الفصل الثاني

الثورات وظهور سُلطة الفرد

(١) طيباريوس غراكوس

ولم يؤثر صراخ المزارعين الصغار في مسامع الأغنياء الوجهاء، الذين أعماهم حب الذات وأصمَّ آذانهم، ولم يكترثوا لتبرُّم الحلفاء في إيطالية الذين لم يكونوا قد مُنحوا حق التصويت، ولم تكن المسائل خارج إيطالية أقلَّ خطورة من هذه. ويجوز حصرها في اثنتين: أولاهما: إصلاح حكومة الأقاليم إصلاحًا تامًّا، وإيجاد نظام لإدارة أحكام الدولة على أسلوب موافق يؤدي إلى فلاحها وخيرها. والثانية: تقرير حدود الدولة، وصد البرابرة الغزاة عنها، فإنهم كانوا قد بدءُوا يهددون حوض المتوسط وعمرانه بالدمار والاضمحلال.

ولكنه قُدِّر لرومة في هذه الآونة أنْ نبَغَ من طبقة الأشراف فيها رجل، اشتهر بحب الوطن والتجرد عن المصلحة الذاتية، فعقد النية على أن يكون زعيمًا للعامة، ومنقذًا لإيطالية بإعادته إليها جماعة المزارعين والفلاحين، هو «طيباريوس غراكوس Tiberius Gracchus» ابن القنصل طيباريوس غراكوس، قاهر سردينية وإسبانية من زوجته كورنيلية. تهذب وأخوه غايوس على أيدي فلاسفة من المتهلنين، فقال بالديمقراطية اليونانية، وأحب تطبيق بعض مبادئها وأساليبها، ودخل في «خدمة صهره Scipio Aemilianus» في قرطاجة في السنة ١٤٦ق.م. برتبة «مرافق contubernalis» ليتدرب في فنون الحرب. ثم نهض إلى إسبانية أكوستريا لمناسبة الحرب النومنتية، فمر في أترورية (١٣٧)، وشاهد بأم عينه مساوئ المزارع الكبيرة، فغضب لكرامة رومة وإيطالية، ورأى ألا بد من الإصلاح. فلما عاد إلى رومة بعد إنهاء مهمته في إسبانية اندفع في سبيل الإصلاح المنشود، يذلل العقاب ويروِّض الصعاب. ومما قاله في خطبه في هذا الموضوع: «إن للوحوش التي تجول حول إيطالية أوجرة ومكامن تأوي إليها وتنام فيها، وأنتم الذين تحاربون حروب رومة، وتموتون من أجلها ليس لكم ما تتمتعون به سوى بركات الهواء ونور الشمس. هاتان البركتان فقط هما نصيبكم من الميراث! لا مأوى لكم ولا مستقر؛ ولذلك أنتم مضطرون بحكم الضرورة، أن تنتقلوا بنسائكم وأولادكم من مكان إلى مكان، تحاربون وتموتون، وغيركم يتنعم بالثروات الطائلة ورغد العيش، تُدعَون سادة العالم، ولكن ليس لكم مدرة تستطيعون أن تدعوا أنها ملك لكم.»
ولما انتُخب طيباريوس تريبونًا في السنة ١٣٣ق.م. أعد قانونًا قضى بإعادة النظر في توزيع «أرض الدولة ager publicus»، تلك التي دخلت في ملكها في أثناء التوسع في إيطالية، وجعلها صالحة لإسكان المتشردين وإعالتهم. وأوجب هذا القانون استرجاع ما كان قد وقع من هذه الأراضي تحت تصرف الأغنياء، وإبقاء خمسمائة يوغرة لكل منهم، وخمسمائة أخرى لولدين من أولادهم، وتوزيع الباقي على الفقراء مقابل أموال محددة يدفعونها في كل سنة إلى صندوق الدولة. وأوجب هذا القانون أيضًا إنفاق المال، الذي أوصى به أتلوس الثالث ملك برغامة إلى رومة في سبيل تعمير هذه الأراضي، وجعلها في متناول الفقراء. فعارضه في ذلك زميله التريبون الآخر ماركوس أوكتافيوس، وهدد بحق «النقض veto». فلجأ طيباريوس إلى المبادئ اليونانية في الحكم وطالب بعزل زميله، ثم أقر «مجلس البلابية Concilium Plebis» القانون وأوصى بتطبيقه، وانتهت مدة تريبونة طيباريوس، فخالف العرف وسعى للتجديد، وبينما كان يجاهد لإعادة انتخابه؛ لكي يتمكن من تنفيذ قانونه هذا Lex Agraria أو Lex Sempronia، هجم عليه نسيبه Scipio Nasica واغتاله في بناية المجلس في أواخر السنة ١٣٣ قبل الميلاد.1

