الفصل الخامس

المواطن الأول والسناتوس والإدارة

(١) السناتوس

واستمد المواطن الأول سلطته من مصدرين مختلفين، أحدهما حقيقي واقعي، والآخر تقليدي قانوني من الجيش ومن السناتوس والشعب. ولما كانت موافقة الشعب شكلية، وكان حق انتقاء المواطن بيد أعضاء السناتوس، جاز القول إن وصول المواطن الأول إلى وظيفته كان من الناحية القانونية الشرعية مربوطًا بموافقة السناتوس، وجاز القول أيضًا إن السناتوس كان لا يزال يتمتع بحقوق عظيمة وسلطة واسعة، فهو الذي كان ينتقي القناصل، ويشرف على إدارة إيطالية والولايات، وعلى خزينة الدولة وطرقها، وعلى مصلحة مياه العاصمة ومصلحة تموينها بالحبوب، ونظر السناتوس أيضًا في نوع من الدعاوى التي كانت تُرفع إليه، وأصدر فيها أحكامًا مبرمة، وسنَّ القوانين فصدرت «آراء سناتوسية Senatus Consulta»، وظل يمارس شيئًا من صلاحياته القديمة في العلاقات الخارجية، ولكنه كان خاضعًا في الواقع لرأي المواطن الأول؛ لأن هذا المواطن انتقى أعضاءه انتقاءً، وراقب حركاتهم وسكناتهم، وأوحى وأوعز إليهم، فكان لهم فيلسوفًا وصديقًا.1
وكان الرومانيون لا يزالون منتظمين طبقات؛ شيوخًا وفرسانًا وعامة ومعتقين وأرقاء، فكان السناتوسي يولد سناتوسيًّا، وقد يصير سناتوسيًّا بعطف المواطن الأول؛ لأنه كان يحق لهذا أن يمنح تزيين الطوغة ﺑ «القلم الأرجواني laticlava» من يشاء. وكان المواطن الأول ينتقي هؤلاء — في غالب الأحيان — من طبقة الفرسان، وكان على المرشح لهذا الترفيع الاجتماعي السياسي أن يكون صاحب مليون سستركة، وأن يوظفها في الأراضي الإيطالية. وظل هذا التقليد ساريَ المفعول زمنًا طويلًا، فإنه بعد أن بدأ غير الإيطاليين ينالون شرف الانتماء إلى السناتوس، ظل متوجبًا عليهم أن يوظفوا ثلث أموالهم في الأراضي الإيطالية.2
واشترك السناتوسيون اشتراكًا فعليًّا في إدارة الدولة، وكانوا يبدءُون في الوظائف الصغيرة، فيقومون سنة واحدة ﺑ «أعمال الرجال العشرين vigintiviri»، فإما أن ينتموا إلى «رجال النقود الثلاثة Tresviri monetales»، وإما إلى «رجال الشرطة الثلاثة Tresviri Capitales»، وإما إلى «المهندسين الأربعة Quatuorviri viis in urbe purgandis»، وإما إلى «قضاة محاكم الشرطة العشرة Decemviri slitibus Iudicandis». وكانوا بعد هذا يلتحقون بالجيش: إما ضباطًا في «فرق المشاة tribuni militum»، وإما ضباطًا في كتائب «الخيالة المساعدة praefecti alac»، فإذا ما أتموا هذين النوعين من الخدمة، وأكملوا الخامسة والعشرين من العمر أمسوا مرشحين لوظيفة «المحقق quaestor»، وكان عدد المحققين في الدولة عشرين، وكانت مدة خدمتهم سنة واحدة، تبدأ في الخامس من كانون الأول وتنتهي في الرابع منه، وقد يكون المحقق مدققًا ماليًّا في إحدى الولايات الخاضعة للسناتوس quaestor pro praetore، وقد يكون «مدققًا في خزينة الدولة quaestor urbanus»، وقد يكون ضابطَ ارتباط بين الإمبراطور والسناتوس quaestor principis، أو quaestor consultum. فإذا ما عُين محققًا مدققًا اعتُبر عضوًا عاملًا في السناتوس ورشح للتربنة، أو «النظارة aedilitas»، وكان عدد الترابنة عشرة وعدد النظار ستة. وفي الثلاثين من العمر أصبح عضو السناتوس أهلًا ﻟ «المقدمية praetura» لرئاسة المحاكم أو لإدارة الخزينة، وكانت المقدمية تبدأ في أول كانون الثاني، وتنتهي في الحادي والثلاثين من كانون الأول، وبعد ذلك بسنتين، أي بعد أن يصبح عضو السناتوس في الثالثة والثلاثين من العمر، كانت تبدأ المنافسات والمناورات للوصول إلى القنصلية، وكان لا بد من الحصول عليها للوصول إلى حاكمية رومة، أو حاكمية إحدى الولايات المهمة، أو إلى قيادة جيش من الجيوش.3
figure
خارج السناتوس.

وضبط أوغوسطوس الدخول في عضوية السناتوس، بجعل الخدمة في الجيش شرطًا من شروطها الأساسية، فالتعيينات في صفوف الضباط صدرت عنه وحده، فإذا ما وافق على التحاق أبناء السناتوسيين بالجيش، مهَّد لهم السبيل للدخول في عضوية السناتوس والجلوس مع آبائهم فيه، وما صح عن هؤلاء انطبق كل الانطباق على أبناء الفرسان، الذين رغبوا في الترقية والوصول إلى عضوية هذا المجلس.

وعني أوغوسطوس أيضًا بأسلوب العمل في السناتوس وبتصرفاته، فأنقص في السنة ١١ق.م. النصاب اللازم لإصدار رأي المجلس في أمر معين senatus consultum. وبعد ذلك بسنتين، جعل هذا النصاب يختلف باختلاف القضايا موضوع البحث. وكان أوغوسطوس قد منع الأعضاء من مغادرة إيطالية بدون موافقته منذ السنة ٢٩ق.م.، فجاء في السنة ٩ق.م. يغرِّم المتغيبين عن الجلسات بدون عذر قانوني، ثم أبطل نشر أعمال المجالس وتعميمها.

