المفترضة نفسها ضمن الموضوعة العامة القائلة إن السُّلطة تقمع الجنس، وضمن فكرة القانون المكوِّن للرغبة. وهذه الإوَّالة محدَّدة بصورة تقييدية بغرابة. أولًا: الأمر يطال سُلطة فقيرة في إمكاناتها، مُقتصِدة في طرائق عملها، رتيبة في المخططات التي تستخدمها، عاجزة في الإبداع، وكأنها محكوم عليها بأن تُكرِّر ذاتها باستمرار. ثم لأنها سُلطة لا تتمتع بالقدرة على قول «لا». ولما كانت عاجزة عن إنتاج أي شيء، وقادرة فقط على وضع حدود مُعيَّنة، فإنها جوهريًّا مضادة للطاقة، تلك هي مفارَقة فعاليتها: إنها لا تستطيع شيئًا سوى أن تمنَع مَن تُخضِعه مِن فعل أي شيء بدوره، أو أن تَدعَه يفعل ما تريده هي أخيرًا؛ لأنها سُلطة ذات نموذج قانوني أساسيًّا، مرتكز على منطوق القانون وحده وعلى عمل النهي دون سواه. إن جميع أشكال الهيمنة والإخضاع والقهر تَئُول في النهاية إلى نتيجة واحدة هي: الطاعة.

لماذا نقبل بمثل هذه السهولة بهذا المفهوم القانوني للسلطة؟ ولماذا نَقبل تاليًا بإلغاء كل ما يمكن أن يُشكِّل فعاليتها المُنتِجة، وغِناها الاستراتيجي وإيجابيتها؟ في مجتمع كمجتمعنا حيث تكثر أجهزة السُّلطة، وتكون طقوسها جِد ظاهرة للعيان ووسائلها مضمونة، في هذا المجتمع الذي كان بلا شك أكثر إبداعًا من أي مجتمع آخَر في مجال الآليات السُّلطوية الدقيقة والبارعة؛ نتساءل لماذا هذا الميل إلى عدم الاعتراف بها، إلا في شكل المنع السلبي الهزيل؟ لماذا نحصر أجهزة الهيمنة في إجراءات قانون المنع وحدها؟

هناك سبب عام وتكتِّي،٤ يبدو مُسلَّمًا به: نحتمل السُّلطة شرط أن تُقنِّع جزءًا هامًّا من ذاتها. ونجاحها يتناسب مع ما تفلح في إخفائه من آلياتها. هل في وُسعنا أن نَقبل بالسُّلطة إذا كانت وقحة٥ كليًّا؟ السرية ليست بالنسبة إليها تجاوزًا، بل هي ضرورية لعملها. ليس لأنها تفرضها على الذين تُخضِعهم، ولكن ربما لأن السِّرِّية ضرورية لهؤلاء أيضًا: هل كانوا يَقبلون بها، لو لم يروا فيها حدًّا بسيطًا مفروضًا على رغبتهم، تاركة لهم قسطًا من الحرية لا يُمَس — ولو أنه محدود؟ فالسُّلطة، كحدٍّ مرسوم للحرية، هي في مجتمعنا على الأقل، الشكل العام لمقبُوليَّتها (إمكان قبولها).
ربما هناك سبب تاريخي لذلك؛ فمؤسَّسات السُّلطة الكبرى التي نمَت في القرون الوسطى — الملكية، الدولة وأجهزتها — انطلقت من تعدُّد سُلطات سابقة وضد هذه الأخيرة إلى حد ما: سُلطات كثيفة متشابكة، مُتصارِعة، سُلطات مرتبطة ارتباطًا مباشرًا أو غير مباشر بالسيطرة على الأرض، بامتلاك السلاح، بالرِّق، بالسيادة الإقطاعية والتبعية. وإذا كانت هذه المؤسَّسات قد استطاعت أن تتوطَّد، وإذا كانت قد عرفَت كيف تجعل نفسها مقبولة بفضل مجموعة من التحالفات التَّكتِيَّة؛ فذلك لأنها ظهرت كسُلطات تنظيمية وتحكيمية وتحديدية، وطريقة لإقامة نظام بين هذه السلطات وتثبيت مبدأ لتخفيفيها وتوزيعها وفق حدود معينة وتدرُّج ثابت. لقد عملت أشكال السُّلطة الكبيرة هذه، في وجه القوى المتعددة والمتجابهة، وفوق كل تلك الحقوق المتنافرة، وكأنها أساس الحق الذي يتمتع بسمات ثلاث. هي أن يقوم كمجموعة مُوحَّدة، وأن يماهي إرادته في القانون، وأن يمارس مهامه عبْر آليات المنع والعقاب، فإن قاعدته القائمة على السلام والعدل (Paix et Justitia)، التي يَدَّعيها، على السلام باعتباره يمنع الحروب الإقطاعية أو الخاصة، وعلى العدل باعتباره يُلغي تسوية الخلافات بطريقة فردية، لا شك في أن المقصود بنمو هذه المؤسَّسات الملكية الكبرى، كان شيئًا آخر غير بناء النظام القانوني السليم. ولكن، تلك كانت لغة السُّلطة، وتلك كانت الصورة التي أعطَتها عن نفسها، والتي شَهِدت عليها كل نظرية الحق العام الموضوعة في القرون الوسطى، أو المُجدَّدة انطلاقًا من القانون الروماني. لم يكن القانون فقط سلاحًا استخدمه الملوك بحذق. ولكنه كان، بالنسبة للنظام الملكي يُشكِّل صيغة ظهوره، وصورة مقبوليته. منذ القرون الوسطى، تجلَّى ممارسة السُّلطة دائمًا بمظهر القانون في المجتمعات الغربية.
ثمة تقليد يرتقي إلى القرن السابع عشر، أو إلى القرن التاسع عشر، عوَّدَنا على أن نضع السُّلطة الملكية المُطلَقة بجانب اللاحَقَّ: التعسُّف الاستبداد، النزوة وتقلُّب المزاج، والامتيازات والاستثناءات، والاستمرار التقليدي لحالات الأمر الواقع. ولكن ذلك يعني أنَّنا نسينا ميزة تاريخية أساسية، هي أن الأنظمة الملكية الغربية قد انْبنَت كأنظمة حقوقية، وانعكست صورتها عبْر نظريات الحق، وأنها شغَّلت آلياتها السُّلطوية في شكل الحق. والمأخذ القديم الذي أخذه بولنفيليه (Boulainvilliers) على المَلكية الفرنسية صحيح إجمالًا، وهو أنها استخدَمت الحق والقانونيين لتلغي الحقوق وتُذِل الأرستقراطية. من خلال نُمو المَلكيَّة ومؤسَّساتها، ترسَّخ هذا البعد للشأن القانوني — السياسي، إنه غير ملائم طبعًا للطريقة التي مُورِست وتُمارَس بها السُّلطة. ولكنه الرمز الذي تظهر به والذي تَفرض هي نفسها أن نَتصوَّرها به. فتاريخ المَلكية وتغطية الأفعال والإجراءات السُّلطوية بالخطاب القانوني — السياسي قد سارَا جنبًا إلى جنب.
والحال، أنه بالرغم من الجهود التي بُذِلَت لتخليص العنصر القانوني من المؤسَّسة المَلكية، ولتحرير العنصر السياسي من العنصر القانوني، فقد بقي تمثيل (تصور)٦ السُّلطة محصورًا ضمن هذا النظام. لنأخذ مثلين على ذلك: إن انتقاد المؤسَّسة المَلكية في فرنسا إبان القرن الثامن عشر لم يحصل ضِد النظام القانوني — الملكي، بل باسم نظام قانوني خالِص دقيق، حيث يمكن أن تسير جميع الإواليات السُّلطوية دون تجاوزات أو مخالَفات، وضد مَلكية كانت، رغم تأكيداتها، تَتجاوَز الحق باستمرار وتضع نفسها فوق القوانين. لقد استخدم النَّقد السياسي آنذاك كل التفكير القانوني الذي رافق نُمو المَلكية، ليدين هذه المَلكية، لكنه لم يُعِد النظر والبحث في المبدأ القائل: إن الحق يجب أن يكون هو شكل السُّلطة ذاته، وأن السُّلطة يجب أن تُمارَس دائمًا في شكل الحق. ثَمة نمط آخر لنقد المؤسَّسات السياسية ظهر في القرن التاسع عشر، وهو نقد أكثر جذرية؛ لأنه أراد أن يُثبِت ليس فقط أن السُّلطة الواقعية تَفلِت من قواعد الحق، بل إن نظام الحق نفسه لم يكن سوى طريقة لممارَسة العنف، وتجييره لمصلحة البعض، وإطلاق العنان لتمايزات ومظالم هيمنة معيَّنة، تحت ستار القانون العام، ولكن هذا النقد للحق يحصل أيضًا، على أساس المُسلَّمة القائلة، بأن السُّلطة يجب أن تُمارَس، جوهريًّا ومثاليًّا، بموجب حق أساسي.

في الواقع، ظل النظام الملكي مهيمنًا على تصوُّرنا للسُّلطة، بالرغم من اختلاف العصور والأهداف: ذلك أن رأس المَلك لم يُقطَع أبدًا في الفكر والتحليل السياسي. من هنا الأهمية التي لا تزال تُعطَى، في نظرية السُّلطة، لمسألة الحق والعنف، والقانون واللاشرعية، والإرادة والحرية؛ وبشكل خاصٍّ، لمسألة الدولة والسيادة (حتى ولو كانت هذه السيادة مَفحوصة، لا في شخص الملك، بل في كائن جماعي). إن التفكير في السُّلطة انطلاقًا من هذه المسائل، يعني التفكير في هذه المسائل انطلاقًا من شكل تاريخي خاص جدًّا بمجتمعاتنا هو: المَلكية القانونية، التي هي خاصة جدًّا، ومُؤقَّتة رغم كل شيء؛ لأنه، وإن بقيت أو لا تزال باقية أشكال كثيرة من هذه المَلكية، فقد اخترقَته شيئًا فشيئًا آليات سُلطوية جديدة تمامًا، وهي على الأرجح يَتعذَّر إرجاعها إلى تمثيل (تصوُّر) الحق. وكما سنرى لاحقًا، فإن هذه الإواليات السُّلطوية هي، في قِسم منها على الأقل، تلك التي اهتمَّت منذ القرن الثامن عشر بحياة الناس، ككائنات حية. وإذا صحَّ أن الشأن القانوني قد أفاد لتمثيل سُلطة مركزة أساسيًّا حول الأخذ والموت، ولو كان هذا التمثيل غير كامل طبعًا، فإنه يَتنافر تمامًا مع الأساليب السُّلطوية الجديدة، التي تعمل لا بواسطة الحق بل بواسطة التقنية، لا بواسطة القانون بل بواسطة الضبط، ولا بواسطة العقاب بل بواسطة الرقابة، والتي تُمارَس على مستويات وحسب أشكال تتجاوز الدولة وأجهزتها. منذ قرون، دخلْنا في طراز مجتمعي يَتناقَص فيه إمكان أن يرمز الشأن القانوني إلى السُّلطة، أو أن يُشكِّل نسق تمثيلها. فالمنحنى الذي نسلكه يُبعدها أكثر فأكثر عن عهد الحق، الذي كان قد بدأ يتراجع إلى الماضي، حينما بدَت الثورة الفرنسية ومعها عصر الدساتير والقوانين یُبشِّران به لمستقبل قريب.

إن هذا التمثيل القانوني لا يزال سائدًا في التحليلات المعاصرة، التي تتناول علاقات السُّلطة بالجنس، والحال، أن المشكلة ليست في أن نعرف ما إذا كانت الرغبة غريبة تمامًا عن السُّلطة، أو ما إذا كانت مسابقة القانون كما يُظَن غالبًا، أو بالعكس ما إذا كان القانون هو الذي يُكوِّن الرغبة. فالمسألة ليست هنا. سواء كانت الرغبة في هذا أو ذاك، فإنَّنا نواصل تصوُّرَها، على أي حال، بالنسبة إلى سُلطة لم تزل قانونية وخَطابية، سلطة تَجد في لفظ القانون نقطتها المركزية. إننا لا نزال مُتعلِّقين بصورة معينة عن السُّلطة — القانون، وعن السُّلطة — السيادة، رسَمَها مُنظِّرُو الحق والمؤسَّسة المَلكية.

ومن هذه الصورة يجب أن نتحرَّر؛ أي من الامتياز النظري للقانون والسيادة، إذا أردْنا أن نحلل السُّلطة ضمن لعبة مجمل أساليبها الواقعية والتاريخية. يجب أن نبني تحليلية للسلطة التي لن تتخذ الحق بعد اليوم نموذجًا لها ورمزًا.

أعترف بطيبة خاطر أن مشروع كتابة هذا التاريخ للجنسانية، أو بالأحرى إجراء هذه السلسلة من الدراسات المتصلة بالعلاقات التاريخية بين السُّلطة والخطاب حول الجنس، هو مشروع دائري، بمعنى أن الأمر يتعلق بمحاولتين تُحيل إحداهما إلى الأخرى. لنحاول أن نتخلص من تمثيل قانوني وسلبي للسلطة، وأن تَعْدِل عن التفكير فيها من زاوية القانون والمنع والحرية والسيادة. ولكن، كيف نحلل عندئذٍ ما حدث في التاريخ الراهن بصدد ذلك الشيء من حياتنا وجسدنا، الأكثر حظرًا ظاهريًّا، الذي هو الجنس؟ كيف نُفذَت السُّلطة إلى الجنس إن لم يكن عَن طرق المنع والصد؟ وبأية آليات أو تكتيكات أو جاهزيات؟ ولكن، لنسلِّم في المقابل بأن فحصًا دقيقًا للأمور يكشف لنا بأن السُّلطة في المجتمَعات الحديثة، لم تحكم الجنسانية فعلًا، من قِبَل طريق القانون والسيادة. لنفرض أن التَّحليل التاريخي قد كشف عن وجود «تكنولوجيا» حقيقية للجنس أكثر تعقيدًا بكثير، وخصوصًا أكثر إيجابية من كونه مجرد حصيلة «دفاع» وحسب عندئذ، ألا يرغمنا هذا المثل — الذي لا يمكننا أن نقلل من اعتباره متميزًا، بما أن السُّلطة تعمل هنا أكثر من أي موضع آخر، كمنع ونهي — ألا يرغمنا على أن نعتمد، بشأن السُّلطة مبادئ للتحليل غير خاضعة لنظام الحق وشكل القانون؟ المطلوب إذًا هو، في آنٍ معًا، أن نكون شبكة جديدة للتفسير التاريخي، بِتبنِّي نظرية أخرى للسُّلطة، وأن نتقدَّم شيئًا فشيئًا نحو مفهوم جديد للسلطة بمزيد من التمحيص في جملة المادة التاريخية. فالمقصود هو، في آنٍ واحد، التفكير في الجنس بدون القانون، وفي السُّلطة بدون المُلك.