(٢) غايوس غراكوس

وتابعت «اللجنة الثلاثية III viri»، التي كانت قد انتُخبت للإشراف على الإصلاح الزراعي أعمالها، ولم يحاول السناتوس إلغاءها. وكان أبرز أعضائها غايوس غراكوس أخو طيباريوس، وما فتئت هذه اللجنة تداور الأمور، وتطلب مأتاها حتى أقضت مضجع جماعات من اللاتين والإيطاليين غير الرومانيين؛ فإن هؤلاء كانوا قد احتلوا مساحات من أرض الدولة، وبدءُوا باستثمارها، فخشوا أن ينالهم القانون الجديد، ويقضي على مصالحهم. وحاول السناتوس استغلال قلقهم وتبنى مطالبهم، ولكنهم لم يركنوا إليه، وإنما عاهدوا سكيبيو اميليانوس لما عهدوا فيه من تفهم لقضيتهم، وعطف على مطاليبهم، وتقدير لخدماتهم في ميادين القتال. وكان سكيبيو أميليانوس جليلًا محترمًا لما قام به من خدمات عمومية، فأعاق بتدخله سير أعمال اللجنة الثلاثية وشلَّ حركتها. ثم توفي فجأة في السنة ١٢٩ق.م.، فعادت اللجنة إلى سابق نشاطها ونتاجها. وأهم ما فعله غايوس غراكوس في السنوات القليلة التالية كان تنظيم صفوف المؤيدين، وتوحيد جهودهم واجتذاب بعض كبار الشخصيات لتأييد برنامجه.
وبعد وفاة طيباريوس بعشر سنين انتُخب أخوه غايوس مكانه للمنصب نفسه (١٢٣ق.م.)، ولكنه لم يكتفِ باستئناف النزاع الذي كان قد شرع أخوه فيه لحماية الفلاحين الذين لا أراضي لهم، بل جعل نصب عينيه غاية محدودة سعى إلى بلوغها، وهي مناصبة السناتوس العداء، والفتُّ في سواعده، فألغى في السنة ١٢٣ «القانون الكالبورني Lex Calpurnia»، الذي كان قد أوجب منذ السنة ١٤٩ تأليف مجلسٍ من رجال السناتوس فقط؛ للنظر في تظلُّم حكام الولايات، وسنَّ «قانونًا جديدًا Lex Acilia» قضى بانتقاء أعضاء هذا المجلس العدلي من طبقة الأغنياء «خارج السناتوس Ordo Equester». وقضى قانون آخر بتلزيم ضرائب ولاية آسية في رومة لا في آسية Lex de Provincia Asia لإرضاء هذه الطبقة نفسها، وأفسح مجالًا آخر لهؤلاء أيضًا بعقد الاتفاقات الكبيرة معهم لإنشاء الطرق في إيطالية، وتشييد المستودعات الحكومية والأرصفة، وساير الجماهير، فمنع تجنيد الرومانيين قبل السابعة عشرة، وحدد «أسعار الحبوب Lex Frumentaria»، وأعاد مفعول القانون الزراعي الذي سنه أخوه من قبل، وشرع في إنشاء المستعمرات الرومانية، ونهض إلى أفريقية، فأسس المستعمرة «يونونية Junonia» محل قرطاجة. واستغل «ليوس دروسوس Livius Drusus» غياب غايوس، فأسس اثنتي عشرة مستعمرة في إيطالية؛ ليضرب بين الجماهير وبين غايوس، فلما عاد غايوس من أفريقية اقترح بدوره أن يُمنَح اللاتينيون ما طالما طمحت نفوسهم إليه ومَنَّوْها به، وهو حق المواطن الكامل، فأثار هذا الاقتراح غضب السناتوس، ونجح هذا المجلس في إغراء الجماهير وتحريضهم. فكانت عاقبة سعيه شغبًا عظيمًا، قُتل في أثنائه غايوس في السنة ١٢١، كما قُتل أخوه من قبله. وأُلغي القانون الزراعي (١٢٠ق.م.)، واعتبرت أراضي الدولة في إيطالية ملك القائمين عليها (١١١ق.م.).2

ويلاحظ أن السبب الرئيسي لإخفاق طيباريوس وغايوس كان وجوب اعتمادهما على التصويت، أي على مساعدة الشعب لهما حين الانتخابات، وأن الجماهير كانت معرضة دائمًا لدس الدساسين وعقارب المضللين. ولكن أعمال هذين الرجلين علَّمت العامة أن يثابروا على التفتيش عن زعيم حتى يجدوه، فكان هذا العمل بدء السلطة الفردية.

(٣) القائد ماريوس

وفي السنة ١١١ق.م.، نشب خلاف في نوميدية في أفريقية بين الملكين «يوغورثة Jugurtha» و«أذربعل Adherbal». فاستغاث أذربعل برومة، فأنفذ السناتوس لجنة من أعضائه، قسمت نوميدية بين الملكين، فلم يعبأ يوغورثة بالتقسيم، بل حاصر منافسه في عاصمته، ثم استولى عليها وقتله قتلًا. فأعلنت روما الحرب على يوغورثة، وأنفذت قوة إلى أفريقية لإخضاع نوميدية وملكها. وتولى قيادة الحملة القنصل «كلبورنبوس Calpurnius»، ولدى وصوله إلى أفريقية صالح خصمه بدلًا من إخضاعه (١١٠)، وشاع في رومة أن هذا القنصل الشريف القائد قَبِل رشوة كبيرة، ففاوض وصالح بدلًا من الحرب والإخضاع. وسار هذا الخبر على الأفواه وملأ الأسماع، فطالب ممثل الشعب التريبون «مميليوس Mamilius» التحقيق وإنزال العقاب عند ثبوت الجرم. ومما زاد في الطين بلة أنه لما رفض السناتوس المصالحة، وأوجب خوض غمار الحرب، أخفق الجيش الروماني في جولاته الأولى، واستسلم القائد «البينوس Ablinus» مع جيشه (١١٠). وعلى الرغم من نجاح الجيش الروماني بعد ذلك بقيادة «متلوس Metellus»، فإن الشعب طالب في السنة ١٠٨ بقنصل من أفراده يتولى قيادة القوات في أفريقية. فانتُخب «غايوس ماريوس Gaius Marius» بأكثرية ساحقة، وسُلِّم القيادة في أفريقية رغم تردد السناتوس.
figure
غايوس ماريوس.
وكان ماريوس في صبوته حارثًا في الأرض، ولم يولد في رومة، بل في «أربينوم Arpinum»، ولم يكن مثقفًا مهذبًا، ولم يصل إلى التريبونة في السنة ١١٩ قبل الميلاد إلَّا بمساعدة الأسرة الرومانية «الكريمة Metelli»، ولكنه كان جنديًّا قديرًا. وكان قد أصبح في السنة ١٠٨ «معاونًا legatus» لقائد الحملة على أفريقية Metellus، ولم يلمع في أفريقية؛ فإن القائد الذي قبض على يوغورثة في السنة ١٠٦ كان Sulla مناظره فيما بعد، ولكنه وُفق توفيقًا باهرًا في محاربة قبائل «الكيمبري Cimbri» و«التوتون Teuton» في السنتين ١٠٢ و١٠١، وأعمل في رقابهم سيفه وسيوف جنوده، وأفناهم بعد أن هَزَموا رومة هزمات متتالية، وعبروا حدودها الشمالية، وهددوا كيانها تهديدًا.
وعُني ماريوس بالجيش، فألغى العادة القديمة التي كانت تحظر الخدمة العسكرية على من لم يكن من ذوي الأملاك، وتحصرها في الملاكين. وأدخل في الجندية الفقراء، فلم يلبث جماعة كهؤلاء ليس لهم من حطام الدنيا شيء أن اتخذوا الجندية مهنة لهم، وبرعوا في الحركات العسكرية، وأصبحوا قادرين أن يقوموا بمناورات يستحيل على المواطنين الذين يخدمون في الجندية أمدًا قصيرًا أن يقوموا بمثلها. وعاد ماريوس فنظم «الليجيو legio» الفرقة الرومانية من جديد، فرفع عدد رجالها من أربعة آلاف وخمسمائة إلى ستة آلاف، وقسَّمها إلى عشرة «أفواج cohortes»، وجعل الفوج الوحدة الحربية المناورة، فأكسب صفوفه الأمامية ترصصًا لم تعرفه قبلئذٍ، وأطال مدة الخدمة فجعلها عشرين سنة، فأبعد بذلك طبقة الأشراف والأغنياء، واعتمد طبقات الشعب السفلى، فزاد العامة قوة في السياسة وأضعف الخاصة. وأمست الخدمة العسكرية مهنة يمتهنها الجنود والضباط متضامنين متكافلين، مرتبطين بقائد فرد يحافظ على مصالحهم، ويقودهم إلى النصر والعزة.
ولكن مع ما كان عليه ماريوس من المقدرة العسكرية في التنظيم والمناورة، فإنه لم يكن سياسيًّا محنَّكًا، وعلى الرغم من انتخابه لمركز القنصلية ست مرات بين السنة ١٠٤ والسنة ١٠٠، اضطر أن يتنحى في النهاية عن منصبه، وأن يرى السيادة والكلمة العليا تعودان إلى السناتوس، لكن زعامته علَّمت العامة كيف يفوزون على السناتوس والأشراف بإجماعهم على اختيار قائد حربي، لا تقوم سلطته بالطرق السلمية، بل باستعمال القوة العسكرية، أي بالطرق غير المشروعة.3

