الفصل الخامس

التراكيب الاصطلاحية

(١) المصطلح

ولننتقل الآن إلى جانب آخر من جوانب الترجمة من الإنجليزية إلى العربية؛ وهو جانب المصطلح؛ إذ إن لكل لغة مصطلحًا خاصًّا تنفرد به عن سائر لغات الأرض. وقد قسم الباحثون المصطلحات الإنجليزية إلى ثلاثة أنواع: أولها هو المصطلح البحت pure idiom؛ أي: المصطلح الذي لا يمكن تبريره منطقيًّا؛ لأنه لا ينقسم ولا يتفتت إلى العناصر التي يتكون منها. وتعريفه بإيجاز: هو مجموعة الكلمات التي تدل في مجموعها على معنًى لا تدل عليه مفرداتُها كلٌّ على حِدَة. ويصعب علينا في العربية إدراك تراكيبه؛ لأن اللغة العربية لغة منطق وثبات، ويندُر أن يوجد فيها مثلُ هذا النوع الأول من المصطلح؛ ولذلك فإن المترجم المبتدئ الذي لم يعْتَدْ بعدُ هذه التراكيبَ الثابتة التي لا تتجزأ ولا تتفتت؛ يَحارُ في ترجمته. وأقرب الأمثلة عليه في الإنجليزية تعبير to blow the gaff بمعنى «يفشي السر»؛ فإن الفعل blow يعني «ينفخ»، وgaff يعني العمود الخشبي ذا السن الحديدية، الذي يُخرج به الصياد السمكة بعد اقتناصها بالشبكة. وهو تعبير لا يعتمد في معناه على المعاني المعجمية لمفرداته، وينبغي أن يعالَج معالجة كليةً لا جزئية.
أما النوع الثاني فهو قريب الصلة بهذا النوع (البحت)، ولكنه قد يتضمن كلمةً ما أو إشارةً إلى المعنى العام الذي يرمي إليه، بل قد يوحي به من طرف خفي، وهذا هو النوع الذي نعرفه في العربية. ومن أمثلته — ما دمنا في مجال إفشاء السر — أن تقول: to spill the beans، ومعناه حرفيًّا: ينثُر حبَّات الفول أو الفاصوليا على الأرض، أو أن تقول: to let the cat out of the bag؛ ومعناه حرفيًّا: أن تُخرج القطة من الكيس، ومعنى هذين الاصطلاحين كما هو واضح أيضًا: «أن يذيع السر»؛ ذلك المعنى الذي قد يفضِّل الكثيرون من غير أبناء اللغة أن يشيروا إليه دون الحاجة إلى المصطلح، فيقولوا: to divulge a secret مثلًا، وكذلك تعبير to kick the bucket (حرفيًّا: يركل الدلو)؛ وهو يعني أن يموت المرء. وليس ثَمة علاقة بين ركل الدلو والوفاة. أو تعبير to have a narrow shave أن ينجو بأعجوبة، ومعناه الحرفي أن يكاد الإنسان يمسُّ الخطر. وكلمة shave قد «يحلق اللحية»، أو أن يقطع قطعًا رقيقة، أو يشذِّب تشذيبًا رقيقًا، أو — وهذا هو المعنى الموحى به هنا — «أن يمس أو يحتكَّ بشيء أثناء المرور»، ومثل هذا الإيحاء موجود أيضًا في تعبيرات كثيرة أخرى، مثل to beat one’s breast، ومعناه الحرفي «يدق صدره»، ومعناه الاصطلاحي: يندم على ما فعل أو على ما فات. ويقابله لدينا «يعَضُّ بنان الندم» أو تعبير to burn one’s boats، ومعناه الحرفي: يُحرق قواربه، ومعناه الاصطلاحي: يقطع خط الرجعة؛ أي: يجعل التراجع مستحيلًا؛ أي: يسُد منافذ العودة.
وقس على ذلك تعبيراتٍ شاعت في لغة الصحافة في أيامنا هذه؛ مثل to have a finger in every pie، ومعناه الحرفي أن تكون له أصبع في كل فطيرة — أي: أن يشترك في خبز كل فطيرة — والمعنى الاصطلاحي واضح؛ وهو إما أن يكون للمرء اهتمام أو مصلحة في كل ما يحدث، أو أن يشترك في كل ما يجري. وما دمنا قد ذكرنا الخبز والفطير فلنذكر أن الإنجليز يستخدمون كلمة pie في تعبيرات أخرى مثل: a pie in the sky؛ بمعنى الوعد بما لا يتحقق أبدًا؛ كقولك بالعربية المصرية: «في المشمش» أو «ابق قابلني»، وكذلك يستخدمون الأصبع finger في اصطلاحات لغوية كثيرة لا تخفى على فطنة الملِمِّ بالإنجليزية، وإن كانت تحير المبتدئ في الترجمة؛ مثل التعبير الذي سمعته أول مرة في بريطانيا عام ١٩٦٥م؛ إذ قال لي الأستاذ المشرف في الجامعة (آخر من كنت أتوقع منه تعبيرًا عاميًّا دارجًا):
so, you’ve pulled your finger out!
ومن السياق أدركت أنه يعني أنني عدت للعمل النشيط في رسالة الماجستير بعد تأخري في السفر إلى لندن وتعطيل العمل في الرسالة. ومثل التعبير الذي أسمعه في المسلسلات البوليسية؛ وهو to put the finger on؛ أي: يرشد الشرطة إلى شخص مطلوب مثلًا، أو يوجه الاتهام إلى شخص. ومثل التعبير الشائع الذي يعرفه الكثيرون لأن له مقابلًا عربيًّا مقبولًا؛ وهو he did not lift a finger؛ أي: لم يحرك ساكنًا؛ بمعنى: لم يتخذ أي إجراء (لتغيير الأوضاع مثلًا to change the situation).