وكان لا بد من بحث الأمور التي تُعرض على السناتوس مسبقًا في مجلس أوغوسطوس الخاص، فإن هو وافق على بحثها في السناتوس بُحثت، وإن هو امتنع عن عرضها امتنع المجلس عن بحثها. والجدير بالذكر أيضًا، أن المجلس الخاص كان يتألف من سناتوسيين وغيرهم، وأن عدد هؤلاء ازداد مع مرور الزمن، فأمست صلاحيات السناتوس الاشتراعية والتنفيذية مقيدة بموافقة أوغوسطوس ومجلسه الخاص.

واضطر أوغوسطوس أن يحد من صلاحيات السناتوس في حقل العلاقات الخارجية؛ وذلك لأسباب أهمها أن الدول المفاوضة رغبت في التفاوض مع أصحاب الحل والربط في الجمهورية الرومانية مع المواطن الأول نفسه لا مع السناتوس، وأن التقليد الروماني قضى بعدم خروج الأعضاء للمفاوضة خارج حدود الدولة، فأمسى دور السناتوس في الأمور الخارجية محصورًا في المقابلات الرسمية وتبادل اللياقات.

ولم يتمكن السناتوس من ممارسة صلاحياته الإدارية كاملة في إيطالية وفي الولايات التابعة له، فحرس أوغوسطوس كان حامي إيطالية و«نظار curatores» أوغوسطوس أشرفوا على الطرقات العمومية، وعلى سير مصلحة الحبوب. والشرطة والإطفائيون كانوا خاضعين لأوامر أوغوسطوس مباشرة، وكان لأوغوسطوس نفوذ كبير في الولايات التابعة للسناتوس، كما تبين من نقش قيرينة4 وغيره. وكانت حاميات هذه الولايات رهن إشارة أوغوسطوس، يأمر بنقلها حيث يشاء، كما كان بإمكانه أن يحوِّل الولايات السناتوسية إلى ولايات خاضعة له مباشرة.5

(٢) القناصل والدور الجديد

واستعان أوغوسطوس بالقناصل القدماء لتسيير دفة الإدارة، فأنشأ لجانًا من أعضاء السناتوس، وأسند إليهم مراقبة مصالح الدولة برئاسة قنصل قديم، ومن هذه اللجان: لجنة إصلاح الطرق والإشراف عليها، ومنها لجنة مصلحة الحبوب، ولجنة مصلحة المياه، ومنها لجنة الأشغال العمومية. ولجأ أوغوسطوس إلى القناصل القدماء لإدارة الشئون الخارجية، فأسند إلى ثلاثة منهم استقبال الوفود المفاوضة، والإصغاء إليها والإجابة عن أسئلتها، والبت في بعض الأمور غير المهمة. أما المهم منها، فإنه كان يُعرض إما على أوغوسطوس نفسه، أو على السناتوس قبل البت فيه.

وكثرت مصالح الدولة وتنوعت، فتطلبت إدارتها عددًا متزايدًا من القناصل القدماء، فأنقص أوغوسطوس مدة القنصلية إلى شهرين بدلًا من سنة كاملة، فتكاثر عدد القناصل القدماء، وقاموا بما وُكل إليهم من أعمال، وأرضى أوغوسطوس بهذه الطريقة عددًا كبيرًا من العناصر الجمهورية بإشراكهم على هذا الوجه في تسيير أمور الدولة.6

(٣) الفرسان

figure
فارس روماني.
وجاء بعد الشيوخ في المجتمع الروماني الفرسان، وكان هؤلاء أيضًا من المزارعين الأغنياء، ولكنهم لم يكونوا على وفاق دائم مع الشيوخ، فأيدوا بطبيعة الحال المواطن الأول وأخلصوا. ونظر هو في أمرهم، فأفسح لهم مجالًا جديدًا لإظهار مواهبهم، وللتمتع بقسط جديد من الهيئة والوقار، ولم يكفِ عدد القناصل القدماء لإشغال المراكز الجديدة في الحكومة. وكان الفرسان قد عملوا في حقل جباية الضرائب، واكتسبوا بذلك خبرة واسعة في شئون الدولة، فاستعان أوغوسطوس بهم في دوائر المال والضرائب وفي بعض الوظائف الأخرى. وأعاد النظر في نظامهم، فجعل الانتماء إلى طبقتهم إما بحق الولادة في هذه الطبقة، وإما بالتعيين من قبله. وكان رائده في هذا أن يدخل إلى صفوفهم ذوي المقدرة والكفاءة، ممن لم يتسنَّ له أن يكون غنيًّا، فانضم إليهم عدد من قادة السرايا من ضباط الجيش، وعدد غير قليل من أغنياء المدن الإيطالية وبعض كبار المعتقين. وأوجب على جميع الرجال من هذه الطبقة الذين لم يتجاوزوا الخامسة والثلاثين من العمر أن ينتظموا في ست «شرذمات turmae»، وأن يشتركوا في عرض سنوي في الخامس عشر من تموز. وكان من الطبيعي أن تتألف هذه الشرذمات من أبناء البيوتات الكبيرة، فأمسوا «الشباب iuventus» بذاته في رومة. وانتقوا زعيمًا لهم الشاب خليفة المواطن الأول، فأصبح ولي العهد اﻟ Princeps Iuventutis. وأوجب على الفرسان الذين هدفوا إلى المراكز العالية أكثر من مجرد الاشتراك في العرض السنوي، فكان الواحد منهم يبدأ قائدًا ﻟ «فوج cohors» من أفواج «القوات المساعدة praefectus cohortis»، ثم قائدًا لفوج من أفواج القوات الرومانية tribunus militum، ثم قائدًا لألاي من «ألايات الفرسان praefectus alae». فإذا ما بلغ — بعد هذا كله — الثلاثين من العمر، عين مدير مال، أو وكيلًا إداريًّا في رومة أو «الولايات procurator»، وكان يُفرَّق بين المدير الفارس والمدير العادي بإضافة النعت «أوغوسطي augusti»، وبعد هذا القدر من الخبرة، أفسح أوغوسطوس المجال للمجلين منهم لتولي إحدى القيادات praefecturae التالية: قيادة السير، أو الأسطول، أو الإطفائية، أو الحرس، أو مصر.7