(٢) المنهج Méthode

إذن: علينا أن نُحلِّل تكوُّن نمط معين من المعرفة حول الجنس من منظور السُّلطة لا من منظور القمع أو القانون. ولكن كلمة «سُلطة» هذه قد تُسبِّب الكثير من سوء الفهم، سوء فهم يتناول هوية السُّلطة وشكلها ووحدتها. بكلمة سُلطة، لا أعني «السُّلطة» أي مجموعة المؤسَّسات والأجهزة التي تضمن خضوع المواطنين في إطار دولة ما. كذلك، لا أعني بكلمة سُلطة نمطًا من الإخضاع، الذي هو على العكس من العنف، إنما يتخذ شكل قاعدة.٧ وأخيرًا لا أعني بكلمة سُلطة نظامًا عامًّا من جهة الهيمنة، يمارسه عنصر أو مجموعة على عنصر آخَر أو مجموعة أخرى، تخترق مفاعيله الجسم الاجتماعي كله عبْر انحرافات متتالية. فالتحليل، من منظور السُّلطة، لا ينفي أن نفترض أن سيادة الدولة أو شكل القانون أو الوحدة الكلية لهيمنة ما، هي مُعطَيات أولية. إنما هي بالأحرى أشكال السُّلطة النهائية. بكلمة سلطة، يبدو لي أنه يجب أن يُفهَم قبل كل شيء تَعدُّد موازين القوى المُحايِثة للمجال الذي تُمارَس فيه، والمكوِّنة لتنظيمها؛ واللعبة التي تُحوِّل هذه الموازين وتُعزِّزها وتقلبها عن طريق مجابَهات ونزاعات متواصلة؛ وكلمة سلطة تعني أيضًا الدعم الذي تلقاه موازين القوى هذه في بعضها بعضًا، بحيث تشكل سلسلة أو نظامًا أو، بالعكس، التفاوتات أو التناقضات التي تعزل بعضها عن البعض الآخر. أخيرًا، تعني كلمة سلطة الاستراتيجيات التي بواسطتها تَفعَل موازين القوى فِعلَها، والتي تتجسَّد خطتها العامة أو تَبلوُرها المؤسَّسي في أجهزة الدولة، وصياغة القانون، والهيمنات الاجتماعية. فلا ينبغي أن نبحث عن شرط إمكان وجود السُّلطة، أو على أي حال عن وجهة النظر التي تُتيح فهْم ممارستها، لغاية نتائجها الأكثر «طرفية» (ثانوية)، والتي تسمح أيضًا باستخدام آلياتها كشبكة لإمكان فهْم الحقل الاجتماعي، ينبغي أن نبحث عن كل ذلك في الوجود الأوَّلي لنقطة مركزية، في مركز وحيد للسيادة، حيث كانت تنبعث من أشكال منحرقة وهابطة؛ فإن شرط إمكان وجود السُّلطة يَكمُن في هذا الأساس غير الثابت لموازين القوى التي تَخلق باستمرار، من خلال تفاوتها، أوضاعًا سُلطوية هي دائمًا محصورة وغير مستقرة؛ السُّلطة حاضرة في كل مكان ليس لأنها تمتاز بتجميع كل شيء ضمن وحدتها التي لا تُقهَر، بل لأنها تنتج ذاتها في كل لحظة، في كل نقطة، أو بالأحرى، في كل علاقة من نقطة إلى أخرى. السُّلطة في مكان ليس لأنها تشمل كل شيء؛ بل لأنها تأتي من كل مكان، والسُّلطة (بالحرف الكبير) في ما تَتصِف به من استمرار، وتكرار، وجمود، وإعادة إنتاج ذاتي ليست سوى النتيجة العامة التي تبرز انطلاقًا من جميع هذه العناصر المتحركة والتسلسل الذي يرتكز إلى كل عنصر من هذه العناصر ويحاول في المقابل تثبيتها. يجب أن يكون المرء بالطبع اسمانِيًّا (Nominaliste): فالسُّلطة ليست مؤسَّسة، وليست بنية، وليست قُدرة معيَّنة يَتمتَّع بها البعض. إنها الاسم الذي يُطلق على وضع استراتيجي مُعقَّد في مجتمع معيَّن.

إذن، هل يجب أن نقلب القاعدة ونقول إن السياسة هي الحرب التي نُواصلها بوسائل أخرى؟ إذا كنا لا نزال نريد الحفاظ على فارِق بين الحرب والسياسة، ربما علينا أن نقول بالأحرى إن تعدُّد موازين القوى هذا يمكن أن يرمز — جزئيًّا، لا كليًّا — إما في شكل «الحرب» أو في شكل «السياسة»، إنهما استراتيجيتان مختلفتان (إنما سريعتَا الوقوع الواحدة في الأخرى) لدمج موازين القوى المذكورة، غير المتوازنة، المتنافِرة، المُتقلِّبة والمتوترة.

حين نتبع هذا الخط، نستطيع أن نطرح عددًا من الافتراضات:

إن السُّلطة ليست شيئًا يُكتسَب، يُنتَزع أو يُقسَّم، ولا شيئًا يُحتَفظ به أو يُفقَد، السُّلطة تُمارَس انطلاقًا من نقاط لا تُحصى، وفي لعبة علاقات غير متكافئة ومتحركة.

إن العلاقات السُّلطوية ليست في موقع خارجانِي بالنسبة لأنماط أخرى من العلاقات (سياقات اقتصادية، صلات معرفية، علاقات جنسية)، إنما هي مُحايثة لها؛ إنها النتائج المباشرة للتقسيمات والتَّفاوتات والاختلافات التي تحصل فيها، وهي بالتبادل، الشروط الداخلية لهذه التمايزات. ليست العلاقات السُّلطوية في مواقع بنية فوقية تلعب دور المنع أو التجديد. إنما هي تُؤدِّي، حينما تكون، دورًا منتجًا بشكل مباشر.

إن السُّلطة تأتي من تحت؛ أي إنه لا يوجد في أساس العلاقات السُّلطوية، وكقاعدة عامة، تناقص مثنوي وإجمالي بين الحاكمين والمحكومين. إلا أن هذه الثنائية تنعكس من أعلى إلى أسفل، وعلى مجموعات ضيقة أكثر فأكثر حتى تصل إلى أعماق الجسم الاجتماعي. يجب أن نفترض بالأحرى أن علاقات القُرى المتعدِّدة التي تتكون وتَفعَل فِعلها في أجهزة الإنتاج، والعائلات، والجماعات الضَّيِّقة، والمؤسَّسات، إنما تفيد كركيزة لتوليد آثار تقسيمية كبيرة تجتاز الجسم الاجتماعي كله. عندئذ، تكون هذه الآثار التقسيمية خط قوة عامًّا يخترق المجابَهات المحلية ويربط فيما بينها. وطبعًا، بالمقابل، يجري بشأنها عمليات إعادة توزيع ورصف، ومجانسات وترتيبات تسلسلية وتقريبات معينة. فالهيمنات الكبرى هي النتائج التسلطية التي تدعم وتثير باستمرار حدة هذه المجابهات.

إن العلاقات السُّلطوية هي بآنٍ معًا قَصدية٨ وغير ذاتية. إذا كانت مفهومة، فعلًا، فليس لأنها قد تكون، من زاوية سببية نتيجة سلطة أخرى «تُفسِّرها»، بل لأن ثمة حسابًا يخترقها من جهة إلى أخرى، ومفادها: لا سُلطة تُمارَس بدون مجموعة أهداف ومقاصد. لكن هذا لا يعني أنها تَنجم عن اختيار أو قرار فرد معيَّن. لا نبحثَنَّ عن هيئة الأركان التي تُوجِّه عقلانيتها، ولا عن الطبقة التي تحكم، ولا عن الجماعات التي تشرف على أجهزة الدولة، ولا عن تلك التي تتخذ أهم القرارات الاقتصادية وتدير مجمل الشبكة السُّلطوية التي تعمل في مجتمع ما «وتُسيِّر هذا المجتمع». إن عقلانية السُّلطة هي عقلانية تكتيكات، غالبًا ما تكون صريحة جدًّا على المستوى المحدود الذي تندرج فيه — الوقاحة الموقعية للسلطة — والتي، بترابطها ببعضها بعضًا، واستدعائها لبعضها بعضًا وانتشارها، وبإيجادها في موضع آخر الدعم والشرط اللَّازِمَين لها، كل ذلك إنما يرسم في النهاية جَاهزيات عامة: هنا المنطق واضح تمامًا، والأهداف ممكنة التفسير، ومع ذلك فقد يحدث ألا يكون هناك أحد ليجعلها مدركة ليفهمها أو أن تكون هناك قِلَّة فقط لتعبر عنها. هو ذا الطابع المضمر للاستراتيجيات الكبيرة المُغفَلة، شبه الصامتة، التي تُنسِّق تكتيكات ثرثارة، غالبًا ما يكون «مخترعوها» أو المسئولون عنها غير مُرائِين.٩
إنه حيثما توجد سلطة توجد مقاوَمة، وإنه مع ذلك — أو بالأحرى من جراء ذلك — لا تكون هذه المقاوَمة أبدًا في موقع خارجانِي بالنسبة إلى السُّلطة. هل ينبغي أن نقول إننا بالضرورة «ضمن» السُّلطة، وإننا لا «نفلت» منها، وإنه لا يُوجَد بالنسبة لها ما هو خارج مطلَق؛ لأننا خاضعون حتمًا للقانون؟ هل ينبغي أن نقول إن السُّلطة هي حيلة التاريخ، كما أن التاريخ هو حيلة العقل — وإنها هي التي تربح دائمًا؟ إذا قلنا ذلك نكون قد تجاهلْنا الطابع الترابطي تمامًا الذي تتصف به العلاقات السُّلطوية. فلا يمكن أن تنوجد هذه العلاقات إلا تبعًا لتعدُّد نقاط المقاوَمة، التي تلعب في إطار العلاقات السُّلطوية، دَور الخصم والهدف، والركيزة والمسند. فنقاط المقاوَمة هذه موجودة في كل مكان في الشبكة السُّلطوية. لا يُوجد إذًا بالنسبة إلى السلطنة مكان واحد للرفض الكبير. روح التمرد، مركز جميع أنواع العصيان، قانون واضح للثوري. توجد مقاوَمات١٠ تشكِّل حالات نوعية: مقاومات ممكنة، ضرورية، مستبعَدة، عفوية، وحشية، منعزلة، متَّفَق عليها، زاحفة، عنيفة، متضاربة، سريعة في قبول التسوية، مهتمَّة أو مستعِدة للتضحية؛ وبالتعريف، فإن هذه المقاومات متعذِّرة الوجود، إلا في الحقل الاستراتيجي للعلاقات السُّلطوية. ولكن هذا لا يعني أخيرًا أنها ليست سوى رَدَّة الفعل التي تُشكِّل بالنسبة للهمينة الأساسية، الوجه الآخر السلبي دومًا، والمحكوم عليه بالهزيمة إلى ما لا نهاية. لا تنجو المقاومات من بعض مبادئ متنافِرة، ولكنها ليست بالضرورة خديعة أو وعدًا خائبًا. إنها الطرف الآخر في العلاقات السُّلطوية، وهي تندرج فيها كأنها المقابِل المتعذَّر تحجيمه. إذًا، إنها هي أيضًا موزَّعة بصورة غير نظامية؛ فنقاط المقاوَمة وعقدها ومراكزها تنتشر بكثافة متفاوتة في الزمان والمكان، تثير أحيانًا مجموعات أو أفرادًا بصورة حاسمة، وتشعل بعض نقاط من الجسد، وبعض فترات من الحياة، وبعض أنماط من السلوك. هل إن تلك المقاومات هي قطيعات جذرية كبرى أو تقسيمات ثنائية وكثيفة؟ أحيانًا. ولكننا نكون في أغلب الأحيان أمام نقاط مقاوَمة متحركة وعابرة، تُحدِث في المجتمع انقسامات مُتبدلة، تفتِّت وحدات، تخلق تجمُّعات، تشقُّ الأفراد أنفسهم، تُقسِّمهم ثم تعيد تشكيلهم، وترسم فيهم، في أجسادهم وأرواحهم، مناطق لا تزول. وكما أن شبكة العلاقات السُّلطوية تُشكِّل في النهاية نسيجًا سميكًا يَخترِق المؤسَّسات والأجهزة، دون أن ينحصر فيها، كذلك يخترق انتشارُ نقاط المقاوَمة مختلف التراتِيبَات الاجتماعية والوحدات الفردية، ولهذا فلا ريب في الترميز الاستراتيجي لنقاط المقاوَمة هو الذي يجعل ثورة ما ممكنة، وذلك تقريبًا مثلما ترتكز الدولة على التكامل المؤسَّسي للعلاقات السُّلطوية.

هكذا علينا ضمن حقل علاقات القوى هذا أن نحاول تحليل آليات السُّلطة. وبذلك نستطيع التخلص من مذهب القانون — السيد الذي جذب الفكر السياسي زمنًا طويلًا. وإذا كان صحيحًا أن «ماكيافيللي» كان أحد القلائل الذين عالَجوا موضوع سلطة الأمير من زاوية علاقات القوى — وكان ذلك بلا ريب سبب «وقاحته» — فقد يَتعيَّن علينا أن نخطو خطوة إضافية ونستغني عن شخصية الأمير، ونُفسِّر آليات السُّلطة انطلاقًا من استراتيجية مُحايَثة لعلاقات القوى.

بالعودة إلى الجنس وإلى خطابات الحقيقة التي اهتمت به، فإن المسألة الواجب حلها لا ينبغي أن تكون هي التالية: كيف ولماذا تحتاج «اﻟ» سلطة إلى تكوين معرفة حول الجنس في بنية دولتية (étatique) معيَّنة؟ ولا كذلك: أية هيمنة شاملة أفادها الاهتمام بإنتاج خطابات حقيقية عن الجنس منذ القرن الثامن عشر؟ ولا حتى: أي قانون أشرف في وقت واحد على ضبط السلوك الجنسي وعلى ملاءمة ما كان يُقال عنه؟ بل المسألة هي: ما هي العلاقات السُّلطوية الأكثر مباشَرة والأكثر موضعية التي كانت تنشط في نوع معين من الخطابات عن الجنس، وفي شكل معيَّن من انتزاع الحقيقة الذي كان يظهر تاريخيًّا، وفي أماكن محدَّدة (حول جسد الطفل، بشأن جنس المرأة، بمناسبة ممارسات الحد من الولادات … إلخ). كيف تجعل هذه العلاقات السُّلطوية تلك الأنواع من الخطابات حول الجنس ممكنة؟ وبالعكس، كيف تُشكِّل هذه الخطابات ركائز لتلك العلاقات؟ وكيف تتبدَّل لعبة هذه العلاقات عبْر ممارستها بالذات — تقوية بعض العلاقات، وإضعاف البعض الآخر، آثار مقاومة، تركيزات نفسية مضادة — بحيث إنه لا يوجد هناك أي نمط ثابت ونهائي من الإخضاع؟ كيف تترابط هذه العلاقات السُّلطوية ببعضها بعضًا وفقًا لمنطق استراتيجية إجمالية تتخذ تراجعيًّا شكل سياسة موحَّدة وإرادوية للجنس؟ بالإجمال: بدلًا من أن ننسب إلى السلطة الكبرى، في شكلها الوحيد، جميع ألوان العنف الصغيرة للغاية التي تُمارَس على الجنس، وجميع النظرات المشبوهة التي تُوجَّه إليه وجميع المخابئ التي تُطمَس فيها معرفته تلمس فيها معرفته الممكنة، فحريٌّ بنا أن نغرس الإنتاج الغزير من الخطابات حول الجنس في حقل العلاقات السُّلطوية المتعددة والمتحركة.