(٤) شقاق في إيطالية

ومما زاد النزاع بين الخاصة والعامة تعقيدًا، تبرم الحلفاء الإيطاليين الذي كان يزيد مع الأيام؛ لأن هؤلاء قدموا جنودًا للجيش الذي افتتح البلدان مثلما قدمت رومة، ولكنهم حُرموا حق التصويت، ولم يُعطَوْا نصيبًا من الثروة، التي كانت تتدفق على الرومانيين من الولايات عبر البحر.

وبقي لحسن الحظ جماعة من قادة الفكر بين الرومان، ارتأوا أن يُعطى الإيطاليون حقوق المواطن الروماني. وكان في عداد هؤلاء رجل من النبلاء الأغنياء اسمه «دروسوس Drusus»، فانتخبه الشعب تريبونًا (٩١ق.م.)، فلم يلبث بعد انتخابه أن شرع في اتخاذ التدابير اللازمة لمنح حلفاء رومة الإيطاليين حقوق المواطن الروماني، ولكنه لقي من مناوئيه مقاومة شديدة وحشية، إذ هجم عليه أحد الرعاع في السوق وطعنه بسكين أودت بحياته، فحدا هذا الفعل البربري بقبائل الشعوب الإيطالية في أواسط إيطالية وجنوبها إلى رفع لواء الثورة، وتأليف دولة جديدة وتنظيم حكومة خاصة بهم، واتخذوا عاصمة لهم مدينة متوسطة «كورفينيوم Corfinium»، ودعوها «إيتاليكة Italica».4

(٥) الحروب الأهلية

ولمس الرومان حراجة الموقف، فمنحوا بقانون يوليوس في النصف الثاني من السنة ٩٠ كل من لم يشترك في الأعمال الحربية من الإيطاليين حقوق المواطن الروماني، ثم منحوا هذه الحقوق نفسها في أواخر السنة ٩٠ لكل إيطالي مقيم في إيطالية يرغب في ذلك، ويطلبه في خلال شهرين فقط Lev Plautia-Papiria. وفي السنة ٨٩، صدر «القانون الكلبورني Lex Calpurnia»، وخوَّل كل قائد روماني عامل في ميدان الحرب صلاحيةَ منح حقوق المواطن لكل من رغب فيها. فعاد معظم الإيطاليين إلى حظيرة الدولة الرومانية.
وكان «ميتراداتس Mithradates» السادس ملك البونط، قد بدأ يوسِّع رقعة ملكه في آسية الصغرى وحوض البحر الأسود، مهددًا بذلك سلطة رومة في آسية وأوروبة اليونانية، فاقترح التريبون «سولبيكيوس روفوس Sulpicius Rufus» أن يتولى ماريوس قاهر البرابرة قيادة الجيش في الشرق، وأن يسمح للإيطاليين «المواطنين» تسجيل أسمائهم في أية قبيلة من القبائل الرومانية الخمس والثلاثين، لا في قبائل ثمانٍ معينة. وكان السناتوس قد وجد في شخص القائد «لوكيوس كورنيليوس سولا Lucius Cornelius Sulla» زعيمًا أريستوقراطيًّا عسكريًّا، فانتخبه قنصلًا في السنة ٨٨، وأناط به قيادة الجيوش الرومانية في الشرق؛ لتأديب ميثراداتس، ودفع خطر توسعه. فلما اقترح التريبون روفوس عقد اللواء في الشرق لماريوس، غضب سولَّا لكرامته ولمصلحة الأرستوقراطية، وقام على رأس الفرق الست، التي كان قد حشدها في كابوة للإبحار بها إلى الشرق، واتجه نحو رومة نفسها، فسجل بعمله هذا أول لجوء إلى القوة العسكرية داخل العاصمة. وفرَّ ماريوس ومن شد أزره، وتربَّع سولَّا في دست الحكم، ودبر الأمور قدر المستطاع. وبعد أن ضمن انتخابه قنصلًا للسنة ٨٧، قام بجيشه إلى الشرق، فعاد ماريوس إلى رومة مصحوبًا بجنوده، وشرع في مذبحة هائلة قُتل فيها كثيرون من زعماء السناتوس، وانتُخب ماريوس للقنصلية مرة سابعة، ولكنه مات بعد انتخابه بأيام قليلة (٨٧). فقبض العامة على زمام الأمور حتى يوم الحساب، الذي كان لا بد من حلوله عند رجوع سولَّا.
figure
ميتراداتس السادس.

(٦) ديكتاتورية سولَّا

وأبلى سولَّا بلاء حسنًا في آسية الصغرى، وأدب ميتراداتس، وأكرهه على دفع غرامة كبيرة قُدرت بألفي وزنة، وعاد إلى رومة في السنة ٨٣ تخفق فوق رأسه أعلام النصر، وكافح جنوده في طريقهم إلى رومة جنود العامة الرومانية فكسروها كلها، الواحد تلو الآخر. ودخل سولَّا رومة رئيسًا مطاعًا دون أن يكون له سلطان شرعي لتولي الرئاسة، ولكنه بقوة جيشه أجبر الناس على الاعتراف به، في أواخر السنة ٩٢، دكتاتورًا لأول مرة بعد مائة وعشرين سنة.

