الفصل الخامس

حق الموت والسُّلطة على الحياة

Droit de mort et pouvoir sur la vie
لزمن طويل، كان حق الحياة والموت أحد الامتيازات المميِّزة للسلطة المُطلَقة. لا شك في أنه كان مستمَدًّا من السُّلطة الأبوية القديمة التي كانت تخوِّل رب الأسرة الروماني حق «التصرف» بحياة أولاده كما بحياة عبيده؛ فهو الذي «أعطاهم» إياها، وبوسعه أن ينتزعها منهم. إن حق الحياة والموت كما يُعبِّر عنه عند المنظِّرين الكلاسيكيين هو صيغة مُلطَّفة كثيرًا لذلك الحق الروماني. لم يَعُد واردًا أن يُمارِسه الملك على رعاياه في المُطلَق وبِلا قيد ولا شرط، إنما فقط في الحالات التي يكون المَلك فيها مهدَّدًا في وجوده بالذات، إنه نوع من حق الرد. فحين يكون مهدَّدًا من قِبَل أعداء خارجيين يريدون الإطاحة به أو إنكار حقوقه عندئذٍ، يستطيع أن يَشنَّ الحرب وأن يطلب من رعاياه المشارَكة في الدفاع عن الدولة، ويكون تصرُّفه هذا مشروعًا؛ وهكذا، «دون أن يستهدف موتهم مباشرة»، يكون مباحًا له «تعريض حياتهم»: بهذا المعنى، يُمارِس عليهم حقًّا «غير مباشر» في الحياة والموت".١ أما إذا انتفض ضده أحد أفراد رعيته وخالَف قوانِينَه، فإنه يستطيع حينئذ أن يُمارِس على حياته سُلطة مباشرة؛ سوف يقتله كعقاب له. بهذا المفهوم لم يَعُد حق الحياة والموت امتيازًا مطلقًا، إنه مشروط بالدفاع عن الملك وببقائه الشخصي. هل يجب أن نُجاري هوبس٢ (Hobbes) في تَصوُّره بأن ما حدَث هو أنه انتقل إلى الأمير ذلك الحق الذي كان يتمتع به كل فرد، في حالة الفطرة، في الدفاع عن حياته على حساب حياة الآخَرِين؟ أم يجب أن نرى في ذلك حقًّا نوعيًّا ظهر مع تُكوُّن ذلك الكائن القانوني الجديد الذي هو الملك؟٣ على أي حال، إن حق الحياة والموت، بشكله الحديث النِّسبي والمحدود، كما بشكله القديم والمُطلَق، هو حق لا متماثل. فالمَلك لا يمارس حقَّه بشأن الحياة إلا باستعمال حقه في القتل أو بالاحتفاظ به، لا يُعبِّر عن سلطته على الحياة إلا بالموت الذي هو قادر على فرضه. إن الحق المُعبَّر عنه بصيغة «الحياة والموت» هو في الواقع حق القتل أو الإبقاء على الحياة. والسيف هو رمزُه في النهاية. لعله ينبغي أن نَعزُو هذا الشكل القانوني إلى طراز مجتمعي تاريخي مُعيَّن، حيث كانت السُّلطة تمارَس أساسيًّا كسلطة اقتطاع وأخذ، وكآلية اختلاص، وكحق اغتصاب جزء من ثروات الرعايا، ومفروض عليهم، وسلب منتجاتهم وممتلكاتهم وخدماتهم وعملهم ودَمهم. في ذلك المجتمع، كانت للسُّلطة قبل كل شيء حق استيلاء على الأشياء والوقت والأجساد، وأخيرًا على الحياة. وكانت تبلغ أوجها في امتياز الاستيلاء على هذه الحياة من أجل إزالتها.

والحال، أن الغرب شهد منذ العصر الكلاسيكي تغيُّرًا عميقًا جدًّا في آليات السُّلطة هذه. «فالاقتطاع» لم يَعُد هو الشكل الأهم، بل غدَا جزءًا من أجزاء أخرى لها وظائف حَثٍّ وتعزيز، وتدقيق ومراقَبة، وإضافة و«تنظيم» للقوى التي يُخضِعها. نحن أمام سُلطة مخصَّصة لإنتاج قوًى معيَّنة، وتنميتها وتنظيمها، أكثر مما هي مرصودة لمَحوِها وَثَنْيها، أو هدْمها. مذ ذاك سوف يَنزع حق الموت إلى تغيير موضعه، أو على الأقل إلى الارتكاز على مُتطلَّبات سُلطة تدير الحياة والتوجُّه وفقًا لما تقتضيه هذه المتطلبات. إن هذا الموت، الذي كان يستند إلى حقِّ الملك بالدفاع عن نفسه، أو بطلب الدفاع عنه، سوف يظهر وكأنَّه الوجه الآخَر لحق الجسم الاجتماعي في ضمان حياته، والحفاظ عليها أو تنميتها. فلم يحدث أن كانت الحروب أشدَّ دموية منذ القرن التاسع عشر، كذلك لم يحدث قطُّ أن مارسَت الأنظمة «الحاكمة» قبل هذا التاريخ ضد شعوبها مثل هذه المذابح، مع مراعاة الفوارق بينهما طبعًا. لكن سلطة الموت الهائلة هذه — ولعل هذا قد يَمنحُها جزءًا مِن قُوَّتها، ومن الصلافة التي بها وسَّعت حدودها إلى هذا القدر — تظهر الآن كجزء مُتمِّم لسلطة تُمارَس إيجابيًّا على الحياة، وتحاول أن تديرها وتَزيد قيمتها وتُكثِّر منها، وتمارس عليها مراقَبات دقيقة، وضوابط شاملة. لم تَعد الحروب تُشَن باسم الملك الذي يجب الدفاع عنه؛ بل تُخاضُ باسم وجود الجميع، تُحرَّض شُعوب بأسرها على التقاتُل فيما بينها باسم ضرورة بقائها على قيد الحياة. لقد أمْسَت المذابح حيوية. فكم استطاع العديد من الأنظمة، حين تَعتبِر نفسها مُولجة بإدارة الحياة والبقاء، والأجساد والعرق، أن تَشنَّ العديد من الحروب، وأن تعمل على قتل العديد من البشر. وإذا قُمنا الآن بالتفاف يُغلِق الحلقة، فإنه بقدر ما كانت تكنولوجيا الحروب، تُوجِّه هذه الحروب نحو مرحلة الدَّمار الشامل، كانت في الواقع مسألة مُجرَّد البقاء تُملِي قرار شن الحروب، وقرار وقْفِها. فالحالة الذَّرِّية هي اليوم نهاية هذا السياق، فالقدرة على تعريض شعب ما لموت شامِل هي نقيض القدرة على ضمان بقاء شعب آخر. إن مبدأ: إمكان القتل لإمكان العيش، الذي كان يُدعِّم تكتيك المعارك، غدَا اليوم مبدأ استراتيجية بين الدول؛ لكن الوجود المَعنِي لم يَعُد هو الوجود القانوني للسيادة، بل الوجود البيولوجي لشعب ما. إذا كانت الإبادة الجماعية هي حلم السلطات الحديثة، فليس ذلك بفعل عودة راهنة لحق القتل القديم؛ إنما لأن السُّلطة غدَت اليوم تَقع وتُمارَس على مستوى الحياة والبشر والعِرق والظاهرات السكانية الضخمة.

كان بإمكاني أن أتناول، على مستوى آخر، مثل عقوبة الإعدام. فإلى جانب الحرب، كانت هذه العقوبة زمنًا طويلًا الشكل الآخَر لقانون السيف؛ كانت تُشكِّل ردَّ الملك على كل مَن يَعتدِي على إرادته وقانونه وشخصه. لكن عدَّد الذين يَموتون على منصة الإعدام أصبح يتناقص اليوم أكثر فأكثر، بعكس الذين يموتون في الحروب، ولكن فإنه لذات الأسباب قد غدَا هؤلاء (أي المحكومون بالإعدام) أقل عددًا، وغدَا الآخرون (أي المقتولون في الحروب) أكثر عددًا. ومذ باتت مُهمَّة السُّلطة هي إدارة الحياة، لم يَعد بروز المشاعر الإنسانية هو الذي يزيد في صعوبة تطبيق عقوبة الإعدام، بل مُبرِّر وجود السُّلطة ومنطق ممارستها. كيف يمكن لسُلطة ما إن تُمارِس في القتل أعلى صلاحياتها، إذا كان دورُها الأكبر هو ضمان الحياة وصَوْنها وتعزيزها والتكثير منها وتنظيمها؟ الإعدام، بالنسبة لسُلطة كهذه، هو الحدُّ والفضيحة والتناقُض بآنٍ معًا، من هنا، إنه لم يكن بالإمكان الإبقاء عليه إلا بالتذرُّع بوحشية المُجرِم واستحالة إصلاحه، وحماية المجتمَع أكثر منه بفطاعة الجريمة نفسها، وهكذا يُقتَل بصورة مشروعة أولئك الذين يُشكِّلون نوعًا من الخطر البيولوجي على الآخَرِين.