هذا ما يؤدِّي بنا، قبل كل شيء، إلى طرح أربع قواعد، لكنَّ هذه القواعد ليست ضرورات منهجية، إنها، في الأكثر، توجُّهات احتياطية.

(٢-١) قاعدة المحايثة

يجب ألا نعتبر أنه يُوجَد مجال ما من مجالات الجنسانية يرتبط حكمًا، بمعرفة علمية، مجرَّدة وحرة، غير أن مقتضيات السُّلطة الاقتصادية أو الأيديولوجية … حرَّكت بشأنه آليات المنع. إذا كانت الجنسانية قد تكوَّنَت كميدان مفتوح للمعرفة، فذلك انطلاقًا من علاقات سلطوية تأسَّست كموضوع ممكن. وإذا كانت السلطة في المقابل قد تمكَّنَت من استهداف الجنسانية؛ فذلك لأن تقنيات معرفية وإجراءات خَطابية قد أهَّلَتها لذلك. فبين التقنيات المعرفية والاستراتيجيات السُّلطوية لا توجد أية عملة خارجانية، حتى لو أن لكل منها دورها النوعي، ولو أنها مُتمفصِلة على بعضها انطلاقًا من اختلافها. سننطلق إذًا مما يمكن تسميته «المراكز المحلية» للسلطة — المعرفة. لنأخذ مثلًا العلاقات التي تقوم بين التائب والمعرِّف أو بين المؤمِن والمرشِد. هنا وتحت إشارة «الشهوة» التي يجب السيطرة عليها، فإن أشكالًا مختلفة من الخطابات — فحص الضمير، استجوابات، اعترافات، تفسیرات، مقابلات — تنقل، بما يشبه حركة ذهاب واياب متواصلة، أشكالًا من الإخضاع وترسيمات من المعرفة. كذلك شكل جسم الطفل المراقب، منذ القرن الثامن عشر بخاصة، «مركزًا» محليًّا آخر للسلطة — المعرفة، إذا كان هذا الطفل مراقَبًا ومحاطًا في مهده وسريره وغرفته بدورية من الأهل، والمرضعات، والخدم، والمربين، والأطباء، المتنبِّهين جميعًا لأقل مظهر من مظاهر حياته الجنسية.

(٢-٢) قواعد المتغيرات المتواصلة

لا ينبغي البحث عمَّن يملك السلطة في نظام الجنسانية (الرجال، الراشدون، الأهل، الأطباء)، وعمَّن هو محروم منها (النساء، المراهقون، الأطفال، المرضى …)، ولا عمَّن له الحق في المعرفة ومن يتم إبقاؤه عُنوة في حالة الجهل. يجب أن نبحث بالأحرى عن مخطَّط التغيُّرات التي تستتبعها موازين القوى من جرَّاء لعبتها بالذات. ذاك أن «توزيعات السلطة» و«امتلاكات المعرفة» لا تمثل سوى مقاطع آنية، من سياق قلب العلاقة، أو النمو المتزامن لطرفيها. فعلاقات السلطة — المعرفة ليست أشكالًا معينة من التوزيع، بل هي «قوالب تحولات». إن المجموعة المكونة في القرن التاسع عشر من: الأب، والأم، والمربِّي، والطبيب حول الطفل وجنسه، أصابتها تغيرات مستمرة وانزياحات متواصِلة، كانت إحدى نتائجها الأكثر إذهالًا انقلابًا غريبًا؛ ففي حين أثيرت مسألة جنسانية الطفل، في البداية ضمن علاقة تقوم مباشَرة بين الطبيب والأهل (بشكل نصائح، وإرشادات لمراقبة الطفل، أو أخطار تُهدِّد مستقبله). فقد غدت مسألة جنسانية الراشدِين أنفسهم مطروحة، في النهاية، ضمن علاقة الطبيب النفساني بالطفل.

(٢-٣) قاعدة التحكُّم المطلق

إن أي «مركز محلي» أو أي «مخطَّط تغيير» لا يمكن أن يعمل إن لم يكن مندرجًا في نهاية الاعتبار ضمن استراتيجية شاملة، وذلك عبْر سلسلة ترابطات متتابعة. وبالعكس، كذلك لا يمكن لأية استراتيجية أن تؤمِّن نتائج كُلية ما لم تكن مستنِدة إلى علاقات محدَّدة وثابتة لا تكون تطبيقًا أو نتيجة لها، بل دعامة وركيزة. ليس ثمة انقطاع بين هذه وتلك، كما لو كان الأمر يتعلق بمستويَين مختلفين (أحدهما مجهري والآخر عياني). كذلك، لا تَجانُس بين الاثنين (كما لو أن إحداهما هي إسقاط مكبَّر للأخرى أو تصغير لها). هناك، بالأحرى تحكُّم مزدوج؛ فاستراتيجية تخضع لنوعية التكتيكات الممكِنة، والتكتيكات تخضع للإطار الاستراتيجي الذي يُسيِّرها. وهكذا، فإن الأب في الأسرة ليس «ممثل» الملك أو الدولة، والملك والدولة ليسَا إسقاطَين للأب على مستوًى آخر. والعائلة لا تعتبر إنتاج المجتمَع، والمجتمع بالمقابل لا يقلد العائلة. لكن الجهاز العائلي، بما يتصف به من انعزال واختلاف شكلي عن الإواليات السُّلطوية الأخرى، استطاع أن يكون ركيزة «للمناورات» الكبرى من أجل الدعوة المالتوسية إلى تحديد النسل، أو الحثِّ على زيادة عدد السكان، أو من أجل طَبْنَنة الجنس، أو الطَّبْنَنة النفسية (Psychiatrisatio) لأشكاله غير التناسلية.

(٢-٤) قاعدة التعدد التَّكتي للخطابات

لا ينبغي تحليل ما يُقال عن الجنس وكانه الانعكاس السطحي للإواليات السُّلطوية. ففي الخطاب بالذات يحدث أن تتمفصل السُّلطة والمعرفة. ولهذا السبب عينه، ينبغي أن نتصوَّر الخطاب كمجموعة أجزاء غير متصلة، وظيفتها التَّكتية غير متماثلة ولا ثابتة. بصورة أدق، يجب ألَّا نتخيَّل عالَمًا للخطاب، مقسَّمًا بين الخِطاب المقبول والخِطاب المرفوض، أو بين الخطاب المسيطِر والخطاب المسيطَر عليه؛ بل يجب أن نتصوره كمجموعة عناصر خَطابية تستطيع أن تعمل في استراتيجيات مختلفة. وهذا التوزيع هو الذي ينبغي استعادته، مع ما يتضمن من أشياء مبيَّنة وأشياء مخفيَّة، ومن تعبيرات مطلوبة وممنوعة؛ ومع ما يفرضه من متغيرات ونتائج مختلفة باختلاف الإنسان الذي يتكلَّم، وموقعه السُّلطوي، والإطار المؤسَّسي الذي يكون فيه؛ ومع ما ينطوي عليه أيضًا من تبديل انزياحات، وإعادات استعمال لصيغ متماثِلة من أجل أهداف متناقضة. فالخطابات، وكذلك الصمتات، لا تخضع نهائيًّا للسلطة أو تثور عليها. ينبغي أن نُسلِّم بوجود لعبة مُعقَّدة وغير مُستقرَّة حيث يكون الخطاب، في آنٍ واحد، أداة في يد السلطة ونتيجة لممارستها، وقد يكون عائقًا مصطدمًا به، ونقطة مقاوَمة وانطلاقة لاستراتيجية مناقضة. الخطاب ينقل السُّلطة وينتجها؛ يُقوِّيها، ولكنه أيضًا يُلغِّمها يُفجِّرها، يجعلها هزيلة، ويسمح بإلغائها. كذلك الأمر بالنسبة للصَّمت والسر، فهما يُخبِّئان السلطة، ويُرسِّخان ممنوعاتها؛ لكنهما في الوقت نفسه يُرخيان قبضتها، ويُتيحان تساهلات غامضة تقريبًا. لنفكر مثلًا في تاريخ ما كان بامتياز «الخطيئة»١١ الكبرى ضد الطبيعة. فالكتمان الشديد للنصوص الموضوعة حول اللواط — تلك المقولة الغامضة جدًّا — والتحفظ شبه العام عن التكلم عليه، أفسح المجال زمنًا طويلًا لموقف مزدوج؛ من جهةٍ: قسوة شديدة، (كان حرق المُذنِب لا يزال مطبقًا في القرن الثامن عشر، دون أن يصدر أي احتجاج مهم قبل منتصف القرن)، ومن جهة ثانية: تساهُل كبير جدًّا بلا شك (نستنتجه بطريقة غير مباشرة من نُدرة الأحكام القضائية، ونتبينه بطريقة أكثر مباشرة، من خلال بعض الشهادات حول الجمعيات الرجالية التي أمكن وجودها في الجيش والبلاطات). والحال، أن ظهور مجموعة كبيرة من الخِطابات خلال القرن التاسع عشر، في الطِّب النفسي والاجتهاد القانوني وحتى في الأدب، حول الأنواع الرئيسية والفرعية للجنسية المثلية والشذوذ واللواط، و«التخنث النفسي»، قد سمح بالتأكيد بأن تُحرِز المراقبات الاجتماعية تقدمًا كبيرًا جدًّا في هذا المجال من «الانحراف»؛ لكنه أتاح أيضًا تكوين خطاب «مقابل»: فقد أخذت الجنسية المثلية تتحدث عن نفسها، تطالب بشرعيتها، أو ﺑ «طبيعتها»، مستعملة الألفاظ والمقولات ذاتها التي أُدينَت بها طبيًّا. ليس هناك، في جهة معينة، خطاب السلطة، وفي الجهة المقابلة خطاب آخَر يعارضه. فالخطابات هي عناصر أو كُتل تكتية في حقل علاقات القوى. قد تكون هناك أشكال متباينة منها، وحتى متناقضة، داخل الاستراتيجية الواحدة نفسها. وبالعكس يمكن أن تتنقل هذه الخطابات بین استراتيجيات متناقضة دون أن يَتبدَّل شكلها. لا مجال لكي نسأل الخطابات حول الجنس عن أية نظرية مُضمرة تنشأ، أو أية تقسيمات أخلاقية تجدد، أو أية ايديولوجية — مهيمنة أو خاضعة — تمثل؛ إنما يجب أن نستجوب الخطابات على مستويين، مستوى انتاجيتها التكتية (ما هي النتائج السُّلطوية والمعرفية المتبادَلة التي تُؤمِّنها)، ثم مستوى انتمائها الاستراتيجي (أية ظروف أو أي علاقة قوى جعلت استعمال هذه الخطابات ضروريًّا، في هذه المرحلة أو تلك من المجابهات المختلفة التي تحصل).

إن المقصود، باختصار، هو أن نَتَّجه نحو مفهوم للسلطة يستبدل امتياز القانون بمنظور الموضوعية، وامتياز المحظور بمنظور الفعالية التكتية، ويستبدل امتياز السيادة بتحليل لحقل علاقات القوى المتعدد العناصر، والمتحرك، حيث تحصل نتائج تَسلُّطية إجمالية، إنما غير مستقرة كليًّا. يجب أن نُحِل النموذج الاستراتيجي محل نموذج الحق. وذلك ليس بدافع اختيار تأمُّلي أو أفضلية نظرية؛ بل بالفعل؛ لأن إحدى السمات الجوهرية للمجتمعات الغربية هي أن علاقات القوى التي طالما وُجِدت في الحرب، في جميع أشكال الحرب، تعبيرها الأساسي، قد تركَّزت شيئًا فشيئًا في نطاق السلطة السياسية.

(٣) الميدان Domaine

لا ينبغي أن نصف الجنسانية كنَزْوة جموحة، غريبة بطبيعتها عن السُّلطة وعاصية عليها بالضرورة، وأن السُّلطة بالمقابل تستنفذ قواها في إخضاع هذه النزوة وغالبًا ما تفشل في السيطرة عليها كليًّا. تبدو الجنسانية، بالأحرى، كنقطة عبور كثيفة جدًّا للعلاقات السُّلطوية بين الرجال والنساء، بين الشباب والشيوخ، بين الأهل والأولاد، بين المُربِّين والطلاب، بين الكهنة والعلمانيين، بين الإدارة والسُّكان. في إطار العلاقات السُّلطوية، ليست الجنسانية العنصر الأكثر خفاء. إنما هي، بالأحرى، من العناصر — الوسائل — الأكثر قابلية للاستعمال، صالحة لأكبر عدد من المناوَرات، ولأن تُشكِّل مرتكَزًا وملتقًى لأكثر الاستراتيجيات تنوُّعًا.

ليست هناك استراتيجية واحدة، شاملة، صالحة للمجتمع كله، وتطبق مع ذلك بطريقة واحدة على جميع مظاهر الجنس: لقد جَرَت، مثلًا، عبْر وسائل شتى محاولة حصْر الجنس كله في وظيفته الإنجابية، وفي شكله المتغاير بين ذكر وأنثى من البالغين، وفي شرعيته الزواجية، لكن هذه المحاوَلة قصرت عن عرض الأهداف المتعددة والوسائل الكثيرة المستخدمة في السياسات الجنسية التي عُنِيت بالجنسين، وبمختلف الأعمار والطبقات الاجتماعية.

