تمهيد

(١) النظرية والتطبيق

لي صديقٌ، من أصدقاء الصِّبا، عرَفت فيه الدَّأب والمُثابرة، ولم أتردَّد يومًا في الإعراب عن إعجابي بنشاطه وحماسه للعلم، وقد تقاذفتنا الأيام فجمعتنا حينًا وفرَّقتنا أحيانًا، وكنا كلما التقينا دار الحديثُ عن موضوعه المفضَّل؛ ألا وهو الترجمة بالكمبيوتر، وهو الهدف الذي يسعى اليابانيون قبل غيرهم إلى تحقيقه. وكان صديقي يقول: «إن هذا الهدف سوف يتحقَّق حين تصبح الترجمة عِلمًا صُلبًا؛ بفضل علوم اللغة الحديثة.» وكان يرسل إليَّ بين الحين والحين قصاصاتٍ من الصُّحف تتضمَّن أنباء تطوير هذه الأجهزة. وقد وعد اليابانيون بإخراج الجهاز الموعود الذي لن تستعصيَ عليه لغةٌ من لغات الأرض عام ١٩٩٥م Generation 5، وإن كانوا لم يتوقَّفوا عن الدعاية لأجهزتهم الحالية، وكان آخرَها جهازٌ جرَّبته السيدة مارجريت ثاتشر، رئيسة وزراء بريطانيا السابقة، أثناء زيارتها لليابان، وإن كانت النتيجة لا تُبشِّر بالخير؛ إذ طلبت من مرافقتها أن تجعل الجِهاز يترجم عبارة مجاملة للطَّعام الياباني مفادها: أن اللَّحم طريٌّ (أي: يسهل مضغه) (The meat is tender)، ولكن الكمبيوتر لم يكن بالمهارة المتوقَّعة فأوقع المرافِقة في حرج شديد، وأثار ضحك الزُّوار؛ لأنه أخرج عبارةً تَعني أن الجسدَ ضعيفٌ (The flesh is weak)، ودلالتها في الإنجليزية عَجْزُ الإنسان أو ضعفه.

وكان صديقي من أصحاب النَّظريات، يهوى ترديد الأفكار المستمَدة من علم اللُّغة، والاصطلاحاتِ التي تبهر السامع بجِدَّتها وغرابتها وما توحي به من تخصُّصٍ وتعمُّق. وكنت دائم الضيق بالنَّظريات، ميالًا إلى التطبيق، حتى جمعتنا منذ سنوات جلسةُ عمل في أحد المؤتمرات؛ حيث عمل كِلانا بالترجمة، ووقع في يده نصٌّ يتضمَّن بعضَ حيل التَّركيب التي لم يأْلفها، وبعضَ الإشارات إلى ما لا يعرف، فلم يحالفه التَّوفيق في إخراج الترجمة المرجوة، وأطلعني على النَّص الذي أخرجه وما دوَّنه المُراجع من تصويبات وتعديلات، فوجدت أن أخطاءه تُعتبر نماذجَ لشتَّى المشكلات التي يصطدم بها اليوم مَن يتصدَّى للتَّرجمة من الإنجليزية إلى العربية، ومن العربية إلى الإنجليزية، ووجدت أنها تصلح رءوس موضوعات للحديث عن هذه المشكلات. وربما كان لهذا الحديث فائدة لدى المهتمين بممارسة الترجمة، وربما لدى من يهتم بالنَّظريات أيضًا، ومن ثَم شرعت في وضع تصوُّر مؤقت لهذا الكتاب.