وبعد أن ذبح من ذبح من وجوه العامة والإيطاليين، وصادر ما صادر، ووزَّع ما وزع على جنوده، جلس يشترع، فاعتبر التريبونة منشأ الشرور والمفاسد، فانتزع منها صلاحياتها المكتسبة، وأعادها إلى ما كانت عليه قبل النزاع بين العامة والخاصة، فأوجب موافقة السناتوس على كل قانون يقترحه الترابنة، وحصر صلاحية هؤلاء في التدخل بحماية أفراد العامة، كما نص بذلك «قانون الحماية jus auxilii» القديم، ومنع الترابنة من تبوُّئ الوظائف التي كانت تختص بالبطارقة.
ولم يترك سولَّا أثرًا دائمًا في التشريع إلا في حقل القضاء، فإنه أنشأ في عهده الديكتاتوري «المحاكم الدائمة quaestiones perpetuae»، التي نظرت في جميع أنواع المخالفات الجزائية والجنائية، فجعلها سبعة وحدد صلاحياتها، ثم اعتزل العمل في السنة ٧٩؛ ليعيش عيشة هادئة، ولكنه تُوفي في السنة التالية.5

(٧) قنصلية بومبايوس

figure
الشعب الروماني يلح على بومبايوس بوجوب مساعدة متلرس ضد سرتوريوس في إسبانية.
وعلى إثر وفاة سولَّا، عاد الشعب الروماني إلى المطالبة بحقوقه المسلوبة، وكان قد تعلم أن يستفيد من الزعيم العسكري، فوجد ضالَّتَه هذه المرة في شخص «بومبايوس Gnaeus Pompeius»، أحد ضباط سولَّا الذي كان منذ عهد قريب قد امتاز في العمليات الحربية في إسبانية. فانتخبه الشعب قنصلًا في السنة ٧٠ق.م.؛ لأنه وعد بإلغاء قوانين سولَّا المكروهة. وبر بومبايوس بوعده، فضمنت له خدمته هذه إمرة حربية من الدرجة الأولى في الخطورة.

(٧-١) بومبايوس والقرصنة والشرق

figure
اغتيال سرتوريوس في إسبانية في السنة ٧٢ق.م.
figure
غنايوس بومبايوس.
وبلغ من إهمال السناتوس أن ترك سفن التجارة تحت رحمة لصوص البحر، الذين غشوا البحر المتوسط، وبلغت بهم القحة أن ظهروا عند مصب التيبر ينهبون ويحرقون، وخطفوا بعض موظفي الحكومة في الطريق على مسافة بضعة كيلومترات من رومة، واستولوا على ذخيرة الحنطة المرسلة من مصر وأفريقية إلى العاصمة الرومانية. فاقترح التريبون غابينيوس قانونه الشهير Lex Gabinia، الذي قضى بتقليد قائد قدير صلاحيات واسعة، تشمل البحر المتوسط بكامله، والأراضي المتاخمة لمسافة خمسة وسبعين كيلومترًا من الشاطئ (٦٧ق.م.)، فاعترض السناتوس، واحتج أعضاؤه، ولكن دون جدوى. وأُسندت القيادة إلى بومبايوس، فجرد مائة وعشرين ألف مقاتل ومائتين وسبعين سفينة حربية، ولم تمرَّ أربعون يومًا على تعيينه لهذه القيادة، حتى كان قد طهَّر غرب البحر المتوسط، ثم أبحر شرقًا، ولم يمضِ على وصوله إلى بحر إيجه سبعة أسابيع، حتى كان قد استأصل شأفة لصوصه، وخرب حياض سفنهم وحصونهم. وفي السنة التالية اتسع نطاق إمرته حتى شمل قيادة الحرب ضد مثراداتس ملك البونط في شمال آسية الصغرى وشرقها. وكانت قيادة هذه الحرب قبلًا بإمرة «لوكولوس Lucullus»، القائد الروماني القدير الذي كسر شوكة مثراداتس، وقهر مملكة أرمينية المترامية الأطراف يوم كان تغرانس ملكًا عليها. ولذلك لم يجد بومبايوس صعوبة في إخضاع مثراداتس، ولم يكن عليه إلا أن يقبل خضوع تغرانس، الذي قدَّمه طوعًا من تلقاء ذاته، ثم سحق بومبايوس البقية المتخلفة من مملكة السلوقيين (٦٤-٦٣ق.م.)، وجعل سورية ولاية رومانية، وأدخل اليهود في حكم رومة، وقبل رجوعه كانت الفرق الرومانية التي تحت قيادته قد زحفت على أراضي الفرات، وأشرفت على بحر قزوين. ولم يشهد الشرق فتوحات كهذه منذ الحملات المقدونية، فخُيِّل للعموم أن إسكندرًا جديدًا ظهر في العالم بشخص بومبايوس، زاحفًا على الشرق تحت أعلام النصر.6

(٧-٢) مؤامرة كتيلينة

وعاد في السنة ٦٦ إلى رومة «لوكيوس كتيلينة Catilina» حاكم أفريقية طامعًا في القنصلية، ولكنه ما كاد يصل إلى العاصمة حتى علم أنه متَّهم بالتظلم وابتزاز المال، وأنه، والحالة هذه، لا يجوز له أن يرشح نفسه لمثل هذا المنصب الخطير. وجرى مثل هذا تقريبًا لكل من «أوترونيوس Autronius» وسولَّا نسيب الدكتاتور، فإنهما اتُّهما بالرشوة، فتآمر الثلاثة على اغتيال القنصلين الجديدين في السنة ٦٥، ثم افتضح أمرهم فباءوا بالفشل. وفي السنة ٦٥ مَثُل كتيلينة أمام القضاء بدعوى التظلُّم وأُعلنت براءته، فرشح نفسه لمنصب القنصلية مع أنطونيوس، فأخفق لتفوق شيشرون، فحزَّ ذلك في صدره، ودفعه إلى استمالة المتذمرين، فطالب بإلغاء الديون، ولما لم يجده هذا نفعًا جمع حوله جماعة كبيرة من أهل البغي والشر، وحاول بواسطتهم أن يغتصب السلطة، ويقبض على أزمة الحكم، ولكنه لم يفُزْ بالمرام؛ لأن شيشرون كان له بالمرصاد فأحبط مساعيه، فزينت له نفسه أن يعمد إلى القتال، فقاتل هو ورجاله مستبسلين في أترورية، وما فتئوا حتى هلكوا عن آخرهم.7