يبدو أننا نستطيع في مقارَبة أولية أن نميِّز ابتداء من القرن الثامن عشر، بين أربع مجموعات استراتيجية كبرى تُطوِّر بشأن الجنس جاهزيات مخصَّصة من المعرفة والسُّلطة. لم تنشأ هذه الجاهزيات آنذاك دفعة واحدة وبشكل مُكتمِل. لكنها، اكتسبَت شيئًا من الترابط وحققت فعالية على مستوى السلطة، وإنتاجية على مستوى المعرفة تَسمحان لنا بوصفها في استقلاليتها النسبية:
  • هسترة (Hysterisation) جسد المرأة:١٢ ثمة سياق مُثلَّت المراحل بواسطته حُلِّل أولًا جسد المرأة — وُصف وشنع كجسد مُشبَّع تمامًا بالجنسانية، بعد ذلك، تم إدخال هذا الجسد في ميدان الممارسات الطبية تحت تأثير باثولوجيا مُختصة به. وأخيرًا، جرى ربط هذا الجسد عضويًّا بالجسم الاجتماعي (ليؤمن خصبه المنظَّم)،١٣ والحيز العائلي (ليكون فيه عنصرًا أساسيًّا ووظيفيًّا) وبحياة الأطفال (لينتجها ويضمنها بمسئولية بيولوجية — أخلاقية تدوم طوال فترة التربية). إن الأم، في صورتها السلبية «كامرأة عصابية»، هي الشكل الأكثر وضوحًا لهذه الهَسْترة.
  • تَرْبَنة (Pédagogisation)١٤ جنس الطفل: تؤكد هذه النظرة أمرين؛ أولًا: أن جميع الأطفال تقريبًا يستسلمون، أو قابلون للاستسلام لنشاط جنسي؛ وثانيًا: أنه كما كان هذا النشاط الجنسي غير مناسب، «طبيعيًّا» و«مخالفًا للطبيعة» في آنٍ معًا، فإنه ينطوي على أخطار جسدية وأخلاقية، فردية وجماعية؛ لقد تم تعريف الأطفال ككائنات جنسية «تمهيدية»، هي دون الجنس، وضمنه أصلًا، وواقعة على مِقْسم خطر؛ ويتعين على الوالدين والعائلات والمُربِّين والأطباء وعلماء النفس، فيما بعد، أن يعتنوا، بشكل متواصل، بهذه البزرة الجنسية القيمة والخطرة، الخطرة والعرضة للخطر؛ تظهر هذه التربنة خصوصًا في الحرب ضد العادة السرية، التي استمرت في الغرب حوالي قرنين من الزمن.
  • جَمعَنة (Socialisation) التصرفات الإنجابية: جمعنة اقتصادية: عبْر جميع أشكال التحريض أو اللجم في شأن خصب الزوجين، بواسطة تدابير «اجتماعية» أو ضريبية؛ وجمعنة سياسية: بتحميل الأزواج المسئولية تجاه الجسم الاجتماعي برمته (الذي ينبغي تقليصه أو بالعكس توسيعه)؛ وجمعنة طبية: من خلال الخطورة المرضية التي تهدِّد الفرد والجنس البشري، والمعرفة إلى ممارسات تحديد النسل.
  • أخيرًا، الطَّبْنَنة النفسية (Psychiatrisation) للذة المنحرفة: لقد عُزِلت الغريزة الجنسية كغريزة بيولوجية ونفسية مستقلة، وأُجرِي فحص عيادي لجميع أشكال الشذوذ التي قد تصيبها، ونُسب إلى الغريزة الجنسية دور في جعل السلوك بأسره سويًّا أو مرضيًّا؛ وأخيرًا جرى البحث عن تقنية إصلاحية لمعالَجة هذه التصرفات المنحرفة والشاذة.
لقد برزَت أربع شخصيات في إطار الاهتمام بالجنس الذي امتَدَّ طوال القرن التاسع عشر، وكانت موضوعات معرفية مفضلة، وأهدافًا ومرتكزات لمشاريع المعرفة وهي: المرأة الهستيرية، الطفل الذي يمارس العادة السرية، الزوجان المالتوسيان١٥ والراشد المنحرف. وتلازمَت كل شخصية مع إحدى تلك الاستراتيجيات التي خَرقَت واستخدمت، كلٌّ على طريقتها، جنس الأطفال والنساء والرجال.

ما هو المقصود بهذه الاستراتيجيات؟ أهو محاربة الجنسانية؟ أم السعي للسيطرة عليها؟ أم محاولة لتحسين تنظيمها وإخفاء ما قد تَنطوِي عليه من عدم احتشام وجاذبية وعصيان؟ أم طريقة لكي يُصاغ حولها ذلك القسط من المعرفة الذي يكون مقبولًا تمامًا أو مفيدًا؟ في الواقع، إن المقصود هو بالأحرى إنتاج هذه الجنسانية بالذات. لا ينبغي أن نعتبر الجنسانية كنوع مُعيَّن من الطبيعة تُحاول السُّلطة قمعه، أو كميدان خفي تحاول المعرفة كشفه تدريجيًّا. إنها الاسم الذي يمكن أن تُطلِقه على جاهزية تاريخية. إنها لیست واقعًا سُفليًّا تُمارَس عليه تأثيرات صعبة، بل شبكة سطحية كبيرة حيث تترابط فيما بينها، وفقًا للاستراتيجيات المعرفية والسُّلطوية الكبرى، العوامل التالية: تنشيط الأجسام، تقوية الملذات، الحث على الخطاب، تكوين المعارف، وتعزيز المراقَبة والمقاومة.

يمكننا التسليم، بدون شك بأن علاقات الجنس أفسحَت المجال في كل مجتمع لقيام جاهزية تَحالُف، مكوَّن من: نظام للزواج، لتثبيت القرابات وتَنميتها، ونقْل الأسماء والممتلكات، على أن جهاز التحالُف الزواجي هذا، مع آليات الإكراه التي تُؤمِّن وجوده والمَعرفة المُعقَّدة غالبًا التي تتطلبها فقد من أهميته ما لم تَعد السياقات الاقتصادية والْبِنى السياسية تجد فيه أداة ملائمة أو دعامة كافية. لقد ابتكرَت المجتمعات الغربية الحديثة، منذ القرن الثامن عشر بشكل خاص، جهازًا١٦ جديدًا انضاف إلى جهاز التحالُف الزواجي، وساهَم في تقليص أهميته دون إقصائه. إنه جهاز الجنسانية، الذي يرتكز على الشركاء في الحياة الجنسية، شأنه شأن جهاز التحالُف الزواجي، ولكن بطريقة مختلفة تمامًا. في وسْعِنا أن نُقارِن بين الجهازين نقطة نقطة. فجهاز التحالف الزواجي مبنيٌّ حول مجموعة قواعد تُحدِّد المباح والممنوع، المأمور به والمنهي عنه؛ بينما يعمل جهاز الجنسانية وفقًا لتقنيات سُلطوية متحرِّكة، ظرفية ومتعددة الأشكال. ومن أهم أهداف جهاز التحالف الزواجي إعادة إنتاج لعبة العلاقات والمحافَظة على القانون الذي يحكمها؛ أما جهاز الجنسانية، فيُسبِّب بالمقابل توسيعًا مستمرًّا لمجالات الرقابة وأشكالها. إن الشيء الموافق بالنسبة للأول هو الصلة بين شريكين لهما وضع محدَّد، أما بالنسبة للثاني، فهو أحاسيس الجسد ونوعية الملذات، وطبيعة المشاعر، مَهما تكن خفيفة أو دقيقة. وأخيرًا، إذا كان جهاز التحالُف الزواجي متمفصلًا بقوة حول الاقتصاد؛ نظرًا للدور الذي يستطيع أن يلعبه في نقل الثروات أو انتقالها، فجهاز الجنسانية مرتبط بالاقتصاد بوسائط عديدة ودقيقة، ولكن أهمها هو: الجسد، — الجسد الذي ينتج ويستهلك. باختصار، إن جهاز التحالُف الزواجي مُوجَّه نحو تأمين استقرار الجسم الاجتماعي؛ حيث إن مهمته هي المحافظة عليه؛ من هنا علاقته المميَّزة بالقانون، ومن هنا أيضًا كون «إعادة الإنتاج» (الإنجاب) هي ذروة نشاطه؛ أما جهاز الجنسانية، فليست عِلَّة وجوده أن يعيد إنتاج ذاته، بل أن يتكاثر، ويُجدِّد، ويضم، ويبتكر، ويلج الأجساد بصورة تفصيلية أكثر فأكثر، وأن يسيطر على نمو السُّكَّان بصورة إجمالية أكثر فأكثر. ينبغي إذًا أن نُسلِّم بصحة ثلاث أو أربع أطروحات مخالِفة للطرح الذي ينطوي على موضوعة جنسانية مقموعة من قِبَل أشكال المجتمع الحديثة: الجنسانية المرتبطة بأجهزة سُلطوية حديثة. لقد شهدت نموًّا متزايدًا منذ القرن السابع عشر؛ ولم يكن التنظيم الذي دعَّمها منذ ذلك الحين موجَّهًا نحو إعادة الإنتاج (الإنجاب)، بل كان مرتبطًا منذ البداية بتعزيز الجسد — بتثمينه كموضوع للمعرفة وكعنصر في العلاقات السُّلطوية.
ليس صحيحًا القول إن جهاز الجنسانية قد حلَّ محل جهاز التحالُف الزواجي. نستطيع أن نتصوَّر إمكان حدوث ذلك في يوم من الأيام، ولكنه، في الواقع، إن كان اليوم يسعى إلى طَمْسِه، فإنه لم يُزِله ولم يُلِغ فائدته. ولكن من جهة أخرى فإن جهاز الجنسانية قد نشأ، تاريخيًّا، حول جهاز التحالف الزواجي وانطلاقًا منه. فممارَسة الاعتراف، التوبة، ثم فحص الضمير، والإرشاد الروحي، كانت النواة المكوِّنة لهذا الجهاز. والحال أننا رأينا١٧ أن ما كان في البدء موضوع كرسي الاعتراف هو الجنس باعتباره ركيزة لعلاقات مُعيَّنة. كان السؤال المطروح يَتصِل بالعلاقات الجنسية المُباحة أو الممنوحة (زني، علاقة خارج الزواج، علاقة مع شخص تحظُرها قرابة العصب أو الحالة الخاصة، الطابع الشرعي أو اللاشرعي للمجامعة) ثم، تدريجيًّا، جرَى الانتقال من مسألية العلاقة، إلى مسألية «الشهوة»؛ أي الجسد والإحساس وطبيعة اللذة، وتقلُّبات الشهوة الأكثر خفاء وأشكال التلذُّذ والقبول الأكثر دقة. وقد حدَث كل ذلك تحت تأثير الإرشاد الرعوي الجديد — وتطبيقه في المدارس الإكليريكية والمعاهد والأديرة. كانت «الجنسانية» قيد الولادة من تقنية سُلطوية كانت مركَّزة في الأصل حول التحالف، منذ ذلك الوقت، استمرَّت في العمل بالنسبة لجهاز التحالُف، وبالاعتماد عليه. لقد أتاحَت الخلية العائلية، مِثلمَا تم تثمينها في غضون القرن الثامن عشر، أن تنمو، أهم عناصر جهاز الجنسانية حول بُعدَيها الرئيسيين: محور الزوج — الزوجة، ومحور الأهل — الأولاد (الجسد الأنثوي، نمو الأطفال المبكر، تنظيم الولادات، وبدرجة أقل طبعًا، تحديد المنحرفين جنسيًّا). لا ينبغي أن نفهم العائلة في شكلها المعاصر كبنية تحالفية اجتماعية واقتصادية وسياسية، تَستبعِد الجنسانية، أو على الأقل تلجمها أو تُخفِّف منها بقدر المستطاع، ولا تُبقِي إلا على وظائفها النافعة. فدور العائلة هو، بالعكس، أن ترسِّخ الجنسانية وتكون الدعامة الدائمة لها. إنها تُؤمِّن إنتاج جنسانية غير متجانسة مع امتيازات التحالف، مع إفساح المجال لأن ينفذ إلى أنظمة التحالف الزواجي تكتيك سُلطوي جديد كانت تَجهلُه حتى ذلك الحين، العائلة هي المُحوِّل بين الجنسانية والتحالُف الزواجي؛ فهي تنقل القانون والبُعد القانوني إلى جهاز الجنسانية؛ وتنقل اقتصاد اللذة وشدة الأحاسيس إلى نظام التحالف.

إن هذا الترابط بين جهاز التحالُف الزواجي وجهاز الجنسانية في شكل العائلة يسمح بِفهم عدد من الوقائع: أن العائلة أصبحَت ابتداء من القرن الثامن عشر مكانًا إلزاميًّا للعواطف والمشاعر والحب؛ وأن العائلة هي الموضع المميَّز لتفتُّح الجنسانية؛ ولهذا السبب، تُولَد هذه الأخيرة مشمولة بنظام التحريم. من الممكن أن يكون منع ارتكاب المَحارم قاعدة ضرورية، من الناحية الوظيفية، في المجتمعات التي تَسودها أجهزة التحالُف الزواجي. أما في مجتمع كمجتمعنا، حيث العائلة. هي بؤرة الجنسانية الأكثر نشاطًا، وحيث إن متطلبات هذه الأخيرة هي التي تحافظ بالتأكيد على وجود العائلة واستمراره، فإن نظام التحريم يحتل مركزًا رئيسًا، لأسباب مختلفة تمامًا وعلى نحو مغاير تمامًا. وهو في العائلة، مطلوب ومرفوض باستمرار، موضوع وسواس وتحريض، سِر مُهاب وصلة لا بد منها. يبدو ارتكاب المحارم كشيء ممنوع بتاتًا في العائلة، بقدر ما تلعب دور جهاز التحالف الزواجي، لكنه أيضًا الشيء المطلوب باستمرار حتى تكون العائلة مركز إثارة دائمة للجنسانية. إذا كان الغرب قد اهتم كثيرًا طوال أكثر من قرن بالنهي عن المحارم، وإذا كان قد اعتبر ذلك باتفاق شبه عام إحدى الكليات الاجتماعية وأحد المعابر المحتومة إلى الثقافة، فربما لأن الغرب كان يجد فيه وسيلة لحماية نفسه، لا من رغبة في ارتكاب المحارم، بل من اتساع وانعكاسات جهاز الجنسانية الذي أنشئ والذي كانت سيِّئته، رغم حسناته الكثيرة، أنه يجهل قوانين التحالف الزواجي وأشكاله القانونية. فالتأكيد على أن كل مجتمع مهما يكن، وبالتالي مجتمعنا نحن، خاضع لقاعدة القواعد هذه، كان يضمن أن جهاز الجنسانية الذي كان قد بوشر التلاعب بنتائجه الغربية. ومنها التعزيز العاطفي للحيز العائلي لن يستطيع النجاة من نظام التحالف الزواجي الكبير والقديم. وهكذا، يَسْلم الحق حتى في الآلية السُّلطوية الجديدة؛ لأن تلك هي مفارقة هذا المجتمع الذي اخترع، منذ القرن الثامن عشر، كثيرًا من التكنولوجيات السُّلطوية البعيدة عن الحق، إنه يخشى نتائج هذه التكنولوجيات وتكاثرها، ويحاول أن يعيد ترميزها في أشكال الحق، وإذا كنَّا نسلِّم بأن المحارم الممنوعة هي عتبة كل ثقافة، فإن الجنسانية تصبح موضوعة منذ أقدم العصور تحت شعار القانون والحق. فإن الإثنولوجيا، بإعدادها المتكرِّر، منذ زمن طويل، لنظرية منع المَحارم العابرة للثقافات، قد أدَّت خدمات جُلَّى لجهاز الجنسانية الحديث، وللخطابات النظرية التي ينتجها.