وأولى الحقائق التي ينبغي أن أؤكدها في هذه المقدمة أن الترجمة فن تطبيقي، وأنا أستخدم كلمة فن بالمعنى العام؛ أي: الحِرفة التي لا تتأتَّى إلا بالدُّربة والمِران والممارَسة استنادًا إلى موهبةٍ، وربما كانت لها جوانبُ جمالية؛ بل ربما كانت لها جوانب إبداعية (وسوف نفصِّل القول في ذلك تفصيلًا عند الحديث عن الترجمة الأدبية)، ومعنى ذلك أنه لا يمكن لأستاذ في اللغة أو في الأدب، أو في كليهما، أيًّا كان حظُّه من العلم بالإنجليزية أو بالعربية (بل أيًّا كان حظُّه من العلم بنظريات اللغة) أن يُخرج لنا نصًّا مقبولًا مترجمًا عن إحدى اللغتين دون ممارسة طويلة للتَّرجمة. فلا توجد في رأيي طرق مختصرة للإجادة في الترجمة، فلا كتبُ المتخصِّصين (مثل Nida‏ وNewmark وغيرهما بالإنجليزية)، ولا الكتبُ العامَّة مثل كتاب «فن الترجمة» لمحمد عبد الغني حسن، أو كتاب الدكتور صفاء خلوصي «فن الترجمة»، أو كتاب إبراهيم زكي خورشيد «الترجمة ومشكلاتها»، ولا هذا الكتاب؛ بمُغنيةٍ عن الممارسة والخبرة.
وأقصى ما نستطيع أن نفعله — نحن المترجمين — أن ننقُل بعض خبراتنا إلى حديثي العهد، وأن نقدِّم لهم بعض الحلول التي اهتدينا إليها أو التي اهتدى إليها جيلُنا، وقد يقبلونها وقد يرفضونها، ولكن المؤكد هو أن هذه الحلول سوف تمَسُّها يد التعديل مع التقدم والتطور الحضاري؛ فبالأمس كان الناس يطلقون بعض الأسماء على بعض الأشياء، واليوم يطلقون عليها أسماءً مختلفة، وبالأمس كانت تشيع تراكيبُ مُعينة، وغدًا ستأتي تراكيبُ جديدة؛ فالحياة التي تتطور تؤثر في الترجمة بالقدر الذي تؤثر به في اللغة. ومن غير المعقول أن نتصور أن يحاول المترجم ترجمة نص حديث يتضمَّن معانيَ جديدةً دون أن يستخدم اللغة المعاصرة التي استُحدثت فيها الكلمات والتَّراكيبُ الجديدة للدلالة على هذه المعاني الجديدة. ولهذا أقول دائمًا إن من حق كل جيل أن يترجم بلغته هو لا بلغة الأسلاف، وقد يطول عمر الجيل الذي أَعنيه فيمتد قرونًا (مثلما حدث في التاريخ العربي)، وقد يَقصُر فلا يتجاوز عَقدًا واحدًا في عمر الحضارة الحديثة التي تلهث من أمامنا مسرعةً لا تتوقف، وهذا ما ذكرته في مقدمة ترجمتي المسرحية «روميو وجوليت»١ من الحاجة إلى إخراج النصوص الأدبية الحية بلغة العصر، ولو اقتضى ذلك ترجمتَها عدة مرات؛ فبالأمس حاول رفاعة الطهطاوي إخراج لغة عربية معاصرة تتَّسع لألفاظ الحضارة، وبذل مع أحمد فارس الشدياق جهودًا رائدةً في هذا المجال، وكانا يترجمان بعدة أساليب أترك دراستها للمتخصصين.٢
والآن لم يَبقَ مما أتيا به إلا أقلُّ القليل، وكذلك شأننا؛ فنحن نقول للمبتدئ إننا نترجم عبارة مثل This will be counter-productive‏ هكذا: «سيكون لهذا تأثير عكسي» (أي: سيأتي بنقيض ما رميت إليه)، ولكن من أدرانا ما سيئول إليه هذا التعبير بعد جيل أو جيلين؟ ولا شك أن الجهود التي بذلتها أقسام الترجمة العربية في الأمم المتحدة ومنظماتها قد رسَّخت كثيرًا من المصطلحات الجديدة، وأتت بحلول كثيرة للمشكلات التي أشرت إليها في بداية المقدمة، ولكن بعض المشكلات لا يزال قائمًا، بل إن بعضها سوف يستفحل مع تقدم العلوم والفنون والآداب، ولقد تخلَّفنا طويلًا عن رَكْب العصر، وعلينا أن نضاعف الجهد حتى نلحق به فنسايره أو نسبقه.
وتنقسم المشكلات التي أعتزم تناولها في هذا الكتاب إلى مشكلات خاصة بالألفاظ lexical، ومشكلات خاصة بالتراكيب Syntactic. وتتضمَّن مشكلاتُ الألفاظ اشتقاقها (derivation, etymology) ومعانيَها ودلالاتها، واختلاف ذلك من سياق إلى سياق. وتتناول مشكلة التراكيب، وهي المشكلة الكبرى، بناءَ الجملة وفنَّ مضاهاة التراكيب في اللغتين، وخصائص الصياغة في العربية والإنجليزية.