يمكن القول إنه حلَّت محل الحق القديم في فعل القتل، أو الإبقاء على الحياة، سُلطة الإحياء أو فِعل ردِّه إلى الموت. ربما هكذا يُفسر الحطُّ من شأن الموت الذي يَدلُّ عليه البطلان الحديث للطقوس التي كانت ترافقه. إن الاهتمام المبذول من أجل تجنُّب الموت لا يرتبط بقَلق جديد لا تطيقه مجتمعاتنا بقَدْر ما هو مُتعلِّق بكون الإجراءات السُّلطوية لا تَكفُّ عن تجاهله. فمع الانتقال من عالَم إلى آخر، كان الموت هو إبدال سيادَة أرضية بأخرى، أقوى منها بكثير؛ والأُبَّهة التي كانت تحيط به هي جزء من المراسيم السياسية. أما اليوم، فحول الحياة وطوال سياقها تُحْكم السُّلطةُ من قبضتها؛ الموت هو حدُّها واللحظة التي تفوتها؛ لقد أصبح النقطة الأكثر سِرِّية من الوجود، والأكثر «خصوصية». لا نَعجبنَّ لكون الانتحار — الذي كان جريمة فيما مَضى بما أنه نوع مِن التَّعدِّي على حق الموت، الذي كانت ممارستُه حكرًا على سيِّد هذا العالَم أو العالَم الآخر — قد أصبح في غضون القرن التاسع عشر أحدَ أوَّل التصرفات التي دخَلَت ميدان التحليل السوسيولوجي؛ لقد أبرز الانتحارُ على حدود السُّلطة الممارَسة على الحياة، وفي فجواتها، الحقَّ الفردي والخاصَّ في الموت. وكان هذا الإصرار على الموت، الغريب جدًّا إنما المألوف تردُّده كثيرًا، والثابت جدًّا في مَظاهره، وبالتالي الصعب التفسير بظروف أو بِعوارض فردية، كان أحد أعظم الاندهاشات التي أصابت مجتمعًا، حيث تكون مهمة السُّلطة السياسية، المحدَّدة حديثًا، هي إدارة الحياة.

واقعيًّا، هيمَنت هذه السُّلطة على الحياة منذ القرن السابع عشر مُتَّخِذة شكلين رئيسيين غير متناقضين، بل يُشكِّلان بالأحرى مِحورَي نمو تربط بينهما شبكة وسيطة من العلاقات. كان أحد المِحورَين، وهو الأول تكوُّنًا كما يبدو، مركزًا على الجسد كآلة، فترويضه، وزيادة قدراته، وانتزاع قُواه، والنمو المتوازي لفائدته وطواعيته، ودمجه في أنظمة مُراقَبة فعَّالة واقتصادية، كل ذلك أمَّنَته إجراءات سُلطوية تُميِّز الأنظمة أو قواعد الانضباط. إنها سياسة تشريحية (Anatomo-politique) للجسم البشري. المحور الثاني، الذي تكوَّن بعد قليل؛ أي حوالي منتصف القرن الثامن عشر، فهو مُركَّز حول الجسد — الجنس البشري، حول الجسد المختَرَق بآلية الكائن الحي والقائم مَقام الركيزة للسياقات البيولوجية: التكاثر، الولادات والوفيات، المستوى الصحي، معدَّل أجَل الحياة، والتعمير، مع كل الشروط التي يمكن أن تغير هذه الظاهرات، ويتم الاهتمام بها بواسطة مجموعة كبيرة من التدخلات والمراقبات الضابطة. إنها سياسة حيوية (Bio-politique) للسكان. فإن أنظمة الجسد وضوابط السكان تُشكِّل المحورين انتشر حولهما تنظيم السُّلطة على الحياة. فما حصَل في العصر الكلاسيكي من تأسيس لهذه التكنولوجيا العظيمة ذات الوجهين — التشريحية والبيولوجية، المُفرِّدة والمخصِّصة، المُتجهة نحو إنجازات الجسد، والمتطلِّعة إلى سيرورة الحياة — يُميِّز سُلطة لم تَعُد وظيفتها الكبرى أبدًا هي القتل، بل استثمار الحياة.
إن سلطان الموت القديم، حيث كانت تتجسَّد السُّلطة المُطلَقة محجوب الآن بعناية بإدارة الأجساد والتنظيم الحسابي للحياة. لقد حصل في غضون العصر الكلاسيكي نمو سریع للأنظمة المختلفة: المدارس، المعاهد، الثكنات والمشاغل؛ كما ظهرت أيضًا في ميدان الممارَسات السياسية والمراقبات الاقتصادية مشكلات الولادات، والتعمير، والصحة العامة، والسكن، والهجرة؛ لقد انتشرت إذًا تقنيات متنوعة ومتعدِّدة لإخضاع الأجساد وتحديد السكان. هكذا، بدأ عصر «السُّلطة — البيولوجية». والاتجاهان اللذان شَكَّلتْهما هذه السُّلطة كانَا لا يزالان مُتباعدَين بوضوح في القرن الثامن عشر. من ناحية النظام، كانت هناك مؤسَّسات كالجيش والمدرسة؛ وكانت هناك أفكار حول التكتيك والتدريب والتربية وتنظيم المجتمعات؛ وهي تبدأ من تحليلات الماريشال دي ساكس٤ (Maréchal de Saxe) العسكرية الصرف؛ وتصل إلى طموحات غيبرت (Guibert)٥ أو سرفان (Servan)٦ السياسية. أما من ناحية الضوابط السكانية، فكان هناك الديموغرافيا، وتقدير العلاقة بين الموارد والسكان وجدوَلة الثروات وانتقالها، والأعمار وآجالها المحتملة. تلك كانت أعمال کیسنیه (Quesnay)، وموهو (Moheau)، وسوسميلخ (Süssmilch). إن فلسفة «الأيديولوجيين» كنظرية للفكرة والإشارة وولادة الأحاسيس الفردية، إنما أيضًا للتكوين الاجتماعي للمصالح، والأيديولوجيا كمذهب للتعليم، إنما أيضًا للتعاقد والإعداد المنظَّم للجسم الاجتماعي، تُشكِّل بلا ريب الخطاب المجرَّد الذي تمَّت فيه محاوَلة تنسيق هاتين التقنيتين السُّلطويتين لصوغ نظريتهما العامة. بالفعل، إنَّ تَمفصلهما لن يتم على مستوى خطاب نظري، بل في شكْل ترتيبات حِسِّية سوف تُكوَّن التكنولوجيا الكبرى للسلطة في القرن التاسع عشر. سيكون جهاز الجنسانية أحد هذه الترتيبات وأحد أكثرها أهمية.

مما لا ريب فيه، أن هذه السُّلطة البيولوجية كانت عنصرًا ضروريًّا لنمو الرأسمالية. فالرأسمالية لم تَتأمَّن لولا الإدخال المراقِب للأجساد في جهاز الإنتاج، وبواسطة تكييف الظاهرات السكانية مع السيرورات الاقتصادية. لكنها تَعلَّمت أكثر من ذلك؛ كانت بحاجة لنمو هذه وتلك، ولتعزيزها كما لتعزيز إمكانية استعمالها وطواعيتها، في الوقت ذاته، وكانت بحاجة إلى طرائق سُلطوية قابِلة لزيادة القوى والكفاءات والحياة بعامة، إنما دون زيادة صعوبة إخضاعها؛ إذا كان نمو الأجهزة الكبرى للدولة الكبرى، كمؤسَّسات سُلطوية، قد أمَّن الحفاظ على علاقات الإنتاج، فإن عناصر السياستين التشريحية والبيوسياسية، المُبتَكرة في القرن الثامن عشر كتقنيات سُلطوية مَوجودة على جميع مستويات الجسم الاجتماعي، ومُستخدَمة من قِبَل مؤسَّسات متنوعة جدًّا (العائلة، كما الجيش، المدرسة أو الشرطة، الطِّب الفردي، أو إدارة الجماعات) قد أثَّرت على مستوى السيرورات الاقتصادية ومَجراها والقُوى التي تعمل فيها وتُساندها. لقد عملت أيضًا كعوامل فرْز وتدريج اجتماعي، مؤثِّرة على القوى الخاصة لعلاقات الإنتاج والسيرورات الاقتصادية على السواء، ضامنة قيام علاقات هَيمَنة وحدوث آثار تَسلُّطية. إن تكييف تراكُم البشر مع تراكُم رأس المال وتمفصُل نمو الجماعات الإنسانية مع انتشار القوى الإنتاجية، والتوزيع التفاضلي للربح، هي أمور يَسَّرتها جزئيًّا، ممارَسة السُّلطة البيولوجية بمختلف أشكالها وأساليبها. حينئذٍ، كان لا بد في هذه المرحلة من استثمار الجسم الحي وتثمينه وإدارة قُواه على نحو توزيعي.