(٤) جمهور المواطنين

ومن لم ينتمِ إلى طبقتي الشيوخ والفرسان لم يبقَ له في آخر عهد المواطن الأول شيء من السلطة، ولم يشترك في الحكم، ولم يلغِ المواطن الأول منظمات الشعب الروماني، ولكنه لم يُبقِ لها شيئًا سوى الموافقة على انتخابه، وهذه الموافقة نفسها أمست شكلية لا فاعلية لها. والغريب هو أن جمهور الشعب لم يتبرَّم من هذا الإهمال، ولم يتضجَّر من عدم اشتراكه في الحياة السياسية، ويرى البعض أن السبب في ذلك يعود إلى أن الشعب لم ير في الواقع أي جديد في إبعاده عن المعترك السياسي، فالبيوتات الكبيرة في رومة كانت منذ عهد بعيد قد سيطرت على سير الأمور في المنظمات الشعبية بواسطة الموالي، الذين كانوا يدينون لها بالولاء والطاعة، وما تمَّ على يد المواطن الأول لم يكن سوى استبدال البيوتات المتعددة ببيت واحد، ويرى آخرون أن جمهور الشعب لمس في برامج أوغوسطوس عناية وعطفًا فوالاه وأذعن إليه، والإشارة هنا إلى توزيع الحبوب على السكان على نطاق واسع، وإلى الترفيه عنهم بالألعاب المجانية، ومع أن مائتي ألف روماني استفادوا من توزيع «الحبوب frumentationes»، فإن الكميات الموزعة لم تكن في أي وقت من الأوقات كافية، ولم تكن الحبوب كل شيء للروماني العادي، ولم تسد كل حاجاته، ووزع المواطن الأول المال أيضًا congiara وتلقاه الشعب بالشكر، ولكن توزيعه لم يكن منتظمًا، وإنما جاء لمناسبات معينة، ويعلل بعضهم عدم التضجر بتسرب شيء من الاتكالية إلى صدور الناس، وانتشاره في جميع طبقات المجتمع، فقد كان هنالك من يتكلون في سلطتهم المحلية وسيادتهم على المواطن الأول، وشعراء يعيشون على سخاء أصحاب الملايين، وأرقاء لا يعرفون سوى أسيادهم، ومعتقون لا يوالون إلا من أعتقهم.
ولكن هذه الاتكالية — على انتشارها — لم تعم الشعب بأسره، فقد ظلَّ في رومة محامون وأطباء ومعلمون وتجار وبناءون وفعلة وموسيقيون وقاصون يعملون لحسابهم الخاص، ويعيشون من أتعابهم الشخصية، وانتظم بعض هؤلاء «نقابات collegia» للنظر في مصالحهم المشتركة ورعايتها عند الحاجة، وشملت هذه النقابات المواطن الحر الأصيل والمعتق والرقيق، ولم يمنع أوغوسطوس سوى الجمعيات السياسية.
figure
مواطن روماني.
ولم تكن علة الشعب في رومة مادية بقدر ما كانت روحية معنوية، فموقف الجماهير من التطورات السياسية والعسكرية ظلَّ سلبيًّا؛ لأنهم لم يشتركوا فيها اشتراكًا فعليًّا، ولم يشعروا بأنها صدرت عنهم، ولم يحسوا بأية مسئُولية معنوية تدفعهم للمحافظة عما تم والدفاع عنه، فقد بقي هذا الإحساس محصورًا في الطبقات العليا، وزادت سلبية الشعب بازدياد العناصر غير الإيطالية، التي أمت رومة واستقرت فيها، ثم تفشَّت مع مرور الزمن، فانتشرت في الطبقات العليا مع وصول بعض هذه العناصر إليها، ولم يعالج أوغوسطوس هذا الداء معالجة جدية، ولم ينفخ في صدور الناس عقيدة معينة يؤمنون بها ويناضلون عنها، فعبادة أوغوسطوس ظلَّت شكلية طقسية فارغة. ومن هنا إقبال الجماهير على العقائد والطقوس الشرقية، ولم يلجأ إلى التعليم والتهذيب، ولم يظهر خلفاؤه الأقربون اهتمامًا بهذه الناحية قبل السنة ٧٥ بعد الميلاد، ولم يُعنَ برفع مستوى المعيشة بين الجماهير، فظلت بيوتهم قذرة حقيرة، وظلت شوارعهم ضيقة، ملأى بالأقذار والأوساخ.8
ويجمع رجال الاختصاص على أن أحوال المدن الإيطالية كانت أصح وأفضل، فالمستعمرات الرومانية منها coloniae، والمدن الإيطالية الحرة municipii تمتعت بقسط وافر من الاستقلال الداخلي، واشترك الشعب في حياتها السياسية اشتراكًا فعليًّا، فانتخب «رجالها» الاثنين duoviri في المستعمرات، و«الأربعة quatuorviri» في المدن الحرة. وكانت الانتخابات في بعض الأحيان حامية الوطيس، كما كان يجري في بومباي مثلًا، وكان لكل منها سناتوسًا curia يدبر شئونها.9