يمكن أن يُفسَّر ما حدث منذ القرن السابع عشر، كما يلي: إن جهاز الجنسانية الذي نما في بادئ الأمر في هوامش المؤسسات العائلية (عبر إرشاد الضمائر والتربية)، أخذ يتمركز شيئًا فشيئًا حول العائلة. فما قد ينطوي على غرابة وعلى استحالة تذليل، وربما على خطورة بالنسبة إلى جهاز التحالف الزواجي؛ يظهر الشعور بهذا الخطر في الانتقادات الموجَّهة غالبًا إلى عدم تحفُّظ المرشدين، وبعد ذلك بقليل، في كل الجدل القائم حول تربية الأطفال١٨ الخاصة أو العامة، المؤسسية أو العائلية — كل ذلك أخذَته العائلة مجددًا في الاعتبار — فغدت عائلة مُعادَة التنظيم، ضيقة طبعًا، ومعزَّزة بالتأكيد بالنسبة إلى الوظائف القديمة التي كانت تمارسها في جهاز التحالف الزواجي، لقد بات الوالدان، الزوجان في العائلة، العنصُرين الأساسيين لجهاز الجنسانية الذي يرتكز، في الخارج، على الأطباء والمُربِّين، وعلى الأطباء النفسيين فيما بعد، والذي راح يتقدَّم، في الداخل، على علاقات التحالف، الزواجي، ليعمل بعد قليل على معالجتها نفسيًّا (psychologiser) أو تحليلها نفسيًّا (psychiatriser)، عندئذ، ظهرت تلك الشخصيات الجديدة: المرأة العصابية، الزوجة الباردة جنسيًّا، الأم اللامبالية أو الملاحقة بهواجس قاتلة، الزوج العاجز جنسيًّا، السادي، المنحرف، والفتاة المهسترة، المنهكة عصبيًّا، والولد المبكر النضج والخائر القوى جنسيًّا، والشاب اللوطي الذي يرفض الزواج أو يهمل زوجته. هذه الشخصيات تشكل خليطًا أفرزه التحالف الزواجي الضال والجنسانية الشاذة، وهي تنقل اضطراب هذه الأخيرة إلى نطاق الأول؛ كما تشكل بالنسبة لنظام التحالف الزواجي فرصة لإبراز حقوقه في نظام الجنسانية. حينئذ، يصدر عن العائلة طلب مستمر: طلب بأن تساعد على حل هذه المآزق المؤلمة للجنسانية والتحالف الزواجي. ولكونها واقعة في فخ جهاز الجنسانية هذا، الذي حاصرها من الخارج وساهم في ترسيخها في شكلها الحديث، فإنها تشكر بإسهاب معاناتها الجنسية إلى الأطباء والمربين والأطباء النفسيين، كما إلى الكهنة والقساوسة، وإلى جميع «الخبراء» المحتملين، كل شيء يحصل كما لو أنها اكتشفت فجأة السر الرهيب للشيء الذي تم تثبيته في ذهنها ولا يزال يُوحى لها به: إنها أصل كل مصائب الجنس، لكونها الجسر الأساسي للتحالف الزواجي، وها هي، منذ أواسط القرن التاسع عشر على الأقل، تطارد في ذاتها أقل آثار الجنسانية، وتنتزع من ذاتها أصعب الاعترافات، وتلتمس الإصغاء إلى الذين يعرفون الكثير من الأشياء، وتنفتح كليًّا على فحص الضمير اللامتناهي. العائلة هي البلور في جهاز الجنسانية، تبدو أنها تنشر جنسانية هي في الواقع تعكسها وتحرف مسارها. من خلال قابليتها للاختراق، ويحكم لعبة هذه الإرسالات إلى الخارج، غدت العائلة أحد أثمن العناصر التكتية بالنسبة لجهاز الجنسانية هذا.
لكن ذلك لم يحدث دون إثارة توتُّر أو مشكلة. وهنا أيضًا، يشكل «شاركو»، بلا ريب، شخصية مركزية. لقد كان، طوال سنوات، أبرز الذين كانت العائلات تلتمس تحكيمهم وعنايتهم، بسبب تضايقها من تلك الجنسانية المتخمة بها. وهو الذي كان يستقبل، من العالم بأسره، أولادًا برفقه أهاليهم، ونساء برفقة أزواجهن، ورجالًا برفقة زوجاتهم؛ كان همه الأول — والذي غالبًا ما نصح به تلاميذه — هو أن يُفصل «المريض» عن عائلته، وألَّا يستمع إلى هذه الأخيرة إلا أقل ما يمكن، كي يحسن مراقبته.١٩ لقد حاول أن يفصل مجال الجنسانية عن نظام التحالف الزواجي، كي يعالجه مباشَرة بواسطة ممارسة طبية يضمن النموذج العصبي تقنيتها واستقلاليتها. وهكذا، أخذ الطب إذًا على عاتقه، ووفقًا لقواعد معرفة نوعية، جنسانية كان هو نفسه قد حثَّ العائلات على الاهتمام بها كمهمة أساسية وكخطر جسيم. ويلاحظ شاركو مرارًا عديدة، بأية صعوبة كانت العائلات «تتخلى» للطبيب عن المريض الذي أحضرته هي إليه، وكيف كانت تُحاصِر المستشفيات التي يُعزَل فيها المريض، وبأية مداخلات كانت تعرقل عَمَل الطبيب باستمرار، مع أنه لم يكن هناك أي داعٍ لقلقها؛ فالطبيب المعالج كان يتدخَّل ليجعل بعض الأفراد قابلين للتكامل الجنسي مع نظام العائلة. أن هذا التدخل كان يعالج الجسد الجنسي، فإنه لم يكن يُسمَح له بالتعبير عن نفسه في خطاب صريح. ينبغي التحدُّث عن هذه «الأسباب التناسلية» … تلك كانت الجملة، الملفوظة بصوت منخفض، التي التقطتها أشهر أذن في عصرنا من فم شاركو، في أحد أيام سنة ١٨٨٦م.

في حيِّز اللعب هذا، استقر التحليل النفسي إنما بإحداثه تغييرًا كبيرًا في نظام القلق وإعادة الطمأنة. كان لا بد، في بادئ الأمر، من أن يثير الريبة والعداء؛ لأنه بمغالاته في تطبيق نصيحة شاركو، راح يتفحص جنسانية الأفراد خارج الرقابة العائلية. لقد اكتشف هذه الجنسانية ذاتها دون أن يخفيها بالنموذج العصبي؛ وأكثر من ذلك، فإن التحليل الذي أجراه لها طرحُ العائلات العائلية للمناقشة. فإذا بالتحليل النفسي الذي بدَا في طرائقه التقنية أنه يضع الاعتراف بالجنسانية خارج السيادة العائلية، قد اكتشف في قلب هذه الجنسانية بالذات أساس تكوُّنه ورمز معقوليته الذي هو قانون التحالُف الزواجي وأحكام الزواج والقرابة، ونظام المَحارم. فالضمانة بأنه سوف تُكشف هنا، في عمق جنسانية كل فرد، علاقة الأهل — الأولاد، قد سمحت بالحفاظ على الترابط بين جهاز التحالف الزواجي وجهاز الجنسانية، حينما كان كل شيء يدل على حصول السياق المُعاكس. لم يكن ثمة خطر بأن تظهر الجنسانية غريبة، بطبيعتها، عن القانون؛ فهي لم تكن تتكون إلا منه. أيها الأهل! لا تَخافوا من الإتيان بأولادكم إلى التحليل النفسي؛ فهو سيعلمهم بأنكم أنتم، في جميع الأحوال، مَن يحظى بحبهم. أيها الأولاد! لا تتذمروا كثيرًا من عدم كونكم يتامى ومن كونكم تكتشفون دائمًا في أعماق ذواتكم أمَّكم — الشيء، أو سمة الأب السامية، فبواسطتهما تتصلون بالرغبة. من هنا، كانت غزارة التحليل في المجتمعات التي كان يحتاج فيها جهاز التحالف الزواجي ونظام العائلة إلى التعزيز والتَّقوية، بعد الكثير من التحفزات. ذاك أن هذه نقطة أساسية في هذا التاريخ الطويل لجهاز الجنسانية، مع تكنولوجيا «الشهوة» في المسيحية الكلاسيكية، نشأ هذا الجهاز مستندًا إلى أنظمة التحالف الزواجي والقواعد التي تحكمها. أما اليوم، فهو يلعب دورًا معاكسًا، وهو الذي ينزع إلى دعم جهاز التحالف الزواجي القديم. فمن إرشاد الضمائر إلى التحليل النفسي، عَكَس جهازَا التحالف الزواجي والجنسانية موقعَهُما، بدورانهما الواحد حول الآخر وفقًا لسياق بطيء، مضى عليه حتى اليوم ثلاثة قرون من الزمن. في الإرشاد الرعوي المسيحي، رمَّز قانون الزواج هذه الشهوة التي كانت قيد الاكتشاف، وفرَض عليها منذ البداية بنية قانونية. ومع التحليل النفسي، كانت الجنسانية هي التي ولَّدت قواعد الزواج وجسَّدتها بجعلها مشبعة بالرغبة والشهوة.

إن الميدان المطلوب تحليله، في الدراسات المختلفة التي ستلي هذا الكتاب، هو جهاز الجنسانية: تكوُّنه انطلاقًا من الشهوة في مفهومها المسيحي؛ تطوُّره عبر الاستراتيجيات الأربع الكبرى التي انتشرت في القرن التاسع عشر: جَنْسنة الطفل (Sexualisation) هسترة المرأة (Hysterisation)، تحديد نوعية الانحرافات، تنظيم النمو السكاني: وجميع هذه الاستراتيجيات تمر عبْر عائلة، لا بد من الملاحظة بأنها كانت عامل جَنسنة رئيسًا وليس سُلطة مانعة.
كانت المرحلة الأولى تتصل بضرورة تكوين «قوة عاملة» (إذًا، لا «إنفاق» عديم الجدوى، لا هَدْر للطاقات، وكل القوى مُوجَّهة نحو العمل وحده)، وتأمين إعادة إنتاجها (الحالة الزوجية، إنجاب الأولاد المنظَّم). وتتعلق المرحلة الثانية بعصر الرأسمالية المتأخِّرة (Spätkapitalismus)، حيث لم يكن استثمار العمل المأجور يتطلب الإكراه العنفي والجسدي ذاته، الذي كان سائدًا في القرن التاسع عشر في القرن التاسع عشر، وحيث لم تَعُد سياسة الجسد تتطلب إلغاء الجنس أو حصره في دوره الإنجاب؛ إنما هي تَمر، بالأحرى، عبْر توجيهه المتعدِّد في دوائر الاقتصاد المراقبة: إلغاء للتسامي، قمعي بإفراط، كما يقال.
والحال، أنه إذا كانت سياسة الجنس لا تَستخدِم في الأساس قانون المنع بل جهازًا تقنيًّا كاملًا، وإذا كان الأمر يتعلق بإنتاج «الجنسانية» أكثر منه بقمع الجنس، فلا بد من العدول عن مثل هذا التقسيم وإبعاد التحليل عن مسألة «القوة العاملة»، والتخلِّي طبعًا عن الفعالية المنتشرة التي تدعم موضوعة جنسانية مقموعة لأسباب اقتصادية.٢٠

(٤) التمرحل Périodisation

إذا أردنا أن نُركِّز تاريخ الجنسانية على آليات القمع، فإنه ينطوي على انقطاعين؛ الأول: في غضون القرن السابع عشر: نشأة النواهي الكبيرة، تثمين الجنسانية الخاصة بالبالغين وبالزواج، ضرورات الاحتشام، الهروب الإلزامي من الجسد، الإسكات وحشمة اللغة الإلزامية. الانقطاع الثاني، في القرن العشرين، كان ذلك انحرافًا للمنحنى أكثر منه انقطاعًا، وقد حصل حين بدأت آليات القمع في الارتخاء؛ فتمَّ الانتقال من الممنوعات الجنسية المُلِحَّة إلى تساهُل نسبي إزاء العلاقات السابقة للزواج أو الخارجة عن إطاره؛ خفَّ الحطُّ من قدر «المنحرفين» جنسيًّا، وجرى الحد جزئيًّا من إدانتهم قانونيًّا، وإلغاء قسم كبير من المحرَّمات التي كانت تُؤثِّر على جنسانية الأولاد. يجب أن نحاول تتبع التسلسل الزمني لهذه التصرفات: الابتكارات، تغيير الوسائل، الآثار الباقية. إنما هناك أيضًا رزنامة استخدامها، وتسلسل انتشارها، والنتائج التي تحدثها (من خضوع ومقاومة)، هذه التواريخ لا تتوافق طبعًا مع دورة القمع الكبرى التي تُحدَّد عادة بين القرن السابع عشر والقرن العشرين.