وتعرف كم مَرَّة أُثيرت مسألة الدَّور الذي لَعِبتْه الأخلاق التقشفية في المرحلة الأَوَّلية مِن تكوُّن الرأسمالية؛ لكن ما حدث في القرن الثامن عشر في بعض بلدان الغرب، وكان مرتبطًا بنمو الرأسمالية هو ظاهرة أخرى، وربما ذات أهمية أكبر من هذه الأخلاق الجديدة التي لا بد أنها تَحطُّ من قيمة الجسد، فما حدث فعلًا هو دخول الحياة في التاريخ — أعني بذلك دخول الظاهرات الخاصة بحياة الجنس البشري في نظام المعرفة والسُّلطة — في حقل التقنيات السياسية، ليس المقصود هو الزعم بأن أول اتصال بين الحياة والتاريخ قد حصَل في ذلك الحين. بالعكس، إذ ظل ضغط الشأن البيولوجي على الشأن التاريخي، طوال آلاف من السنين، قويًّا للغاية. كان الوباء والمجاعة يُؤلِّفان الشَّكلَين المأساوِيَّين الكبيرين لهذه العلاقة التي بَقِيت هكذا خاضعة لتأثير الموت. وبسيرورة دائرية، سمح النمو الاقتصادي للقرن الثامن عشر، والنمو الزراعي بوجه خاص، وكذلك ازدياد الإنتاجية والموارد الأسرع وتيرة من النمو الديموغرافي الذي كان هو مشجعًا له، كل ذلك سَمح بأن تَخف قليلًا هذه المخاطر الشديدة؛ فقد انتهى عهْد الفتك الذريع للطاعون والجوع — ما خلا بعض الانبعاثات — قبل قيام الثورة الفرنسية، لم يَعُد شبح الموت يُنكِّد العيش مباشَرة. إنما في الوقت نفسه، أسهم في إرخاء هذا الضغط تقدُّم المعارف المتصلة بالحياة عمومًا، وتحسين التقنيات الزراعية، والملاحَظات والتدابير التي تستهدف حياة البشر وبقاءهم. إن سيطرة نِسبية على الحياة أنقذَت بعض الأرواح فإنه في حيز التحرُّك المكتسب على هذا النحو الذي قامت بتنظيمه وتوسيعه طرائق سُلطوية ومعرفية؛ فقد اهتمَّت هذه الطرائق بسيرورات الحياة ورقابتها وتغييرها. فقَد تعلَّم الإنسان الغربي، تدريجيًّا، ماذا يعني أن يكون المرء كائنًا حيًّا في عالم حي، وأن يكون له جسد، وشُروط للعيش، واحتمالات للحياة، وصحة فردية وجماعية، وقوى يمكن تغييرها، وحيِّز يمكن توزيعُها فيه بصورة مُثلَى. لأول مرة في التاريخ، دون شك، ينعكس الشأن البيولوجي، في الشأن السياسي، لم يَعُد واقع العيش هو ذلك الأُس المتعذَّر بلوغه الذي لا يظهر إلا مِن وقت إلى آخر في صدفة الموت وحتميته؛ فهو ينتقل في جزء منه إلى ميدان رقابة المعرفة وتدخُّل السُّلطة. لن يكون على السُّلطة أن تتعاطَى فقط مع رعايا قانونيين يكون الموت هو أقصى تأثيرها الممكن عليهم، بل عليها أن تتعامل مع كائنات حية بحيث يجِب أن يطرح تأثيرها عليهم ذاك على مستوى الحياة نفسها. الاهتمام بالحياة لا التهديد بالقتل هو الذي يمنح السُّلطة مَنفَذها إلى الجسد. إذا كان بوسعنا أن نطلِق على الضغوط التي بواسطتها تَتداخَل تقلبات الحياة وسيرورات التاريخ مع بعضها بعضًا، تسمية «التاريخ البيولوجي» (Bio-histoire)، فلا بد من الكلام على «سياسة بيولوجية» (Bio-politique) للتدليل على ما يدخل الحياة وآلياتها في ميدان الحسابات الواضحة ويجعل من السُّلطة — المعرفة عَامِل تغيير للحياة البشرية؛ هذا لا يعني أن الحياة أُدخِلت بشكل شامل، في تقنيات تُسيطِر عليها وتديرها؛ فهي تفلت منها باستمرار خارِج العالم الغربي، المَجاعة موجودة على نِطاق أكبر من أي وقت مَضى؛ ولعل المَخاطر البيولوجية التي يَتعرَّض لها الجنس البشري أكبر، وهي على أي حال أكثر جسامة، منها قبل ولادة علم الجراثيم. غير أن ما يمكن تسميته «عتبة الحداثة البيولوجية» لمجتمع معيَّن فإنه يتحدَّد حين يدخل الجنس البشري كَرِهان في استراتيجياته السياسية الخاصة. طوال آلاف من السنين ظَلَّ الإنسان على ما كان عليه بالنسبة لأرسطو: حيوان حي، وفوق ذلك، قادر على أن يكون له وجود سياسي؛ أما الإنسان الحديث فهو حيوان تَدخُل حياته ككائن حي في صلب، سياسته.٧

لقد كان لهذا التحوُّل نتائج هامة. غنيٌّ عن التشديد هنا على القطيعة التي وقعت آنذاك في نظام الخطاب العلمي وعلى كيفية نفاذ مسألية الحياة والإنسان المزدوجة إلى نظام الإبستمية الكلاسيكية وإعادة توزيعه. فإذا كانت مسألة الإنسان قد طُرحت في خصوصيته ككائن حي، وفي خصوصيته بالنسبة إلى الكائنات الحية؛ فإنه ينبغي البحث عن سبب ذلك في نمط العلاقة الجديد بين التاريخ والحياة، في هذا الموقع المزدوج للحياة، الذي يضعها بآنٍ واحد خارج التاريخ باعتبارها محيطَه البيولوجي، وداخل التاريخية الإنسانية المخترَقة بتقنياتها المعرفية والسُّلطوية. وغنيٌّ عن الإلحاح أيضًا على تكاثر التكنولوجيات السياسية التي راحت، منذ ذلك الحين، تغزو الجسد، والصحة، وطُرق التغذية، والسكن، وشروط المعيشة، وحَيِّز الوجود بأسْرِه.

ثمة نتيجة أخرى لنمو السُّلطة البيولوجية هنا، هي الأهمية المتزايدة التي اتخذَتْها لعبة المعيار، الضابط على حساب النظام الشرعي للقانون. لا يمكن ألَّا يكون القانون مسلَّحًا، وسلاحه الأمثل هو الموت، فهو يرد على الذين يخالفونه بهذا التهديد الأقصى، أقلُّه كسبيل أخير يلجأ إليه. فالقانون يرجع دائمًا إلى السيف. غير أن سُلطة مهمتها أخْذ الحياة على عاتقها ستحتاج إلى آليات دائمة، ضابطة وتصحيحية. لم يعد المقصود هو التهويل بالموت في حقل السيادة، بل توزيع الحي في ميدان قِيَمي ومنفعي. يتعيَّن على مثل هذه السُّلطة أن تصف، وتقيس، وتُقوِّم، وتُسلسل المراتب، بدلًا من أن تظهر بعظمتها القاتلة؛ ليس عليها أن ترسم الخطَّ الذي يفصل بين الرعايا المطيعين وأعداء الحاكم. إنها تُجري توزيعات حول المعيار. لا أريد القول إن القانون يَمَّحِي من الوجود، أو إن المؤسَّسات القضائية تميل إلى الزوال؛ بل إن القانون يعمل أكثر فأكثر كمعيار «ضابط»، وإن المؤسسة القضائية تندمج أكثر فأكثر في مجموعة أجهزة (طبية، إدارية … إلخ) ذات وظائف ضابطة بوجه خاص. إن مجتمعًا ضابطًا هو النتيجة التاريخية لتكنولوجيا سُلطوية مُركَّزة على الحياة. وبالنسبة إلى المجتمعات التي عرفناها حتى القرن الثامن عشر، فإننا دخلْنَا في مرحلة انحسار الشأن القانوني. يجب ألا تخدعنا الدساتير المكتوبة في العالَم أجمع منذ الثورة الفرنسية والمدوَّنات القانونية المحرَّرة والمنقَّحة، وكل ذلك النشاط التشريعي المستمر والصاخب؛ فهذه هي الأشكال التي تجعل سلطة ضابطة في جوهرها، مقبولة من المجتمع.