(٧-٣) التحالف الثلاثي

ولما عاد بومبايوس إلى إيطالية يجر أذيال الفخار كفاتح الشرق العظيم تسرَّع فسرَّح جنوده، فلما طلب إقرار إجراءاته في آسية الصغرى وإقطاع جنوده بعض الأراضي امتنع السناتوس عن الموافقة، فانبرى لمعاضدته بطل جديد هو يوليوس قيصر، ثم تمكنا من استمالة رجل من نبلاء الرومانيين وأغنيائهم اسمه «كراسوس Crassus»، وذلك في السنة ٦٠ق.م.، فآل هذا الاتفاق الشخصي بين هؤلاء الثلاثة إلى القبض على أزمة الحكم. وكانت النتيجة انتخاب قيصر للقنصلية في السنة ٥٩، ويتوسع المؤرخون المحدثون فيطلقون على هذا التحالف الثلاثي الشخصي اللفظ اللاتيني triumviri لجنة الثلاثة، أو حكم الثلاثة. والواقع أن هذا الاصطلاح لم يُطلَق رسميًّا على هؤلاء الثلاثة، بل على حكم أنطونيوس ولبيدوس وأوكتافيانوس، وذلك في السنة ٤٣ق.م.

(٨) يوليوس قيصر

هو «غايوس يوليوس قيصر Gaius Julius Caesar» ابن غايوس يوليوس قيصر وحفيد ملوك رومة المؤلهين، وهو ابن أخي سكستوس القنصل (٩١). ولكنه على الرغم من صعود شرفه ورفعة مجده، نزع إلى عمته يولية ووزجها ماريوس الشهير، وفاخر هو بانتسابه إليهما.
وُلد في رومة في السنة ١٠٢ق.م.، وتزوَّج وهو لا يزال في السابعة عشرة من كورنيلية بنت «كنَّا Cinna»، معلنًا بذلك استمساكه بأهداف العامة لا الخاصة، فأوعز إليه سولَّا بالطلاق فامتنع، فأزبد سولَّا وهدد، ففرَّ يوليوس إلى بيثينية في الشرق، واستبسل في حصار «متيلينة Mytilene»، وأنقذ مواطنًا من الموت، فاستحق الإكليل المدني. ولدى وفاة سولَّا (٧٨) عاد إلى رومة، وتعاطى السياسة فلفت الأنظار بفصاحته وقوة حجته عندما اتهم «دولابلا Dolabella» بابتزاز المال في مقدونية. ثم أمَّ رودوس ليدرس البيان على «مولو Molo»، كما فعل شيشرون فاختطفه قرصان من قيليقية وهو في طريقه إلى الجزيرة، فافتدى نفسه وأفلت، ثم عاد إلى هؤلاء على رأس قوة صغيرة فقبض عليهم وصلبهم صلبًا في مدينة برغامة. وعُلم في حوالي السنة ٧٤، أنه انتُخب عضوًا في طغمة الكهنة، فعاد إلى رومة وقضى بضع سنوات عائشًا عيشة سرور وحبور غير متدخل في السياسة، فعرفه الشعب وتعلقوا به لدماثة خلقه وسخاء يده، ثم تولى القضاء في السنة ٦٧، وأمانة الأبنية العمومية في السنة ٦٤.8
وكان ما كان من أمر بومبايوس بعد عودته من الشرق ومن تحالف الثلاثة، فانتُخب يوليوس قنصلًا في السنة ٥٩. ولم تكن القنصلية إلَّا يسيرًا من كثير من مقاصد يوليوس، فإنه بعد أن أنفذ مآراب بومبايوس وأزوجه من بنته يولية، وبعد أن سنَّ شرائع جديدة للأراضي ﻟ «منفعة العامة Leges Agrariae» تأهب لخطَّته المستقبلة. وكان على يقين من أنه لا بدَّ له من إمرة حربية واسعة؛ ليستطيع أن يعبئ جيشًا، وكان قد طلب أولًا السماح له بإخضاع مصر، وتحويل دخلها السنوي الذي كان يبلغ ١٤٨٠٠ وزنة إلى خزينة رومة، ولم يرضَ السناتوس. فرأى في السنة ٥٩ الفرصة سانحة في الغرب في بلاد غالية، فطلب أن تقرر ولاية غالية الإيطالية له، فلم يلقَ صعوبة في سن قانون Lex Vatina عُيِّن بموجبه واليًا على غالية الإيطالية واليرية.

(٨-١) فتح غالية وأثره

وتسلم يوليوس إدارة ولايته الجديدة في السنة ٥٨، فبرهن عن مقدرة عظيمة ومهارة فائقة في القيادة الحربية؛ فإنه تمكن في غضون ثماني سنوات قضاها في الزحف على الغاليين والبرابرة من إخضاع غالية وراء الألب، وفتحها من حدود المحيط وبحر المانش حتى نهر الرين. ثم صد القبائل الجرمانية عن غالية، فعادوا إلى بلادهم بعد أن تجشَّموا خسائر جمة، وقد أذهلتهم الحذاقة والسرعة اللتان بنى بهما جسرًا فوق الرين، حتى تمكن من مهاجمتهم في عقر دارهم، وجعل يوليوس الرين حدًّا لولايته الجديدة، ثم قطع بحر المانش، وغزا بريطانية حتى نهر التايمس. فأضاف إلى الإمبراطورية الرومانية مملكة واسعة شملت كل فرنسة الحديثة وبلجيكة.9
وصنَّف يوليوس كتابًا في حروبه في غالية، وعني به عناية شديدة، فجاء من أنفس ما كتب باللغة اللاتينية نثرًا، وهو يحسب الآن أفضل كتاب لتعليم القراءة للمبتدئين باللاتينية. ونشره يوليوس رسالةً سياسية طبع بها على عقول الشعب الروماني أثرًا عميقًا عن فتوحاته العظيمة وخدماته الجسيمة التي قام بها، واستوجب الشكر من أجلها.10
وكان «القانون الواتيني Lex Vatina»، الذي أصدره التريبون بوبليوس «واتينيوس Vatinius» في السنة ٥٩، قد جعل مدة ولاية يوليوس على غالية واليرية خمس سنوات، وفي السنة ٥٥ تولى القنصلية بومبايوس وكراسوس حلِيفَا يوليوس، فمدَّدا ولايتَه خمس سنوات أخرى، ثم توفيت يولية بنت يوليوس وزوجة بومبايوس في السنة ٥٤، وقُتل كراسوس في السنة التالية في حرب البرت في الشرق، فانفرط عقد التحالف الثلاثي، وأصبح بومبايوس حرًّا طليقًا، ولكنه لم يقاطع، ولم يقلب ظهر المجن، ففي السنة ٥٢ في أثناء قنصليته، عندما صدر القانون Lex de Iure Magistratum، وقضى بوجوب حضور المرشح بنفسه إلى رومة؛ لتقديم ترشيحه لوظيفة كبيرة تدخل بومبايوس، وأضاف استثناءً خصوصيًّا لصالح يوليوس.
ثم أوشكت المدة الثانية لولاية يوليوس في غالية أن تنصرم، وقام مناصروه في رومة يستعدون بإيعازٍ منه إلى انتخابه للقنصلية، فخشي السناتوس عاقبة رجوعه إلى إيطالية، وبث العيون والأرصاد ليجد شخصية حربية قديرة تصمد في وجهه، فعرض أشياء وأشياء على بومبايوس نفسه، وبما أن هذا لم يكن إداريًّا محنكًا رغب في القيادة العسكرية، ومال إلى السناتوس، وشرع يعضد مبادئه، فنشِب نزاعٌ بين قيصر وبومبايوس، كما قام قبل ذلك بنصف قرن بين ماريوس وسولَّا.11

