مقدمة

هذا كتاب في فن التَّرجمة؛ والفنون هي الشِّعاب والطرائق، وهي أيضًا مجالات الإبداع والحِذْق المألوفة، وربما احتاج من يَلِجها إلى مقدمة تنير له السَّبيل. وهكذا فإن الكتاب موجَّه إلى حديث العهد الذي يضع قدميه على هذا الطريق لأول مرة، وأعني به من يحيط باللغتين (العربية والإنجليزية) إحاطةً مقبولة، ولكنه لم يكتسب بعدُ الخبرةَ الكافية بدقائق المضاهاة بين اللغتين. وأتصور أن يفيد منه ممارسو الترجمة الصحفية والترجمة العامة الذين ما زالوا في بداية الطريق.

أما زملائي من المترجمين المحترفين الذين تمرَّسوا بهذا المجال، فربما اختلفوا معي في مفاهيم الترجمة التي ارتضيتها؛ بل ربما كانت لهم آراءٌ مناقضة لآرائي في الأساليب المختلفة لتناول النصوص العربية أو الأجنبية. فالترجمة بطبيعتها علم خِلافي؛ ومن ثَم فقد يكون هذا الكتاب حافزًا لهم على إصدار كتب يساهمون بها في إثراء هذا الحقل الذي كَثُرت فيه الكتب الأجنبية وقلَّت فيه الكتب العربية.

لا يهدف هذا الكتاب إذن إلى أن يكون مرجعًا (حاشا لله)، ولا أن يكون دليلًا عمليًّا manual،١ ولكنه يتضمن بعض حصاد التجارب التي مر بها دارسٌ مارَس الترجمة على مدى عقود ثلاثة، تصدى فيها لشتى ألوان النّصوص، في مجالات كثيرة، وأحس أن لديه بعضَ الآراء التي قد يستفيد منها البعض، وهي آراءٌ في صلب عملية الترجمة لا في النظرية؛ فأنا أترك النَّظريات لعلماء اللغة، وأعتبر أن مادة البحث نفسها ينبغي أن تكون النص (المكتوب أو المنطوق).
وأود أن أسرع بتبيان المنهج الذي اتبعته؛ إذ لا أزعم أنه منهج مستقًى من كتب النحو أو كتب علم اللغة، وكان يمكن أن يكون كذلك، ولكنه مستقًى من المشكلات الواقعية التي صادفتني في عملية الترجمة نفسها. وإذا كنت قد تعرضت لبعضها بالتفصيل، ومررت بالبعض الآخر مرورًا عابرًا، فذلك لا يعني أنني أولي بعضها أهميةً أكبر من البعض الآخر، ولكنه يعني أن بعض المشكلات كانت أكثر إلحاحًا عليَّ في عملي من غيرها، وأنها اقتضت من ثَم مساحةً أكبر في هذا الكتاب.

فمشكلة الترادف مثلًا مشكلة قديمة، وما أكثر مَنْ تناولوها في كتب اللغة والترجمة، وهي مشكلة ذاتُ أهمية حيوية لعمل المترجم، وكان يمكن أن تحتلَّ جانبًا أكبر من الكتاب، ولكن مشاكل الترادف أقلُّ ورودًا على المترجم من مشاكل التركيب؛ ومن ثم حظي التركيب بفصلين كاملَين، وتنوعت طرائق معالجته. بل إن مقارنة النصوص المترجمة سوف تُقنع القارئ بأن مشكلة التركيب جديرة بتخصيص كتاب كامل لها؛ فهي تهيمن على عمل المترجم، ولا تكاد تتخلى عنه أيًّا كان النص الذي يترجمه.

وأخيرًا فلا بد لي من الإقرار بالفضل لمن سبقوني في تناول قضايا الترجمة، وللمترجمين الذين سبقوني في لفت الأنظار إلى ضرورة تناول هذا العلم تناولًا جادًّا، فهو ما زال في طور الشباب في بلادنا، ونرجو أن يبلغ مرحلة النضج في وقت قريب.

والله الموفق.

القاهرة ١٩٩٢م
محمد عناني
١  للمؤلف كتاب آخر في هذه السلسلة بعنوان: دليل المترجم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