  • (١)
    يرتقي التسلسل الزمني للتقنيات ذاتها إلى زمن بعيد، يجب أن نبحث عن نقطة تكوُّنها في ممارسَات سر التوبة المرتبطة بمسيحية القرون الوسطى، أو بالأحرى في السلسلة المزدوجة المؤلَّفة من الاعتراف الإلزامي، الكامل والدوري الذي فرضه المجمع اللاتراني على جميع المؤمنين، ومن طرائق التقشف والرياضة الروحية والتصوف المنتشرة بقوة كبيرة منذ القرن الرابع عشر. فالإصلاح البروتستانتي ثم الإصلاح الكاثولكي التريدنتيني٢١ يدلان على تحوُّل مهم، وعلى انفصال، في ما يمكن تسميته «التكنولوجيا التقليدية للشهوة الجنسية». لا يسعنا إنكار عمق هذا الانفصال؛ على أن ذلك لا يستبعد وجود تشابُه معيَّن بين الطرائق الكاثوليكية والبروتستانتية لفحص الضمير والإرشاد الرعوي، هنا وهناك، تترسخ، بأفكار دقيقة متنوعة، طرائقُ لتحليل «الاشتهاء» ووضعها ضمن خطاب. إنها لتقنية غنية، مرهفة، تتطوَّر منذ القرن السادس عشر عبْر تنميات نظرية طويلة، وتستقر في نهاية القرن الثامن عشر في صيغ ترمز إلى التزمُّن المعتدل لألفونس دي ليغوري (Alphonse de Liguori)، من جهة، وإلى منهج ويزلي (Wesley) التربوي، من جهة أخرى.
والحال، أنه في نهاية القرن الثامن عشر هذه، ولأسباب يقتضي تحديدها، نشأت تقنية للجنس جديدة تمامًا؛ جديدة، لأنها كانت متحررة من المؤسَّسة الكنسية دون أن تكون مستقلة فعلًا عن مسألية الخطيئة. بواسطة التربية والطِّب والاقتصاد، جَعلت هذه التقنيةُ من الجنس ليس فقط قضية علمانية، بل أيضًا قضية دولة؛ قضية حيث كان الجسم الاجتماعي بأسْرِه وكل فرد من أفراده تقريبًا مدعُوًّا لمراقبة ذاته. وجديدة أيضًا لأنها كانت تتطوَّر على ثلاثة محاور: محور التربية، وهدفه الجنسانية المختصة بالأولاد، محور الطب، وهدفه الفيزيولوجيا الجنسية الخاصة بالنساء، وأخيرًا، محور الديموغرافية، وهدفه ضبط الولادات، العفوي أو المنظَّم. «فخطيئة الشباب»، و«الأمراض العصبية»، و«التحايلات على الإنجاب» (كما ستُسمَّى فيما بعد بتلك «الأسرار المشئومة») تدل هكذا على الميادين الثلاثة المفضَّلة لهذه التكنولوجية الجديدة. لا شك في أنها تُعاوِد، بالنسبة إلى كل من هذه المواضيع، استخدام الطرائق المُعدَّة أصلًا من قبل المسيحية، إنما بعد تبسيطها. فقد سبق أن أُثيرت مسألة جنسانية الأولاد في التربية الروحية للمسيحية (ليس من العبث أن يكون جرسون (Gerson) المربِّي والمتصوف هو الذي وضع أول كتاب عن خطيئة القاصرين في القرن الخامس عشر، وأن يكون مُصنَّف العادة السرية الذي ألفه ديكر (Dekker) في القرن الثامن عشر قد كرَّر حرفيًّا أمثلة مقدَّمة من الأدب الرعوي الإنجليكاني)؛ كما أن طب الأعصاب والأبخرة، في القرن الثامن عشر، يتناول مجددًا بدوره ميدان التحليل الذي كُشف سابقًا، حين أثارت ظاهرات المسِّ الشيطاني؛ لكن طب الهستيريا مرتبط بإرشاد «الموسوسين» القديم. كذلك، فإن الحملات بشأن معدَّل الولادات نقلت، بشكل آخر وعلى مستوى آخر، مراقبة العلاقات الزوجية التي تابَع سر التوبة المسيحي فحصها بكثير من العناد، التواصل هنا واضح إذًا، لكنه لا يمنع تحوُّلًا جوهريًّا. منذ ذلك الحين، تتجه تكنولوجيا الجنس أساسيًّا نحو المؤسَّسة الطبية، نحو ضرورة التطبيع،٢٢ ونحو مشكلة الحياة والمرض، بدلًا من مشكلة الموت والعقاب الأبدي، لقد رُدَّت «الشهوة» إلى العضوية (الجسد).
حدث هذا التحوُّل بين أواخر القرن الثامن ومَطلع القرن التاسع عشر. وقد أفسح المجال أمام تحوُّلات كثيرة أخرى، تفرَّعت عنه؛ التحوُّل الأول: فصْل طب الجنس عن طب الجسم العام. عزل «غريزة» جنسية قابلة، حتى دون تغيُّر عضوي، للانطواء على شذوذ تكويني وانحرافات مكتسبة وعاهات أو تطورات مرَضية. إن الكتاب الذي وضعه هاینریخ کآن (Heinrich Kaan) سنة ١٨٤٦م بعنوان: «السيكوباتية الجنسية»٢٣(   Psychopathia Sexualis) قد يصلح دليلًا في هذا المجال. إلى تلك السنوات، ترقَى محاولة إعطاء الجنس استقلالية نسبية عن الجسد، والظهور المتلازم لطب و«تجبير» مختصين به؛ وباختصار، انفتاح ذلك الميدان الطبي — النفسي الكبير «للانحرافات»، الذي سيحل محل المقولات الأخلاقية القديمة التي كانت تتحدَّث عن الفسق والإفراط. في الحقبة نفسها، كان تحليل الوراثة يضع الجنس في موقع «المسئولية البيولوجية» تجاه النوع البشري في (ويُقصد بالجنس: العلاقات الجنسية، الأمراض الزهرية، التحالفات الزواجية، والانحرافات): ليس فقط أنه كان بالإمكان أن يُصاب الجنس بأمراضه الخاصة، بل كان بوسعه إن لم يكن مراقَبًا، أن ينقل أمراضًا أو أن يسبب أمراضًا للأجيال القادمة. وهكذا، بدَا أنه في أساس تكوين رأسمال مرَضي يهدِّد البشر. من هنا نشأ المشروع الطبي إنما السياسي أيضًا، الرامي إلى تنظيم إدارة رسمية (حكومية) للزيجات والولادات وحالات النجاة من الموت؛ فالجنس وخصبه يجب أن يُنظَّما. وقد كان طب الانحرافات وبرامج تحسين النسل أهم تَجديدَين في تكنولوجيا الجنس خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر.

كان هذان التجديدان يَتمفصلان بسهولة؛ لأن نظرية «انحطاط النوع» كانت تُتيح لهما أن يُحيل كلٌّ منهما إلى الآخَر باستمرار؛ كانت تُوضِّح كيف أن وراثة مثقلة بأمراض مختلفة — عضوية، وظيفية أو نفسية لا فرق — تُنجِب في النهاية منحرِفًا جنسيًّا. (فتِّش في سلالة أحد الاستعرائيين أو اللوطيين، وستجد لهما جدًّا مفلوجًا، أو قريبًا مسلولًا، أو عمًّا مصابًا بخرف الشيخوخة). لكن هذه النظرية تفسِّر أيضًا كيف أن انحرافًا جنسيًّا يُؤدِّي كذلك إلى انقطاع الذرية — كُساح الأولاد وعُقم الأجيال القادمة. لقد شكَّلت مجموعة الانحراف — الوراثة — انحطاط النوع، النواة الصلبة لتكنولوجيات الجنس الجديدة. ولا يحسَبنَّ أحد أن الأمر كان يتعلق فقط بنظرية طبية ناقصة علميًّا وتهذيبية بإفراط. فقد كان انتشارها واسعًا وانغراسها عميقًا؛ ذاك أن الطب النفسي، والقضاء، والطب الشرعي، وأجهزة الرقابة الاجتماعية، ومراقبة الأولاد الخَطِرين أو المعرَّضِين للخطر، اشتغلَت زمنًا طويلًا وفقًا «لانحطاط النوع» ولنظام الوراثة — الانحراف. كان ثمة سلوك اجتماعي — كوَّنت عنصرية الدولة شَكلَه الساخط والمتماسك في آنٍ — أكسب تكنولوجيا الجنس هذه قوة مخيفة وأعطاها نتائج بعيدة.

لا يسعنا أن نفهم الموقف الفريد للتحليل النفسي، في نهاية القرن التاسع عشر، إذَا لم نتبين الانقطاع الذي أحدَثه بالنسبة لنظرية انحطاط النوع؛ فلقد نقَّح مشروع تكنولوجيا طبية خاصة بالغريزة الجنسية، لكنه حاوَل تحريره من ارتباطاته بالوراثة، وبالتالي من جميع النزعات العنصرية وغايات تحسين النسل. نستطيع الآن أن نعود إلى إرادة التطبيع المُفترَضة عند فرويد، كما نستطيع أن نشجب الدور الذي لَعبته مؤسَّسة التحليل النفسي منذ سنوات؛ ففي تلك الطائفة الكبيرة من تكنولوجيات الجنس التي تَرقَى إلى عهد بعيد في تاريخ الغرب المسيحي، وبين التقنيات التي شَرعتْ في طبننة الجنس إبَّان القرن التاسع عشر. كان التحليل النفسي حتى الأربعينيات من هذا القرن، التقنية التي قاوَمت بشدة النتائج السياسية والمؤسَّسِية لنظام الانحراف — الوراثة — انحطاط النوع.

نلاحظ جيدًا أن جينالوجيا (تاريخ تكوين) هذه التقنيات، مع تحوُّلاتها (وانزياحاتها) وتواصلاتها وقطيعاتها، لا تتفق مع فرضية حقبة قمعية كبرى بدأت خلال العصر الكلاسيكي وهو على وشك الانتهاء ببطء خلال القرن العشرين. لقد كان هناك بالأحرى ابتكارية متواصلة، وتكاثُر مستمر للطرائق والوسائل، مع فترتين خصبتين بشكل خاصٍّ في هذا التاريخ الغزير الإنتاج، حوالي أواسط القرن السادس عشر، مع نمو إجراءات توجيه الضمير وفحصه؛ وفي بداية القرن التاسع عشر، مع ظهور تكنولوجيات الجنس الطبية.

  • (٢)
    لكن ما فعلناه حتى الآن هو فقط تحديد تواريخ ذاتها. أمَّا تاريخ انتشارها ومجالات تطبيقها فشيء آخر. إذا كَتبْنا تاريخ الجنسانية من زاوية القمع ورَبطنا هذا القمع باستخدام القوة العاملة، فلا بد من الافتراض بأن الرقابات الجنسية قد اتَّخذَت شكلًا أشد وأدق، بقدر ما كانت تتوجَّه نحو الطبقات الفقيرة؛ علينا أن نتصور أن هذه الرقابات قد سَلَكت طرق الهيمنة القصوى والاستغلال المطلق. فالإنسان البالغ، الشاب الذي لا يملك من سبل العيش غير قوته، لا بد وأن يكون الهدف الأول لعملية «إخضاع وقهر» ترمي إلى نقل الطاقات المتاحة للذة العديمة الجدوى باتجاه العمل الإلزامي. والحال، لا يبدو أن الأمور حدثت على هذا النحو، بالعكس، فقد تَكوَّنت التقنيات الأكثر دقة وطُبِّقت بادئ الأمر بكثافة في الطبقات المتميِّزة اقتصاديًّا والحاكمة سياسيًّا. فإرشاد الضمائر وفحص الذات، وكل الإعداد الطويل لخطايَا الجسد،٢٤ واكتشاف الاشتهاء المدقق، كلها أساليب بارعة قلَّما كان بالإمكان ألا تكون إلا في متناوَل مجموعات ضيقة من الناس. صحيح أن طريقة ممارَسة التوبة التي اعتمدها ألفونس دي ليغوري، والقواعد التي اقترحها ويزلي على جماعة الإصلاحيين (المعروفين باسم المَنهجِيِّين L’Méthodistes٢٥ قد أمَّنت لهذه الأساليب شيئًا من الانتشار الأوسع؛ ولكن ذلك تحقَّق بثمن باهظ من التبسيط. يمكننا أن نقول الشيء نفسه عن العائلة، من حيث هي سُلطة رقابة ومَركز للإشباع الجنسي؛ ففي العائلة «البورجوازية»، أو «الأرستقراطية»، أُثِيرَت لأول مرة مسألة جنسانية الأولاد والمراهقِين؛ وفيها جرَت طَبْننة الجنسانية الأنثوية؛ وهي التي كانت أول مَن نَبَّه إلى مَرضِيَّة الجنس الممكِنة، إلى إلحاحية مراقبته وإلى ضرورة ابتكار تكنولوجيا عقلانية في الإصلاح. وهذه العائلة هي التي كانت قَبْل سواها موضع الطَّبْننة النفسية (Psychiatrisation) للجنس، وهي الأولى التي دخلت في حالة تهيُّج جنسي حادٍّ، مُسبِّبة لنفسها المخاوف، مُبتكِرة الوصفات العلاجية، مُستعينة بالتقنيات العلموية، ومثيرة العديد من الخِطابات كيما تعيد تردادها على ذاتها. فقد بدأت البورجوازية تعتبر أن الجنس الخاص بها هو شيء هام، وكنز معرَّض للزوال، وسِر لا بد من معرفته. يجب ألا ننسى أن الشخصية الأولى التي زُوِّدت بجهاز الجنسانية، وأن مِن أوائل الشخصيات التي تَمَّت «جنسنتها» كانت المرأة «العاطلة عن العمل»، التي هي في مواجَهة العالَم يجب أن تظهر دائمًا كقيمة، وفي حيِّز العائلة حيث يخصص لها قسط جديد من الواجبات الزوجية والأهلية (نسبة للأولاد). وهكذا ظهرت المرأة «العصابية»، المرأة المصابة «بالأبخرة،٢٦ وهنا وَجدَت هَسْترة المرأة مرتكزها. أما المراهق الذي يُبذِّر جوهره المستقبلي في ملذات سِرية، والولد الممارِس للعادة السرية، الذي شغل الأطباء والمُربِّين كثيرًا منذ أواخر القرن الثامن عشر حتى أواخر القرن التاسع عشر، فلم يكن ابن الشعب، ولا عاملَ المستقبل الذي ينبغي أن يُلقَّن علوم الجسد؛ بل كان التلميذ الثانوي، والولد المُحاط بالعلم والمُربِّين والحاضنات، الذي لم يكن يُعرِّض للخطر طاقته الجسدية بقدر ما كان يجازف بقدراته العقلية، وبواجب أخلاقي، وبضرورة المحافَظة على خَلَف سليم لعائلته وطبقته.
في مقابل ذلك، أفلتَت الطبقات الشعبية زمنًا طويلًا من جاهزية الجنسانية. بالطبع كانت خاضعة، وفقًا لطرائق خاصة، لجاهزية «التحالفات» الزواجية: تثمين الزواج الشرعي والخصب، استبعاد زيجات قرابة العصب، وواجب الزواج اللُّحْمي٢٧ ضمن البيئة الاجتماعية والمُحلِّية، غير أنه من المستبعَد أن تكون تكنولوجيا الشهوة المسيحية قد حَظِيت عند هذه الطبقات بأهمية كبيرة. أمَّا آليات الجَنْسنة، فقد نفذت إليها ببطء وطبعًا على ثلاث مراحل متتالية؛ أولًا: بصدد مُشكلة الولادات حين اكتُشِف في نهاية القرن الثامن عشر، أن فنَّ خداع الطبيعة لم يكن امتيازًا خاصًّا بسكان المدن والفاسِقين، بل كان معروفًا وممارَسًا من قِبَل أولئك القريبين جدًّا من الطبيعة ذاتها، والذين كان يُفترَض فيهم أن يكرهوه أكثر من غيرهم. ثم (أي المرحلة الثانية) حين ظهر تنظيم العائلة «الكَنسي»، في الثلاثينيات من القرن التاسع عشر، كوسيلة رقابة سياسية، وكأداة تنظيم «اقتصادي» ضرورية لإخضاع البروليتاريا المدينية: حملة كبيرة «لإصلاح أخلاق الطبقات الفقيرة».

وأخيرًا، في نهاية القرن التاسع عشر، حين اتَّسعَت الرقابة القضائية والطبية للانحرافات، باسم الحماية الشاملة للمجتَمع والعِرق. يمكن القول عندئذ: إن جاهزية «الجنسانية»، المُعدَّة بأشكالها الأكثر تعقيدًا وكثافة لمَصلحة الطبقات المُوسرة ومِن قبلها، قد انتشرَت حينئذ في الجسم الاجتماعي بِرمَّته. لكنها لم تَتخِذ في كل مكان الأشكال ذاتها، ولم تَستخدم في كل مكان الأدوات ذاتها (فالأدوار الخاصة بالسُّلطتين الطِّبية والقضائية لم تكن هي نفسها هنا وهناك، ولا الطريقة عينها التي عمل بها طب الجنسانية).