(٨-٢) الزحف على رومة

figure
يوليوس قيصر (متحف برلين).

وحاول يوليوس أن يراضي السناتوس وانتظر الجواب، فإذا به يتضمن أمرًا بتسريح الجيش. فلم يتردد في البت بما كان ناويًا أن يقوم به في المستقبل، ولم يجنح جنوده إلى الشئون السياسية، ولكنهم كانوا شديدي التعلق بقائدهم مستعدين للتضحية في سبيله، فلم تكد تبدو من شفته كلمة الأمر بالزحف على رومة، حتى بادروا إلى قطع الروبيكون النهر الصغير، الذي حدَّ ولايته من جهة رومة. ولم يكن لقيصر حق شرعي أن يتخطى بجنوده هذا الحد، فعُدَّ فعله هذا ثورة على النظم القائمة المرعية الإجراء.

وكان من أعظم أسباب نجاح يوليوس سرعته البرقية في تنفيذ ما يروم إجراءه، فقبل أن تمرَّ ساعة من الزمن على وصول رد السناتوس إلى يده، كانت فرقة قد شرعت في الزحف من وادي البو على رومة (٤٩ق.م.)، ولما لم يكن السناتوس على استعداد لهذا الجواب السريع ألجأته الضرورة إلى مفاوضة بومبايوس في الأمر الواقع، فأجابهم أن القوات الحربية التي تحت إمرته ليست كافية لصد قيصر عن رومة. والواقع أنه لم يكن في تلك الفترة جيش في الجمهورية كلها يستطيع أن يواقف قوات قيصر وفي صدره أقل أمل بالفوز، فتأخر بومبايوس. ولما دنا قيصر من رومة فرَّ بومبايوس وجيشه منها مع معظم الشيوخ أعضاء السناتوس وعدد كبير من الوجوه والأعيان، واحتال قيصر على بومبايوس وجماعته، وزيَّن لهم مغادرة إيطالية، فلما خلا له الجو، وأضحت رومة في قبضة يده أمسى انتخابه للقنصلية من الهَنَات الهينات، وغدا المدافع الشرعي عن رومة وحامي ذمارها من السناتوس وجيش بومبايوس.12

(٨-٣) استسلام الجيش في إسبانية

ومع هذا كله، فإن مركز قيصر لم يكن بعد حريزًا؛ لأن بومبايوس كان في عيون الشرق أعظم رجل في رومة، وكان بوسعه أن يؤلِّب على قيصر جميع شعوب الشرق ودويلاته، فضلًا عن أنه كان تحت سلطانه الأسطول الضخم، الذي تمكن به من قطع دابر القرصان، وجعل نفسه سيد البحر، ولما كان الشرق بأسره ظهيرًا له كانت أحواله تتحسن من يوم إلى يوم، فشرع يعبئ جيشًا، ويدربه على القتال على أمل أن يبطش بقيصر، ويسحقه سحقًا تامًّا. وكان الجيش في إسبانية لا يزال مواليًا لبومبايوس، والسناتوس مستوليًا على إسبانية كلها، فكان يوليوس مضطرًّا أن يحارب في الشرق والغرب، فعقد النية على تنظيف الغرب قبل القيام إلى الشرق، فبلغ إسبانية بسرعته المدهشة في حزيران السنة ٤٩، ولدى وصوله إليها لجأ إلى الحيلة والدهاء، فتمكن بعد بضعة أسابيع من أن يقطع عن الجيش فيها الميرة والذخيرة، وأحدق بهم من كل جانب، وأكرههم على التسليم دون أن ينشب بينه وبينهم معركة واحدة.13

(٨-٤) مفاجأة السناتوس

ولما بلغ مسامع بومبايوس وأعوانه أن قيصر توجه إلى إسبانية، شرعوا في الاستعداد؛ ليعبروا إلى إيطالية. ولكن قبل أن يتمكنوا من ذلك كان قيصر قد عاد مظفرًا وركب البحر من برنديزي، ونزل في أبيروس مع أن السيادة البحرية كانت لا تزال بيد السناتوس وبومبايوس، فأثارت هذه المباغتة نفوس أخصام قيصر، وتولتهم الحيرة لتملصه من مراكبهم الحربية، وبعد انكسارات عديدة رضي يوليوس أن يواقع أخصامه، مع أن عدد جنوده كان أقل من جنودهم، فنشبت بين الطرفين معركة في فرسالية من أعمال ثسالية في السنة ٤٨، أسفرت عن انكسار بومبايوس والسناتوس شر كسرة، فلجأ جيش هؤلاء إلى الاستئمان.14

(٨-٥) يوليوس وكليوبترة

ونجا بومبايوس بنفسه إلى مصر، فقتل فيها قتلًا شائنًا، وتبعه قيصر إلى مصر بقوة صغيرة، فوجد فيها كليوبترة السابعة وأخاها بطلميوس الثالث عشر يتنازعان السلطة والزعامة، كما وجد الفوضى ضاربة أطنابها من جراء هذا النزاع. ولم تكن كليوبترة فتانة بجمالها بل بشخصيتها، فأنفها الضخم الأقنى الذي لا يزال بارزًا على مسكوكاتها، وفمها الواسع الكبير، وذقنها الناتئة إلى فوق، وجبهتها الناطحة ليست من ملامح الجمال أو مياسم الحسن. ولم يكن يوليوس ذلك الغلام الشاب الطائش المتشبب، فإنه كان قد طوى السنة الرابعة والخمسين من عمره، ولكنه كان ذا حاجة سياسية يريد قضاءها بسرعة؛ ليتسنى له النظر في أمور أهم وأكبر. وكان قد وصل إلى مصر بفرقتين وثمانمائة فارس، فأراد أن يأخذ مصر، ودخلها العظيم بالسياسة والدهاء لا بالعنف والقوة.15 والواقع أن فتنة مخيفة نشبت ضده في الإسكندرية، وأن الشعب هجم عليه وضايقه، وحصره في مصر، وأنه هو أضرم النار بسفن المصريين؛ كي لا يسدوا عليه الميناء، وظل محصورًا إلى أن أتاه المدد من سورية، فخرج من الحصار، وبدد شمل المصريين، وأقر كليوبترة على الملك، على أن تتزوج أخاها الأصغر إذ كان الأكبر قد هلك.16