وأخيرًا وقبل أن أشرع في البدايات أردِّد ما قاله أحد أصدقائي ممن مارسوا الترجمة عشرات السنين: «ليس على الترجمة سيد.» أي: إن المترجم مهما كانت قدرته ومهارته فهو قطعًا واقعٌ في مشكلة ما، والحَصيف من لا يستنكف عن السؤال والبحثِ عمَّا لا يعرفه، بل وأحيانًا عما يعرفه أو يظن أنه يعرفه (كما سيأتي بيانه)؛ إذ أحيانًا ما تكون الفكرة في النص الأجنبي غامضة في ذهن كاتبها، أو أحيانًا ما يكون قد أساء التعبير عما يريد أن يقوله، ولكن القارئ العربيَّ لن يغفر للمترجم إخراجَه نصًّا غامضًا، ومن ثَم يكون على المترجم أن يبحث عن تفسيرٍ مقنع لما يقرؤه، وأن يطمئن إليه؛ حتى يضمن وضوح الفكرة المترجَمة. وأحيانًا يكون للنِّص الأجنبي من ظلال المعاني ما يجعل ترجمته مستحيلة، ولأضرب مثلًا خطر ببالي وأنا أورِد حادثة تجربة السيدة ثاتشر للكمبيوتر.

إن ما جعل الدمَ يصعد إلى وجنتَي المرافِقة، كما تقول صحيفة The Times؛ هو الإيحاءات الهامشية لكلمة flesh؛ إذ إنها وحدها عندما تُعَرَّف بأداة التعريف (The flesh) تصبح مرادِفةً لرغبات الجسد أو الشهوات الحسية (كقولك: «خطايا الجسد» Sins of the flesh)، وعندما تدخل في تركيبات أخرى من نوع المصطلح الذي سيأتي ذكره، تتخذ معانيَ مختلفةً تمامًا عما رمت إليه رئيسة الوزراء السابقة، وأهمها كما تخطر ببالي ودون ترتيب ‏to go the way of all flesh بمعنى يقضي نحبه؛ أي: يموت (مثلما يموت كلُّ حي) أو it made my flesh creep؛ أي: أفزعني المنظر وهالني كأنما كان شبحًا (أو شيطانًا أو روحًا)، والمعنى أنه جعل جسمي يقشعرُّ؛ إلى جانب المعاني المألوفة للجسم بمعنى الجسد (أو الشخص) ‏in the flesh بمعنى «شخصيًّا» أو flesh and blood؛ أي: لحمًا ودمًا، أو بمعنى الجسد أو الإنسان؛ كقولك: more than flesh and blood can‏ stand؛ بمعنى فوق طاقة البشر، وليس فوق طاقة الجسد فحسب. وهكذا فإن هذه الظلال من المعاني الهامشية كامنةٌ في الكلمة التي أتى بها الكمبيوتر فأحرج الجميع، وهذه لا يمكن أن توحي بها الترجمة العربية مهما كانت دِقَّتُها، وكلما ازداد وعي المترجم بهذه الظِّلال ازدادت حَيرتُه، وازداد احتمال تضحيته بجزء من المعنى، ولكنَّ لهذا حديثًا آخر.