(٥) العتقاء

وتألف الشعب الروماني من أحرار، وُلدوا «أحرارًا ingenui»، ومن «عتقاء libertini» أُخرجوا عن الرق، وقضى الشرع الروماني بأن يحظى العتيق بحق المواطن الذي لمعتقه، فنال العتقاء في إيطالية ورومة حقوق المواطن الروماني، بيد أن السلطات في عهد الجمهورية لم تشجع العتق، فاستوفت ضريبة عتق معينة، وجاء أوغوسطوس فلم يعترف بعتق من لم يدفع الضريبة القانونية، وحَرَمه من حقوق المواطن الروماني، ولم يسمح بإعادتها له إلا بعد الزواج والتوالد، وعلى الرغم من هذه العوائق ظل العتق جاريًا ساريًا، وظل عدد العتقاء ينمو ويرتفع.
ولم يكن العتق في رومة مطلقًا بدون قيد أو شرط، وأحب أوغوسطوس أن ينتقي العتقاء انتقاء، فعاد إلى العرف الجمهوري، ونظر فيه فضبطه بقانونين، صدر الأول منهما Lex Fufia Caninia في السنة ٢ق.م.، والثاني Lex Aelia Sentia في السنة ٤ب.م، وكان العتق يتم في عهد الجمهورية إما بالوصية بعد الوفاة، وإما بالإقرار والاعتراف أمام القضاء، وإما بإدخال اسم الرقيق في لوائح المواطنين باقتراح المعتق وموافقة «المراقب censor»، وإما ببيان خطي غير رسمي موقع من المعتق نفسه، وكان الناس قد أقبلوا على العتق بعد الوفاة إقبالًا شديدًا، فأوصوا في كثير من الأحيان بعتق جميع أرقائهم، فجاء القانون الأول في السنة ٢ قبل الميلاد يحدد عدد العتقاء تحديدًا، فأجاز عتق نصف الأرقاء إذا كان مجموعهم يتراوح بين الثلاثة والعشرة، ومنع الأغنياء الذين ملكت أيمانهم مئات الأرقاء من عتق أكثر من خُمس ما عندهم، وأوجب على المعتق ذكر من يعتق باسمه، وعاد أوغوسطوس في السنة ٤ب.م.، فحرم نوعًا معينًا من العتقاء من حقوق المواطن الروماني، أولئك الذين ارتكبوا جرمًا فنالوا عقابًا، إما من الدولة وإما من سيدهم، والذين تحلوا بالصفات الحميدة تمتعوا بحقوق المواطن، إذا كان المعتق فوق العشرين من العمر، وكانوا هم فوق الثلاثين، وكان لا بد من إجراء العتق أمام ممثل للسلطة، يثبت الإخراج عن الرق بمس الرقيق بعكاز السلطة vindicte.10
وظل العتيق دون المواطن الحر مرتبة، فإنه لم يتمتع بجميع حقوق المواطن الروماني، فكان معرضًا للتعذيب إذا دُفع دفعًا إلى قاعة المحاكمة، ولم يسمح له بالجلوس على منصة الحكم أو القضاء، أو بالانتماء إلى طغمة الكهنة، أو إلى الحرس البريتوري، أو إلى فرق المشاة، وكان عليه أن يحتفظ باسم سيده، وأن يعطيه «المقام الأول praenomen»، وباسم قبيلة سيده nomen، وأن يبقي اسمه الشخصي في المرتبة الثالثة cognomen، وكان إذا تردى بالطوغة الرومانية تميز بزي رأسه، فلبس قبعة خصوصية عُرفت ﺑ «البلوسة pilleus»، ولم يتورع الروماني الحر عن تحقير المعتق بشتى الوسائل، كتذكيره بعبوديته السالفة، وتقديم ألوان من الطعام دون تلك التي كانت تُقدم للمواطن الحر.
وعلى الرغم من هذه القيود، فالمعتَق ظل يتمتع بعدد غير قليل من الامتيازات، فإنه كان مواطنًا رومانيًّا، وكمواطن روماني أعفي من مال الأعناق ومال الأراضي، واشترك في النقابات وسيطر على بعضها، وزاوج الأحرار، واحتكر حق خدمة الآلهة غير الرومانية، ولعب دورًا لائقًا في عبادة أوغوسطوس، وكان إذا تفوق في المقدرة والأمانة يلفت نظر أوغوسطوس، فينال منه «حق لبس الخاتم الذهبي ius annuli aurei»، ويمسي مساويًا للمواطن الحر، لائقًا بالدخول في طبقة الفرسان.
وبلغ عتقاء أوغوسطوس نفسه liberti Caesaris رُتَبًا تقاصر عنها كبار الأحرار، وتفصيل ذلك، أن الرومانيين «الأحرار ingenui» زمُّوا بأنوفهم، وامتنعوا عن القيام بخدمة بعضهم خدمات شخصية، فاضطر أوغوسطوس أن ينتقي خدامه الشخصيين من عتقائه، وأن يفوِّضهم إدارة أملاكه و«أمواله الشخصية patrimonium Caesaris». ولما كان يصعب عليه التفريق بين أمواله الشخصية وأمواله التي كانت تعتبر عمومية، أمسى الموظفون لإدارة أمواله موظفين في الواقع مدنيين، ذوي نفوذ طائل وحول وصَوْل. وكان أهم هؤلاء ثلاثة: «أمين السر الإمبراطوري liberti ab epistulis»، و«أمين المال liberti a rationibus»، و«أمين الاستعطاف liberti a libellis». أما «سكرتيره القضائي liberti a cognitionibus» و«مستشاره الأدبي اللغوي liberti a studiis» فإنهما كانا أقل شأنًا. وأما الثلاثة الأولون، فإنهم أصبحوا بفضل وظائفهم وصلاحياتهم أبوابًا رئيسة لا بد من ولوجها للوصول إلى حضرة المواطن الأول، فاستشفعهم الكبراء إليه، وواصلوهم على الرغم من ضِعة ماضيهم، وأثارت منزلتهم الرفيعة الجديدة التي اشرأبت إليها الأعناق حَسَدًا تلظَّت منه أكباد الأشراف، وفي أدب العصر الأوغوسطي حكايات وحكايات عن تصنع الشيوخ والوجهاء لهؤلاء المعتقين الأوغوسطيين، ولكنها لا تخلو من الغلو والمبالغة.
ولم يبلغ سائر العتقاء ما بلغه عتقاء أوغوسطوس من النفوذ والعزة، ولكنهم تمتعوا جميعًا بامتياز واحد، خفف كثيرًا من وطأة الشعور بالنقص الاجتماعي الذي كان يحز في صدورهم، فإن أولادهم بعد العتق وُلدوا «أحرارًا ingenui» كسائر المواطنين، وحملوا أسماء رومانية قديمة، أخفت ما لحق آبائهم من وصمة العبودية، ويقدر العلماء نسبة الرومانيين الأحرار في رومة أحفاد الأحرار الأحرار بعشرة في المائة فقط من مجموع السكان، أما الباقون، فإنهم كانوا جميعًا في وقت مضى عتقاء، أخذ عنهم الرق أخذًا.11