(٨-٦) أتيت، ورأيت، وغلبت

figure
مركوس أنطونيوس أحد الثلاثة.
ورغب ابن مثراداتس الكبير «فرناكس Pharnaces» في استغلال الظرف؛ لتوسيع رقعة ملكه وإعادة مجد آبائه في شمال آسية الصغرى وشرقها، وكان «أريوبزانس Ariobazanes» ملك قبذوقية و«ديوتاروس Deiotarus» ملك غلاطية وأرمينية الصغرى قد تعاونا مع السناتوس وبومبايوس، فلما انتصر قيصر أسرعا للتكفير عما فعلاه، فاحتلَّ فرناكس أملاكهما، فحاول القائد الروماني «دوميتيوس كلوينوس Domitius Calvinus» بجيشه المحدود إعادة الوضع إلى ما كان عليه، فخرج فرناكس من قبذوقية، ولكنه أبى أن يتراجع عن أرمينية الصغرى. فجرد كلوينوس حملة عليه، وواقعه عند «نيكوبوليس Nicopolis»، فأخفق وتراجع نحو الغرب. فانطلقت يد فرناكس في الشرق، ونهب وسلب وأحرق، وخصى الشباب الروماني وفعل بهم ما لم يُفعل، فغضب قيصر، وكان قد دبر شئون مصر، فقام إلى «عكة Ptolemais» على رأس ألف مقاتل، ودبر شئون اليهودية وأرض أحبارها، ثم نهض إلى أنطاكية ونظر في أمورها، وأبقى عليها «سكستوس قيصر Sextus Caesar»، وانتقل من مرفئها سلفكية عند مصب العاصي إلى قيليقية، وجمع من جمع من الجنود، واتجه شطر البونط معقل مثراداتس وابنه فرناكس فواقعه في «زيلة Zela»، وأوقع به، ففرَّ هائمًا (٤٧ق.م.)، فقال قيصر قوله الخالد: «أتيت، ورأيت، وغلبت Veni, Vici, Vidi».17

(٨-٧) أفريقية وإسبانية

وعاد يوليوس إلى رومة، وأعاد الثقة والطمأنينة إلى بعض صفوف الجيش، وفي مطلع السنة ٤٦ اتجهت أنظاره شطر أفريقية، فإن صديقه الأمين «غايوس كوريو Gaius Curio»، الذي أنفذه إلى أفريقية في صيف السنة ٤٩، كان قد سقط في ميدان القتال، وكانت أفريقية لا تزال مناوئة بيد سكيبيو، وكان يوتة ملك نوميدية لا يزال يهزأ بيوليوس وروسة، ويفاخر بفرسانه وفيلته وجنوده الجدد المدرَّبين على الطريقة الرومانية. وكان يوليوس قد اكتفى بأن أعلن يوتة عدوًّا لرومة، واعتبر بوغود وبوخوس ملكي موريتانية صديقين حليفين، فلما عاد إلى رومة، وأعاد الثقة إلى صدور الجنود والشعب، نهض إلى أفريقية، وضرب سكيبيو وجنوده ضربة قاضية عند «ثبسوس Thapsus»، وعاد بعد أربعة أشهر إلى إيطالية، وفي السنة ٤٥ أسرع إلى إسبانية؛ ليحارب من تبقى من اتباع بومبايوس و«لابيانوس Labienus»، فانتصر عليهم في «موندة Munda»، ورجع إلى إيطالية.18

(٨-٨) يوليوس الدكتاتور

ولدى عودة يوليوس من «أيلردة Ilerda» عُيِّن دكتاتورًا ليجري الانتخابات في خريف السنة ٤٨، ثم جُعل في السنة ٤٦ دكتاتورًا لمدة عشر سنوات، وفي السنة ٤٤، نودي به دكتاتورًا مدى الحياة، وكان قد أصبح منذ السنة ٤٦ ناظر «السلوك والأخلاق Praefectus Morum»، فنودي به في السنة ٤٤ تريبونًا «لا تُخرَّق حرمته Sacrosanctus»، وتردى الأرجوان وأقيمت له التماثيل، وشيد هيكل لرافته، وظهر رسمه على المسكوكات (٤٥-٤٤). ولكنه لم يؤلَّه إلَّا بعد وفاته، وكانت نفسه تنزع إلى الحصول على مقام ملك تشبهًا بالإسكندر، ولكنه كسياسي محنَّك كان أحكم من أن يُقدم على نسخ شكل الحكومة الجمهوري، فرفض لقب ملك عندما قدم له في السنة ٤٤.
ولم ينتهج يوليوس خطة سولَّا في معاملة الناس، فلم ينتقم من أعدائه، ولم يقتل أحدًا لمجرد عداوته له، بل عامل الجميع بالرفق والإنسانية، وحقن دم شيشرون الخطيب مع شدة عداوة هذا له، وأعاد «مركيلوس Marcellus» فحاز بذلك رضا الطبقة الأرستقراطية، ولكن سلطته الواسعة المطلقة وسيطرته في الانتخابات والتعيينات وعظمة ألقابه النادرة أثارت الهواجس والمخاوف وأقضت مضجع جماعات من حزبه، فكان يوم الخامس عشر من آذار سنة ٤٤ حين خرَّ هذا الرجل الفذ صريعًا عند قاعدة تمثال بومبايوس، وعلى أيدي بروتوس وكاسيوس.
هكذا، فإنه لم يبقَ لقيصر إلا وقت قصير بعد فتح رومة في السنة ٤٩ للقيام بالإصلاح الداخلي المنشود، فإنه قضى أربعًا من السنوات الخمس بين التاسعة والأربعين والرابعة والأربعين قبل الميلاد في الحروب وخوض المعارك، ولم يلغ قيصر السناتوس، بل زاد عدد أعضائه فجعلهم تسعمائة، وانتقاهم من أصحابه وأخصَّائه، فأمسوا رهن أمره وإشارته. وقبض على إدارة الولايات فأمسى القائمون بسياستها مسئُولين له رأسًا، وأنقص عدد المنتفعين من توزيع الحبوب، ولكنه أقطع الجنود الذين خاضوا غمار حروبه أراضي في إيطالية وخارجها، فأنشأ عددًا غير قليل من المستعمرات، ولا سيما التجارية منها، كتلك التي قامت في قرطاجة وكورنثوس وغيرهما. وحدد الهجرة من إيطالية، وأوجب بقاء ثلث الرعاة الإيطاليين أحرارًا، ومنح حقوق المواطن الروماني بسخاء ولا سيما في غالية، وأجرى ما سمحت به الظروف من ضروب الإصلاح في إدارة المدن، ورسم خريطة هندسية لرومة، ونوى تجديد بنائها، وخطط طرقًا جديدة؛ تسهيلًا للمواصلات، وعزم على إحداث ترعة بشق برزخ كورنثوس. وفي جملة ما فعله لمنفعة العالم عمومًا إلغاؤه التقويم القمري القديم، وإدخاله التقويم الذي كان شائعًا في مصر الذي حمل اسمه فيما بعد.19

