الفصل الثامن

رومة واليهود العرب

(١) السلاقسة واليهود

واستغلَّ أنطيوخوس الثالث العظيم ظروف البطالسة الداخلية فاكتسح سورية الجنوبية «المجوفة» بأكملها، فأدخل في حوالي السنة ١٨٩ق.م. فلسطين في طاعته، وخلفه سلقوس الرابع (١٨٧–١٧٥)، فأنطيوخوس الرابع (١٧٥–١٦٥)، ومضى هذا في سياسة التهلين، التي اختطها الإسكندر الكبير وحاول تطبيقها كثيرون من خلفائه، فحضَّ على التخلق بأخلاق اليونان، وعلى اقتباس الكثير من عاداتهم وعلومهم وفنونهم على احترام آلهتهم وإكرامها، وحاول تهلين اليهود في فلسطين «فخرج من هؤلاء أبناء منافقون، فأغروا كثيرين قائلين: هلموا نعقد عهدًا مع الأمم حولنا، فإنا منذ انفصلنا عنهم لحقتنا شرور كثيرة، فحسن هذا الكلام في عيون البعض، وبادروا يصنعون بحسب أحكام الأمم»،1 ونسي أنطيوخوس درجة تمسك اليهود بسننهم وتقاليدهم ودينهم، وفاته ما قاله هامان لاحشوروش الملك الفارسي: أنهم على انتشارهم وتفرقهم لا يحفظون سنن الملك،2 فلما كتب أنطيوخوس إلى أورشليم ومدن يهوذا أن يبتنوا مذابح وهياكل ومعابد للأصنام، وأن يذبحوا الخنازير والحيوانات النجسة ويتركوا بنيهم قُلفًا، ويعذروا نفوسهم بكل نجاسة،3 خرج متتيا بن يوحنا بن سمعان من أورشلتم وسكن في مودَيْن، ثم قدم إلى مودين من أرسلهم الملك السلوقي؛ ليجبروا الناس على الذبح للآلهة، ولما أقبل رجل يهودي على عيون الجميع؛ ليذبح على المذبح الذي في مودَيْن وثب عليه متتيا الكاهن وقتله على المذبح، وقتل رجل الملك أيضًا، وصاح بصوت عظيم قائلًا: كل من غار للشريعة وحافظ على العهد فليخرج ورائي، وهرب هو وبنوه يوحنا كديس وسمعان بطَسي ويهوذا المكَّابي وأليعازر أوران ويوناثان أفوس إلى الجبال، فبدأت بذلك ثورة المكَّابيين (١٦٥–١٣٥ق.م)، وتزعمها أبناء متتيا يهوذا فيوناثان فسمعان،4 وشغلت السلوقيين مشاغل أخرى فتمكن سمعان من تحرير فلسطين واليهود فيها.

وفي السنة الثانية لزعامة سمعان (١٤٢–١٣٥) نادى اليهود به كاهنًا أعظم، وقائدًا عامًّا، وأميرًا يورث حقوقه وصلاحياته لأبنائه وأحفاده من بعده، فأسس سمعان بذلك الأسرة الحشمناوية، أي أسرة بني حشمناوي، ويلاحَظ هنا، أن هؤلاء لم يكونوا من سلالة داود من حيث الحق في الملك، ولم يتحدروا من هارون ليصلحوا للكهنوت، وذكر اليهود هذين النقصين، فجعلوا ملك هؤلاء محدودًا حتى الزمن الذي يظهر فيه نبي أمين، أي حتى الزمن الذي يتدخل فيه الرب الإله.

ولم يرضَ جميع اليهود عن هذا التدبير لخروجه على التقليد، وازداد عدد هؤلاء المعارضين بتغافل الحشمناويين وقلة اكتراثهم للناموس، فإنهم ما كادوا يستوون على دست الحكم حتى رغبوا في الدنيا واستبدوا في الناس، فأعلن الفريسيون استياءهم منذ أيام يوحنا هيركانوس بن سمعان المؤسس، وذلك بين السنة ١٣٥ والسنة ١٠٤، وما فتئوا متنكرين حتى عهد الملكة الكسندرة (٧٦–٦٧ق.م).

وراقب السلوقيون تطور الموقف، فعاد أنطيوخوس السابع (١٣٨–١٢٩) إلى الميدان قبل وفاة سمعان المؤسس، وأكره ابن هذا يوحنا هيركانوس في السنة ١٣٥ على دفع الجزية وعلى هدم أسوار أورشليم، ثم خلف أنطيوخوس سلوقي ضعيف، هو ألكسندروس الثاني زبيناس (١٢٨–١٢٣)، فاستعاد يوحنا استقلاله ووسع سلطانه، وأنشأ جيشًا من المرتزقة، وتصرف تصرف أمير زمني بكل معنى الكلمة، فزاد الفريسيين غضبًا وكرهًا، وجاء ابنه أرسطوبولوس بعده فأظهر التكبر والتجبر ولبس التاج، فقنط الفريسيون، وتقلص ظل آمالهم، وكان أرسطوبولوس قد قيَّد أخاه ألكسندروس وأمه، فلما توفي نزع الجند من أخيه القيد، وأخرجوه من الحبس فتولى الملك بعد أخيه، ولما استقام له الأمر (١٠٣–٧٦) تشوَّق إلى المطامع البعيدة، وأحبَّ النزال والقتال، فكان لا ينتهي من حرب حتى يبدأ بغيرها، فاغبر الجو بينه وبين الفريسيين وتقوضت دعائم المودة، وحل عيد المظال ودخل ألكسندروس أورشليم، وصعد إلى المذبح في وقت القربان، فابتدأ قوم من اليهود يلعبون بسعف النخل ورمي الترنج، وهو نوع من الليمون، فأصابت ترنجة الملك فغضب أصحابه، وقالوا للفريسيين: كيف جسرتم على الملك بهذا؟ فقالوا: ما فعلنا ذلك تهاونًا به، ولا جرى منا بالقصد، فلم يقبل الملك وأصحابه هذا الاعتذار لما في نفوسهم من عداوة للفريسيين، وتردد الكلام بينهم إلى أن شتم بعضهم الملك، فغضب الملك وأمر بالفريسيين فقُتل منهم في ذلك اليوم ستة آلاف رجل، وعضد ألكسندروس الصدوقيين فتأصلت العداوة بينهم وبين الفريسيين، واتصل النزاع بينهم ست سنين، قُتل فيها من الفريسيين خمسون ألف رجل، ثم حاول الملك أن يصلح فلم يتمكن، حينئذٍ طلب الفريسيون معونة السلوقيين، فسار «ديمتريوس الثالث أفكيروس Eukairos» المالك آنئذٍ في دمشق في جيشه مع من انضاف إليه من اليهود إلى أن نزلوا على شكيم «نابلس»، فخرج إليه ألكسندروس فهزمه ديمتريوس في حوالي السنة ٩١ق.م.، وقتل أكثر رجاله، فهرب ألكسندروس إلى بعض التلال، «وجاء إليه كثيرون من اليهود الذين مع ديمتريوس»، فلما صار في عسكر كبير سار إلى ديمتريوس فرده إلى سورية، ثم عادت الحروب بين ألكسندروس وبين الفريسيين فهزمهم، وقُتل كثيرًا منهم، وأُخذ من كبرائهم ووجوههم ثمانمائة رجل فصُلبوا وقُتلوا بين يديه، واستولى بعد ذلك على جميع اليهود وقهرهم.5

(٢) ألكسندرة ملكة اليهود

ثم اعتلَّ ألكسندروس بحمَّى الربع، وبلغه أن بعض المدن عصت عليه فسار لمحاربتها وهو عليل، ونزل على راجب بين جرش والأردن، وقويت علته وقرُبَ أجله، فنصح زوجته ألسكندرة بأن تخفي موته إلى ما بعد فتح المدينة، وأن تعود إلى أورشليم، وتحمل جثته إلى قصره سرًّا، وتستدعي وجوه الفريسيين، وتخاطبهم بالجميل، وتكرمهم وتقول أنها عالمة بعداواته لهم، ولكنها لهم من بعده تفعل كما يشاءون، ومات ألكسندروس (٧٦)، ونفذت ألكسندرة وصيته هذه، فأجاب الفريسيون بالجميل ودفنوا زوجها مع آبائه، واستمالوا القوم إلى ألكسندرة، وأشاروا أن يملكوها بعده، فاستقام أمرها حتى السنة ٦٧ق.م. بمعاونة الفريسيين.

وأطلقت ألكسندرة جميع من كان من الفريسيين في السجون، ورَدَّت إليهم تدبير الناس وتمسكت بمذهبهم، وجعلت ابنها الأكبر هيركانوس كاهنًا أعظم؛ لأنه كان متواضعًا وديعًا خيِّرًا، وجعلت أخاه أرسطوبولوس — وهو الأصغر — صاحب الجيش، ولما قوي أمر الفريسيين جاءُوا إلى الكسندرة، ومعهم ابنها هيركانوس، وطلبوا إطلاق يدهم في قتل رؤساء الصدوقيين؛ لأنهم هم الذين حملوا ألكسندروس على قتل الفريسيين وصلبهم. فقالت: افعلوا، فقبضوا على كبير من الصدوقيين مع جماعة وقتلوهم، فجاء الصديقيون إلى الكسندرة ومعهم ابنها الآخر أرسطوبولوس، وقالوا: إما أن تكفيهم عنَّا، وإما أن تطلقي لنا الخروج من المدينة، والتفرق في الضياع البعيدة، فقالت: اخرجوا، فخرجوا، ثم توفيت في السنة ٦٧ق.م.6

(٣) أنتيباتروس أبو هيرودس

ولما مرضت ألكسندرة وأيس منها أرسطوبولوس ابنها الأصغر، خرج من أورشليم، واستنهض الصدوقيين على أخذ الملك، ففعلوا وجاءُوا إليه من لبنان والجليل، فنزل بهم على الأردن، فخرج هيركانوس إليه بجيش الفريسيين فانهزم هيركانوس، فأصبح أرسطوبولوس الملك بالاسم أرسطوبولوس الثاني، وأمسى هيركانوس كاهنًا أعظم.

ثم أفسد أنتيباتروس بين هيركانوس وأخيه، وكان أنتيباتروس قد تولى أدوم في عهد ألكسندروس، وكان ذا عقل ورأي وشجاعة وبأس ودهاء وحيلة ومال، فلما مات ألكسندروس عزلته ألكسندرة، فأقام في أورشليم ونشأت مودة بينه وبين هيركانوس، فحرَّضه على أخيه أرسطوبولوس قائلًا: إنه يسعى لهلاكه، وأشار عليه أن يخرج ويمضي إلى الحارث ملك الأنباط، فرحَّب الحارث بالضيفين، ومشى معهما على رأس خمسين ألفًا قاصدًا أرسطوبولوس، فلما التقوا في السنة ٦٤ق.م. استأمن كثيرون من رجال أرسطوبولوس إلى أخيه هيركانوس، فهرب أرسطوبولوس، ودخل أورشليم وامتنع فيها، فقام الحارث وهيركانوس وانتيباتروس إلى أورشليم ونازلوا المدينة، فاتصلت الحروب وعظمت الفتن، فانتقل كثيرون من أهل الخير والسلام إلى مصر.