والمترجِم هنا لا بد له من الاستعانة بالقواميس المتخصصة في هذا اللون من المصطلح.

وقد سبق أن أوضحنا أن بعض الأفعال تأتي مصحوبة بأدوات particles، ولا بد لنا من أن نضيف هنا أن هذه التراكيب تكتسب أحيانًا صفة المصطلح، وقد يستطيع المترجم المدرَّب أن يجد المثيل لها (أو المقابل إن لم يجد المثيل) من مصطلح العربية. وإذا كنت قد ضربت أمثلة — في مكان سابق من الكتاب — مستمدة من أشهر الأفعال؛ مثل look وget وما إليها، فينبغي أن أنبِّهَ المبتدئ إلى أن لغة الحياة اليومية بصفة خاصة تستخدم شتَّى الأفعال، حتى تلك التي تتميز بمعنًى محدَّد في إخراج مثل هذه المصطلحات، فعندما يقول لك متحدث: When my health packed it in، فسوف تدرك، ولا شك، أنه قد اعتَل. ولكن التعبير الذي يدل على التوقف قد استُخدم اصطلاحًا؛ ليعني بداية المعاناة من المرض؛ أي: إن التعبير في ذاته له معنًى، وهو كذلك ذو معنًى اصطلاحي في سياقات معينة.
ولإيضاح ذلك دعنا ننظر إلى تعبير مشابه يتضمن الضمير غير الشخصي (it) مع أداة أخرى، وهو to pack it up، ويعني المعنى نفسَه تقريبًا، ولكنه يتحول تمامًا إذا نزعت منه الضمير فأصبح to pack up، بل يصبح مصطلحًا جديدًا معناه: «يتملكه اليأس، أو يُقلع عن المحاولة، أو ينتهي من العمل»، فإذا غيرت الأداة فأصبح التعبير pack out، عاد إليك معنى الفعل الأصلي المتصل بالحشد أو الامتلاء أو الحشو:
The auditorium was packed out for the speech.
«كانت القاعة ممتلئةً عن آخرها بالجمهور الذي كان يريد الاستماع إلى الخطبة.»
وقس على هذا التعبيرات الأخرى؛ مثل تعبير pick on الشهير؛ كقولك: Why pick on me?

(لماذا تضطهدني؟ أي: تتابعني بهجومك، أنا دون غيري؟).

- وقد لا يعطيك القاموس إلا المعنى الأول — المعنى البسيط — ألا وهو الاختيار، كقولك: We have picked on a nice flat (أي: لقد اخترنا شقة جميلة).

أو ربما أعطاك المعنى الآخر، وهو اختيار شخص ما لأداء المهام البغيضة، بل ربما أعطاك معانيَ أخرى، ولكنه لن يفسر التركيب الذي ذكرته أولًا وقلت إنه شهير عامي، ويَرِد أكثرَ من غيره في الحوار الذي تحفِل به الأعمال الأدبية الحديثة.

وإذا عدنا للقاعدة العامة، قلنا إن هذه الفئة من فئات المصطلح البحت أو الصافي — حسب تعريفنا في أول الفصل — لا تقبل التفتيت إلى عناصرها، وإنما يترجمها المترجم وَفقًا لمعناها العام، وفي سياقها المحدَّد؛ حتى يُبرز دلالتها الخاصة دون محاولة للدلالة على مكوناتها. فالمترجم الذي يحاول الإتيان بمعنى pack في المثال الأول، أو بمعنى pick في المثال الثاني سيغيب عنه المعنى تمامًا.

أما الفئة الثانية من فئات المصطلح فهي التي تقوم على استعارة قديمة أو جديدة، وقد تصلح هذه الفئة للترجمة بعناصرها الأصلية أو عن طريق إيجاد المقابل أو البديل، فمثلًا إذا قال ابن الإنجليزية:

My effort is going down the drain

فقد يفضِّل المترجم اتباع المذهب الذي اقترحتُه للفئة الأولى، ويترجمها هكذا: «إن جهودي تذهب عبثًا/أو سُدًى»، أو قد يفضِّل أن يجد بديلًا لها في العربية، كأن يقول: «يذهب جهدي أدراج الرياح» أو — وهذا ما أعنيه بترجمة الصورة أو الاستعارة التي يقوم عليها المصطلح — فيقول: «لقد استُنزف جهدي دون طائل.»