هوامش

(1) GREENIDGE, A.H.J., Sources, 1–10, Hist. of Rome, chs. 1–5; LAST, H., Tiberius Gracchus, Cam. Anc. Hist., IX, 1–38; CARCOPINO, J., Autour des Gracques, (1928).
(2) GREENIDGE and CLAY, Sources, 19–36; GARDINALI, Q., Studie Graccani, (1912); CARCOPINO, J., Autour des Gracques, (1928); LAST, H., Gaius Gracchus, Cam. Anc. Hist., IX, 40–100.
(3) Sources: GREENIDGE, and CLAY; PASSERINI, A., Athenarum, 1939; Last, H., The Wars of the Age of Marius, Cam. Anc. Hist., IX, 102–156; PASSERINI, A., Caio Mario Come Uomo Politice, Athenacum, 1934.
(4) LAST, II, The Enfranchisement of Italy, Cam. Anc. Hist., IX, 158–209; BLOCH et CAROPIMO, Rép. Rom, 358–398.
(5) Sources: APPIAN, Bell, Civ., I; PLUTARCH, Sulla; CICERO, Pro Roscio Amerino; GREENIDGE and CLAY, Sources, 133–70.
Modern: MOMMSEN, Th., Hist. of Rome, “Hammer of the Optimates”; LEVI, M.A., Silla, (1924); Last, H., Sulla, Cam. Anc. Hist., IX, 261–310; CARCOPINO, J., Sylla, (1931).
(6) Sources: PLUTARCH, Sertorius, Lucullus, Pompeius; APPIAN, Bell. Civ., I, 80 f.—Mod.: LAST and GARDNER, Rise of Pompey, Cam. Anc. Hist., IX, 313–349; ORMEROD and CARRY, Rome and the East, C.A.H., IX, 350–395; BOAK, A.E.R., The Extraordinary Commands from 80 to 48 B.C., Am. Hist. Tev. 1918-1919; GUSE, F., Die feldzuge des dritten Mithradatischen Krieges, Klio, 1926; LANZANI, C., Silla e Pompeio, Historia, 1933.
(7) BOISSIER, G., La Conjuration de Catilina, (1905); HARDY, E.G., The Catilinarian Conspiracy, (1924); CARRY, M., Cam. Anc. Hist., IX, 475–504.
(8) SHILER, E.G., Annals of Caesar, (1911); RUSSELL, A., Julius Caesar, (1915); BRANDES G.G., Julius Caesar, (1918).
(9) RICE HOLMES, J., Ceasar’s Conquest of Gaul, (1911); KROMAYER, J., Antike Schlacht-felder, (1904–1931); BLOCH et CARCOPINO, Rép. Rom., 735–795.
(10) De Bello Gallico Commentarii, I-VIII; EDWARDS, H.J., Caesar’s Gallic War, Text and Translation, (Loeb Class. Library).
(11) ADCOCK, F.E., Fom Louca to the Rubicon, Cam. Anc. Hist., IX, 614–637; GELZER, M., Die Lex Vatinia, Hermes, 1928, 113; CARRY, M., Pompey’s Compromise, Class. Quart., 1919, 109.
(12) ADCOCK, F.E., The Civil War, Cam. Anc. Hist., IX, 639–648; BLOCH et CARCOPINO, Rép. Rom., 861–874.
(13) RICE HOLMES, T., The Roman Republic, III; ADCOCK, F.E., ep. cit., 648–651; BLOCK et CARCOPINO, ep. cit., 874–893.
(14) VEITH, G., Zu dem Kampfen der Caeserianer in Illyrien, (1924); STAHLIEN, F., Das, Hellenische Thessalien, (1924), 142 f.; LUCAS, F.L., The Battlefield of Pharsalos, Brit. Sch. Athens, 1919–1921, 34.
(15) CARCOPINO, J., Passion et Politique chez les Césars, (1959), 11–64; VOLKMANN, H., Cleopatre, (1953), 65–73.
(16) ADCOCK, F.E., Caesar at Alexandria, Cam. Anc. Hist., IX, 667–675.
(17) Sources: Bellum Alexandrinum; JOSEPHUS, Antiq., XIV, 98. — Modern: JUDEICH, W., Caesar im Orient, (1885); ADCOCK, F.E., Nicopolis and Zela, op. cit., 676–680.
(18) Sources: Bellum Africum, Bellum Hispaniense.—Modern: GSELL, S., Hist. Anc. de l’Afrique du Nord, VIII, (1928); BLOCH et CARCOPINO, Rép. Rom., 925–957.
(19) Sources: BRUNS, Fontes Iuris Romani, 15–18, 28; CAESAR, De Bello Gallico, Bella (Alexandrinum, Africum, Hispaniense); CICERO, Correspondence and Speeches (Tyrell and Purser); LUCAN, De Bello Civile.
Modern: MOMMSEN, Th., Hist. of Rome, IV–V; RICE HOLMES, T., The Rom. Repub., (1923); CARY, M. and ADCOCK, F.E., Cam. Anc. Hist., IX, (1932); CARCOPINO, J., César (Hist. Gen., ed. Glotz, Hist. Rom. II, 1936); GELZER, M., Caesar der Politiker und Staatsmann, (1941); SYME, R., The Roman Revolution, (1939); CARRY, M., Notes on Lagislation of Julius Caesar, JRS, 1929.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