•••

إن لهذا التذكير بالتسلسل التاريخي أهميته — سواء تَعلَّق الأمر بابتكار التقنيات أو برزنامة انتشارها — فمن شأنه أن يُلقِي ظلالًا من الشك حول فكرة وجود دَورة قمعية، ذات بداية ونهاية، تَتخِذ شكل مُنحنًى على الأقل، مع نقاط انقلاباته، لم يكن هناك على الأرجح عهد للتقييد الجنسي؛ ومن شأنه أيضًا أن يثير الشك في تجانس السياق على جميع مُستوَيات المجتمع وفي جميع طبقاته؛ فلم تكن هناك سياسة جِنسية مُوحَّدة، غير أن هذا التذكير بالتواريخ يجعل معنى السياق ومبرِّرات وجوده، بِوجه خاص، مَوضِع إشكال وارتياب. إذ يبدو أن جاهزية الجنسانية لم يُنشئها مَن كان متعارفًا على تسميتهم «الطبقات الحاكمة» كأساس للحدِّ من مَلذَّات الآخَرين. ويَظهر بالأحرى أن هذه الطبقات جرَّبتها أولًا على نفسها. هل كان ذلك بمثابة تحوُّل جديد لذلك التقشف البورجوازي الموصوف مرارًا عديدة في مَعرِض الحديث عن الإصلاح الديني، وتحوَّل نحو أخلاق العمل الجديدة وانطلاق الرأسمالية؟ يبدو، بحق، أن الأمر يتعلق هنا بتقشُّف ما، ولا بالزهد في المتعة أو بتشنيع شهوة الجسد؛ إنما هو يَتعلَّق بالعكس بتعزيز الجسد، بطرح إشكالية الصحة وشروط عملها؛ فالمقصود هو تقنيات جديدة لذروته٢٨ الحياة. كانت المسألة في الأصل مسألة جسد الطبقات «المهيمنة» وعافيتها وتعميرها ونَسْلها وخَلَفها، أكثر مما هي مسألة «قمع» بشأن جنس الطبقات المعرَّضة للاستغلال. هنا أُنشِئت، في المرتبة الأولى، جاهزية الجنسانية كتوزيع جديد للملذَّات، والخطابات، والحقائق والسُّلطات. ولا بد من الظن بأنَّ في ذلك تأكيدًا ذاتيًّا لطبقة مُعيَّنة أكثر مِمَّا هو إخضاع لطبقة أخرى: حماية ودفاع، وتعزيز وتعظيم، امتدَّت فيما بعدُ إلى الآخَرِين — بفعل تحوُّلات مختلفة — كوسيلة للرقابة الاقتصادية والإخضاع السياسي. لقد أبرزت البورجوازية القيمة السياسية العالمية، لجسدها وأحاسيسها ومُلذَّاتها وصحتها ابتكرَتْها هي نفسها. ولا نَعزلنَّ، في جميع هذه الإجراءات، ما قد يكون فيها من قيود واحتشام وهروب أو صمت، كي نَردَّها إلى حِرْم أساسي معيَّن، إلى كبْت ما، أو إلى غريزة الموت. إنه تنظيم سياسي للحياة تَكوَّن بهدف تأكيد الذات لا إخضاع الآخَرين. فالطبقة التي أصبحت مسيطرة في القرن الثامن عشر لم تَرَ وجوب حرمان جسدها من جنس غير مفيد، مُبذِّر للطاقات، وخطر، ما لم يكن مكرَّسًا فقط للإنجاب؛ بل على العكس يمكن القول إنها خصَّت نفسها بجسد، عليها أن تعتني به، وتحميه، وتُقوِّيه وتَصونه من جميع الأخطار، ومن جميع الاتصالات، وأن تَعزِله عن الأجساد الأخرى ليحافظ على قِيمَته التفاضلية. وصولًا إلى هذا الهدف، استخدَمت هذه الطبقة، بين وسائل أخرى، تكنوولجيا مُعيَّنة للجنس.

ليس الجنس ذلك الجزء من الجسد الذي وَصمَته البورجوازية بالعار، أو أَلغَته من الوجود؛ لكي تُحوِّل إلى العمل والإنتاج أولئك الذين كانت تُسيطِر عليهم. بل الجنس ذلك العنصر من كيانها بالذات الذي أقلقها وشغلها، أكثر من أي عنصر آخر، والذي التَمس عنايتها ونالها، والذي ربَّتْه بمزيج من الخوف والفضول والتَّلذُّذ والحمية. لقد ماثَلت جسدها به، أو على الأقل، أخضَعَته له، مانحة إيَّاه سلطة خَفِية ومُطلَقة عليه. ربطَت به حياتها وموتها، بجعلها إيَّاه مسئولًا عن صحتها المستقبلية؛ استثمرت فيه مستقبلها بافتراضها أن له نتائج مُحتَّمة على خَلَفها. أخضعت له روحها بحُجة أنه يُشكِّل عنصرها الأكثر خفاء وحسمًا، لا نتصوَّرنَّ البورجوازية وقد خصَّت نفسها رمزيًّا لتُنكر على الآخَرِين الحق في أن يكون لهم جنس، وفي أن يَستعملوه حسب مشيئتهم. ينبغي بالأحرى أن نرى إليها، منذ منتصف القرن الثامن عشر، عاملة على أن تخص نفسها بجنسانية ما، فتُكوِّن لنفسها، انطلاقًا من هذه الجنسانية، جسدًا نوعيًّا، جسدًا «طبقيًّا»، له صحته ووقايته ونسْلُه وعِرقه. هذا يعني جَنسَنة ذاتية لجسدها وتجسيد الجنس في جَسدِها الخاص، وعقد زواج لُحْمي بين الجنس والجسد. لقد كانت لذلك، طبعًا، أسباب عدة.

هناك أولًا، نقْل الأساليب التي استعملتها طبقة النبلاء للتدليل على تميُّزها الطبقي والمحافَظة عليه، إنما بأشكال أخرى: ذاك أن أرستقراطية النبلاء أكَّدت هي أيضًا خصوصية جسدها وذاتيته؛ إنما كان ذلك على شكل الدم؛ أي قِدَم الأسلاف وقيمة التحالفات الزواجية؛ أما البورجوازية فلكي تَخُص نفسها بجسد مُعيَّن، تطلَّعَت بالعكس إلى خَلَفها وإلى صحة عضويتها. كان «دم» البورجوازية هو جِنسها، وليس هذا تلاعبًا بالألفاظ؛ فثَمَّة موضوعات كثيرة خاصَّة بعادات النبلاء الطبقية انتقلت إلى بورجوازية القرن التاسع عشر، إنما على شكْل وصَفات بيولوجية، طبية، أو مُختصَّة بتحسين النَّسل. لقد غدَا الاهتمام النَّسبي (الجينالوجي) اهتمامًا بالوراثة؛ وفي الزيجات أُخِذ في الحسبان، ليس فقط المستلزَمات الاقتصادية أو قواعد التَّجانُس الاجتماعي، وليس فقط الوعود بالميراث إنما أيضًا الأخطار التي قد تُهدِّد سلامة الوراثة. كانت العائلات تَحمِل وتُخفِي شعار نَسَب معكوسًا وقائمًا، تتكوَّن أقسامه الشائنة من أمراض أو عيوب الأقارب والأهل: شلل الجَد العام، نوراستينيا (نهك عصبي) الأم، سُل الأخت الصغرى، العَمَّات أو الخالات المصابات بالهستيريا أو بجنون الغرام، أبناء العم أو الخال ذَوُو العادات السَّيِّئة. غير أنه كان في هذا الاهتمام بالجسد الجنسي ما يَتجاوَز النقل البورجوازي لموضوعات النبالة بغرض تأكيد الذَّات. كان الأمر يَتعلَّق أيضًا بمشروع آخَر: مشروع إنماء غَيْر محدود لِلقوَّة والعافية والصحة والحياة. لا بد من ربط تثمين الجَسد بسياق نُمو السيطرة البورجوازية وتوطيدها. إنما ليس بسبب القيمة التجارية المُتَّخذة من قِبَل القوة العاملة، بل بسبب ما قد تمثله سياسيًّا واقتصاديًّا وتاريخيًّا «ثقافة» جسد البورجوازية، بالنسبة لحاضِرها ومستقبلها على السواء. كانت هيمنتها مُتوقِّفة على هذه الثقافة إلى حد ما؛ لم تكن المسألة مسألة اقتصادية أو أيديولوجية فحسب، بل «جسدية» أيضًا. وتشهد على ذلك المؤلَّفات المنشورة بعدد كبير جدًّا، في أواخر القرن الثامن عشر، حول صحة الجسم، وفَن إطالة العمر، وطُرق إنجاب أطفال ذوي صحة جَيِّدة، وإبقائهم على قيد الحياة أطول مُدَّة ممكنة، وحول وسائل تحسين النَّسل البشري. تُثبت هذه المؤلَّفات الترابط بين هذه العناية بالجسد والجنس، وبين «عنصرية» ما. لكن هذه «العنصرية» مختلفة جدًّا عن تلك التي أظهرَتْها طبقة النبلاء، والتي كانت مُوجَّهة نحو غايات محافظة جوهريًّا، فالعنصرية البورجوازية دينامية. إنها عنصرية النمو والتوسع، حتى ولو كانت لا تزال في مرحلة جنينية، حتى ولو كان لا بد لها من انتظار النصف الثاني من القرن التاسع عشر لِتعطي الثمرات التي نحن تَذوَّقْناها (في النهاية).

ليسامحني أولئك الذين تعني لهم البورجوازية إلغاء الجسد وكَبْت الجنسانية، وأولئك الذين يعني الصراع الطبقي عندهم نضالًا لإزالة هذا الكَبْت. قد لا تكون «الفلسفة العفوية» للبورجوازية مثالية أو خصائية بالقدر الذي يقال عنها؛ على أي حال، كان أحد اهتماماتها الأولية أن تخص نفسها بجسد وبجنسانية — أن تؤمن لنفسها القوة، والديمومة، والتوالُد من قرن إلى آخر لهذا الجسد بتنظيم جاهزية للجنسانية. وكان هذا السياق مرتبطًا بالحركة التي أثبتت من خلالها اختلافها وسيطرتها. لا بد من التسليم طبعًا بأن أحد الأشكال الأساسية للشعور الطبقي هو توكيد الجسد، على الأقل، ذلك كان شأن البورجوازية في غضون القرن الثامن عشر. لقد حوَّلت «دم النبلاء الأزرق» إلى جسم ذي صحة جيدة وإلى جنسانية سليمة. نفهم الآن لماذا تأخَّرت وتحفَّظتْ كثيرًا الاعتراف بوجود جسد وجنس للطبقات الأخرى، وبالضبط لتلك التي تَستغلُّها. فالشروط المعيشية التي كانت مُتاحة للبروليتاريا، خصوصًا في النصف الأول من القرن التاسع عشر، تدلُّ على أنها كانت بعيدة عن الاهتمام بجسدها وجنسها.٢٩ قلما كان يهم إن مات هؤلاء الناس أو عاشوا. على كل حال، كان ذلك يتكرر تلقائيًّا. فحتى يكون للبروليتاريا حق بجسد وجنسانية، ولكي تُشكِّل صحتُها وجنسها وتكاثُرها مشكلة ما، كان لا بد من قيام صراعات (خصوصًا بصدد الحيِّز المديني: المُساكَنة، القُرب، التلوُّث، الأوبئة، كالكوليرا سنة ١٨٣٢م، أو حتى البغاء والأمراض الزهرية). كان لا بد من وجود حالات اقتصادية مُلحَّة (نمو الصناعة الثقيلة مع الحاجة إلى يد عاملة ثابتة وكفوءة، ضرورة مراقبة الاندفاقات السكانية)٣٠ والتوصل إلى ضبط النمو الديموغرافي)؛ أخيرًا، كان لا بد من إنشاء تكنولوجيا للمراقبة تُمكِّن من إبقاء هذا الجسد وتلك الجنسانية، اللذين اعترف لها بهما أخيرًا، تحت رقابة دائمة (المدرسة، السياسة الإسكانية، الصحة العامة، مؤسَّسات التأمين والإغاثة، الطِّبابة العامة لجميع السكان؛ أي إنه قام باختصار، جهاز إداري وتقني كامل أتاح إدخال الجنسانية بلا خطر إلى الطبقة المستغلَّة، لم تَعد البروليتاريا تُجازِف بلعب دور التوكيد الطبقي في وجه البورجوازية؛ فقد ظلَّت أداة سيطرتها). من هنا، بلا شك، تَحفُّظات البروليتاريا في قبول جهاز الجنسانية هذا؛ ومن هنا ميلها إلى القول بأن كل هذه الجنسانية هي شأن البورجوازية ولا تعنيها إطلاقًا.

يظن البعض أن في وُسْعهم الكشف عن نوعين متناظرين من النفاق: نفاق البورجوازية الغالب، حيث تُنكر جنسانيتها الخاصة، ونفاق البروليتاريا المُحرَّضة عليه «من قِبَل البورجوازية»، بحيث ترفض بدورها جنسانيتها الخاصة بقبول الأيديولوجيا المقابلة. والحال، أن في ذلك دلالة على عدم فهْم السياق الذي بواسطته تَزوَّدت البورجوازية، في توكيد سياسي متعجرف، بجنسانية ثرثارة رَفضت البروليتاريا زمنًا طويلًا القبول بها مذ فُرِضت عليها لاحقًا بغرض الإخضاع. إذا صح أن «الجنسانية» مجموع النتائج التي يحدثها في الأجساد والتصرفات والعلاقات الاجتماعية جهاز معين مرتبط بتكنولوجيا سياسية معقدة، فلا مناص من الاعتراف بأن هذا الجهاز لا يعمل هنا وهناك بشكل تَماثُلي، وأنه بالتالي لا يُحدِث النتائج ذاتها. ينبغي العودة إذًا إلى صيغ مُستخَفٍّ بها منذ زمن طويل. يجب القول إن هناك جنسانية بورجوازية، وإنه توجد جنسانيات طبقية، أو بالأحرى، إن الجنسانية هي أصلًا وتاريخيًّا بورجوازية، وإنها تثير، في تحركاتها المتعاقبة وانتقالاتها، مفاعيل طبقية خاصة.