فلنبدأ بتعريف جديد للمترجِم يضعه في موضعه الصحيح، في ضوء علوم اللغة الحديثة وفلسفاتها ونظرياتها التي كثرت، لا لتفترق بل لتجتمع على ما أودُّ أن أقوله. وكلُّ ما أرجوه هو أن يجد فيه العارف تسريةً ومشاركة في تطارح الرأي الدائر حول الترجمة، وربما استفاد منه المبتدئ.

(٢) من هو المترجم؟

المترجم كاتب؛ أي: إن عمله هو صوغ الأفكار في كلمات موجَّهة إلى قارئ، والفارق بينه وبين الكاتب الأصيل هو أن الأفكار التي يصوغها ليست أفكارَه، بل أفكارُ سواه. ومن الغريب أن يكون هذا الفارق مَدعاةً للحطِّ من شأن المترجم في بلادنا؛ على ما في الكتابة بالعربية من صعوبة تثني الكثيرين عن محاولتها، فأنا أرى أن نقل أفكار الغير أعسرُ من التَّعبير عن آراء المرء الأصلية؛ فالكاتب الذي يصوغ أفكاره الخاصة يتمتع بالحرية في تطويع اللغة لتلائم هذه الأفكار، بل وتطويع الأفكار لتلائم اللغة! وأرجو ألا يَدْهَشَ القارئ من هذا القول؛ فالكتابة في العالم المثالي (غير الموجود) هي أفكار تخضع اللغة لها، أما في عالم الواقع فهي أفكار لا تنفصل عن اللغة؛ بحيث يكون من المحال تصورُ الفكرة خارج اللغة أو تصور اللغة بدون الفكرة، فعلاقة المعاني بالألفاظ ليست علاقة الروح بالجسد؛ كما كان نقاد العرب القدامى يقولون، ولكنها علاقة نظرية أو افتراضية (وهي بالقطع تعسُّفية arbitrary)؛ كما يذهب إلى ذلك علماءُ اللغة المحدَثون.
فالكاتب الذي يختار تعبيرًا أو ألفاظًا معينة للإعراب عن فكرة، كثيرًا ما يجد أن التعبير الذي اختاره والألفاظَ التي استخدمها تقدِّم بعض المعاني الأخرى التي لم يكن يرمي إليها، بل ويجد أنه حتى دون أن يشعر قد انساق بفكره إلى مسالكَ جديدة أوحت بها تلك العبارة أو تلك الألفاظ، وربما لم يكن يرمي إليها أصلًا. ولا أريد أن أشغل القارئ بما أورده علماء اللغة في هذا الباب من تشومسكي إلى بارت وليونز (وخصوصًا في علم دلالة الألفاظ semantics)، ولكنَّ الحقيقة التي أشرقت فسطَع نورها حتى لا يكاد ينكرها أحد؛ هي أن اللغة والفكر لا ينفصلان، وليس لكاتب أن يزعُمَ أنه يكتب ما كان يعتزمُ كتابته فقط حين تصدى للكتابة؛ فعملية الكتابة نفسُها عملية استكشاف للأفكار، ووضْع الكلمات على الورق عملية إبداع فكرية لا عملية تجسيد فكري؛ بمعنى أن الكاتب يأتي بأفكار جديدة أثناء الكتابة (أيًّا كانت علاقتُها بالموضوع الأصلي)، ولا يقتصر عمله على تجسيد أفكار مُسبَّقة في كلمات.