وبمواجهة هذه السُّلطة التي كانت لا تزال جديدة في القرن التاسع عشر، استندَت القوى المقاوِمة على هذا الذي تحرُسه بالذات؛ أي على الحياة والإنسان بما هو حي. فمنذ القرن الماضي، لم تَعُد النضالات الكبرى التي تُهدِّد النظام السُّلطوي العام تتم باسم العودة إلى الحقوق القديمة، أو تبعًا لحلم عريق بدورة زمنية أو بعصر ذهبي. لم يَعُد الناس ينتظرون إمبراطور الفقراء ولا ملكوت الآخرة، ولا حتى عودة العدل الذي يتصورونه سلفيًّا؛ فما يطالب به وما يقوم مقام الهدف هو الحياة المفهومة كحاجات أساسية، كجوهر الإنسان المحسوس، كإنجاز لإمكاناته وككمال للممكن. قلَّما يهم ما إذا كان المقصود بذلك هو نوع من اليوثوبيا أم لا. فنحن هنا أمام سياق نضالي واقعي جدًّا؛ فالحياة كموضوع سياسي اعتمدت فورًا، إذا صح القول، ووجهت ضد النظام الذي كان يقوم بمراقبتها. إذن، لقد أصبحت الحياة، أكثر من الحق بكثير، رهان النِّضالات السياسية حتى ولو كانت هذه الأخيرة تُعبِّر عن نفسها من خلال إثبات الحق، «فالحق» في الحياة، في الجسد، في الصحة، في السعادة، في إشباع الحاجات، و«الحق» في أن يكتشف المرء ذاته وكل ما يمكن أن يكون، متجاوزًا كل الاضطهادات أو «الاستلابات»، هذا الحق الذي لم يكن مفهومًا أبدًا من قِبَل النظام القانوني الكلاسيكي، كان الرَّد السياسي على جميع الإجراءات السُّلطوية الجديدة التي لا تخضع، هي أيضًا، لحق السيادة التقليدية.

•••

على هذا الأساس، يمكن أن تُفهَم الأهمية التي يتخذها الجنس كموضوع رهان سياسي. ذلك أنه يقع عند مُلتقَى محورين انتشرت على امتدادهما كل التكنولوجيا السياسية للحياة. فهو، من جهة، يرتبط بأنظمة الجسد: ترويض، تعزيز القوى وتوزيعها، تكييف الطاقات واقتصادها. ومن جهة أخرى، «غدَا الجنس» يرتبط بتنظيم السكان، بجميع الآثار الإجمالية التي يحدثها فيه. إنه يندرج في هذين المجالين بآنٍ معًا؛ يفسح المجال لمراقبات متناهية الصغر، ورقابات دائمة، وترتيبات مكانية مُفرِطة في التدقيق، وفحوصات طبية أو نفسية غير محدودة، ولسُلطة مصغَّرة على الجسد؛ لكنه يُفسح المجال أيضًا لتدابير ضخمة، وتقديرات إحصائية، لتدخُّلات تستهدف الجسم الاجتماعي بأسره، أو جماعات برمتها. الجنس هو منفذ إلى حياة الجسد وإلى حياة الجنس البشري في آنٍ معًا. وهو يُستخدم كقالب للأنظمة، وكأساس للضوابط. لذلك كانت الجنسانية، في القرن التاسع عشر، مُلاحَقة حتى في أَدَق تفاصيل الحياة؛ فهي تُطارَد في التصرفات وفي الأحلام؛ يُشتبه بكمونها وراء أبسط الحماقات، وتُلاحَق حتى في سنوات الطفولة الأولى، لقد غدت رمز الفردية الإصطلاحي؛ أي بآنٍ معًا، ما يسمح بتحليلها وما يجعل تقويمها ممكنًا. لكننا نراها أيضًا وقد أصبحت موضوع عمليات سياسية وتدخُّلات اقتصادية (عن طريق الحَثِّ على الإنجاب أو لجمه) وحملات أيديولوجية للإصلاح الأخلاقي أو التحسيس بالمسئولية، يتم إبرازها كمؤشر على قوة مجتمع ما، ينم عن طاقته السياسية وقُوَّته البيولوجية. ومن أول تكنولوجيا الجنس هذه إلى آخرها تتدرَّج سلسلة كاملة من التكتيكات المختلفة التي تجمع، بِنسب متفاوتة، بین هدف انضباط الجسد وهدف تنظيم السكان.

من هنا أهمية خطوط الهجوم الأربعة الكبرى التي تقدمت عليها سياسة الجنس منذ قرنين من الزمن. فقد كان كل واحد منها طريقة للتوفيق بين التقنيات الانضباطية والأساليب التنظيمية. استند الخطَّان الأولان إلى ضرورات تنظيمية — إلى مسألة الجنس البشري والخَلَف والصحة العامة — بغية إحراز نتائج على مستوى النظام؛ لقد جرَت جَنْسَنة الولد في شكل حملة من أجل الحفاظ على صحة العرق (فالجنسانية المبكِّرة وُصِفت منذ القرن الثامن عشر حتى القرن التاسع عشر كخطر وبائي يوشك أن يُهدِّد ليس فقط صحة الراشدِين المُقبِلة إنما أيضًا مستقبل المجتمع والجنس البشري بِرُمَّته)؛ وهَسْتَرة نساء التي استدعت طَبْننة دقيقة لجسدهن وجنسهن، تمَّت باسم المسئولية التي يَتحمَّلنها تجاه صحة أولادهن، ومَتانة المؤسَّسة العائلية، وسلامة المجتمع. غير أن العلاقة المُعاكِسة هي التي فعلَت فِعلَها بشأن تحديد النسل (ضبط الولادات) والطبننة النفسية للانحرافات. هنا، كان التدخل ذا طبيعة ضابطة، إنما كان عليه أن يستند إلى ضرورة الأنظمة والترويضات الفردية بصورة عامة، على ملتقى «الجسد» و«السكان»، أصبح الجنس هدفًا رئيسيًّا لسُلطة تنظيم حول إدارة الحياة أكثر منها حول التهديد بالموت.