(٦) الأرقاء

وكثر عدد الأرقاء في رومة في أوائل عهد الإمبراطورية، فبلغ مائتي ألف من سبعمائة ألف، أو مائتي ألف من مليون، وكان الرقيق في رومة واحدًا من ستة، إما أسير حرب بيع بيعًا كما جرى في آسية بعد حرب أنطيوخوس الثالث، وفي غالية بعد حروب قيصر، وفي البونط بعد حروب متراداتس، وفي اليهودية بعد حروب طيطس، وإما خطفًا بالقرصنة، وإما بتعريض الأولاد وإهمالهم، وإما ببيعهم بيعًا، وإما بالمعاقبة لجرم كبير، وإما بالتوالد، وكانوا أجناسًا منوعة، ولكن معظمهم جاء من شرق المتوسط، ومعظم هؤلاء من سوق جزيرة ذلوس، وكان بينهم الآسيوي والسوري واليهودي والمصري واليوناني، وتفاوتوا في التمدن والثقافة، فالرقيق الشرقي كان في غالب الأحيان أرقى من سيده، أما الرقيق الشمالي والغربي، فإنه تميز بقوته الجسدية وخشونته، فقام بالحراثة والزراعة والرعاية وما شاكل ذلك، وكان إما ألمانيًّا، أو غاليًّا، أو داقيًا، أو موسيًّا بلقانيًّا، وتفاوت سعر الرقيق بتفاوت درجة رقيه، وتغيير ظروف العرض والطلب، وليس من السهل تقدير الأسعار التي دونها «بلاوتس Plautus»، كما أنه يصعب التثبت من صحة ما جاء في الأدب اللاتيني، فإن «كولوميلة Colomella» يعتبر ثمانية آلاف سستركة سعرًا عدلًا لرقيق يجيد تقليم الكرمة، وهوارتيوس يجعل سعر الرقيق المثقف مائة ألف سستركة.

ولم يتجاوز عدد الأرقاء في البيت العادي الاثنين، أو الثلاثة، ولكنهم تكاثروا في بيوت الأغنياء، فقام كل منهم بعمل خصوصي، بما في ذلك التطبيب والتمريض، والأغنياء الأغنياء تباهوا بعدد الأرقاء، الذين واكبوهم في خروجهم إلى المدينة وعودتهم إلى قصورهم، وعاون الرقيق سيده في عمله في تجارته، أو صناعته، أو حرفته، وبعضهم تولى إدارة المصانع والمتاجر، ودخل بعضهم في خدمة الحكومة، فشغلوا المراكز المدنية العادية، ومع أن كاتو كان يقول: إن تشغيل الرقيق في الحقول حتى الموت، وابتياع من يحل محله أرخص من العطف عليه، فإن أصحاب المزارع الكبيرة اكتشفوا لأنفسهم مع مرور الزمن أن نتاج هذا النوع من العمل لم يكن مشجعًا، وأن العناية بالرقيق إلى حد الحرية كان أفيد وأنفع.

وأقبل الرومانيون على الأدب الهليني، وقال كثيرون من رجال الفكر، بينهم بالرواقية فساوى «سينيكة Seneca» مثلًا في رسالته السابعة والأربعين بين جميع البشر، وقال الفقهاء: «الأصل التحرر لا العبودية»، فبدأ الناس يرقون للرقيق ويشفقون ويرحمون، وفي رسائل بلينسيوس الأولى والثانية والثامنة ما يدل دلالة واضحة على هذا الاتجاه الجديد، وفي النقوش الباقية ما يؤيد القول بطمأنينة الأرقاء وراحتهم.12