أما المترجم فهو محروم من هذه الحرية الإبداعية أو الحرية الفكرية؛ لأنه مقيد بنص تمتَّع فيه صاحبه بهذا الحق من قبل، وهو مكلف الآن بنقل السجل الحي للفكر، من لغة لها أعرافُها وتقاليدها وثقافتها وحضارتها، إلى لغة ربما اختلفت في كل ذلك. والعلمُ بهذا كله ليس أمرًا ميسورًا ومتاحًا للجميع، بل يتطلب سنواتٍ طويلةً من التبحُّر في آداب تلك اللغة، ومع ذلك فهو مطالب بأن يُخرج نصًّا يوحي بأنه كُتب أصلًا باللغة المترجم إليها؛ أي: إنه مطالَب بأن يبدوَ كاتبًا أصيلًا وإن لم يكن كذلك، وهذا مَكمَن الصعوبة الأول والأكبر، ومعنى ذلك هو أن يتسلح المترجم بالقدرة على استخدام الألفاظ والتراكيب لتدلَّ على ما يريده من معانٍ، وليس هذا بمتوفر في معظم من يتعلمون اللغاتِ الأجنبية، بل وليس هذا بممكن دون ممارسة الكتابة الأصيلة سنواتٍ طويلة.

وإذا كان على المترجم أن يجيد فنون الكتابة باللغة التي يكتب بها، فعليه أيضًا أن يجيد فَهْم النصوص التي يترجم منها، ولا يكفي في هذا الاستعانةُ بالقواميس أو بكتب النحو، رغم أنها لا غنَى عنها في هذا الباب، ولكن عليه أيضًا أن يلمَّ بعلوم العصر؛ أي: إن المترجم لا يحتاج فحسبُ إلى معرفة فنون الصياغة اللغوية، بل يحتاج أيضًا إلى الإحاطة بمعلومات كثيرة عن العالم الذي نعيش فيه؛ إحاطة تمنع الجهل وإن لم تكن تُفضي إلى العلم، كما ذكر لي في بداية عملي بالترجمة الأستاذُ إسماعيل شوقي ذاتَ صباح في دار الشعب عام ١٩٥٧م.