•••

كلمة بعد. في غضون القرن التاسع عشر، حصل إذًا تعميم لجاهزية الجنسانية انطلاقًا من مركز سيطرة مُعيَّن. وفي النهاية، تزوَّد الجسم الاجتماعي بأسْرِه «بجسد جنسي»، ولو بطريقة ووسائل مختلفة. هل يعني ذلك عمومية الجنسانية؟ هنا نلاحظ دخول عنصر تمييزي جديد، مِثلمَا واجهَت البورجوازية، في نهاية القرن الثامن عشر، دم النبلاء المُتفوِّق بجسدها الخاص وجنسانيتها القيِّمة، هكذا ستحاول، في نهاية القرن التاسع عشر، أن تعيد تحديد خصوصية جنسانيتها تجاه جنسانية الآخَرِين، وأن تستعيد جنسانيتها الخاصة بشكل تبايُني، وترسم خطًّا فاصلًا يميز جسدها ويحميه. لن يكون هذا الخط هو الذي يؤسِّس الجنسانية، إنما بالعكس الذي يلغيها؛ فالمنع هو الذي سيصنع الاختلاف، أو على الأقل الطريقة التي يمارس بها والصرامة التي يُفرَض بها. هنا يكمن منشأ نظرية القمع، التي ستشمل تدريجيًّا جهاز الجنسانية كله وتُعطيه معنى مَنعٍ معمَّمًا. إن هذه النظرية مرتبطة تاريخيًّا بانتشار جهاز الجنسانية، فمن جهة، سوف تُسوِّغ توسُّعَه التَّسلطى والجبري، بإقرار المبدأ القائل إن كل جنسانية يجب أن تخضع للقانون، وأكثر من ذلك، إنه لا جنسانية إلا بفعل القانون، ليس فقط أنه ينبغي عليكم إخضاع جنسانيتكم للقانون، إنما لن تكون لكم جنسانية ما لم تخضعوا للقانون. لكن، من جهة ثانية، سوف تُعوض نظرية القمع عن هذا الانتشار العام لجاهزية الجنسانية بتحليل لعبة النواهي التباينية حسب الطبقات الاجتماعية. فمن الخطاب الذي كان يقول في أواخر القرن الثامن عشر: «يوجد فِينَا عنصر قيِّم يجب أن نخشاه ونراعيه، وأن نُعيره كل اهتمامنا إذا كُنَّا لا نريد أن يسبب أضرارًا لا حصر لها»، تم الانتقال إلى خطاب آخر يقول: «إن جنسانيتنا، بخلاف جنسانية الآخَرِين، خاضعة لنظام قمعي شديد إلى حدِّ أنه فيه بات يكمن الخطر. فالجنس ليس فقط سرًّا مخيفًا، كما كان يُردِّد للأجيال السابقة مُرشِدو الضمائر والكُتَّاب الأخلاقيون والمُربُّون والأطباء، وليس فقط أنه ينبغي كشف حقيقته، إنما إذا كان يحمل معه هذا القدر الكبير من المَخاطر؛ فذلك لأننا أسكتناه زمنًا طويلًا جدًّا، إما بدافع شدة الاهتمام أو الإحساس المُفرط بالخطيئة، أو الرياء. فلنفسِّر ذلك كما نشاء. مذ ذاك، سوف يتوكَّد التمايز الاجتماعي لا بنوعية الجسد «الجنسية»، إنما بشدة قمعه.

هنا يدخل التحليل النفسي: في آنٍ معًا، كنظرية للانتماء الأساسي للقانون والرغبة، وكتقنية لإزالة آثار المنع حيث تجعله شِدَّته مرضيًّا. فالتحليل النفسي يمكن أن ينفصل، في بروزه التاريخي، عَن تعميم جاهزية الجنسانية وآلِيَّات التمييز الثانوية التي حدثت فيه. ومشكلة المَحارم مُعبِّرة أيضًا من هذه الناحية؛ فمن جهة، رأَيْنا أنَّ منعها فُرِض كمبدأ شمولي تمامًا يسمح بالتفكير في نظام التحالُف الزواجي، وفي نظام الجنسانية بآنٍ معًا، وعليه فإن هذا المنع يَسري، بشكل أو بآخَر، على كل مجتمَع وعلى كل فرد. ولكن، عمليًّا، تقوم مُهمة التحليل النفسي تجاه الذين يَستعينون به على إزالة آثار الكبْت الذي يمكن أن يحدثه عندهم هذا المنع؛ إنه يَسمح لهم بمفصلة ميلهم إلى المَحارم في خطاب. والحال، أنه في الحقبة نفسها، تنظَّمت حملة مطارَدة شرسة للممارَسات المنطوية على ارتكاب للمحارم، كما كانَت تحصل في الأرياف أو في الأوساط المدينية التي لم يكن يصل إليها التحليل النفسي. آنذاك، اتُّخِذت ترتيبات إدارية وقضائية حاسمة لوضع حدٍّ لهذه الممارَسات؛ فاعتُمدت سياسة لحماية الطفولة، ولوضع القاصرين «المعرَّضين للخطر» تحت الوصاية، وذلك بهدف إخراجهم من العائلات التي كان يُشتَبه بأنها تَرتكِب هذه المحارم؛ لأسباب عديدة منها: ضِيق المسكن، والقُرب المُريب، وعادة الفسق، و«البدائية» الهمجية، أو انحطاط النوع. في حين أن جهاز الجنسانية عزَّز العلاقات العاطفية والاقتراب الجسدي بين الأهل والأولاد منذ القرن الثامن عشر، وفي حين أنَّه حصل تحريض مستمر على ارتكاب المَحارم في العائلة البورجوازية، فإن نظام الجنسانية المُطبَّق على الطبقات الشعبية كان يَفرِض بالعكس منْع ممارَسات المَحارم، أو على الأقل انتقالها بشكل آخَر، حينما كان ارتكاب المحارم ملاحَقًا كسلوك من جهة، كان التحليل النفسي يجهد، من جهة أخرى، في كشْفِه كرغبة، وفي إزالة القسوة التي تَكبِتها عند الذين يعانونها. يجب ألَّا ننسى أن اكتشاف عُقدة أوديب معاصِر للتنظيم القانوني حول إسقاط الحق الأبوي (في فرنسا عبر قانوني ١٨٨٩ و١٨٩٨م). حين كان فرويد يكتشف طبيعة رغبة «دورا» ويسمح لهذه الرغبة بالتعبير عن نفسها، كان يَجْري التسلُّح في طبقات اجتماعية أخرى للقضاء على كل هذه الاتصالات المُتكرهة. من جهة، نُصِّب الأب كموضوع حب محتوم: لكنه في موضِع آخر، كان القانون يُسقِط عنه حقَّ أبوته إذا كان عاشقًا، وهكذا، لعب التحليل النفسي، كممارَسة علاجية متحفِّظة، دورًا تمييزيًّا بالنسبة إلى إجراءات أخرى، في إطار جهاز جنساني غدَا الآن معمَّمًا. فالذين فَقدوا الامتياز الحصري في الاهتمام بجنسياتهم، باتوا يَمتازُون عن الآخَرِين بأنهم يعانون أكثر من غيرهم مما يمنعهم، ويملكون الطريقة التي تسمح بإزالة الكبت.

إن تاريخ جهاز الجنسانية، كما تطور منذ العهد الكلاسيكي، قد يقوم مقام أركيولوجيا التحليل النفسي، وقد لاحظنا ذلك فعلًا، فهو يلعب في هذا الجهاز عِدَّة أدوار متزامنة: إنه آلية الجنسانية بنظام التحالُف الزواجي؛ وهو يتوكد كموقع مناوئ بالنسبة لنظرية انحطاط النوع، ويعمل كعنصر مميِّز في تكنولوجيا الجنس العامة. حوله، تتخذ ضرورة الاعتراف الكبرى التي تكوَّنَت منذ زمن بعيد معنًى جديدًا، هو معنى الأمر بإزالة الكَبْت. هكذا صارت مهمة الحقيقة مرتبطة الآن بطرح مسألة المنع.

والحال، أن ذلك نفسه يُتيح إمكانية القيام بانزياح تكتي كبير: إعادة تفسير جهاز الجنسانية كله من زاوية القمع المعمَّم: ربط هذا القمع بإواليات الهيمنة والاستغلال العامة؛ والربط فيما بين السياقات التي تسمح بالتحرُّر من هذه الآليات وتلك. هكذا، تكوَّن بين الحربين العالميتين وحول وليم رايخ٣١  (W. Reich) النقد التاريخي — السياسي للقمع الجنسي. كانت قيمة النقد ونتائجه كبيرة جدًّا على صعيد الواقع. لكن إمكانية نجاحه ذاتها كانت مُرتبطة بكونه ينتشر دائمًا ضِمن جهاز الجنسانية وليس خارجه أو ضده. إن كون أشياء كثيرة قد تَبدَّلت في السلوك الجنسي للمجتمعات الغربية دون أن يَتحقَّق أي من الوعود أو الظروف السياسية التي كان رايخ يربطها بها، هو أمْر كافٍ لإثبات أن كل هذه «الثورة» الجنسية وكل هذا النضال «ضد القمع»، لم يكن أكثر، ولا أقل — وهذا بحد ذاته مهم جدًّا — من انزياح والتفاف تَكتيَّين في جهاز الجنسانية الكبير. لكننا ندرك أيضًا لماذا لم يكن بوُسْعنا أن نطلب من هذا النقد أن يكون الشبكة لتاريخ هذا الجهاز عينه، ولا الأساس لحركة رامية إلى تفكيكه.
١  لم نتدخَّل في الفقرات الآتية بإعادة صياغة العبارات التي كتبها فوكو بطريقة بلاغية خاصة لصيقة بمزاج فني نافر من الصياغة التحليلية الجامدة. (م)
٢  أي ليس لكيانه المادي العضوي. (م)
٣  G.-A. Bürger, cite par Schopenhauer, Métaphysique de l’amour.
٤  تكتي: Tactique.
٥  وقحة: بمعنى الظهور الصارخ.
٦  في هذه الفقرة سوف يتكرر لفظ Représentation. وكنا اصطلَحْنا على ترجمته في كتاب «الكليات والأشياء» بلفظة: تمثيل، بمعنى التصوُّر الذي يعكس صورة الشيء أو المعنى في الذهن. (م)
٧  لتوضيح هذه العبارة فإن المؤلف يريد أن يُميِّز بين السُّلطة والعنف، على أن الأُولى تُمارَس كقاعدة مستمرة، في حين أن العنف يكون في حالات لا ترتبط بقاعدة رتيبة أو منظمة. (م)
٨  قصدية: Intentionnelles — بحسب المصطلح الفينومنولوجي لعبارة: القصدية L’intentionnalité. وهو ارتباط الوعي دائمًا بموضوع خارجي، مستقل عن الذات. (م)
٩  أي إنهم لا يخفون شيئًا ويُظهِرون شيئًا آخر، إذ قد يكون واضعُو هذه التكتيكات ومنفِّذوها يهدفون إلى تحقيق الأغراض المعلَنة بالفعل. لكن هذا الوضع هو الذي يكشف عن موضعة أو مواقعية استراتيجية سُلطوية، غير مرتبطة بهم بالضرورة. (م)
١٠  أشكال متعددة من المقاومة، وليس مقاوَمة محدَّدة بالذات. كما سيعددها الكاتب. (م)
١١  بالمعنى الديني المسيحي. (م)
١٢  مصطلح مأخوذ من التحليل النفسي للدلالة على كون جسد المرأة هو حيز الانفعالات بالنسبة لذاته ولمحيطه. لكن فوكو يستخدمه هنا بمعنى كونه حيزًا للتحريم والمنع من قبل المؤسسة الاجتماعية إن لم يقم فقط بوظائفه الموكولة إليه عن طريق هذه المؤسسة، وهي، التي يعددها في الفقرات اللاحقة.
١٣  أي ولاديته المنظمة. (م)
١٤  أي إخضاع جنس الطفل لتوجيهات التربية سواء منها العائلية أو المدرسة. (م) وكذلك بالنسبة لبقية الألفاظ الآتية: جَمْعَنة، من علم الاجتماع. طَبْنَنة: من الطب الفيزيولوجي والنفسي. (م)
١٥  نسبة إلى مالتوس. والمقصود الزوجان كمنتجين للنسل فقط. (م)
١٦  استخدمنا هنا لفظ جهاز بمعنى جاهزية تسهيلًا للفظ فقط. (م)
١٧  انظر الفصل الثاني من الجزء الثاني.
١٨  أن «منافق» موليير Le Tartuffe de Molière ومربِّي لنز Le Précepteur de Lenz، اللذين يباعِد بينهما أكثر من قرن من الزمن، يُمثِّلان كلاهما تداخُل جهاز الجنسانية بالجهاز العائلي، في حالة الإرشاد الروحي، بالنسبة للمؤلف الأول، وفي حالة التربية، بالنسبة للمؤلف الثاني.
١٩  شاركو: دروس الثلاثاء، ٧ كانون الثاني (يناير) ١٨٨٨م: «لكي نعالج جيدًا فتاة مُهَستِرة، ينبغي ألَّا نتركها مع أبيها وأمها، ينبغي أن نضعها في مستشفى … هل تعرفون كم من الوقت تبكي البنات المهذَّبات أمهاتهن حين يتركنهن؟ لنأخذ إذا شئتم المدة الوسطية، إنها نصف ساعة، وهي ليست بالكثير.» ٢١ شباط (فبراير) ١٨٨٨م: «في حال إصابة الصبيان بالهستيريا: ما ينبغي فعله هو فصلُهم عن أمهاتهم. ما داموا مع أمهاتهم، فلا مجال لفعل أي شيء. أحيانًا يكون وجود الأب غير محتمل، مثله مثل الأم، والأفضل إذًا أن نبعدهما كليهما.» Charcot: Leçons du Mardi.
٢٠  إشارة إلى رفض التفسير الذي يُقدِّمه بعض الماركسيين حول أسباب قمع البرجوازية للجنس. فليست هذه مرتبطة بمسألة تحديد النسل أو إباحته عند «القوة العاملة»، في رأي فوكو كما ورد أعلاه. (م)
٢١  التابع لمجلس مدينة Trente الذي انعقد خلال ثلاث مراحل أواسط القرن السادس عشر، والمدينة تقع في شمالي إيطاليا. (م)
٢٢  La Normalité: الحالة الطبيعية، عكس المَرضية والشاذة؛ الحالة السَّوِية أو التطبيع بمعنى أعم. (م)
٢٣  أي العالم الذي يعالج علاقة الأمراض الفيزيولوجية بالأمراض النفسية وبالعكس. (م)
٢٤  الإعداد هنا بمعنى التربية وأشكال التوجيه والحظر التي تهدف إلى (تنوير) الطفل والمراهق بشئونه الجنسية خوفَ الوقوع في الخطيئة. (م)
٢٥  وهى حركة دينية إصلاحية حاولت إعطاء معالِم خاصة للبروتستانتية الإنكليزية، بقيادة ويزلي في أوائل القرن الثامن عشر.
٢٦  كلمة مُستعمَلة خلال القرن السابع عشر تعني الاضطرابات التي تصيب الرأس وهي أصلٌ لمعنى لفظة الهستيريا في التحليل النفسي الحديث. (م)
٢٧  قرابة العصب؛ أي من جهة الأب مباشرة أو الأم L’enologamie: الزواج من داخل الجماعة، أو الزواج اللُّحْمي.
٢٨  Maximaliser: ذَرْوَن: أوصَل إلى الذروة. والمعنى مضاعَفة الشعور بالحياة. (م)
٢٩  ماركس، کارل، المال، الكتاب الأول، الفصل العاشر، الجزء الثاني.
K.Marx, Le Capital, LI, Chap. X,2, “Le capital affamé de surtravail”.
٣٠  Les Flux des populations: مصطلح ديمغرافي يشمل مختلف الحركات السكانية، وهنا خاصة حركة الهجرات الداخلية، من الريف إلى المدينة التي صاحبت نشوء الصناعات وتمركزها في المدن. (م).
٣١  من مدرسة (فرنكفورت) حاوَل تطبيق الماركسية على مسألة الثورة الجنسية، ودعا إلى تحرُّر الجنس كطريق للتحرُّر الطبقي والفردي معًا. لكن دعوته لم تبلُغ هدفها لأسباب سوف يشرحها المؤلِّف مباشرة. (م)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