ظل الدَّم زمنًا طويلًا عنصرًا مُهمًّا في آليات السُّلطة وفي مظاهرها وطقوسها. فبالنسبة لمجتَمع حيث تسود أنظمة التحالُف الزواجي، والصيغة السياسية للسيادة المُطلَقة وتمييزه إلى فئات وطبقات، وقيمة الأنساب، وبالنسبة لمجتمع حيث المجاعة والأوبئة وأنواع العُنف تجعل الموت وشيكًا، يُشكِّل الدم أحد القيم الأساسية؛ وترجع قيمته بآنٍ معًا إلى دوره كأداة (القدرة على سفك الدم) وإلى عمله في نظام الإشارات (أن يكون المرء ذا دَم مُعيَّن، أن يشارك الغير في الدم ذاته، أن يَقبَل بالمجازَفة بدمه) وكذلك إلى عرَضِيَّتة٨ (سهل الإراقة، عُرْضة للاستنزاف، سريع الامتزاج، قابل للفساد بسرعة). إنه مجتمع دم، بل كنت سأقول مجتمع «دمائي»: شرف الحرب وخوف من المجاعات، وانتصار الموت، وسيادة بواسطة السيف، وجلَّادون وألوان من التعذيب … فالسُّلطة تتكلم من خلال الدم؛ فهذا الأخير هو واقع ذو وظيفة رمزية. إنَّنا، نحن، في مجتمع «الجنس» أو بالأحرى في مجتمع «ذي جنسانية»؛ ذاك أن آليات السُّلطة تتوجه إلى الجسد، إلى الحياة، إلى ما يجعلها تتكاثر، إلى ما يُقوِّي الجنس البشري وعافيته وقدرته على السيطرة أو أهليته للاستخدام: صحة، نَسْل، عِرق، مستقبل الجنس البشري، حيوية الجسم الاجتماعي … في كل ذلك تتكلم السُّلطة عن الجنسانية وإلى الجنسانية؛ فهذه ليست إشارة ولا رمزًا، إنما هي موضوع وهدف. وما يشكل أهميتها ليس ندرتها أو عَرضِيَّتها بقدر ما هو إلحاحها ووجودها الماكر، وكونها مُشعَلة ومُهابة في كل مكان. السُّلطة تبرزها، وتثيرها، وتستخدمها كأنها المعنى المُتوالِد الذي ينبغي دومًا استعادة السيطرة عليه حتى لا يفلت قط؛ إنها نتيجة ذات قيمة معنوية (نسبة إلى المعنى). لا أريد القول إن إحلال الجنس محلَّ الدم يختصر وحده التحولات التي تُحدِّد عتبة حداثتنا. فما أحاول التعبير عنه ليس روح حضارتين أو المبدأ المُنظِّم لشكلَين ثقافيين؛ لكنني أُفتِّش عن الأسباب التي تجعل الجنسانية في المجتمع المعاصر مُثارة باستمرار وليست مقموعة أبدًا. فتلك هي الإجراءات السُّلطوية الجديدة المُعدَّة إبان العصر الكلاسيكي والمستخدَمة في القرن التاسع عشر، هي التي نَقَلت مجتمعاتنا من رمزية الدم إلى تحليلية الجنسانية. وكما رأينا فإنه إذا كان ثمة ما يتعلق بالقانون والموت والمخالَفة والرمزي والسيادة، فهو الدم؛ أما الجنسانية فهي تتعلَّق بالمعيار والمعرفة والحياة والمعنى والأنظمة والضوابط.
لقد عاصر ساد Sade والنَّسالِيون٩ الأوائل هذا الانتقال من «الدمائية» إلى «الجنسانية». لكن، في حين أن الأحلام الأولى لتحسين النوع البشري ستُوقع كل مسألة الدم في إدارة جبرية جدًّا للجنس (فن تحديد الزيجات الصالحة، وإحداث الخصوبة المنشودة، وضمان صحة الأولاد وتعميرهم)، وفي حين أن فكرة العِرق الجديدة تنزع إلى مَحْو خصائص الدم الأرستقراطية كي لا تُبقي غير آثار الجنس الممكنة المراقَبة، فإن «ساد» يُرجِع تحليل الجنس الشامل إلى الآليات المُحتدِمة لسلطة السيادة القديمة، ويخضعه لامتيازات الدم القديمة المحافَظ عليها كُليًّا؛ فالدم يسيل طوال اللذة: دم التعذيب والسُّلطة المطلَقة، دم الفئة المغلَقة الذي يُحتَرم بذاته والذي يُراق في أعظم طقوس قتل الوالدين وارتكاب المَحارم، دم الشعب الذي يُسفَك شفقةً، بما أن الدم الذي يسري في عروقه لا يستحق أن يُسمَّى. فالجنس عند «ساد» هو بلا معيار، بلا قاعدة داخلية يمكن أن تُصاغ انطلاقًا من طبيعته الخاصة؛ لكنه يخضع للقانون غير المحدود لسلطة لا تَعرف، هي ذاتها، غير قانونها الخاص، وإذا حدث أن ألزم الجنس نفسه بلعبة نظام التدرُّجات المرتبة بعناية حسب أيام متتابعة، فإن هذه الممارَسة لن تقودَه إلا إلى الذروة الخالصة للسيادة الوحدانية والمطلقة؛ أي الحق اللامحدود للوحشية كُليَّة القُدرة. بذلك يكون الدم قد استوعب الجنس١٠
في الواقع، مع أن تحليلية الجنسانية ورمزية الدم قد ارتبطَتا من حيث أساسهما بنظامين سُلطويين متميِّزين تمامًا، فهُما لم يَتعاقبَا (وكذلك النظامان ذاتهما) دون تداخلات وتفاعلات أو أصداء متبادَلة، بطرق شتَّى، لازم هَم الدم والقانون، منذ قرنين تقريبًا، إدارة الجنسانية. ثمة اثنان بارزان من هذه التداخلات، واحد بسبب أهميته التاريخية والآخَر بسبب المسائل النَّظرية التي يثيرها. فقد حدث، منذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر، أن تَمَّ توسُّل مسألية الدم كي تُحيي وتُساند بكل عمق تاريخي طراز السُّلطة السياسية الذي يُمارَس من خلال جاهزيات الجنسانية. وهنا تكوَّنت العرقية (العرقية أو العنصرية بشكلها الحديث، الدولتي، المتَّسم بالسمة البيولوجية). حينئذ، نشأت سياسة كاملة للإسكان والعائلة والزواج والتربية والترتيب الاجتماعي والمِلكية، وسلسلة طويلة من التدخُّلات المستمِرة على مستوى الجسد والتصرُّفات والصحة والحياة اليومية، واستمَدَّت حينئذٍ لونها الخاص ومبرِّرها من الاهتمام الأسطوري بحماية نَقاء الدم وبتغليب العِرق، لقد كانت النازية، بلا ريب، التوفيق الأكثر سذاجة ومكرًا — وهذا بسبب تلك١١ — بين استيهامات الدم والتطلُّعات الجنونية لسُلطة نظامية. فإن تنظيمًا عنصريًّا للمجتمع، مع ما قد ينطوي عليه من توسيع وتعزيز للسُّلطات المصغَّرة، تحت ستار دَوْلَتَةٍ (Étatisation) غير محدودة، قد تَرافَق مع التمجيد العلمي لدم راقٍ؛ واستتبع ذلك، في آنٍ معًا، الإبادة المنظَّمة للآخَرين، وخطر تعريض الذات لتضحية كاملة. وقد شاء التاريخ أن تظل سياسة الجنس الهتلرية، ممارَسة مثيرة للسخرية بينما تحوَّلت أسطورة الدم إلى أكبر مذبحة يمكن أن يتذكَّرها البشر حتى الآن.١٢

على النقيض من ذلك، يمكننا أن نتتبَّع، منذ نهاية القرن التاسع عشر ذاتها، الجهد النظري لإعادة إدراج مسألية الجنسانية في نظام القانون، والسيادة، والنظام الرمزي.

ومن الفضائل السياسية للتحليل النفسي — أو على الأقل لما كان أكثر ترابطًا فيه — أنه اشتَبه (وذلك منذ نشأته؛ أي منذ انفصاله عن الطب النفسي العصبي لانحطاط النوع) في ما قد تَتضمَّنه هذه الإواليات السُّلطوية التي تَدَّعي مراقبة وإدارة يوميات الجنسانية، من تكاثر على نحو يتعذَّر إصلاحه، من هنا كان الجهد الفرويدي (كَرَدَّة فعل طبعًا على الصعود الكبير للنزعة العرقية التي عاصرها) لجعْل القانون أساس الجنسانية — قانون التحالف الزواجي، وقرابة العَصَب الممنوعة، والأب — السيد؛ أي باختصار ليجمع كل نظام السُّلطة القديم حول الرَّغْبة الجنسية. إن فضل التحليل النفسي في ذلك — ما خلا بعض الاستثناءات وفيما يخص الجوهر — هو أنه كان على تعارُض نظري وعملي مع الفاشية. على أن موقف، التحليل النفسي هذا كان مرتبطًا بظرف تاريخي محدَّد، ولا شيء يمنع من الاعتقاد بأن التفكير في نظام الجنسانية حسب سُلطة القانون، والموت، والدم، والسيادة — أيًّا تكن الإحالات إلى ساد وباتاي (Bataille)، وأيًّا تكن ضمانات «التخريب» المطلوبة منها — هو في نهاية المطاف «انكفاء» تاريخي. فيجب التفكير في جاهزية الجنسانية انطلاقًا من التقنيات السُّلطوية المعاصرة له.
سيقال لي: هذا يعني الوقوع في تاريخانية (Historicisme) متسرعة أكثر منها جذرية. وهو يعني الفرار من مواجهة الوجود الراسخ بيولوجيًّا الذي تتمتع به الوظائف الجنسية لصالح ظاهرات قد تكون مُتغيِّرة، ولكنها هشة، ثانوية، وهي في النهاية سطحية تمامًا. وهذا يعني التكلُّم على الجنسانية كما لو لم يكن الجنس موجودًا. وسيكون من حَقِّنا الرد على ذلك بالقول: «تَدَّعون أنكم تُحلِّلون بدقة السياقات التي بواسطتها تمَّت جَنْسنة جسد النساء، وحياة الأولاد، والروابط العائلية، وشبكة كبيرة من العلاقات الاجتماعية. تريدون أن تَصِفوا ذلك الازدياد الكبير لِلهَم الجنسي منذ القرن الثامن عشر والحماس المتزايد الذي راح يدفعُنا إلى الاشتباه بوجود الجنس في كل مكان. لِنقرَّ ذلك، ولْنفرِض فعلًا أن الآليات السُّلطوية استُخدمت لإيقاظ الجنسانية و«إثارتها» أكثر منه لقمعها. لكنكم لَبثتم قريبين جدًّا مما تعتقدون بالتأكيد أنكم ابتعدتم عنه؛ إنما أنتم، في الحقيقة، تَعرضون ظاهرات نشر الجنسانية وتركيزها وتثبيتها، وتحاولون أن تُبيِّنوا ما يُمكن تسميته تنظيم «مناطق الإثارة الجنسية» في الجسم الاجتماعي؛ ولعل جُل ما فعلتموه هو أنكم نَقلتم إلى مستوى سياقات منتشرة، آليات كان التحليل النفسي قد كشَفها بِدقَّة على مستوى الفرد. لكنكم تُلغون الشيء الذي كان مُنطلق إمكان حصول هذه الجنسنة والذي لا يتجاهله التحليل النفسي من جهته؛ أي الجنس. قبل فرويد، كانت ثمة محاولة لحصر الجنسانية في أضيق موضع: في الجنس، في وظائفه التناسلية، وفي مواضعه التشريحية المباشرة. كان يتم الاكتفاء بحد أدنى بيولوجي: عضو، غريزة، غائية؛ أما أنتم، فإنكم في موقف تناظري ومعاكس، لم يَبقَ بالنسبة إليكم سوى نتائج بلا ركيزة، وفروع بلا أصل، وجنسانية بلا جنس. هنا أيضًا، توجد عملية خصاء.»