وشملت أدوم في العصور القديمة كل ما وقع بين البحر الميت وبين البحر الأحمر، والأدوميون سكان أدوم عرب في الأرجح، سبقوا اليهود إلى تخوم فلسطين وناصبوهم العداء قرونًا طوالًا، فلما تمَّ السبي وأبعد اليهود إلى ما بين النهرين في أواخر القرن الثامن ق.م.، دخل الأدوميون اليهودية الجنوبية، واحتلوا حبرون الخليل وبيت صور، وغيرها شمالًا وغربًا، ثم كان ما كان من أمر الثورة المكابية والحروب بين اليهود والسلاقسة، ومن هجوم أنطيوخوس من الجنوب عبر أدوم، فاضطر المكابيون أن يؤمنوا حدودهم الجنوبية، فزحفوا على الأدوميين في عهد يهوذا المكابي، وأخضعوهم وفرضوا عليهم التهوُّد، ثم أقاموا على الأدوميين أحد أعيانهم انتيباتروس الأكبر حاكمًا، فتحدر منه انتيباتروس الأصغر حليف هيركانوس وصديق الحارث وخصم أرسطوبولوس، وتزوج انتيباتروس امرأة أدومية مثله، ولدت له أربعة بنين: فزائيل، وهيرودس، وفيروراس، ويوسف. والقول أن انتيباتروس تحدر من أصل يهودي بابلي قول متأخر، جاء بعد وصول أبنائه إلى الحكم على اليهود؛ ليؤكد قدم عهدهم في اليهودية.7

(٤) بومبايوس واليهود

وعرف اليهود الرومان منذ عهد يهوذا المكابي واعتبروهم أصدقاء وحلفاء،8 فلما سمع اليهود بوصول «غابينيوس Gabinius» و«سكوروس Scaurus» إلى دمشق في مطلع السنة ٦٣ق.م.، أرسل كل من هيركانوس وأرسطوبولوس المتخاصمين وفدًا يفاوض في طلب المعونة، ووصل وفد ثالث يمثل الفريسيين، ورجا إنهاء حكم الحشمناويين وإعادة السلطة إلى يد الكهنة، ثم وصل بومبايوس نفسه إلى دمشق، ونظر في أمر اليهود فمال إلى جانب هيركانوس لقلة طمعه وطموحه، ولكنه تظاهر بعدم التحيز، وأعلن رغبته في مطاردة الحارث الثالث «زعيم النهابين السلَّابين»، ومشى سالكًا طريق الغور، ضامنًا مفاجأة أرسطوبولوس وإملاء شروط عليه،9 ولما وصل إلى أريحا استدعى أرسطوبولوس إلى مقر قيادته، وأوجب دخول حامية رومانية إلى أورشليم ودفع غرامة معينة، فقدَّم أرسطوبولوس مبلغًا من المال ومفاتيح المدينة المقدسة، ولكنه لدى عودته إليها ووصول غابينيوس بالحامية المفروضة امتنع عن السماح له بالدخول، فنجم عن هذا العمل حصار دام شهرين من الزمن، وأدى إلى إخضاع أرسطوبولوس وأعوانه (٦٣ق.م)، ودخل بومبايوس المدينة حتى قدس أقداسها، وأعلن هيركانوس كاهنًا أعظم ومدبرًا لشئون ملته، وقبض على أرسطوبولوس وابنيه ألكسندروس وانتيغونوس وابنتيه وابشالوم، وأرسلهم إلى رومة؛ ليزينوا موكب نصره فيها، وهدم أسوار أورشليم، وأسر ألوفًا من اليهود وباعهم أرقاء في أسواق رومة،10 وحصر بومبايوس سلطة الكاهن الأعظم في اليهودية والجليل والسامرة و«بيراية Peraea» في قلب شرق الأردن، وحرر المدن في الساحل وفي عبر الأردن، كما سبق وأشرنا، وألحقها بولاية سورية، وكان بين هذه المدن «مدينة» السامرة.11

(٥) الحارث الثالث ورومة

ورغب بومبايوس رغبة أكيدة في تدويخ الأنباط والسيطرة على مواردهم التجارية العظيمة، واندفع أمين ماله quaestor سكوروس يعد العدة للزحف على البتراء عاصمة الأنباط، فاضطرب أنتيباتروس صديق الطرفين أيما اضطراب، ثم حمل بريد آسية خبر انتحار متراداتس وانتهاء قضيته، وعلم الجنود بذلك فاعتبروا موت متراداتس مؤذنًا بإنهاء المهمة الموكولة إليهم، فاستغل أنتيباتروس هذا الظرف الجديد وتوسط بين الحارث وبين بومبايوس، وتوصل إلى حل أرضى به الطرفين، فأقنع الحارث بدفع ثلاثمائة وزنة قصَّر بها خُطى سكوروس وسيده.12

(٦) أولوس غابينوس

وعاد بومبايوس إلى آسية ومنها إلى رومة، وأقام أمين ماله سكوروس حاكمًا على سورية ودويلة اليهود، حاملًا لقب Pro praetore، وتبعه واليان بالرتبة نفسها، ثم اهتم السناتوس لشئون سورية، فكبَّر حاميتها، وأمَّر عليها في السنة ٥٧ق.م. «أولوس غابينيوس Aulus Gabinius» برتبة بروقنصل، وكان غابينيوس قد اشتهر منذ السنة ٦٧ق.م. باهتمامه في شئون الولايات عبر البحار ودفاعه عن حقوق سكانها الآمنين المستأمنين، فما كاد يستلم أزمة الحكم في سورية حتى ضرب العشارين بيد من حديد، وعفا من دفع الضرائب من كان قد نكب في حوادث الفتح وغيرها، وكان الحشمناويون لا يزالون يطمعون في الحكم في فلسطين، ويهددون الأمن في سورية بلجوئهم إلى العنف، فعقد غابينيوس قلبه على تأديبهم وإخضاعهم،13 ففرض على أنصارهم الضرائب الثقيلة، وقسَّم دويلتهم إلى خمسة أقضية، وجعل لكل منها مجلسًا خصوصيًّا يدبر شئونها، وأحيا عددًا من المدن السورية اليونانية التي دمَّرها الحشمناويون أو أهملوها، منها: السامرة، وبيسان، ودورة، وغزة، وقوَّى أنتيباتروس على حساب الحشمناويين، ولم يرضَ عن تردد السناتوس في موقفه في سير الأمور والحوادث في الشرق، فتدخل في شئون مصر، وأنهى الفوضى فيها، وأعاد بطليموس الحادي عشر Auletes إلى سابق سطوته متحملًا في ذلك مسئولية شخصية كبرى، واتخذ من برتية موقفًا حازمًا ولا سيما فيما تعلق بشئون أرمينية، ولكن العشارين الذين أوجعهم باللوم، وآخذهم بالذنب واقتص منهم، سوَّءُوا أعماله وجعلوا ألسنتهم مبارد، فأنكروا عليه تدخله في مصر، واتهموه بقبول رشوة كبيرة من بطليموس، وتطور الموقف السياسي الداخلي في رومة، وأبعد أصدقاؤه عن الحكم فأوجب شيشرون محاكمته لارتكابه جرمًا عظيمًا majestas، وعلى الرغم من دفاعه عنه بعد شهر واحد وسحب الشكوى repetundae، فإنه اعتُبر مجرمًا في السنة ٥٤، وأُبعد عن رومة.14

(٧) كراسوس والهيكل

وكان ما كان من أمر التحالف الثلاثي بين الثلاثة الكبار: بومبايوس، وقيصر، و«كراسوس Dives Crassus»، وأحب كراسوس أن يزهو بنصر عسكري كحليفيه الآخرين، وطمع بأموال الشرق وعلق الآمال عليها، فعين في السنة ٥٥ق.م واليًا بروقنصلًا على سوريا وخلفًا لغبينيوس فيها، وقائدًا عامًّا للحملة على برتية وما وراء الفرات، وما إن وصل إلى ولايته حتى بدأ بنهب «الهياكل hiersylia»، فسلب آلهة مبنج Bambice أموالها وجواهرها، ودخل أورشليم فاستولى على كل ثمين في قدس أقداس الهيكل، ثم وقع في يد أعدائه في ميدان القتال بالقرب من حرَّان في السنة ٥٣ق.م.، فاستغل الحشمناويون الكارثة التي حلَّت بقوات رومة في الشرق فأعلنوها ثورة جديدة، وجعلوا من الجليل مسرحًا للقتال وحرب العصابات، ولكن أنتيباتروس ظل مواليًا لرومة وتعاون مع كاسيوس، فقضيا على العصيان، وقبضا على ثلاثين ألفًا من أنصار الحشمناويين في الجليل، وأمرا ﺑ «فيثولاوس Pitholaus» زعيم الثورة فضُرب عنقه.15