ولا يستهيننَّ أحدٌ بما ذكرتُه في هذا الصدد من ضرورة الإحاطة بالمعلومات العامة؛ فالكلمات معلومات، واللغة أفكار، والمترجِم اليوم يتعامل مع لغة الحضارة، وهي لغةٌ تشعَّبت وتفرعت وتعمقت وأصبحت الإحاطة بها إحاطةً كاملةً من المستحيلات؛ أي: لم تعد اللغة عددًا من الكلمات والعبارات والأمثال التي كان أساتذة اللغة العربية في مدارسنا يتَّكئون عليها ويلقِّنوننا إياها؛ كيما يشتدَّ ساعدنا، ونبرعَ في أفانين اللغة؛ فتلك هي ما يطلق عليها الدكتور السعيد بدوي لغةَ التراث، التي تجمَّدت في القوالب والأفكار جميعًا.٣
وهي لغة محدودة بما تُستخدم من أجله، ولكن اللغة العربية المعاصرة (التي يسميها الدكتور بدوي «لغة العصر») هي لغة العلوم الحية، لغةُ العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية الحديثة، وهي لغة لا بدَّ من تطورها (فالتَّطور هو سنَّة الحياة)؛ حتى تواكب حضارة العصر، بل حتى تساهم فيها، وحَدَبُنا على هذا التَّطور ليس حدبًا على اللغة في ذاتها بقدر ما هو حَدَب على فكرنا العربي وثقافتنا العربية؛ إذ لن نستطيع أن ننقُل ما نعتز به من علوم حديثة وآداب حديثة إلا إذا آمنا بما أسميتُه بالعربية المعاصرة. ولن أدخل في تفاصيل طبيعة هذه اللغة، فقد تناولها سواي من المتخصصين، ولكن يكفي للتَّدليل على ما أقول، من ضرورة إلمام المترجم بقدر من المعلومات يمنع الجهل، تسرُّبُ العلوم المعاصرة إلى لغتنا حتى على مستوى الصحافة اليومية؛ أي: الصحافة غير المتخصصة، فلن يستطيع ترجمة ما يأتي في الصحيفة من موضوعات إلا مَن أَلَمَّ بأساسيات اللغة التي أدعو إلى معرفتها؛ إذ لا أتصور أن يُقدِم مترجم على عمله وعلمُه بالعربية مقصور على أسماء الأسد والجمل والخمر والبلح والسَّيف وما إلى ذلك؛ فمهما بلغت فصاحة هذا المترجم، فإنه سيقف عاجزًا أمام اصطلاحات عادية؛ مثل: سعر الصَّرف rate of exchange،‏ والسمسار broker، وبوليصة الشحن bill of lading؛ وما إلى ذلك من اصطلاحات المال والتجارة، أو الاصطلاحات الشائعة في المجالات العلمية الحديثة؛ مثل: الهندسة الوراثية genetic engineering، وطبقة الأوزون ‏ozone layer، أو طبقات الأرض strata، أو معنى الطبقة الفارغة (طبقة الأعيان) (نظرية فبلن) leisure class أو المرأة العاملة working woman‏ وغير العاملة lady of leisure، أو نصرة المرأة feminism، وهو تطوير لمذهب تحرير المرأة القديم emancipation of woman أو الجديد (woman’s lib)،‏ أو الفرن العالي blast furnace، والفروق بين الاصطلاحات القضائية الجديدة مثل: الفرق بين الحَبْس أو السجن imprisonment والاحتجاز لدى الشرطة ‏to be remanded in custody، أو الإفراج بكفالة to be released on‏ ‏bail، أو جرائم السطو المسلح armed robbery، أو التأمين insurance،‏ أو البيان الصحفي press release، وما إلى ذلك من شتَّى ضروب المعاني الجديدة والقديمة. والأمثلة السابقة مأخوذة من صحيفة يومية واحدة، بل ومن صفحتين فقط.
والصحيفة التي في يدي تتناول موضوعاتٍ عسكريةً يقرؤها الجميع، وأعتقد أن غالبية القراء يفهمون ما فيها؛ إذ تذكر ضرورة تسليم المدافع ذاتية الحركة (أي: the need to hand over their self-propelled gunu)‏ والدبابات tanks، والعربات المصفَّحة armoured vehicles، وتشير إلى الصَّواريخ (missiles rockets) ومنصَّات إطلاقها (الرَّاجِمات) ‏launching pads، والطائرات aircraft.. وفي سياقٍ آخر تشير إلى الرشَّاشات ‏machine guns، وإلى الفرقة division واللواء brigade والفوج regiment‏ والكتيبة battalion والسَّريَّة company والفصيلة platoon.، وهذه كلها من الكلمات التي تحددت معانيها بصورة تجعلها تدخل في إطار اللغة المعاصرة، ولم يعُدْ من المفيد البحثُ عن سواها بعد أن رسَخت وثبَتت.

على المترجم إذن أن يحيط بمتن اللغة الذي تغير، ليس فقط بسبب دخول كلمات جديدة مستمدة من لغات أجنبية، بل أيضًا بسبب اكتساب بعض الكلمات القديمة معانيَ جديدة، ويندُر أن يمرَّ شهر (أو أسبوع) دون توليد كلمة جديدة بالنحت أو التعريب، ومجمع اللغة العربية في القاهرة يطرح بانتظامٍ قوائمَ بما يُضاف؛ والعلمُ يتقدم كل يوم، ونحن نحاول أن نستدرك ما فاتنا في سنوات تخلُّفنا عنه، وما القواميس التي تصدر في كل تخصص إلا دليلٌ على هذه المحاولة الدائبة.

١  شكسبير، وليم؛ روميو وجوليت، ترجمة محمد عناني، القاهرة، دار غريب، ١٩٨٦م.
٢  انظر كتاب الدكتور حلمي خليل: المولد؛ دراسة في نمو وتطور اللغة العربية في العصر الحديث. الإسكندرية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ١٩٧٩م.
٣  السعيد بدوي: مستويات اللغة في مصر، القاهرة، دار المعارف، ١٩٧٣م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