في هذه النقطة، يجب أن نُميِّز بين سؤالين؛ فمن جهة: هل إن تحليل الجنسانية «كجاهزية سياسية» يستتبع بالضرورة إلغاء الجسد والتشريح والشأنَين البيولوجي والوظيفي؟ أظن أنه بالإمكان الإجابة بالنفي عن هذا السؤال الأول. على أي حال، إن هدف هذا البحث هو أن نُبيِّن كيف تتمفصل جاهزيات سُلطوية بشكل مباشر حول الجسد، حول أجساد ووظائف وسياقات فيزيولوجية وأحاسيس وملذات؛ ليس المقصود هو أن نَمحو الجسد، بل أن نُظهِره «في تحليل» حيث لا يَتتابع البيولوجي والتاريخي، كما في نُشوئية علماء الاجتماع القدامَى، لكنهما يترابطان وفقًا لتعقُّد يتزايد مع تطور التكنولوجيا السُّلطوية الحديثة التي تَتخذ الحياة هدفًا لها. إذن، لا ﻟ «تاريخ العقليات» الذي لا يَحسب حسابًا للأجساد إلا من خلال الطريقة التي بها أُدرِكت أو أُعطِيت معنًى وقيمة؛ ونَعم ﻟ «تاريخ الأجساد» وللطريقة التي تم بها توظيف ما هو أكثر مادية وحيوية فيها.

هناك سؤال آخَر متميِّز عن الأول: أوليست هذه المادية التي نستند إليها إذن مادية الجنس؛ أوليس من المفارَقة أن نبتغي وضْع تاريخ للجنسانية على مستوى الأجساد دون أن يجري فيه إطلاقًا أي حديث عن الجنس؟ في النهاية، ألا تتوجه السُّلطة التي تُمارَس من خلال الجنسانية، ألا تَتوجَّه، بنوع خاص، إلى ذلك العنصر من عناصر الواقع الذي هو «الجنس»؛ الجنس بعامة؟ من المحتمَل أيضًا ألا تكون الجنسانية بالنسبة للسُّلطة ميدانًا خارجيًّا تَفرِض نفسها عليه، وأن تكون بالعكس نتيجة وأداة لترتيباتها. لكن، أوليس الجنس بالنسبة للسلطة هو «الآخر»، بينما هو بالنسبة للجنسانية المركز الذي تُوزَّع حوله مفاعليها؟ والحال أن فكرة الجنس هذه هي بالضبط التي لا يَسعنا قَبولها دون تدقيق. هل «الجنس» هو في الواقع المُرتَكز الذي يدعم ظاهرات «الجنسانية» أم أنَّه فكرة مُعقَّدة مُكوَّنة تاريخيًّا داخل جاهزية الجنسانية؟ يُمكننا أن نبين، على أي حال، كيف تكوَّنت «فكرة الجنس» هذه عبْر مختلف الاستراتيجيات السُّلطوية، وأي دور محدَّد كانت قد لعبته.

على امتداد الخطوط الكبرى التي سَلَّطها تطوُّر جهاز الجنسانية منذ القرن التاسع عشر، نشهد تَكوُّن تلك الفكرة التي مُفادها أنه يُوجد شيء آخر غير الأجساد والأعضاء والمواضِع البدنية، والوظائف والأنظمة التشريحية الفيزيولوجية، والأحاسيس، والملذَّات؛ شيء آخر وأكثر شيء له خصائصه الذاتية وقوانينه الخاصة: إنه «الجنس». وهكذا، فإنه، في سياق هَسترة المرأة أُعطِيت ثلاثة تعريفات «للجنس»: فهو الشيء المشترَك بين الرجل والمرأة، أو الشيء الذي يَخُص الرجل بامتياز وبالتالي ينقص المرأة، لكنه أيضًا الشيء الذي يُكوِّن وحْدَه جسد المرأة؛ موجِّهًا إياه بكليته نحو وظيفة الإنجاب، ومُشوِّشًا إياه دون انقطاع بآثار هذه الوظيفة ذاتها. في هذه الاستراتيجية، تُفسَّر الهستيريا على أنها لُعبة الجنس، باعتبار أنه «الواحد» و«الآخر»، كلٌّ وجزء، أساس وعدم. في جنسانية الطفولة، تتكون فكرة جنس حاضر (نتيجة التشريح) وغائب (من منظور الفيزيولوجيا)، وحاضر أيضًا إذَا أخَذْنا نَشاطه في الاعتبار، وغائب إذَا استندْنَا إلى وظيفته الإنجابية؛ أو أنه أيضًا حاضر بمظاهِره، إنما خَفيٌّ بآثاره التي لن تظهر في خطورتها المَرضِية إلا مستقبلًا، وعند الراشد، إذا كان جنس الولد لا يزال حاضرًا، فذاك على شكل سببية خفية تنزع إلى إلغاء جنس الراشد (من عقائد الطب في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الافتراض بأن الابتسار١٣ الجنسي يُسبِّب فيما بعد: العقم، والعجز، والبرودة، وعدم القدرة على التلذُّذ، وتخدر الأحاسيس)؛ وبجَنْسَنة الطفولة، تم تَكوِين الفكرة القائلة بوجود جنس مُتَّسم بلعبة الحضور والغياب، والخفي والظاهر، الأساسية. ولعلَّ الاستمناء مع الآثار المنسوبة إليه يكشف بشكل مُتميِّز لعبة الحضور والغياب والخفيِّ والظاهر، وفي الطَّبْنَنة النفسية للانحرافات، تم ربط الجنس بوظائف بيولوجية وبجهاز فيزيولوجي — تشريحي يعطيه «معناه»؛ أي يحدد غائِيَّته؛ لكنه أُرجع أيضًا إلى غريزة تجعل ظهور التصرفات المنحرفة ممكنًا وتَكوُّنها مفهومًا، من خلال النمو الذاتي لهذه الغريزة وحسب الأشياء التي قد تتعلق بها، هكذا يُحدَّد «الجنس» بأنه: تشابك وظيفة وغريزة، وغائِيَّة ودلالة. وبهذا الشكل، يتجَلَّى، أفضل منه في أي مكان آخر، في الانحراف — النموذج، في تلك النزعة الفيتشية١٤ (Felichisme) التي وَجَّهت منذ ١٨٧٧م على الأقل، تحليل جميع الانحرافات؛ لأنه كان يلاحظ فيه بوضوح تركيز الغريزة على شيء مُعيَّن على شكل الالتصاق التاريخي وعدم الملاءمة البيولوجية. أخيرًا، في جَمْعَنة (Socialisation) التصرفات الإنجابية، يُوصف «الجنس» بأنه عالِق بين قانون الواقع (الذي تُؤلِّف الضروراتُ الاقتصادية شَكْله المباشر والأكثر فظاظة)، وبين اقتصاد اللذة الذي يُحاول دومًا التحايل على ذلك القانون إن لم يتجاهله؛ ويُمثِّل أشهر هذه التحايلات — أي «المجامعة المقطوعة» — النقطة التي عندها تُجبر سلطة الواقع على وضع حدٍّ للذة، وحيث تَعرف اللذة كيف تَتوكَّد بالرغم من الاقتصاد الذي يَفرضُه الواقع. كما يُلاحَظ، فإن جاهزية الجنسانية، بمختلف استراتيجياتها، هي التي تنشئ «فكرة الجنس» هذه؛ وبالأشكال الأربعة الكبرى المتمثِّلة بالهستيريا، والاستمناء، والفيتشية، والمجامَعة المقطوعة، يظهر هذا الجنس بأنه خاضع للعبة الكل والجزء، والأساس والعدم، والغياب والحضور، والزيادة والنقصان، والوظيفة والغريزة، والغائية والمعنى، والواقع واللذة. هكذا تَكوَّنت تدريجيًّا بنية نظرية عامة للجنس.