(٧) الولايات

أطلق اللفظ اللاتينية provincia أولًا على كل رقعة مارس فيها أي حاكم روماني «السلطة imperium» التي تلقاها من السناتوس، وقد تكون في إيطالية أو خارجها، وقد تُطلق على رقعة من الأرض قبل دخولها في حوزة رومة إذا كان النظر في أمورها مفوضًا إلى أحد كبار الموظفين أو المواطنين، وأُطلق هذا اللفظ أيضًا على واجبات حكام آخرين كالقضاة، فكان هنالك provincial urbana تدل على صلاحيات القاضي في الدعاوي بين الرومانيين أنفسهم، وprovincial peregrina تدل على نوع الواجبات التي قام بها القاضي في الدعاوى بين الرومانيين والأجانب، ثم أُطلق اللفظ provincia على ممتلكات رومة عبر البحار، التي اختلفت عن الممتلكات الإيطالية في أن سكانها دفعوا جزية لرومة.
وتم ظهور الولايات عبر البحار بشكل تدريجي، فلم يتسن لرومة اتخاذ سياسة موحدة تجاه هذه الولايات، فصقلية دخلت في حوزة رومة منذ السنة ٢٤١ق.م.، ثم سردينية وكورسيكة في السنة ٢٣١، ثم إسبانية الدنيا والقصوى في السنة ١٩٧، فمقدونية في السنة ١٤٨، فآخية وأفريقية في السنة ١٤٦، فآسية في السنة ١٣٣، فجنوب غالية في السنة ١٢٠، فقيليقية في السنة ١٠٢، فبيثينية وقيرونة في السنة ٧٤، فسورية في السنة ٦٤، فمصر في السنة ٣١، فاليرية في السنة ٢٧، ثم نظم أوغوسطوس أمور الحد الشمالي بين الدانوب والرين، فظهرت ولايات الدانوب «راتية Raetia» و«نوريكة Noricum»، و«بانونية Pannonia» و«موسية Moesia»، وأهم ما أضيف من الولايات بعد أوغوسطوس بريطانية في عهد كلوديوس، وداقية في عهد تريانوس، وقبذوقية في السنة ١٧ب.م.، وموريتانية في السنة ٤٠ب.م.، وتراقية في السنة ٤٦.
وكان السناتوس — في بادئ الأمر — يوكل تنظيم الولاية المستجدة إلى قائد ولجنة سناتوسية تعد «قانونًا للولاية Lex Provinciae»، فتبين فيه أسس الإدارة والقضاء وكيفية جباية الضرائب، وأشهر هذه القوانين «قانون روبيليوس Lex Rupilia» لتنظيم شئون صقلية، و«قانون بومبايوس Lex Pompeia» لإدارة بيثينية، وأطلق السناتوس يد الحاكم في اشتراع ما يراه ضروريًّا لضبط إدارته، فكان بعضهم يصدر قوانين خصوصية تحدد موققه من بعض المشاكل المالية والقضائية، وكان خلفه حرًّا في تطبيق هذه القوانين أو إبطالها أو تعديلها، ومما يُذكر من هذا القبيل إقدام شيشرون على منح مدن قيليقية مقدارًا من الاستقلال في أمورهم لم يعتادوه من قبل.
واكتفى السناتوس في بدء التوسع بانتخاب حاكم واحدة للولاية، ثم أردف الحاكم الواحد لصقلية ﺑ «قاض مفوض praetor» في السنة ٢٢٧ق.م. يعاونه في الحكم، وأجرى مثل هذا في سردينية وإسبانية، ثم فرق السناتوس بين الولايات القنصلية والولايات والبريتورية.
وأيقن أوغوسطوس منذ أن أصبح رجل رومة الفرد في مطلع السنة ٢٧ق.م.، أن لا بد من الاحتفاظ بجيش يسانده عند الحاجة، فجعل من نفسه قائد القوات اللازمة للمحافظة على ولاء بعض البلدان النائية كإسبانية في أقصى الغرب، وسورية في أقصى الشرق، وغالية في الشمال الغربي، فكان القائد والوالي في هذه البلدان في آن واحد، وأمسى من الناحية القانونية مواطنًا مفوضًا يقود قوات مسلحة في ظروف تستوجب المحافظة على كرامة رومة ومصالحها، وغدت هذه البلدان الثلاثة الرقعة، التي مارس فيها أوغوسطوس سلطته العسكرية والإدارية provincia، ولم يكن في هذا التدبير أي خروج على التقليد الجمهوري، ولكنه وضع تحت تصرف المواطن الأول قوة تفوق كل قوة أخرى، وتمكنه من سحق كل طامع في السلطة العليا، وكان أوغوسطوس — بالإضافة إلى ما تقدم — سيد مصر المطاع المطلق الصلاحية، يعين واليها، ويتصرف بأموالها كما يشاء، ومع أنه لا يجوز القول أن مصر كانت قسمًا من «ممتلكاته الخاصة patrimonium Caesaris»، فإن أوغوسطوس حرَّم على جميع الشيوخ و«كبار الفرسان equites illustres» أن يطئُوا أرضها بدون موافقته، وفي السنة ١١ق.م. أضاف أوغوسطوس اليرية إلى الولايات التي في عهدته، ولم تنتقل أفريقية إلى عهدة المواطن الأول الإمبراطور قبل السنة ٤٠ب.م.
وهكذا، فإنه نشأ في عهد أوغوسطوس فرق ظاهر بين نوعين من الولايات: ولايات سناتوسية عمومية، وولايات إمبراطورية خصوصية، فحكم الولايات السناتوسية قناصل أو قضاة سابقون لمدة سنة واحدة، حاملين لقب بروقنصل، وتولى شئون الولايات الإمبراطورية مفوضون «أوغوسطسيون قضاة سابقون legati Augusti propraetore» من رجال السناتوس، أو موظفون من الفرسان انتقاهم الإمبراطور نفسه لمدة غير محددة، وكان يعاون البروقنصل في الولايات السناتوسية «موظف مالي quaestor» و«مفوض legatus»، وكان البروقنصل يحتفظ بالسلطتين المدنية والعسكرية، وعاون مفوض الإمبراطور في الولايات الإمبراطورية «محصِّل مالي procurator» من طبقة الفرسان يعينه الإمبراطور نفسه، وقد يكون البروكوراتور حاكم ولاية إمبراطورية صغيرة في ظل «مفوض legatus» إمبراطوري كبير في ولاية مجاورة، كما جرى لفلسطين في عهد أوغوسطوس، فإن حاكمها كان procurator تابعًا لمفوض ولاية سورية المجاورة.
وأهم الولايات السناتوسية ولاية آسية، التي امتدت من بيثينية شمالًا حتى ليقية وغلاطية شرقًا، وشملت شاطئ آسية الصغرى الغربي والجزر القريبة، وكانت برغامة مقر واليها، وافسس أعظم مدنها، ومن ولايات السناتوس في الشرق، ولاية بيثينية في شمال آسية الصغرى، وولاية قبرص قبل إلحاقها بقيليقية، وولاية كريت وقيرينة، وولاية آخية ومعظم بلاد اليونان، وولاية مقدونية وعاصمتها تسالونيكية، وولاية صقلية، وولاية أفريقية تونس الحديثة وعاصمتها قرطاجة، وولاية «نربو Narbo» في غالية، وولاية «بايتيكة Baetica» في إسبانية.
أما الولايات التي ربطها أوغوسطوس بنفسه، واحتفظ بتدبير شئونها، فإنها كانت أنواعًا أربعة: أولها مصر، وكان نظامها خصوصيًّا، يختلف عن أنظمة سائر الولايات، وثانيها الولايات القنصلية، منها ألمانية العليا وألمانيا السفلى و«تراكو Tarraco»، وهي طرغونة الحديثة في كتلونية إسبانية، وولايات دلماتية وموسية وبانونية وسورية وعاصمتها أنطاكية، والبريتورية وهي ولايات لوسيتانية الإسبانية و«اكويتانية Aquitania» الغالية، و«لوغدونة Lugdunum» وهي ليون الحديثة وغلاطية وبمفيلية، والبروكوراتورية وهي ولايات «الألب البحرية Alpes Maritimae» و«نوريكة Noricum»، و«راتية Raetia» وسردينية وكورسيكة و«اليهودية Judaea».
واكتمل الفتح في عهد أوغوسطوس، ووصلت الدولة الرومانية إلى حدود طبيعية إلى الفرات في آسية والدانوب والراين في أوروبة وأطراف البادية قبل الصحراء في أفريقية، فتمكن أوغوسطوس من انتهاج سياسة موحدة في جميع هذه الأطراف، وكان السناتوس قد اكتفى في عهد الجمهورية بتوزيع المنح المالية على حكام الولايات، ولم يعين لهم رواتب محددة، وكان على هؤلاء أن يقوموا بنفقات من عاونهم في أعمالهم، ولم يكن منح المنح منتظمًا، فنجم عن ذلك غصب وبلص وابتزاز وتذمر واشمئزاز، فرتب المواطن الأول الرواتب للحكام وأعوانهم، وكان الولاة أغرارًا عديمي الخبرة، فأمسوا من ذوي الخبرة بما فرضه المواطن الأول من شروط لا بد من توفرها، ومرور زمن لا بد من انتظاره في «سباق الشرف cursus honorum» لأجل الوظائف، وأمسى معاونو الوالي من ذوي الخبرة أيضًا، فاستعاض بهم وبخبرتهم عما كان يتلقاه من «العشَّارين publicani.» المغرضين، الذين كان يستعين بهم سلفاؤه في تقرير الخطط والسياسات المحلية، وتميزت الولايات الإمبراطورية في عهد أوغوسطوس بوجود «محصلين procuratores» يعينهم المواطن الأول، فيجوبون الولايات الإمبراطورية، مستقلين كل الاستقلال عن ولاتها، وكانوا يرفعون تقاريرهم مباشرة إلى أوغوسطوس، فيحيطونه علمًا بالأحوال المالية والسياسية أيضًا، فيعينونه على ضبط أعمال الولاة وسلوكهم وعلى توبيخهم وزجرهم، وكان أوغوسطوس إذا قضت الظروف، يستعين ﺑ «سلطته العظمى القانونية imperium maius»، فيدفع بهؤلاء المحصلين إلى الولايات السناتوسية.
ومما ساعد على ضبط سلوك الولاة في الولايات محاكمتهم أمام محكمة السناتوس العليا، وتعرضهم لدفع الغرامات الثقيلة، ومصادرة أملاكهم ونفيهم، أو طردهم من السناتوس، والسماح لممثلي الولايات بالإدلاء بشهاداتهم أمام هذه المحكمة، وكان لتحسين المواصلات وتسهيل نقل البريد cursus publicus أثرها الملموس في متابعة سير الأمور في الولايات، وأنشأ أوغوسطوس في الولايات «مجالس محلية Concilium Provinciae»؛ لتثبيت عرى المودة والولاء لرومة بتشجيع عبادة القيصر، وبحث القوانين المحلية والاحتجاج عليها عند اللزوم.13