(٨) قيصر واليهود

وتقاطع بومبايوس وقيصر بعد مقتل كراسوس وتصارما، وزحف قيصر على رومة في مطلق السنة ٤٩ق.م.، واستولى على أزمة الحكم فيها، وفرَّ بومبايوس إلى الشرق، وعلم قيصر أن السناتوس كان قد عين «متلوس سكيبيو Metellus Scipio» نسيب بومبايوس واليًا على سورية، فأفرج عن أرسطوبولوس الحشمناوي، ووضع تحت تصرفه فرقتين من الجند، وأمره بالرجوع إلى فلسطين، ولكن أنصار بومبايوس دسوا لأرسطوبولوس سمًّا فمات، وأوعز بومبايوس نفسه إلى نسيبه سكيبيو أن يقضي على حياة ألكسندروس بن أرسطوبولوس، فاستدعى سكيبيو ألكسندروس وحاسبه على ما مضى من عصيان ذويه وحكم عليه بالإعدام، ثم انتصر قيصر في فرسلوس في صيف السنة ٤٨ق.م.، ولجأ بومبايوس إلى مصر وقُتل فيها، وتأثره قيصر فوصل إلى مصر بعد مصرعه ببضعة أيام، وتدخل في شئون مصر ومال إلى كليوبترة، فعارضه أخيلاس مناظرها وحصره في أحد القصور، فكتب قيصر إلى متراداتس برغاموس يطلب المدد، فاستصعب متراداتس النزول في ساحل مصر الشمالي.
ولم يُلقِ أنتيباتروس اليهودي صديق بومبايوس أزمَّة أموره إلى أيدي المقادير، فإنه ما كاد يلمس تهلل وجوه اليهود لمصرع بومبايوس، واعتبار هذا المصرع جزاء اضطهاده لهم وتضييقه عليهم حتى انبرى يؤيد قيصر ويقول قوله. وهكذا فإنه عندما علم بما جرى لقيصر في الإسكندرية اتصل بأميري حمص وعنجر وبمالك ملك الأنباط، واستعان برجالهم وجيَّش ثلاثة آلاف يهودي، وقام إلى مصر عبر صحراء سينا، وكان قد خبر الصحراء في أثناء زحف غابينيوس عليها فوُفق إلى الاستيلاء على «الفرمة Pelusium»، وأنفذ هيركانوس الكاهن الأعظم إلى الأوساط اليهودية خارج الإسكندرية؛ ليحضهم على التعاون مع قيصر ففعلوا، وأعلنوا عدم الرضى عن أخيلاس رغم موقف يهود الإسكندرية، ثم التقت قوات متراداتس البرغامي وقوات أنتيباتروس بجيش أخيلاس فانكفأ البرغاميون، ولولا حزم أنتيباتروس وبأس رجاله لما تمكن أصدقاء قيصر من التغلب على خصمه المصري،16 فأثنى قيصر على أنتيباتروس وأوصى به، ولما جلس في أنطاكية يدبر شئون سورية قبل قيامه إلى البونط لإخماد الثورة فيه اعترف بهيركانوس كاهنًا أعظم، ومنح أنتيباتروس حقوق المواطن الروماني، وكان منحها عبر البحار لا يزال نادرًا، وأعفاه من دفع الضرائب، واحتج أنتيغونوس بن أرسطوبولوس، وادعى أن أنتيباتروس لم يكن سوى مخادع مراوغ يعمل لصالح نفسه، فأجاب أنتيباتروس بالإشارة وأومأ إلى الجروح التي أصابته في حرب مصر، وأسكت قيصر أنتيغونوس وجماعته بأن أعلن هيركانوس كاهنًا أعظم، وجعل الكهنوت الأعظم وراثيًّا لأولاده وأحفاده من بعده، وأطلق يد أنتيباتروس في حكم فلسطين، وسمح له بأن يحكمها كما يشاء، فترك أنتيباتروس نوع الحكم ومقدار السلطة لقيصر فعينه «محصلًا procurator»، وأمر بأن ترسل إلى الكبيتول في رومة وإلى هياكل صور وصيدا وعسقلان نسخ عن هذه الأحكام؛ تُتحفر على لوحات من البرونز، وتُعلق على جدرانها، وفي الثامن عشر من تموز من هذه السنة نفسها ٤٧ق.م.، نهض قيصر من أنطاكية إلى البونط لتأديب العصاة، وعين واليًا على سورية نسيبه وصديقه «سكستوس قيصر Sextus Caesar»، وفي هذه السنة نفسها أيضًا حدد قيصر كمية الضريبة على يهود فلسطين، فجعلها ربع مزروعات الحبوب، وأوجب تسليمها في صيدا لتُنقل منها إلى رومة، وفي السنة ٤٤ق.م. سمح بترميم الأسوار في أورشليم وإعادتها إلى سابق مناعتها، وكبر هيركانوس الكاهن الأعظم وبرى الدهر عظمه فوافق على جعل فزائيل بن أنتيباتروس «ناظرًا praefectus» على مدينة أورشليم، وأخاه هيرودس واليًا على الجليل.17

(٩) هيرودس والمجمع

وما كاد هيرودس يمارس صلاحياته في الجليل حتى اصطدم ﺑ «المجمع synedrion»، والمجمع في عرف اليهود آنئذٍ تألف من طبقات ثلاث: من وجوه الأسر الكريمة، ومن كهنة الكاهن الأعظم، ومن الكتبة أو الفقهاء الماهرين في علوم الناموس، ومعظمهم من الفريسيين،18 وسبب الاصطدام أن هيرودس ضرب بيد من حديد أفراد عصابة يهودية هددوا الأمن في الجليل وفي الأراضي السورية المتاخمة، وأنه قبض على زعيمهم حزقيَّا وأمر به فضُرب عنقه، فثار ثائر المجمع لإقدام هيرودس على الحكم بالإعدام وتنفيذه قبل عرضه على المجمع وقبل موافقته، فنصح أنتيباتروس ابنه بأن يمثل أمام المجمع في أورشليم، وأن يجيء مستعدًّا متأهبًا للدفاع عن سلامة شخصه في أثناء السفر، وألا يكثر من هذا الاستعداد؛ كي لا يثير الظنون في أنه جاء مهددًا ضاغطًا، ومثل هيرودس أمام المجمع في الهيكل، فخشي الفقهاء سطوته ولزموا الصمت، ولم يجرؤ على الكلام سوى شومية المحترم، الذي طلب الحكم بالموت على هيرودس، فنصح هيركانوس الكاهن الأعظم هيرودس أن يخرج من أورشليم ففعل، ولجأ إلى والي سورية سكستوس قيصر، وأخبره أن اجتهاده في تأمين الجليل أدى إلى الحكم عليه بالموت، فكافأه سكستوس بأن جعله واليًا على سورية المجوفة «المدن العشر» والسامرة، بالإضافة إلى الجليل، وأطلق له عنانه فركب هيرودس سَجِيحَة رأسه، ونهض إلى أورشليم نفسها على رأس قوة كبيرة، فخرج والده وأخوه وأكدا له أن يروم مرامًا قصيا، فثنياه عن عزمه وقطعا عليه وجهته، فعاد هيرودس إلى الجليل مقتنعًا أن اليهود لا يرعون ميثاقًا ولا يثبتون على عهد، وأن مصلحته ومصلحة أسرته مربوطتان بمصلحة رومة.19

(١٠) كاسيوس يستأثر بالسلطة

ولجأ إلى صور بعد موقعة فرسلوس (٤٨) قائد روماني اسمه «كيكيليوس باسوس Caecilius Bassus» وقبع فيها، وكان من أنصار بومبايوس يحمل على قيصر حقدًا لا ينحل، فلما غادر قيصر أنطاكية إلى آسية الصغرى؛ ليخمد الثورة في البونط، بدأ باسوس يخشن صدور الجنود والضباط على قيصر ويُشربهم عداوته، ثم نصب لسكستوس قيصر والي سورية الحبائل الخفية، فحالف أميرًا عربيًّا اسمه الخيدون أو القيدون، كان يسيطر على عشائر عربية في غرب الفرات،20 ووالى البرت في الشرق وفتك بسكستوس في خريف السنة ٤٥ق.م.، وتسلَّم قيادة الجنود الذين كانوا بإمرة هذا الوالي، ولما جاءه «أنتيستيوس فيتوس Antistius Vetus» بجنود قيصر امتنع في أبامية في شمال سورية، وجاء الخامس عشر من آذار السنة ٤٤، وقُتل قيصر ولجأ القتلة إلى الشرق، وشرعوا يستعدون للدفاع عن النفس، فتسلَّم زمام الأمور في سورية، أحدهم غايوب لونجينوس كاسيوس، وكانوا بأشد الحاجة إلى المال، ففاوض كاسيوس باسوس ورفع الحصار عن أبامية، وفرض المال في جميع أنحاء الولاية وأوجب أداءه، وخص اليهود بقسط وافر منه؛ لأنهم كانوا قد مالوا إلى قيصر وحزنوا على مقتله أينما كانوا، فجعل المال المفروض عليهم سبعمائة وزنة … فنصح أنتيباتروس لابنيه أن يجمعا ما توجب عليهما، وأن يؤدياه في أقصر وقت ففعلا، ودفع هيرودس مائة وزنة حالًا وسريعًا، وكان هيركانوس الكاهن الأعظم قد قرَّب شخصًا يدعى مالكًا؛ ليحد من نفوذ أنتيباتروس وولديه، وليرضي بذلك بعض الأوساط اليهودية، فتلكأ مالك في جمع المال وتقديمه، فغضب كاسيوس فباع سكان جفنة وعمواص ولدة وثمنه في أسواق الرقيق، وأمر بقطع رأس مالك، فدفع أنتيباتروس خمسين وزنة من ماله الخصوصي، وتشفع إلى كاسيوس في مالك، فقبل كاسيوس فظن مالك أن أنتيباتروس إنما فعل ذلك خوفًا واسترضاءً فركب رأسه وتآمر، فاضطر أنتيباتروس أن يلجأ إلى شرق الأردن وشرع يجند، وهبَّ ولداه إلى معونته، فخشي مالك عاقبة الأمر، فمالق وداهن، وفي صيف السنة ٤٣، استمال مالك أمين الخمور في قصر هيركانوس فدس هذا السم لأنتيباتروس فمات لساعته، وانتصر كاسيوس على دولابلة في تموز هذه السنة نفسها في اللاذقية، وضم جنوده إلى جيشه، وعاد إلى صور يدبر شئون الجنوب ويتقبل التهاني، وعلم بمصرع أنتيباتروس فأمر الترابنة بإنزال العقوبة بالجاني، وأمَّ صور كل من هيرودس ومالك لتقديم الهدايا ورفع التهاني، فخرج الترابنة لاستقبالهما، فطعنوا مالكًا طعنات أتت على نفسه فخرَّ صريعًا على رمال صور.21