والحال أن هذه النظرية، المولودة على هذا النحو، مارَست في جاهزية الجنسانية عددًا مُعيَّنًا من الوظائف التي جعلَتْها ضرورية. كانت ثلاث من هذه الوظائف مُهمة بوجه خاص؛ أولًا: سمح مفهوم «الجنس» بأن تُجمَّع في وحدة مصطَنعة عناصر تشريحية، ووظائف بيولوجية، وتصرُّفات، وأحاسيس ومَلذَّات، وأتاح تشغيل هذه الوحدة الوهمية كمبدأ سببي، وكمعنًى كُلِّي الوجود، وكسِرٍّ برسم الاكتشاف في كل مكان. لقد استطاع الجنس إذًا أن يعمل كدالٍّ أوْحَد، وكمدلول شامل. فوق ذلك، ولما كان يُعتَبر بشكل موحَّد كَبنية ونُقصان، وكوظيفة وكُمُون، كغريزة ومعنًى، فقد أمكنه أن يُحدِّد خط الاتصال بين معرفة للجنسانية البشرية وبين علوم التناسل البيولوجية؛ وهكذا، دون أن تقتبس الأولى فعلا أي شيء من الثانية — ما خلا بعض التشابهات المشكوك فيها وبعض المفاهيم المنقولة — حصَلت بفضل التَّجاور على ضمانة بتمتُّعها بصفة شبه علمية؛ على أن بعض مضامين البيولوجيا والفيزيولوجيا هذه شكَّلت، من خلال هذا التجاور ذاته، أساس الحالة الطبيعية للجنسانية البشرية. أخيرًا، أمَّن مفهوم الجنس انقلابًا جوهريًّا؛ فقد سمح بقلب صورة العلاقات بين السُّلطة والجنسانية، وبإظهار هذه الأخيرة لا في علاقتها الأساسية والإيجابية بالسُّلطة، إنما على أنها راسخة في حيِّز محدَّد ولا يمكن إزالته، تسعى السُّلطة إلى إخضاعه بقدر المستطاع؛ هكذا تتيح «فكرة الجنس» تَجنُّب، ذلك الحيز الذي يبدو مسيطرًا علينا وذلك السِّر الذي يبدو لنا مضمرًا في كل ما نحن عليه، وتلك النقطة التي تَسحرنا بالسُّلطة التي تظهرها وبالمعنى الذي تُخفيه، والتي نطلب منها أن تكشف ماهيَّتنا وأن تُحرِّر لنا ما يحددنا، هذا الجنس ليس بالتأكيد سوى نقطة مثالية جعلتها جاهزية الجنس وعملها ضرورية. يجب ألا نتصور حيزًا مستقلًّا للجنس يُحدِث ثانويًّا نتائج الجنسانية المتعدِّدة على امتداد نطاق احتكاكه بالسُّلطة. فالجنس هو بالعكس العنصر الأكثر تجريدًا ومثالية، والأكثر باطنية أيضًا في جاهزية للجنسانية تُنظِّمها السُّلطة في تأثيراتها على الأجساد ومادِّيتها، وقُواها وطاقاتها، وأحاسيسها، وملذاتها.

يمكننا أن نضيف أن «الجنس» يُمارِس وظيفة أخرى أيضًا، تخرق الوظائف الأولى وتُدعِّمها. إنه دور عملي هذه المرة أكثر منه نظري. بالفعل، عبْر الجنس، تلك النقطة الوهمية التي تُحدِّدها جاهزية الجنسانية، يجب أن يَمر كل امرئ للوصول إلى معقوليته الخاصة (بما أنه في آنٍ معًا العنصر الخفي والأساس المولِّد للمعنى)، إلى كُلِّية جسده (بما أنه جزء حقيقي ومهدَّد منه، ويُشكِّل رمزيًّا كل هذا الجسد) وإلى هويته (بما أنه يجمع بين قُوَّة غريزة وفَرادَةِ تاريخ).

وبواسطة انقلاب بدأ بصورة خفية طبعًا منذ زمن طويل — وفي عهد الإرشاد الرعوي المسيحي عن الشهوة — وصلْنَا الآن إلى التماس معقوليتنا مما اعتُبِر جنونًا طوال قرون عدة، وكمال جسدنا مما كان زمنًا طويلًا نُدبَته وجرحه، وهويتنا مما كُنَّا نتصوره نَزوَة غامضة بلا اسم. من هنا الأهمية التي نُولِيه إيَّاها، والهيئة التي نُحيطُه بها والاهتمام الذي نُبدِيه بمعرفَته. ومن هنا كونه أصبح، على مدى العصور، أَهم مِن رُوحِنا، وتقريبًا أَهم مِن حياتنا؛ ومِن هنا تبدو لنا جميع أَلغَاز الدنيا بسيطة جدًّا بالمقارَنة مع هذا السِّر، الصغير في كل مِنَّا، إنما الذي تَجعلُه كثافته أخطَر من كل سِرٍّ آخرَ. إن الاتفاق الفوستي (نسبة إلى فوست Faust)١٥ الذي حَفَرَت جاهزية الجنسانية إغراءَه في نفوسنا بات الآن هو التالي: مَقايَضة الحياة كلها مقابل الجنس ذاته، مُقابِل حقيقة الجنس وسيادته. فالجنس يساوي الموت. وبهذا المعنى، الذي نَجِده تاريخيًّا صرفًا، صار الجنس اليوم مخترقًا تمامًا بغريزة الموت. عندما اكتَشف الغرب الحُب، منذ زمن بعيد جدًّا، أعطاه من القيمة ما يكفي لجعل الموت مقبولًا، والجنس هو الذي ينشد اليوم هذه المعادَلة الأسمى من كل المعادَلات الأخرى. وفي حين تسمح جاهزية الجنسانية للتقنيات السُّلطوية باستثمار الحياة، فإن نقطة الجنس الوهمية، التي حدَّدتْها هي نفسها؛ (أي جاهزية الجنس) تُمارِس من السحر على كلٍّ مِنَّا ما يكفي لتقبُّل الإصغاء إلى زمجرة الموت فيها؛ (أي نقطة الجنس).

إن جاهزية الجنسانية، بخلقها ذلك العنصر الوهمي الذي هو «الجنس»، أوجدت أحدَ مبادئ عمله الداخلية الأساسية: الرغبة في الجنس، الرغبة في امتلاكه، الرغبة في الوصول إليه، في اكتشافه، وتحريره، والتعبير عنه خَطَابيًّا، وصياغته كحقيقة؛ فقد كوَّنَت «الجنس» ذاته كشيء مرغوب فيه. ومرغوبية الجنس هذه هي التي تُبلِّغ كلًّا منا الأمر القاضي بمعرفته، واكتشاف قانونه وسُلطته؛ وهذه المرغوبية هي التي تَجعلُنا نَعتقِد بأننا نُؤكِّد حقوق جِنسنَا في وجه تَقيُّدِنا في الواقع بجاهزية كل سُلطة، بينما هي الجنسانية التي صَعَّدَت من أعماق ذاتنا وَهَجَ الجنس الأسود وكأنه سَراب حيث نظن أنَّنا نَتعرَّف على أنفسنا.

قال کیت (Kate) في كتابه «الحية ذات الريش» إن «كل شيء هو جنس، كل شيء هو جنس. وكم يُمكِن أن يكون الجنس جميلًا عندما يُبقيه الإنسان قويًّا ومقدَّسًا، وعندما يملأ الدنيا. فهو كالشمس التي تغمركم وتنفذ إليكم بنورها.»

وعليه، لا ينبغي أن نسند تاريخ الجنسانية إلى حَيِّز الجنس؛ بل أن نُظهِر كيف أن «الجنس» هو في حالة تَبعية تاريخية للجنسانية، ينبغي ألا نضعَ الجنس في جهة الواقع، والجنسانية في جهة الأفكار الغامِضة والأوهام؛ الجنسانية هي صورة تاريخية واقعية جدًّا، وهي التي أوجَدَت مفهوم الجنس كعنصر تجريدي ضروري لعملها. يجب ألا نعتقد بأنَّنا عندما نقول لا للجنس، فهذا يعني أنَّنا نقول نعم للسُّلطة. إنَّنا نتبع، بالعكس، مُنحَى جاهزية الجنسانية العامة. يقتضي التحرُّر من حَيِّز الجنس إذا أرَدْنا، من خلال عكس مختلف آليات الجنسانية تَكتيًّا، أن نبرز ضد قبضات السُّلطة الأجساد والمَلذَّات والمَعارف، في تعدُّدها وقدرتها على المقاوَمة.

فإن من أجْل تحقيق الهجوم المضاد في مواجهة جَاهزِيَّة الجنس، لا ينبغي أن تكون نُقطة الاستناد هي الجنس — الرغبة، ولكن هي الأجساد والرغبات١٦

•••

قال دافيد هربرت لورانس: «لقد حصلَت في الماضي أفعال كثيرة، أفعال جنسية بوجهٍ خاص. فكانت تكرارًا رَتِيبًا، ومُملًّا دون أي تَطوُّر مُوازٍ لها في الفِكر والفهم. أمَّا الآن، فشغلنا الشاغل هو فَهْم الجنسانية. ذاك أن فَهْم الغريزة الجنسية بصورة واعية تمامًا هي اليوم أهم من الفعل الجنسي.»