(٨) الولايات والمدن

وقسم الرومان الولاية إلى مقاطعات، وربطوا كلًّا من هذه بأعظم مدينة فيها، فأنشأوا صقلية ٦٨ مقاطعة مدينية، وفي الغاليات الثلاث ٦٤، وفي آسية ٤٤، وفي «البونط الأوري Ora Pontica» ١١، وفي «البونط البوليمي Pontus Polemoniacus» ٦، وفي ليقية ٢٣، وفي سورية ١٧، وفي قيرينة ٥، وكان الرومان يعودون، فيقسمون الولايات إلى «مجموعات conventi» من المدن للقضاء وتوزيع العدل، فيجلس القاضي في أهمها، وينظر في الدعاوى التي تُرفَع إليه، أما المقاطعات الجبلية والصحراوية، فإنها كانت تُترك في أيدي أمرائها المحليين.
وحيث اضطر الرومان إلى الاستيلاء على المدن بقوة السلاح كانوا يدمرون المدن الممتنعة، ويصادرون أملاكها، ويجعلونها من أملاك الدولة، فيلزمونها إلى من يستثمرها تلزيمًا، والمدن التي كانت تستسلم بدون مقاومة شديدة كانت تصبح ملك الدولة الرومانية بكل ما فيها من مال ومتاع ورجال ونساء وأولاد، فلا تلبث كثيرًا حتى تعود في غالب الأحيان إلى سابق حريتها وحقوقها، فتدفع إما جزءًا معينًا من «الحاصلات vectigal»، وإما ضريبة معينة محددة stipendium، وكان بعضها يدفع بالإضافة إلى ما تقدم دخولية، تستوفى عند أبواب المدينة portorium، وكانت معظم مدن الولايات من هذه الفئة، فدعيت civitates vectigales، أو civitates stipendiariae، أما المدن الممتازة التي حالفت رومة قبل الفتح، أو أيدتها بشتى الوسائل فإنها كانت قليلة، ومن هذه بيروت، فإنها ثارت على كليوبترة وأنطونيوس في أحرج الأوقات وأيدت أوكتافيانوس، فاستحقت نظامًا ممتازًا، فاتسعت رقعة سلطتها حتى شملت بعلبك وما بينهما، وتولى أمورها مركوس أغريبة، صهر أوكتافيانوس، وكان هذا مولعًا بالأبنية، فشملها بالنعم وجعلها من المدن الأولية، واستدعى إليها فرقتين من الجيش استقرتا فيها، الفرقة الخامسة المعروفة ﺑ «المقدونية Legio Macedonica»، والفرقة الثامنة المنسوبة إلى «أوغوسطوس Legio Augusta»، ثم منحها أوغوسطوس امتيازات المستعمرات الرومانية، وسماها باسم بنته يولية، فأصبحت Colonia Julia Augusta Felix Berytus،14 والمدن المستعمرات الرومانية كانت أسمى رتبةً من غيرها، وأكبر حظًّا.