(١١) اليهود وأنطونيوس وكليوبترة

ونجح أصدقاء قيصر في الغرب، ووصل الثلاثة إلى الحكم في خريف السنة ٤٣ق.م.، واضطر كاسيوس أن ينضم إلى بروتوس في سبيل الدفاع عن النفس، وكان بطليموس أمير عنجر العربي قد تزوج أخت أنتيغونوس بن أرسطوبولوس الحشمناوي، وكان أنتيغونوس مقيمًا عند صهره في عنجر، فأحب هو وصهره أن يستغلَّا الظرف الجديد للوصول إلى منصة الحكم في أورشليم، وتفاهما ومريون حاكم صور لهذه الغاية، فهبَّ هيرودس وأسرع، ففاجأ مريون قبل اتصاله ببطليموس وكسره شر كسرة، ثم انتصر على بطليموس وأنتيغونوس عند حدود فلسطين الشمالية، وعاد إلى أورشليم «بطلًا مغوارًا»، ورأى أن يستغل انتصاره ويربط بشخصه أسرته الحشمناويين بزواج جديد، فخطب مريم بنت ألكسندروس بن أرسطوبولوس، ذاك الذي أُعدم في أنطاكية بأمر بومبايوس من زوجته ألكسندرة بنت هيركانوس، وكان قد تزوج «دوره Doris» بنت كاهن عادي.
وجاء يوم فيليبي في خريف السنة ٤٢ق.م.، وخلا الجو للثلاثة الكبار، فكان الشرق من نصيب أنطونيوس، وكان أنطونيوس قد عرف الشرق يوم كان لا يزال في السادس والعشرين من عمره مواكبًا غابينيوس، وكان أيضًا قد عرف هيرودس وهو لا يزال غلامًا في السادسة عشرة فأحبه وأعزَّه، وما إن وصل أنطونيوس إلى بيثينية في آسية الصغرى حتى ضاق معسكره بالوفود المهنئة المباركة، وكان بين هذه الوفود وفدان يهوديان: هيرودس وجماعته، وعدد من الوجوه المخاصمين المناوئين، الذين شكوا فزائيل وأخاه هيرودس، وما كاد أنطونيوس يخرج من أفسس متجهًا شطر أنطاكية حتى أوقفه وفد هيركانوس الكاهن الأعظم، فقدَّم هذا الوفد إكليلًا من ذهب ورجا أنطونيوس أن يعتق من استرقه كاسيوس من سكان المدن الفلسطينية الأربع، وأن يعيد إليهم أملاكهم، فقبل أنطونيوس الهدية، وأمر بالعتق، وكتب بذلك إلى صور وصيدا وأرواد وأنطاكية، ثم وصل أنطونيوس إلى أنطاكية واستقر في دفنة، واستقبل فيها هيركانوس نفسه، وكان أخصام هيرودس لا يزالون يطالبون بإبعاده عن الحكم، فسأل أنطونيوس الكاهن الأعظم: «من أفضل قادة الأمة؟» فأجاب الكاهن: «هيرودس وجماعته»، فجعل أنطونيوس هيرودس وأخاه فزائيل تترارخين على فلسطين، وقبض على خمسة عشر وجيهًا من وجوه المعارضة، وكاد يفتك بهم لولا توسط هيرودس وشفاعته، ونهض أنطونيوس بموكبه إلى صور فتبعه إليها وفد المعارضة، واستقروا ألفًا خارج أسوارها، فخرج إليهم هيرودس وهيركانوس ونصحا إليهم بالرضوخ لأمر أنطونيوس وبالتفرق والعودة إلى أعمالهم، فأبوا، فانقض الجنود عليهم، وقتلوا منهم عددًا وجرحوا كثيرين، وظلَّ الباقون يتذمرون ويتضجرون فأمر أنطونيوس بمن قُبض عليهم فقُتلوا.22
وجعل أنطونيوس «هيركانوس اثنارخسا ethnarches»، أي حاكم الشعب، ورفَّع كلًّا من فزائيل وهيرودس إلى رتبة الإمارة فجعلهما تتراخسين، وكان اللقب «تترارخس tetrarches» يطلق أولًا على حاكم الربع من اتحاد رباعي، ثم أمسى في عهد الرومان يطلق على بعض الأمراء الذين دخلوا في طاعة رومة، وأضاعوا سيادتهم واستقلالهم، ولم يشترط أن يكونوا حكام أرباع من اتحاد رباعي23 … ولم يبقَ لهيركانوس سوى اللقب، فإن كلًّا من التترارخسين أصبح يتمتع بجميع صلاحيات الحاكم في ظل رومة.24
ثم كان ما كان من أمر بكوروس البرتي وهجومه في السنة ٤١ على سورية وعلى آسية الصغرى، كما سبق وأشرنا، وتعاون أنتيغونوس الحشمناوي معه، وفرار هيرودس إلى مصر فرومة وتأييد أنطونيوس له، ورضي أوكتافيانوس عليه، وعودته من رومة ملكًا على اليهود بقرار من السناتوس، ونزل هيرودس في عكة في مطلع السنة ٣٩ق.م.، وشرع يدوِّخ البلاد مبتدئًا من الجليل مستعينًا بأنصاره فيها، وتراجع البرت أمام قوات رومة، وعاد أنطونيوس إلى الشرق (٣٨ق.م) وأمدَّ صديقه بالمعونة، فكان قتال حاسم في «وادي الحرامية» بين نابلس وبين أورشليم، وكان حصار جديد لمدينة القدس انتهى في السنة ٣٧ بتسليم أنتيغونوس، وقتله وبزواج هيرودس من خطيبته مريم الحشمناوية.25
وتزوج أنطونيوس كليوبترة (٣٨ق.م)، ورأى في التعاون معها مصلحة لرومة في الشرق، وطمحت هي إلى إعادة مجد أسلافها، فطمعت في سورية وقيليقية وقبرص، فألحق أنطونيوس بمصر قبرص وقيليقية الغربية وإمارة عنجر في البقاع اللبناني ومدن الساحل الفينيقي حتى مصب النهر الكبير ما عدا صور وصيدا، وأضاف عسقلان إلى مصر وشيئًا من شرق الأردن وأريحا وبساتينها؛ لتضمن قار البحر الميت الضروري لتحنيط المو وطلاء المراكب، وبلسم أريحا وتمرها الممتاز، ولولا حب أنطونيوس لهيرودس القديم لضمت كليوبترة اليهودية بأسرها إلى مصر.26

(١٢) هيرودس الملك

واستوى هيرودس بلقبه الملكي الجديد على عرش أورشليم اعتبارًا من أول نيسان سنة ٣٧ق.م.، وعالج قضية ملكه وموقف اليهود منه، فصعب الأمر عليه وقاصى فيه نَصَبًا، وتفصيل ذلك، أنه لما شرع في توطيد دعائم عرشه، بدأ بالمجمع السينيذرون، فأمر بإعدام من أيد أنتيغونوس، فبلغ عددهم خمسة وأربعين من مجموع واحد وسبعين، وصادر أملاكهم وعين محلهم وجوهًا وكهنة موالين له، ولما كان لا يجوز له أن يتولى الكهنوت الأعظم؛ لأنه لم يتحدر من نسل هارون، رأى أن يستدعي هيركانوس من بابل؛ لأنه كان قد أمسى شيخًا كبرًا خذلته قوته وولَّت شدته، ولأن البرت كانوا قد صلموا أذنيه؛ ليشوِّهوا جسده، ويجعلوه غير لائق بالكهنوت، فرجا ملك البرت في ذلك فقبل فرآتس الرابع، فعاد هيركانوس واستقر في أورشليم موقرًا معظمًا، واستقدم هيرودوس في الوقت نفسه كاهنًا محترمًا من يهود بابل كان يدعى حننائيل، فجعله الكاهن الأعظم، ولكن ألكسندرة ومريم بنتها زوجة هيرودس لم ترضيا عن هذا التدبير، فطالبتا بالكهنوت الأعظم لأرسطوبولوس ابن الأولى وأخي الثانية، ووافقهما في ذلك المتطرفون من اليهود، وكتبت ألكسندرة إلى كليوبترة ورجت معونتها، ففاتحت كليوبترة أنطونيوس كلامًا في هذا الموضوع، فرفض أن يتدخل في شئون هيرودس إلى هذا الحد، فاستعانت كليوبترة ﺑ «ديليوس Dellius» أحد دهاة حاشية أنطونيوس وعشيقها السري، وأوفدته إلى أورشليم لعله يوفق إلى إفساد الجو فيها وإزعاج هيرودس، فأعجب ديليوس بجمال مريم الملك ونضارة أخيها أرسطوبولوس، وكان هذا لا يزال في السادسة عشرة متسربلًا بالملاحة والظرف، فنصح ديليوس ألكسندرة بأن ترسل إلى أنطونيوس صورة ابنها وبنتها، ففعلت، فكتب أنطونيوس إلى هيرودس كتابًا لطيفًا رقيقًا يرجوه فيه إرسال أرسطوبولوس إليه، فاعتذر هيرودس مدعيًا أن خروج الغلام من أورشليم يؤدي حتمًا إلى الشغب والمتاعب، فألحت مريم وأمها أنه إذا كان لا بد من بقاء أرسطوبولوس في أورشليم فلينصَّب كاهنًا أعظم، فقبل هيرودس، فنحَّى حننائيل وأقام أرسطوبولوس كاهنًا أعظم، ثم كتبت كليوبترة إلى ألكسندرة أن تخرج وابنها من القصر في تابوتين، وأن يفرا إلى مصر، ففعلت ألكسندرة فاكتُشف أمرها وقُبض عليها وعلى ابنها في الجرم المشهود، فارتاب هيرودس ونَغل قلبه، وكان أحقر من جَمَل فنصب الحبائل الخفية وأوعز إلى أخصائه، فأغرقوا الغلام وهو يستحم معهم في أريحا في بركة القصر لمناسبة الاحتفال بعيد المظال، وتدخلت كليوبترة للمرة الثالثة وأوجبت التحقيق في قضية مقتل الغلام ونقرت رأس أنطونيوس، فاستدعى هيرودس إليه في اللاذقية (٣٤ق.م) واستوضحه الأمر، فلم يرَ ما يوجب العقاب، فأعاده إلى أورشليم نظيف اليدين عالي الجبين، وكان قد وكل أمور المملكة إلى عمه يوسف، وكان يوسف قد تزوج سلومة أخت هيرودس، وكانت سلومة قد سئمت العيشة مع زوجها، وزهدت فيه للتفاوت بينها وبينه في السن، فاتهمته بحب مريم ومخادنتها في أثناء غياب هيرودس، فأمر هيرودس بعمه أخي أبيه فقتل، وكاد يأمر بمريم أيضًا، ولكن حبَّها ملك عنانه.27
ثم حَسَرَ كل من أنطونيوس وأوكتافيانوس اللثام وتصارحا وتجالحا، فكان لا بد من لقاء حاسم في أكتيوم في الثاني من أيلول سنة ٣١ق.م.، وعرض هيرودس خدماته لصديقه القديم أنطونيوس، ولكن كليوبترة التي كانت تغار على أنطونيوس من هيرودس مانعت، فمنعت ونصحت أنطونيوس بأن يعهد إلى هيرودس بالاقتصاص من مالك ملك الأنباط لتلكؤه عن دفع ما توجب عليه، وأعزت إلى ممثلها في البقاع وسورية القائد «أثينون Athenion» إلا يسمح لأحد الطرفين هيرودس ومالك بسحق الآخر، وكان هيرودس لا يزال حاقدًا على مالك لامتناعه عن حمايته في وقت ضيقه، فجرَّد على مالك حملة، وانتصر عليه عند «ذيون Dion» في حوران بين فيق والقنوات، وطارد اليهود الأنباط فتأثر أثينيون اليهود وضربهم ضربة أليمة! (٣٢ق.م.)، وبينما كان هيرودس يعيد تنظيم صفوفه زلزلت الأرض زلزالًا في ربيع السنة ٣١ق.م.، فهلك عدد كبير من اليهود قدر بثلاثين ألفًا، ولم يُصَب هيرودس وجيشه بأذى؛ لأنهم كانوا معسكرين في خيامهم في وادي الأردن، وعلم الأنباط بالكارثة فذبحوا الوفد اليهودي المفاوض عندهم، فتأجج هيرودس غضبًا وتحرَّق، ثم عبر الأردن إلى السهل المنبسط في جنوب عمان Philadelphia، واستحوذ على الحصن الذي حمى الأنباط، ثم أعمل السيف فيهم فقتل خمسة آلاف وتشتت الباقون، ثم امتنعوا في بعض المخابئ، ولكنهم اضطروا أن يستسلموا لقلة الماء، ونادوا بهيرودس حاميًا محاميًا، وهكذا، فإنه عندما انقشعت غيوم أكتيوم ووضح النهار بعدها ظهر هيرودس في عداد أعداء كليوبترة لا أصدقائها.28
وفرَّت كليوبترة، وعادت إلى مصر، ولحق بها أنطونيوس، وحاول بعض المجالدين من أنصار أنطونيوس الذين كانوا يتمرسون في كيزيكوس أن يلتحقوا بسيدهم عبر سورية وفلسطين، فتعاون هيرودس و«كونتوس ديديوس Quintus Didius» وإلى سورية، وقبضا على هؤلاء ومنعاهم من الوصول إلى مصر، ولكن هيرودس ظلَّ على حيرة من أمره خابط ليل، لا يدري ما قد يحل به، وظنت ألكسندرة أن رياح النصر قد هبَّت، وأن أشراط الفوز قد لاحت فاتصلت بمالك ملك الأنباط، ووصلت حبلها بحبله، فخانها أحد الوسطاء، وأطلع هيرودس على جواب مالك، فإذا به ما يؤدي هيركانوس والحشمناويين على هيرودس، فاتهم هيرودس هيركانوس بالخيانة العظمى، وطلب إلى السينيذرون أن ينظر في الأمر، فحكم هذا المجمع على الشيخ المسن بالموت، فأُعدم في أوائل السنة ٣٠ق.م.
وجلس أوكتافيانوس في ساموس، ثم في رودوس يدبر شئون الشرق، فرأى هيرودس أن يمثل بنفسه أمام سيد رومة فيعرض قضيته وخدماته، فأقام أخاه «فيرور Pheroras» نائبًا عنه في غيابه، وأرسل والدته إلى قبرص، وشقيقته سلومة والأولاد إلى حصن «المسدة Massada» المطلة على البحر الميت عند طرفه الجنوبي، وأرسل مريم وأمها ألكسندرة إلى حصن «الإسكندريون Alexandrion» «قرن سرطبه» حاليًا، ووكل المراقبة عليهما إلى يوسف أمين الخزنة وسهيم الأدومي، وأوصى بقتلهما في حال إخفاقه في مسعاه وإعدامه.