قد تصيبنا الدهشة ذات يوم، لن نفهم كيف أن حضارة منصرفة بهذا القدر إلى تطوير أجهزة ضخمة للإنتاج والهدم، قد وجَدَت متَّسَعًا من الوقت واصطَبَرت بلا حدود لتتساءل بهذا القَدْر من القلق حول ما بلغَته حالة الجنس؛ سوف نَبتسم ربما نتذكر أن أولئك الناس، الذين كانوا نحن بالذات، كانوا يعتقدون أنه توجد في هذا المجال، حقيقة هي، على الأقل، بمثل قيمة تلك التي نَشَدُوها من الأرض، والنجوم وأشكال الفِكر الصافية؛ سوف يُذهِلنا الحماس الذي أبديناه ونحن نزعم أننا ننتزع من غياهب الليل جنسانية كان كل شيء ينتجها في وضَح النهار ويُطلقها بصخب — خطاباتنا، مؤسَّساتنا، أنظمتنا ومعارفنا. وسنتساءل لماذا أبْدَينا تلك الرَّغبة المُلِحة في إلغاء قانون الصمت حول ما كان يُشكِّل أكثر اهتماماتنا ضجيجًا. قد تبدو الضَّجة مُفرِطة حسْب نظرة تراجعية إلى الوراء، لكن الأكثر غرابة أيضًا هو إصرارنا على ألا نكتشف فيها غير رفْض للكلام، وأمْر بالسكوت. سوف نتساءل عمَّا جعَلَنا مَغرُورين إلى هذا الحد. سنبحث عن السبب الذي دفعَنا إلى أن نَنسب لأنفسنا الفضلَ في أن نكون أوَّل من أَوْلى الجنس الأهمية التي نَدَّعي أنها لها، مُناهِضين في ذلك أخلاقًا عُمرُها آلاف السنين، وسنرى كيف استطَعْنا أن نَتباهى بأننا تَخلَّصْنا كثيرًا في القرن العشرين من عهد قمعي طويل وقاسٍ — عهد تقشف مسيحي بَدَّلت اتجاهه واستخدَمَته بمنحًى تقتيري وتُرَّهي ضروراتُ الاقتصاد البورجوازي. وحيثما نَرى اليوم تاريخ رقابة مرفوعة بصعوبة، سوف نَتحقَّق بالأحرى من الارتقاء البعيد عبْر العصور الذي قامت به جاهزية مُعقَّدة لدفعِنا إلى الكلام عن الجنس، وإلى تركيز انتباهنا واهتمامنا عليه ولحَمْلِنا على الإيمان بسيادة قانونه، بينما نحن في الواقع مَن صنع الإواليات السُّلطوية للجنسانية.

سوف نَسخر مِن المأخذ الذي أُخِذ يومًا على فرويد والتحليل النفسي، مُتَّهمًا إياهما بالنزعة الجنسية الشمولية (Panasexualisme).١٧ لكن الذين سَيَظهرون لنا عميانًا لن يكونوا ربَّما أولئك الذين صاغوا ذلك المأخذ بقدْر ما سيكونون أولئك الذين استبعَدُوه باستخفاف، كما لو كان يُعبِّر فقط عن مخاوف نزعة قديمة إلى الاحتشام المتطرِّف. ذاك أن الأوَّلين تَفاجَئوا وحسب بسياق كان قد بدأ منذ زمن طويل جدًّا، لكنهم لم يُلاحِظوا بأنَّه كان يحيط بهم قبلًا من كل جانب؛ فقد نسبوا إلى فَأْل فرويد السَّيِّئ وحْدَه ما كان محضَّرًا مسبقًا؛ وأخطئُوا في تحديد تاريخ إنشاء جاهزية عامة للجنسانية في مجتمعنا. أما الأخيرون فقد أخطئُوا بشأن طبيعة السياق؛ اعتقدوا أن فرويد أعاد للجنس أخيرًا، وبانقلاب مفاجئ؛ النَّصيب الذي كان مُستحَقًّا له والذي كان منكَرًا عليه زمنًا طويلًا، لم يُلاحظوا أن فألَ فرويد الحسن قد وضَعه في إحدى النقاط الحاسمة التي حدَّدتْها الاستراتيجيات المعرفية والسُّلطوية منذ القرن الثامن عشر، وأنهم كانوا يُعيدون هكذا، بفعالية رائعة جديرة بأعظم روحانِيِّي العصر الكلاسيكي ومُرشدِيه، إطلاق الأمر القديم بوجوب معرفة الجنس ووضعه في خطاب خاص. غالبًا ما تُذكَر الأساليب المتعدِّدة التي اعتمدَتْها المسيحية القديمة لحَملِنا على كُرْه الجسد؛ إنما لنفكر قليلًا في كل تلك الحِيل التي وَلَّدت فينَا، منذ قرون عدة، حُبَّ الجنس، والتي بواسطتها أيضًا جرَى حَثُّنا على بذْل كل ما نملك من حذق ومهارة لمباغَته، وعلى التعلُّق بواجب استخراج حقيقته؛ والتي بواسطتها تَمَّ تحسيسنا بذنب تجاهله كل هذه المدة الطويلة. إن هذه الحيل هي الجديرة بأن تُثير اليوم إعجابَنا، وعلينا التفكير بأنَّنا، ذات يوم، لن نفهم ربما، في اقتصاد آخر للأجساد والملذَّات، كيف نجحَت حِيَل الجنسانية، والسُّلطة التي تُدعِّم جاهزيتها، في إخضاعنا لسُلطان الجنس الصارم إلى حدِّ أنَّنا تَكرَّسْنا للمهمة اللامحدودة القاضية باقتحام خباياه وانتزاع أصح الاعترافات مِن خِضَم هذه الظلمات.

ومن سخرية هذه الجاهزية، أنها تجعَلُنا نعتقد أن الأمر يتعلق ﺑ «تحرُّرِنا».

١  S. Pufendorf, le Droit de 1734), p. 445.
٢  يعرض هنا آراء هوبس ثم يشير إليه ليرد عليه.
٣  «كما يمكن أن تكون للجسم المركَّب صفات غير موجودة في أي من الأجسام البسيطة للخليط الذي يتكوَّن منه، كذلك يمكن أن تكون للجسم المعنوي، بموجب اتحاد الأشخاص الذين يتكوَّن منهم، بعض الحقوق التي لم يكن يتمتَّع بها قطعًا أي من الأشخاص (الأفراد)، والتي لا يحق لغير القادة مُمارستُها.» A. Pufendorf, loc, cit. p. 452.
٤  Maréchal de Saxe: قائد عسكري عاش خلال القرن الثامن عشر واشتهر كقائد استراتيجي.
٥  Guibert: رجل دين من القرن الحادي عشر، اشتهر بوضع كتاب حول: تاريخ الحروب الصليبية، ونُشِر كتاب ديني له خلال القرن السادس عشر.
٦  Servan de Gerbey: قائد فرنسي، مشارِك في الموسوعة، وواضع مشروع إنشاء الجيش الفرنسي عام ١٧٩٠م، وكان له دور في الثورة وقد حُكم عليه في السجن خلال مرحلة الإرهاب.
٧  لفهم هذه الفكرة يجب العودة إلى كتاب «الكليات والأشياء» حيث يعرض فوكو للقطيعة المعرفية التي حدثت في البيولوجيا، بحيث لم يَعُد الهدف هو التأمل في معنى الحياة والكشف عن أصلها كمفهوم أو تمثيل ذهني، بل غدَا الكائن الحي بالذات هو موضوع المعرفة والاهتمام. وهذا ما سوف يُلمح إليه الكاتب في المقطع التالي. (م)
٨  La Precarité قابلية تَعرُّض الكائن إلى الأذى تعبيرًا عن ضعفه وهشاشته. ورأينا في لفظة العرضية ما يقرب من هذه الدلالة. (م)
٩  النَّسالِيون: علماء تحسين النسل. (م)
١٠  إشارة إلى اقتران الجنس بأشكال القتل والتعذيب الواردة في روايات ساد. (م)
١١  أي: وهذا المكر كان ناجمًا عن السذاجة. (م)
١٢  إشارة إلى التنظيمات التي كان يتبعها هتلر في جمْع نخب من الجنسين لإنسال الأجيال العليا، وغيرها من السلوكيات المنحرفة الأخرى. (م)
١٣  نضج الميل قبل أوانه. (م)
١٤  فضَّلْنا تعريب المصطلح دون ترجمته؛ إذ يعني مركبًا سحريًّا وجِنسيًّا لتركيز الغريزة حول موضع من جسد أو مكان، كما سيفسره المؤلِّف مباشرة. وقد استخدم هذا المصطلح بتنويعات كثيرة في العلوم الإنسانية. (م)
١٥  إشارة إلى (فاوست)، رواية غوته، الذي باع روحه للشيطان مقابل اكتشاف مَسرَّات الأرض. (م)
١٦  بمعنى أنه لا ينبغي الانطلاق من «تصوُّر» أو «مفهوم» الجنس — الرغبة، بل من واقع الأجساد والرغبات نفسها. (م)
١٧  المقصود هو تشميل الجنس للجسد كله، ويرجع حصره في الأعضاء التناسلية منه فحسب، كما يمكن أن يفهم من الجنسية الشمولية، مَجموع السلوك النفسي والعلاقات الاجتماعية وسواها. وهي النَّزعة التي سادَت خاصة التحليل النفسي الأميركي، وأنْكَرها فرويد نفسه خلال حياته. (م)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