(٩) الجنسية الرومانية

واكتسب الروماني «الجنسية الرومانية civitas Romana»، إما بالولادة، وإما بموافقة الشعب، وتمتع ﺑ «حقوق iura»، و«امتيازات commercium»، وقام ﺑ «واجبات Munera»، وكان بين الحقوق «حق التعاقد Commercium»، وحق التزوج من الأجنبية، دون أن يفقد الأولاد حق البنوة الرومانية و«حق الميراث canobium». وكان من هذه الحقوق أيضًا «حق التصويت suffragium» في المجالس.
وقد مرَّ بنا كيف قضت ظروف التوسع في إيطالية وغيرها بمنح شيء من حقوق المواطن الروماني إلى «اللاتينيين Latini» بالقانون ius Latini، ثم كيف أصبح الحلفاء في إيطاليا «مواطنين بدون حق التصويت civitas sine suffragio»، فنجم عن هذا كله، دخول الرومانيين الجدد في نطاق «القوانين iura»، و«الواجبات munera»، و«الامتيازات honores»، وتنازلهم عن سيادة مدينتهم إلى رومة … ونجم أيضًا عن تكاثر هؤلاء تطور في مفهوم الدولة، فغدت رومة وطنًا لجميع الإيطاليين communis patria، لا دولة مدينية كما كانت قبلًا، وجاءت الثورة، وجاء معها حكم الثلاثة، فكثر عدد المستعمرات والمدن الحرة عبر البحار، وبدأ أبناء الولايات يكتسبون حقوق المواطن الروماني، أو حقوق الحليف اللاتيني، واستمر هذا الأمر في عهد المواطن الأول، فمُنحت حقوق الجنسية الرومانية إلى المحاربين القدماء الذين من الولايات، ولا سيما الغربية منها، كما مُنحت إلى بعض الوجوه والأعيان، الذين اشتهروا بولائهم لرومة وخدماتهم لها.15

هوامش

(1) DIO CASS., 53:21, 33, 55:10; SUET., Aug. 24; FRONT., de Aq. 100, 104, 106, 125, 127; HOMO, L., Inst. Pol. Rom., 270–273; JONES, H., Senatus, Cam. Anc. Hist., X, 159-175.
(2) DIO CASS., 52, 54, 55; SUET., Aug. 35; HOMO, L., Haut-Emp., 60-61.
(3) DIO CASS., 53, 54; TACIT., Ann., I, II, VI; SUET., Aug., 37; HOMO, L., Haut-Empire 64–67; JONES, H., Constit. of Senate, Cam. Anc. Hist., X, 161–163.
(4) ANDERSON, J., Journ. Rom. Stud., 1927, 43–49.
(5) TACITUS, Ann., I, 2; ABELE, TH., Der Senat unter Augustus, (1907); HAMMOUD, M., The Augustan Principate, (1933); VOLKMANN, H., Zur Rechtprechung im Prinzipal des Augustus, (1935).
(6) TACIT., Ann., I, 14, 81; DIO CASS., 55:33; SENECA, De Clementia, 1:10; MARSH, F., The Founding of the Rom. Empire, 250 f.
(7) KUBLER, Equester Ordo, Real-Encye.; MATTINGLY, H., Equester Ordo, Ox. Class.Dict; KEYES, C.W., The Rise of the Equites, (1915); STEIN, A., Der Rom. Ritterstand, (1927).
(8) ARNOLD, W.T., Domestic Policy of Augustus, (1906); HOMO, L., Problèmes Sociaux, (1922); FRANK, T., Aspects of Social Behaviour in Anc. Rome, (1932); MAXEY, M., Occupations of Lower Classes in Rom. Society, (1938).
(9) KORNEMANN, E., Colonia, Real-Encyc.; RUDOLPH, H., Stadt und Staat im Romischen Italien, (1939); SHERWIN-WHITE, A.N., The Roman Citizenship, (1939); ABBOTH AND JOHNSON, Municipal Adm. In Rom. Emp., (1926); TANZER, H., Common People of Pompeii, (1959).
(10) GAIUS, I, 18–20, 31, 38, 44, 46; DUFF, A.M., Freedmen in the Early Roman Empire, (1928); LAST. H., Social Policy of Augustus, Cam. Anc. Hist., X, 432–434.
(11) WEISS, E., Manumissio, Real-Encyc.; FRANK, T., The Sacred Treasure and the Rate of Manumission, Amer. Journ. Philol., 1937; Race Mixture at Rome, Amer. Hist. Rev., 1925-1926; HAMMOND, M., The Aug. Principate in Theory and Practice, (1933).
(12) BECKER and GOLL., Gallus, II, (1881), 115–186; MARQUARDT, J., Das Privatleben der Romer, ch. IV; BOISSIER, G., La Religion romaine, (1884), II, ch. IV; FOWLER, W.W., Social Life at Rome in the Age of Cicero, (1910), 204–236; BARROW, R.H., Slaver in the Roman Empire, (1928).
(13) MARQUARDT, J., Rom. Staatsverw., I-II, (1881); MOMMSEN, Th., The Provinces of the Roman Empire, (1909); GREENIDGE, A.H.J., Roman Public Life; ABBOTT and JOHNSON, Municipal Adm. in Rom. Empire, (1926); CHAPOT, V, Le Monde Romain, (1927); STEVENSON, G.H., Roman Provincial Administration, (1939).
(14) PLINIUS, Hist. Nat., V, 17; CIL, 161 f.
(15) VOGT, J., Ciceros Glaube an Rom, (1935); SHERWIN-WHITE, A.N., The Roman Citizenship, (1939); LAMBRECHT, P., La Composition du Sénat Romain, (1935); ANDERSON, J.G.C., The Cyrenean Edicts, Journ. Rom. Stud., 1927.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