(١٢-١) فوزه في رودوس

ومثل هيرودس أمام أوكتافيانوس في جزيرة رودوس في ربيع السنة ٣٠ق.م.، ولم يزين رأسه بالذياذمة، ولم يعتذر ولم يستغفر، ولكنه صدق القول فذكر ولاءه لأنطونيوس وما قدَّم له من خدمات، وقال: إنه لو لم يشغله أنطونيوس بحرب الأنباط لكان محاربًا معه، وأكد أنه قدَّم لأنطونيوس المال والحبوب أيضًا، وأنه ظل يؤيده حتى النهاية، ولكنه نصح له أن يبتعد عن كليوبترة بعد أكتيوم، وأن يقترب من أوكتافيانوس، وأضاف أنه يشارك صديقه أنطونيوس في الهزيمة، وأنه لا يستحق أن يلبس الذياذمة. ثم قال: إني أرجو لا تذكر من صادقت، بل كيف صدقت من صادقت!

وكان أنطونيوس لا يزال حيًّا في مصر، وكان لا بد من القضاء عليه نهائيًّا، وكان هيرودس قد قرن أقواله بالفعل بتعاونه مع ديديوس، ومنع المجالدين من الوصول إلى مصر والالتحاق بأنطونيوس. فوضع أوكتافيانوس نفسه الذياذمة على رأس هيرودس، وأكد له أنه لن يخسر شيئًا بانتهاء صداقة أنطونيوس. وقبل أوكتافيانوس دعوة هيرودس، وعزم على دخول مصر عن طريق فلسطين.

(١٢-٢) تعاظم قدره بين قومه

وقبل أوكتافيانوس دعوة هيرودس والتقى الاثنان في عكة، وواكب هيرودس سيد رومة، وسار معه عبر الساحل الفلسطيني حتى حدود مصر محتفيًا مجلًّا معظمًا، وقدم المئُونة والماء للجيش المظفر وبات ينتظر النتيجة، ولم يعرِّج أوكتافيانوس على أورشليم، ولم يشارك خاله العظيم في عطفه على اليهود، ولعل السبب في ذلك يعود إلى ما غرسه في نفسه أستاذه أثينوذوروس، الذي نشأ في البتراء، وتشرَّب فيها شيئًا من الكره لليهود، والنفور من كبريائهم وتصلفهم، وقلة احترامهم لثقافة غيرهم.

وعلم هيرودس بمصرع أنطونيوس، ثم سمع بمقتل قيصرون وأنتيلوس بن أنطونيوس من زوجته الأولى، ثم استطار خبر انتحار كليوبترة، فقرَّ باله وذهبت مخاوفه، فنهض إلى مصر مهنئًا، وقدم ثمانمائة وزنة هدية من مملكته الصغيرة، أي ما يوازي نصف مليون ليرة استرلينية! فماحضه أوكتافيانوس الود، ولمس أغريبة الرجل العظيم مواهب هيرودس فقدره حق قدره، ورسخت بين الاثنين قواعد المحبة.

وأعاد أوكتافيانوس إلى هيرودس سيطرته على أريحا ومواردها، وضم إلى مملكته «منطقة» السامرة، وأم قيس Gadara، وفيق Hippos، وغزَّة، ويافة، و«رأس استراتون Straton» على بعد ثلاثين كيلومترًا إلى الجنوب من حيفا، ثم منحه أربعمائة غلطي من حرس كليوبترة، وأضاف إليهم مربي أولادها نقولاوس الدمشقي،29 ونقولاوس هذا كان يونانيًّا مثقفًا مهذبًا لطيفًا رقيقًا، فاتخذه هيرودس معلمًا له، وأخذ عنه شيئًا من الفلسفة والبيان والتاريخ، وجعله مستشارًا يرجع إليه في كثير من الأمور، وممثلًا ينوب عنه في المفاوضات والعلاقات الخارجية، ولعله هو الذي عاون هيرودس في تدوين ذكرياته التي استعان بها يوسيفوس في تاريخه المشهور.30

(١٢-٣) أوغوسطوس والأنباط والعرب

ومات في السنة ٣٠ق.م. مالك ملك الأنباط، وخلفه ابنه «عبيدة الثالث Obodas»، وكان هذا واقعيًّا أكثر من سلفه، فخضع وسالم، فتركه أوغوسطوس وشأنه.
واستدعى أوغوسطوس في السنة ٢٦ق.م31 كورنيليوس غالوس، ناظر مصر، للإجابة عما اتُهم به من طموح وطمع، وعين سميَّه «آليوس غالوس Aelius Gallus» ناظرًا محله، ثم أمر هذا بإعداد حملة على مملكة سبأ في جنوب الجزيرة العربية، وأسند نظارة مصر إلى «بترونيوس Petronius»،32 ويُستدل مما أدلى به قائد الحملة آليوس إلى صديقه سترابون33 أن الأنباط لفتوا نظر أوغوسطوس إلى موارد سبأ التجارية العظيمة، وحسنوا له أمر إخضاعها، مؤكدين اشتراكهم وتعاونهم في ذلك، وكان تجار سبأ آنئذٍ يحصرون التجارة مع الهند عبر البحار فيبيعون سلعها بأغلى الأثمان، وكانوا يصدرون من بلادهم اللبان والمر والبخور، ويضيفون إليها التوابل على أنواعها والذهب، ويمتنعون عن التبادل التجاري، فلا يرضون إلا النقود بديلًا.34
ويقول سترابون: إن غالوس أنشأ بالقرب من السويس في حوض أرسنوة ثمانين بارجة حربية، ثم علم أن ليس لدى خصمه المنتظر سفن حربية، فأنشأ مائة وثلاثين ناقلة للجنود، وأنه أقلع بعشرة آلاف إلى «الحوراء Leuke Kome» المرفأ النبطي، الذي كان يقع آنئذٍ عند مدخل وادي الحمد في أقصى حدود الأنباط الجنوبية،35 وانضم إلى هذه الحملة خمسمائة يهودي، أنفذهم هيرودس لهذه الغاية، وألف نبطي بقيادة سلاوس وزير عبيدة، وما كاد الجنود الرومانيون يطئُون أرض الجزيرة حتى ألمَّ بهم داء الاسكربوط لقلة الخضار والماء الصالح للشرب، فاضطر غالوس أن يبقى وجنوده في الحوراء طوال صيف السنة ٢٥ وشتائها، وفي ربيع السنة ٢٤ نهض إلى الجنوب محملًا الماء على ظهور الجمال، وبعد سير دام أيامًا عديدة، وصل إلى أرض الحارث نسيب عبيدة، فزوده بالحبوب والتمر والسمن، ويقول سترابون: إن سير غالوس في أرض الحارث استغرق ثلاثين يومًا، ثم وصل إلى نجران فأخذها عنوة، واستولى بعد ذلك على «نشك Nasca» و«براكش Athrula»، ثم وصل إلى مرياما لا مريابا «مأرب» التاريخية فامتنعت، فضُرب الحصار، فاضطر أن يتراجع لقلة الماء، وعاد إلى نجران، ومنها إلى مرفأ «إغرة Egra» النبطي فشاطئ مصر الشرقي، فمدينة قفط.36
وهكذا، فإن آليوس غالوس لم يتمكن من فرض سلطة رومة على جنوب الجزيرة العربية، ولكنه بسط نفوذها وأوجب صداقتها كما يُستدل من نصوص سترابون،37 والتاجر المصري المجهول صاحب الرحلة البحرية حول البحر الأريتري في منتصف القرن الأول بعد الميلاد،38 وروى بلينيوس في أخبار السنة الأولى قبل الميلاد أن أوغوسطوس عاد فرغب في فرض سلطته على جنوب الجزيرة العربية بعد أن قرأ ما أعده «يوبة Juba» ملك موريتانية عن بلاد العرب، وأنه أدخل في برنامج غايوس قيصر حملة على البلاد العربية،39 وهو أمر مستبعد؛ لأنه لا يتفق وامتناع أوغوسطوس عن التوسع، ولا سيما في «العربية السعيدة» بعد خبرة آليوس غالوس، ولعل الهدف كان «العربية الصخرية Arabia Petraea» لاستخفاف حكومتها بولائها لرومة.40

ويلاحظ أن وصول جيش روماني إلى جنوب الجزيرة العربية بقيادة آليوس غالوس، وإقامة حكومة قوية في مصر، سهَّلا نقل السلع عبر البحر الأحمر إلى مصر والمتوسط، وشجعا الملاحة في البحر الأحمر والخروج من باب المندب إلى المحيط الهندي، ولكننا نجهل ما إذا كان أوغوسطوس أنشأ أسطولًا في البحر الأحمر لحماية السفن الماخرة فيه؟ وجل ما نعلم، هو أن مثل هذا الإجراء لم يُتخذ قبل عهد تريانوس.

(١٢-٤) هيرودس يهلِّن اليهود

ولم يكن هيرودس يهوديًّا إسرائيليًّا حشمناويًّا — كما سبق وأشرنا — وإنما كان يهوديًّا أدوميًّا عربيًّا، لا يرى في ابتعاد اليهود عن حضارة العصر مصلحة لهم، وكان سياسيًّا بالفطرة يحب المواصلة ويخشى القطيعة، ويسعى لتمكين أواصر الألفة بين اليهود وبين رومة، والرومانيين أسياد العالم المتمدن آنئذٍ، وقال الرومان بالمدنية الهلينية السائدة، فرغب هيرودس في تهلين جماعته؛ ليضمن عطف رومة، ويحافظ على استقلال بلاده وقيامها بدور المملكة الموالية التي تعطي قيصرًا ما له وتبقي لليهود ما لهم، وكان قد ضرب وجوه المعارضة في السنة ٤٧ ضربة قاضية، فقتل منهم خمسة وأربعين وجيهًا وصادر أملاكهم، وأغرق في السنة ٣٤ أرسطوبولوس الصغير الكاهن الأعظم، ثم أمر بإعدام هيركانوس الكاهن الأعظم السابق في السنة ٣٠ كما سبق وأشرنا، وفي السنة ٢٩ أمر بمريم زوجته الحشمناوية فقُتلت، وأُلحق بها أمها ألكسندرة في السنة ٢٨، ومال إلى الصدوقيين، وجعل أحدهم «سمعان بن بويثيوس Boethius» الإسكندري كاهنًا أعظم وتزوج بنته، فأيد الصدوقيون برنامج هيرودس الإصلاحي، وسعوا معه إلى التعاون مع رومة وتقبل الحضار الهلينية والابتعاد عن الأخذ بظاهر نصوص الناموس والتقيد بها.
وهكذا، فإننا نرى السينذرون يتحول من مجمع دولة ثيوقراطية إلى مجلس ملكي، فينظر مع الملك في الشئون الإدارية والسياسية، وتنحصر صلاحيات الكهنة في النظر في الأمور الدينية فقط، ونرى بلاط هيرودس يضم «الأقرباء والرفقاء والأصدقاء» كما كان يجري في دور الحكم الهلينية، ونرى بعض الوظائف الكبرى تسند إلى يونانيين، أو متهلنين من غير اليهود، وتُسَك النقود فتحمل الكتابات اليونانية وتهمل التقاليد العبرية، ويؤم العاصمة عدد من رجال الفكر اليوناني لتثقيف هيرودس نفسه ولتهذيب أولاده، وقد سبقت الإشارة إلى نيقولاوس الدمشقي وتعاونه مع هيرودس، ولكن لا بد من الإشارة إلى مقدم رجال البيان اليوناني «إيريناوس Irenaeus» و«أنذروماخوس Andromachus» و«عميلوس Gemellus»، الذين عنوا بأبناء هيرودس، وعاونوا في خلق جو من الفكر اليوناني في عاصمة اليهود، وكان هيرودس يقول في أثناء هذا كله: أنه يشعر في قرارة نفسه أنه أقرب إلى اليونان منه إلى اليهود،ومن هنا، تدوين ذكرياته باللغة اليونانية، ومن هنا أيضًا، إرسال بعض أولاده إلى رومة وإقامتهم فيها، وشيد هيرودس المسارح والملاعب وميادين السباق على الطريقة اليونانية، ورحب بالضيوف اليونانيين وأكرمهم، ومن هؤلاء «افريكلس Eurycles» الإسبارطي.41
وحرص هيرودس على إبقاء جيشه خاليًا من العناصر اليهودية الفلسطينية، ولم يقبل اليهود في صفوف هذا الجيش إلا إذا كانوا من «يهود الشتات Diaspora»، ولا سيما البابليين منهم، ولكن معظم جنوده كانوا إما من العرب الأدوميين، وإما كلتيين وتراقيين وألمان، وإما من أبناء المدن اليونانية، ولعله استعان بخبرة مدربين رومانيين، ولعله لم يفعل، ولكن لا يختلف اثنان — فيما نعلم — في كثرة الموظفين الحكوميين اليونانيين، نظرًا إلى الاحتجاج الشديد الذي ظهر ضدهم عند وفاة هيرودس.42
وأنفق هيرودس بسخاء للدعاية في الأوساط اليونانية والهلينية في اسبارطة وأثينة وفي رودوس، حيث أعاد بناء هيكل أبولون، وفي خيوس وبرغامة واللاذقية وطرابلس وجبيل وصيدا وصور وعكة وعسقلان ودمشق، وأعاد رصف الشارع الرئيس في أنطاكية، وأنشأ الأروقة على جانبيه، ولما رأى محبة أوغوسطوس لبيروت سعى إلى تحسينها، فقد روى يوسيفوس في تاريخ الحرب اليهودية43 أن هيرودس شيد في بيروت النوادي الواسعة والأروقة الرحبة والهياكل والأسواق والحمامات والمخازن، وقبل أن يكون مدير الألعاب agonothetes الأولومبية فخصص مبلغًا من المال لها، وتشفع لجزيرة خيوس «ولإليوم Ilium» لدى أغريبة.
وتجلى ولاء هيرودس لرومة — ولا سيما لأوغوسطوس وذويه — في مناسبات عديدة، منها تبرعه بسخاء لإنشاء «مدينة النصر Nicopolis» في ميدان أكتيوم، ومنها إنشاء «مرفأ أوغوسطوس Portus Augusti» في قيصرية فلسطين، ومنها تعميم إكرام أوغوسطوس في معابد المدن غير اليهودية، وتشييد هيكل خصوصي لهذه الغاية في سبسطية فلسطين،44 وتنظيم الألعاب الأوغوسطية في أورشليم نفسها، ومنها أن هيرودس اتخذ لنفسه لقب صديق الإمبراطور وصديق الرومانيين، وأوجب تقديم اسم الإمبراطور على اسمه في قَسَم الولاء له.45

(١٢-٥) حقد كمين

وتوقع هيوردس مقاومة من المعارضة، فحاذرها وأنشأ شبكة من القلاع والحصون وشحنها بجنوده المرتزقة، وأهم هذه القلاع حصن حسبان، حشبون الأسفار، في شرق الأردن، وحصن «جابة Gaba» في الجليل، وحصنان مجهولا الاسم، أحدهما في البثنية، والآخر في اللجا، وحصن «المكاور Machaeros» بالقرب من بحر الميت في شرق الأردن، وحصن «الإسكندرويون Alexandrion» في غرب الأردن وشمال أريحا، والهيروديتين، إحداهما على بعد بضعة كيلومترات عن بيت لحم وفي جنوبها، والأخرى عند حدود الأنباط في شرق الأردن، وقبرص حصن أريحا والمسدة المطلة على البحر الميت عند صبة الحديثة، وأورشليم بأسوارها وقلاعها، ويجوز اعتبار سبسطية السامرة الجديدة التي جدد بناءها هيرودس في السنة ٢٧، وقيصرية الساحل، التي بدأ إنشائها في السنة ٢٢ مدينتين عسكريتين أيضًا.46
وأدركت عناصر المعارضة هذا الواقع، ولمست عطف رومة على هيرودس وتأييدها له لمس اليد، فطوت صدورها على ضغن وحزازة، فباتت تتربص وترتقب، ولا سيما وأنه لم يكن لديها شخص حشمناوي يمكن الاعتماد عليه، وكان هيرودس قد تزوج بيهودية عادية اسمها «دوريس Doris»، فرُزق ابنًا أسماه أنتيباتروس على اسم جده، ثم تزوج مريم الحشمناوية، فولدت له ألكسندروس وأرسطوبولوس و«سلمبسيو Salampsio» وقبرص، وولدًا آخر مجهول الاسم، وتزوج بعد ذلك مريم الصدوقية بنت الكاهن الأعظم سمعان بن بويشيوس، فجاءه منها هيرودس الثاني، وتزوج من «ملثقة Malthace»، فولدت أرخيلاوس وأنتيباس وأوليمبياس، وتزوج كذلك بكليوبترة، فولدت فيليبوس، وﺑ «بالاس Pallas»، فولدت «فسائيل Phasaelus»، وﺑ «فيدرة Phaedra»، فولدت روكسانة، وﺑ «إلبيس Elpis»، فولدت سلومة،47 فتحاسدن وتناظرن وتخالفن، وعلت الأصوات واشتد الضجيج.
وأرسل هيرودس في السنة ٢٣ق.م. ألكسندروس وأرسطوبولس ابني مريم الحشمناوية إلى بلاط الإمبراطور في رومة، فأظهر بذلك رغبته في أن يخلفاه، فتلظَّت الأكباد حسدًا، وكثر القيل والقال، فأدرك هيرودس أن لا بد من تقسيم ملكه، فعيَّن في السنة ٢٠ق.م. أخاه فيرور تتراخًا على «بيرية Peraea» في شرق الأردن، ولعله رمى إلى تقسيم المملكة إلى إمارات وإقامة كل من أولاده تتراخًا على واحدة منها، شرط خضوعهم لأحدهم يتمتع بعده بلقب ملك، ولكن ما كاد ألكسندروس وأرسطوبولس يعودان من رومة في السنة ١٧ق.م. ويتزوجان، حتى شكاهما فيرور عمهما وسلومة عمتهما واتهماهما بالصلف، فأعاد هيرودس زوجته الأولى درويس وابنها أنتيباتروس إلى البلاط، وألحق هذا بأغريبة لدى عودته من أورشليم إلى رومة، وأبقاه فيها مشيرًا بذلك إلى تقدمه على جميع إخوته، ففارت قِدرُ الأخوين ألكسندروس وأرسطوبولس، ورعف أنف أنتيباتروس ونَصَبَ الحبائل من رومة، وأقنع والده أن أخويه من مريم الحشمناوية كانا يتآمران عليه، فشكا هيرودس ابنيه إلى أوغوسطوس، وحوكما في «أكويلية Aquilea» في السنة ١٢ق.م.، وتدخل أوغوسطوس شخصيًّا في الأمر، وأصلح بين الابنين ووالدهما، وتم الاتفاق على أن يصبح الأخوة الثلاثة ملوكًا بعد وفاة والدهم، شرط تقدم أنتيباتروس على الآخرين، أي أن يكون الأول بين متساوين، ثم تخشن صدر هيرودس على أخيه فيرور؛ لأنه أراد أن يزوجه إحدى بناته، ولكن فيرور لم يبتعد عن إحدى خليلاته، وتواصل فيرور وألكسندروس بن مريم الحشمناوية، واتُهما بالتآمر على شخص الملك، ولولا تدخل أرخيلاوس ملك قبدوقية وحمو ألكسندروس لكانت العاقبة وخيمة.
وشوَّهت هذه المشاكل إلى أوغوسطوس وجوه آماله، وجاءت السنة التاسعة قبل الميلاد، فإذا بهيرودس يجرد حملة على الأنباط؛ ليقتص من سلاوس وزيرهم، الذي آوى بعض العصاة من منطقة اللجا، وماطل في دفع دين السنة ١٢ق.م.، وأوغر سلاوس صدر أوغوسطوس، فأنذر هذا هيرودس بأن عهد الصداقة ولَّى، وأنه أمسى يعتبر هيرودس تابعًا خاضعًا لا صديقًا متعاونًا، فهبَّ نيقولاوس الدمشقي يسترضي أوغوسطوس بما أوتي من فصاحة ولباقة، وعاون الحارث الرابع نيقولاوس في ذلك؛ لأنه لم يرضَ عن سلاوس وزير عبيدة الثالث، فتحسنت العلاقات بين هيرودس وبين أوغوسطوس، ولكن المياه لم تعد إلى مجاريها القديمة، وعلى الرغم من جعل قسم الولاء لشخص الإمبراطور إجباريًّا في حوالي السنة ٨-٧ق.م.، فإن أوغوسطوس ظل يقول: إنه يفضل أن يكون أحد خنازير هيرودس من أن يكون ابنه!48
وجاء «إفريكلس Eurycles» الإسبارطي في السنة ٧ق.م.، فكشف عن مؤامرة جديدة كان يحيك حبالها ألكسندروس وأرسطوبولس، ولدا هيرودس، ولمس أوغوسطوس صحة الادعاء، فسمح بالتحقيق والمحاكمة، شرط أن يتم ذلك خارج حدود هيرودس في بيروت، وشرط أن يشترك قضاة رومانيون في ذلك، فتألف مجلس لهذه الغاية في بيروت برئاسة «سترنينوس Saturninus» الوالي، ونظر في شكوى هيرودس، وحقق فجرَّم ابنيه وحكم عليهما بالإعدام، فظهرت علائم التمرد في بعض الأوساط العسكرية، فأسرع هيرودس وأعدم ابنيه في سبسطية، وأمر بدفنهما في الإسكندريون.49

(١٢-٦) الفريسيون والولاء لأوغوسطوس

ولم يرضَ الفريسيون عن قسم الولاء لأوغوسطوس، وامتنع ستة آلاف منهم عن القسم، ففرض هيرودس عليهم جزاء نقديًّا، فدفعته عنهم امرأة أخيه فيرور! فأقام هو النسر الروماني فوق مدخل الهيكل الرئيس،50 وكان النسر في سورية المجاورة شعار بعليم السوري، فازداد حنق الفريسيين واشتد كيدهم، وبعد أن قضى هيرودس على أخيه فيرور (٥ق.م) وابنه أنتيباتروس (٤ق.م)، هجم جماعة من الفريسيين على النسر الروماني، واقتلعوه من مكانه فوق مدخل الهيكل، فأمر هيرودس بهم فأحرق بعضهم أحياء، وقُتل غيرهم، وقُبض على آخرين وحجزوا في محل سباق الخيل في أريحا لتأمين وصول الخلف هيرودس أرخيلاوس إلى العرش بعده، وهو ابنه من زوجته ملثقة، وتوفي هيرودس الكبير في ربيع السنة ٤ق.م.، ودُفن في اليهودية بالقرب من بيت لحم عند حدود برية اليهودية.51

(١٣) الاكتتاب المسكوني

ورغب أوغوسطوس رغبة أكيدة في سلم روماني دائم حقيقي، وعلم العلم اليقين أن الولاة والملتزمين والعشارين كانوا يُثقلون كاهل السكان في الولايات فيبتزون المال ابتزازًا، فرأى أن يحصي سكان الولايات، وأن يتعرف إلى مواردهم؛ ليعلم مقدار ما يجب أن يفرض من ضرائب،52 فأمر بإحصاء شامل دقيق في غالية في السنة ٢٧ق.م.، وقام بذاته إليها ليشرف على أعمال الإحصاء (١٦–١٤ق.م)، وأجرى مثل هذا في إسبانية وولايات الدانوب وسائر ولايات الدولة.53
وعني العلماء عناية خصوصية بالإحصاء، الذي جرى في فلسطين لورود خبره في إنجيل لوقا، ولارتباطه بمولد السيد المسيح، فقد جاء في الفصل الثاني من إنجيل لوقا؛ أنه في تلك الأيام صدر أمر من أوغوسطوس قيصر بإحصاء جميع المسكونة (أي الإمبراطورية الرومانية)، وأن الإحصاء الأول جرى إذ كان كيرينيوس واليًا على سورية، وأن الجميع أخذوا ينطلقون كل واحد إلى مدينته؛ لكي يكتتبوا، وأن يوسف صعد أيضًا من الجليل من مدينة الناصرة إلى اليهودية إلى مدينة داود التي تدعى بيت لحم؛ لأنه كان من بيت داود ومن عشيرته؛ لكي يكتتب مع مريم امرأته التي كانت حبلى، وأنه فيما كانا هناك تمت أيام وضعها فولدت ابنها الوحيد، وجاء ليوسيفوس المؤرخ اليهودي المعاصر أن «كيرينيوس Cyrenius» الشيخ الروماني كان قد تولى عدة مناصب قبل منصب القنصلية، وأنه كان رجلًا وقورًا جدًّا، وأنه جاء سورية مع آخرين بأمر من قيصر؛ ليتولى القضاء في سورية، وليحصي مع غيره مادة السوريين، وأن «كوبونيوس Coponius» أُنفذ معه؛ ليتولى السلطة على اليهود،54 وذكر تكيتوس المؤرخ الروماني الذي دوَّن في أوائل القرن الثاني أن كيرينيوس دوَّخ الهومانيين، وأنه كان مستشار غايوس قيصر في حملته على أرمينية.55
والثابت الراهن، هو أن كيرينيوس تولى القنصلية في السنة ١٢ق.م.، وأنه قام بعد ذلك في حوالي السنة ٩ق.م. إلى جبال سورية لتدويخ الهومانيين، وأنه كان مستشار غايوس قيصر في الشرق بين السنة ١–٣ب.م.، وأنه تولى ولاية سورية في السنة ٦ب.م.، «السنة السابعة والثلاثين بعد أكتيوم».56
ومما يُقره العلماء اليوم، أن أوغوسطوس أمر بإحصاء مسكوني شمل جميع الولايات بين السنة ١٢ والسنة ٧ قبل الميلاد،57 وأن الإحصاءات توالت بعد ذلك مرة في كل أربع عشرة سنة، فتم واحد آخر منها في فلسطين في السنة ٦ب.م.، وغيره في السنة ٢٠ب.م.، والسنة ٣٤ب.م.، والسنة ٤٨ب.م.، وهكذا دواليك، حتى السنة ٢٠٢ب.م.58 ومن الثابت في الأوساط العلمية أيضًا أن بعض ولاة رومة تولى الولاية نفسها أكثر من مرة، وأن مثل هذا حدث في ولاية سورية،59 وأن أكثر من واحد تولوا الولاية نفسها في وقت واحد،60 ومما لا يجوز إغفاله قول ترتليانوس: أن «سنتيوس سترنينوس Sentius Saturninus» أشرف على أعمال الإحصاء في فلسطين وقت ولادة المسيح.61
فلا تُستَبعد — والحالة هذه — الإمكانيات التالية: أن يكون كيرينيوس قد تولى الولاية مرتين، الأولى بالتعاون مع سترنينوس (٩–٦ق.م)، وأن يكون المعنى المقصود في نص لوقا هكذا: «وكان هذا هو الإحصاء الأول، الذي جرى حينما كان كيرينيوس واليًا على سورية»، وذلك للتأكيد أن لوقا كان يعلم أنه تم إحصاء ثان في عهد هذا الوالي في السنة ٦ بعد الميلاد، ويلاحَظ هنا فرق بين الترجمة اليسوعية البيروتية وبين الترجمة الأرثوذكسية الأورشليمية، وأن هذه أقرب كثيرًا إلى النص اليوناني من تلك، ومن هذه الإمكانيات أيضًا، قول السر وليم رمزي: أنه من الممكن أن يكون كيرينيوس قائد الحملة على قبائل هومانة قد فُوِّض إجراء أمور أخرى في الشرق، فلما ارتاح إلى نتيجة أعماله الحربية في جبال اسورية (٨ أو ٧ق.م.)، تولى الإشراف على الإحصاء في فلسطين، نظرًا لصعوبة مراس اليهود.62
ومما يعاون على التثبت من تاريخ هذا الإكتتاب المسكوني الإشارة إلى النجم الذي هدى المجوس من المشرق إلى فلسطين في السنة التي وُلد فيها المسيح، فقد قال أوريجانس الإسكندري (١٨٥–٢٥٤ب.م.) في مقاله الثاني ضد كلسوس: إن هذا النجم كان من ذوات الأذناب، هدى الله به المجوس إلى المخلص، والله يهدي من يشاء بما يشاء بظاهرة طبيعية، وبظواهر غير طبيعية، فإذا ما اعتبرنا هذا النجم ظاهرة طبيعية، وعدنا إلى الحسابات الفلكية الدقيقة، قلنا مع كبلر وعلماء اليوم: أن «المشترى Jupiter» و«زحل Saturn» اقترنا في السنة السابعة قبل الميلاد ثلاث مرات، مرة في التاسع والعشرين من آيار، ومرة في التاسع والعشرين من أيلول، ومرة في الرابع من كانون الأول، وقلنا: إن المريخ اقترن معهما في شباط السنة التالية، فتألق في سماء الشرق مثلث منير مبهج يلفت الأنظار ويحير العقول، وقلنا أيضًا: أن هذا الحدث الفلكي النادر تمَّ في برج الحوت، الذي كان يدعى عند المنجمين الأقدمين «بيت إسرائيل»، فأثار الدهشة في المشرق، ووجه الأفكار نحو فلسطين.63
ولا يخفى أن الراهب الروماني «ديونيسيوس Dionysius Exeguus»، الذي اقترح في السنة ٥٣٣ بعد الميلاد العدول عن التأريخ من تأسيس رومة، والاستعاضة بالتأريخ من مولد المسيح لم يكن مستعدًا استعدادًا كافيًا لضبط السنة التي وُلد فيها المسيح، فإنه اعتمد بُسُط اقليمس الإسكندري،64 حيث قرأ أن المسيح وُلد في السنة الثامنة والعشرين من ملك أوغوسطوس، حينما صدر الأمر بإجراء الاكتتاب الأول، ولما كان أوغوسطوس قد اتخذ هذا اللقب في السادس عشر من كانوا الثاني من السنة ٧٢٧ لتأسيس رومة، فإن ديونيسيوس جعل مولد السيد يقع في مطلع السنة ٧٥٤ لتأسيس رومة، وفاته ما رواه اقليمس قبل ذاك عن حكم أوغوسطوس، حيث قال: إنه حكم ستة وأربعين عامًا وأربعة أشهر ويومًا واحدًا، وأنه لو عدنا القهقرى من تاريخ وفاة أوغوسطوس في التاسع عشر من آب سنة ١٤ب.م.، ثمانية وعشرين عامًا نجد أنفسنا عند بدء حكم أوغوسطوس في الثامن عشر من نيسان سنة ٣٣ق.م.، وأنه لو بدأنا من هذا التاريخ لوقع بدء العام الثامن والعشرين من حكم أوغوسطوس في الثامن عشر من نيسان سنة ٦ قبل الميلاد.

(١٤) اليهودية ولاية رومانية

وما كاد يخلو مكان هيرودس، ويتولى أرخيلاوس بن ملثقة الحكم بعده حتى نشب نزاع بين أرخيلاوس وبين أخيه أنتيباس، فطالب هذا بتنفيذ وصية سابقة كان أبوه هيرودس قد عينه فيها ملكًا بعده، فوكل أرخيلاوس الدفاع عن حقوقه إلى نيقولاوس، وأنفذه إلى رومة لهذه الغاية، ووعد اليهود بعفو عام وبتخفيض الضرائب، ولكن الجماهير لم ترضَ بهذا فقط، بل طالبت بتسريح اليونانيين من وظائفهم، فأمسى فصح السنة ٤ق.م. فصحًا صاخبًا، وقام وفد إلى رومة يطالب بإلغاء المملكة وإعادة المشيخة الثيوقراطية في ظل رومة،65 ولكن أوغوسطوس آثر التجزئة، فجعل أنتيباس تترارخوسًا مستقلًّا على الجليل والبيرية في شرق الأردن، وأقام فيليبوس أخاه تترارخوسًا مستقلًّا على الجولان واللجا والبثنية وبانياس، ونُزع لقب الملك على أرخيلاوس، وجعله أثنارخوسًا على اليهودية وأدوم والسامرة، وسلخ غزة و«أم قيس Gedara» و«فيق Hippos»، وضمها إلى ولاية سورية؛ ليرضي سكانها المتهلنين، ويخرجهم خارج حكم اليهود.
ولما عاد الوفد المفاوض في رومة فارغ اليدين، غضب اليهود وتفجروا في عدة أماكن، فاضطر أوغوسطوس أن يأمر «فاروس Varus» والي سورية بالزحف على فلسطين وإخماد الفتنة فيها، فقام فاروس في صيف السنة ٤ق.م. على رأس فرقتين إلى عكة، واستعان بألف وخمسمائة مقاتل من بيروت، وبعدد من الأنباط العرب، وزحف على الجليل واليهودية، فصلب ألفين وأرسل زعماء الفتنة إلى رومة، ونفذ رغبة أوغوسطوس فأعاد كلًّا من أولاد هيرودس إلى إمارته،66 ولكنهم ظلوا يتساترون العداوة، ولا سيما أرخيلاوس وأنتيباس، فأضاف كل منهم اسم هيرودس إلى اسمه، فعُرف الأول بهيرودس أرخيلاوس، والثاني بهيرودس أنتيباس، ولم يحسن هيرودس أرخيلاوس السياسة، ولم يتمكن من استرضاء الجماهير، وتزوج من «غلافيرة Glaphyra» أرملة أخيه ألكسندروس، فخالف الناموس وزاد الطين بلة؛ لأنها كانت قد ولدت لأخيه أولادًا، وكانوا لا يزالون في قيد الحياة، وثبت ضعف هيرودس أرخيلاوس لدى أوغوسطوس، فلما أمَّ رومة في السنة ٦ب.م. وفدان يهودي وسامري، وطالبا بإلغاء المملكة، وافق أوغوسطوس، ونفى هيرودس أرخيلاوس إلى فيينة، فغالية، وجعل اليهودية وأدوم والسامرة ولاية رومانية يحكمها «محصل procurator»، يتمتع بصلاحيات الموت والحياة ius gladii، ثم استثقل اليهود الحكم الجديد، فعادوا يسعون لإحياء المملكة الهيرودية، وانتظم بعضهم لهذه الغاية فعُرفوا بالهيرودوسيين، وهؤلاء هم الذين أشار إليهم متى (٢٢: ١٦) ومرقس (٣: ٦ و١٢: ١٣)، الهيرودوسيون الذين أرسلهم الفريسيون إلى المسيح ليصطادوه بكلمة، وهم الذين تآمروا مع الفريسيين ليهلكوه.

(١٥) المحصلون الرومانيون

وتولى إدارة الولاية الجديدة «كوبونيوس Coponius» أولًا (٦–٩ب.م.)، ثم «مركوس أمبيوس Ambivius» (٩–١٢)، ﻓ «آنيوس روفوس Annius Rufus» (١٢–١٥)، ﻓ «فاليريوس غراتوس Valerius Gratus» (١٥–٢٦)، ﻓ «بونطيوس بيلاطوس Pontius Pilatus» (٢٦–٣٦)، ﻓ «مركلوس Marcellus» (٣٦–٣٧)، ﻓ «مرولوس Marullus» (٣٧–٤١).

هوامش

(1) MACC., I, 1:12-13.
(2) ESTER, 3:8.
(3) MACC., I, ch. 2.
(4) MACC., I, 1:46–56, ch. 2.
(5) JOSEPHUS, Ant., 13; ABEL, F.M., Hist. de la Palestine, I, 232–234.
(6) JOSEPHUS, Ant., 13; ABEL, F.M., op. cit., I, 239–242.
(7) PEROWNE, S., Life and Time of Herod the Great, (1957), 19–23.
(8) MACC., I, 8:12–23.
(9) GINSBURG, M., Rome et la Judie, (1928), 26, 40, 78 ff.; JOSEPHUS, Bell. Jud., 1:120–122; App., Mithr., 106; DIO CASS. 37:15.
(10) JOSEPHUS, Ant. Jud. 14:29–33, 34–36, 53–59; Bell. Jud., I, 134–140; DIO CASS., 37:16; PLUTARCHUS, Pomp. 39.
(11) JOSEPHUS, Ant. Jud., 14:73, Bell. Jud., 1:153; DIO CASS. 37:16.
(12) APP., Syr., 51; JOSEPHUS, Ant. Jud., 14:79–85; ARETAS III, Real-Encyc.
(13) PEROWNE, S., Life and Times of Herold the Great, 37–39.
(14) CICERO, Att. 5:20, 12:6, Red. Sen., Sest., Prov. Cons.; CAESAR, Bell. Alex. 41–43; PLUTARCHUS, Pomp. 25; STRABO, 796.
(15) JOSEPHUS, Ant. Jud., 14; DIO CASS. 40–47; TYRRELL and PURSER, Corresp. Of Cicero, VI, 102–108; DRUMANN-GROEBE, Gesch. Roms., II.
(16) DIO CASS. 42:7–44; JOSEPHUS, Bell. Jud., I, 187–194, Ant., 14; GRAINDER, La Guerre d’Alexandrie, (1931).
(17) JOSEPHUS, Bell. Jud., I, 194–201, Ant. 14; JUSTER, Les Juifs dans d’Empire Romain, I, 138–140; ABEL, F.M., Hist. de la Palestine, I, 307–313; PEROWNE, S., op. cit., 41–44.
(18) SCHURER, E., Gesch. des Judischen volkes im zeitalter Jesu Christi, II, 188–214; SCHMIDT, J., Synedrium, Lex Theol. Kirche, (1937) IX, Cols. 940–943.
(19) JOSEPHUS, Ant. 14, Bell. Jud. I, 203:–212; ABEL, F.M., op. cit., I, 315-316; PEROWNE, S., op. cit., 46–47.
(20) “Alchaudonius, Alchidamnus”.
(21) JOSEPHUS, Ant. 14, Bell. Jud., I, 227–235.
(22) JOSEPHUS, Ant. 14, bell. Jud., I, 245–247.
(23) CHAFOT, V., Diet. des Antiq., V, 163; V, 163; DOBSCHUTZ, Real-Encyc.
(24) CHAFOT, V., Diet. des Antiq., V, 163; V, 163; DOBSCHUTZ, Real-Encyc.
(25) JOSEPHUS, Ant., 14, Bell. Jud., I, 327–347; ABEL, F.M., op cit., I, 344–346; PEROWNE, S., op. cit., 59–65.
(26) DIO CASS., 49:24–31; PLUT., Ant., 37–50; JOSEPHUS, Ant. 15, Bell. Jud. I, 360.
(27) JOSEPHUS, Ant. 15, Bell Jud., I, 431–444; ABEL, F.M., op. cit., I, 347–350; PEROWNE, S., op. cit., 66–73.
(28) JOSEPHUS, Ant. 15, Bell Jud., I, 365–369; Plut., Ant. 61.
(29) JOSEPHUS, Ant., 15, Bell. Jud., I, 386–397.
(30) PATSCH, C., Zu Nicolous von Damascus, Wien St., 1890, 231; WITTE, K., Die Nicolai Damasceni Fragmentorum Romanum Fontibus, (1900).
(31) KAMMERER, A., Petra et la Nabatène, I, 177.
(32) MEYER, E., Berliner Philologische wochenschrift, 1907, col. 462; Orro, W., Herodes, Real-Encyc., Supl. II, col. 67 n.
(33) STRABO, 16:780–782; PLIN., N.H., 6:160 ff.
(34) PLIN, N.H., 6:162. 101, 12:63–65.
(35) KAMMERER, A., op. cit., I, 201–204.
(36) ANDERSON, J., Romans and Arabia, Cam. Anc. Hist., X, 250-251.
(37) STRABO, 16:779.
(38) Periplus maris Erythraeri, 23; Cam. Anc. Hist., X, Appendix 6, 881-882.
(39) PLIN., N.H., 2:168, 6:141, 160, 12:55-56, 32:10.
(40) DESSAU, Gesch. der Rom. Kaiserzeit, I, 379 f.; KAMMERER, A., op. cit., I, 205-206.
(41) Orro, W., Herodes, Real-Encyc.; CORRADI, G., Studi Ellenistici, 231–255; WILLRICH, H., Das Haus des Herodes Zwischen Jerusalem und Rom; JOSEPHUS, Ant., 15, 17, 19.
(42) NICOL. Damasc. frag. 136, 8 (Jacoby) — Cam. Anc. Hist., X, 327 n. 6.
(43) JOSEPHUS, Bell. Jud., 21:11.
(44) HARVARD Excav. at Samaria, I, 170 ff.
(45) JOSEPHUS, Ant., 15:10, 17:2; SCHURER, E., Gesch. d. jud. Volkes, I, 399; Orro W., op. cit., cols. 61-62.
(46) SCHULTEN, A., Mesada, Zeit Deutsch. Palest. Ver. 1933; MOMIGLIANO, A., Herod of Judaea, Cam. Anc. Hist., X, 327-328.
(47) Cam Anc. Hist., X, Genealog. Table of Family of Herod.
(48) MACRABIUS, Sat., 2:4.
(49) PEROWNE, S., op. cit., 158–166.
(50) JOSEPHUS, Ant. 17–6.
(51) PEROWNE, S., op. cit., 173–175.
(52) GREENIDGE, A.H.J., Census, Ox. Class. Dict.
(53) STEVENSON, J.H., Cam. Anc. Hist., X, 129–194.
(54) JOSEPHUS, Ant., 18:1.
(55) TACITUS, Ann. 3:48, JACKSON TRANS., II, 597–599.
(56) JOSEPHUS, Ant., 18:2.
(57) CORBISHLY, Quirinius and the Census, Klio, 1936, 89–91; ABEL, F.M., Hist. Palest., I, 415.
(58) Oxyrhynchus Papyri, II, 207, 209–211.
(59) SCHURER, E., op. cit., I, 354, n. 25.
(60) JOSEPHUS, Ant., 16:10.
(61) TERTULL. Con. Marc., 4:19; ANTE-NICENE FATHERS, III, 378.
(62) RAMSAY, W.M., Was Christ Born at Bethlehem, 238.
(63) THE Star of Bethlehem, Alder Planetarium, Chicage; The Chistmas Star, Morrison Planetarium, California, Academy of Sciences, San Francisco.
(64) STROMATA, 1:21.
(65) ASSUMPTIO Mosis, ch. VI; CHARLES, R.H., Apocrypha and Pseudoepigrapha, II, 41; Book of Enoch (Ethiopie), ch. 103; MOMIGLIANO, A., HEROD, Cam. Anc. Hist., X, 337-338.
(66) JOSEPHUS, Ant., 17, Bell. Jud., 2:16–19, 39–54, 101–110; ABEL, F.M., op. cit., I, 411–414.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