وبالمنطق نفسه يواجه المترجم تعبيرًا شهيرًا يطلَق على من به جِنَّة:

He has bats in the belfry!

ومعناه الحرفي: «لديه خفافيشُ في برج جرس الكنيسة»، ومعناه المقابل هو «تطِنُّ في رأسه الطيور طنينًا»، وأما البديل فهو «إن في رأسه أخلاطًا وأمشاجًا»، والمعنى العام فهو «لقد اختل عقله»، أو التعبير العامي المصري «أسلاكه ضربت.»

ولا شك أن ثمة نماذجَ كثيرة من المصطلح القائم على الاستعارة له ما يقابله في العربية عن طريق البديل؛ فالتعبيرات الإنجليزية التي تقوم على استعارة الدفء تقابلها في العربية تعبيراتٌ تقوم على استعارة البرودة؛ نظرًا لتفاوت دلالة الدفء والبرودة ما بين الثقافتين؛ فتعبير: It warms the cockles of my heart يقابله بالعربية «إنها تثلج صدري»، أو «لقد قَرَّت عيني بها»، والقُرُّ هو البرد.
أما الفئة الثالثة من المصطلح فهي فئة الارتباط بين لفظتين أو أكثر، وهو ارتباط لا يستند إلا إلى العرف؛ أي: إلى ما اصطلح عليه المجتمع، وإن كان له سند من الاستعارة (ومن المنطق بطبيعة الحال). فمثلًا ارتباط التواثب بالفرح He jumped for joy!؛ فهذا يقابله بالعربية «يطير فرحًا». وارتباط اللون بالحالة النفسية أو الجسدية، مثل ارتباط اللون الوردي بالصحة the pink of health؛ بل إن اللون وحده أصبح دليلًا على الصحة دون ذكرها، وارتباطِ اللون الأزرق بالحزن، ومنها جاء تعبير the blues؛ وهي موسيقى الزنوج الحزينة في أمريكا، ومنها ارتباط التغني بالمديح والأمجاد to sing somebody’s praises «يتغنى بمدائح شخص ما»؛ أي: يَكيل له المدح. وهذه ألوان من الارتباط موجودة في كل لغة، فالثعالبي يقول لنا في كتابه «فقه اللغة»: إننا نقول: كأس دِهَاق «لورودها في القرآن»، ونحن نقول: «كأس مُتْرَعة»، ونادرًا ما نقول: «كأس ممتلئة»؛ فإن كلمة الامتلاء عادةً ما تجد كلمةً أخرى تحل محلها في حالة الكأس.

القاعدة إذن هي أن المترجم يضطر إلى مواجهة المصطلح الثابت وَفقًا للفئة التي ينتمي إليها، فهو لا بد أن يختار المعنى العام في حالة المصطلح البحت (الفئة الأولى)، ولكنه مخير في حالة المصطلح القائم على الاستعارة (الفئة الثانية)، فإذا قرأ:

He who sows the wind reaps the storm

فله أن يترجمها بإيجاد المثيل؛ أي: بنقل الصورة كما هي:

«من يزرع الريح يجني العاصفة»؛ بمعنى: «الجزاء من جنس العمل».

أو بإيجاد البديل؛ وهو: «من يزرع الشوك لا يحصد به العِنَبا»، وهو مجبرٌ في الحالة الثالثة على التقيد بالمصطلح الشائع في اللغة التي ينقُل إليها؛ لأن الترابط بين الكلمات والتعبيرات المختلفة من خصائص كل لغة على حِدَة.

وإلى جانب هذه الفئات الثلاث من المصطلح اللغوي توجد فئات أخرى تختص بطرق التعبير الخاصة بكل لغة؛ ففي العربية يقول من يوَد الإشارة إلى أنه المعنيُّ بالحديث: «أنا ذلك الرجل»، على حين يقول الأمريكي مثلًا:

(you’re looking at him)

بدلًا من أن يقول:

(it is I) أو (It is me) أو (I am that man).
وهكذا، فنحن ننقل المصطلح الإنجليزي إلى المصطلح العربي المقابل، إلا إذا شئنا نقل الدلالات الهامشية للتعبير. ومبلغ علمي أن الأميركي الذي يستخدم التعبيرات الدارجة في الحياة اليومية نادرًا ما يقصد أن يبُثَّ فيها دلالات هامشية؛ فلديهم اليوم في ذلك البلد الشاسع المترامي الأطراف طرائقُ للتعبير منوعة، حصرها (أو حاول حصْرها) قاموس اللغة الأمريكية الدارجة، معلنًا أن غيره سوف يضيف إليه ويَزيد فيه؛ وَفقًا للتغييرات التي ما تفتأ تطرأ على تلك اللغة المتجددة أبدًا.
والسبب الذي يجعلني أشك في أن يقصد الأمريكي أو الإنجليزي أية دلالات هامشية للتعبيرات الشائعة؛ هو أنه إذا عمَد متحدث إلى استعمال تعبير من نوع المجاز الميت الذي ذكرته في الفئة الثانية من فئات المصطلح اللغوي؛ بحيث يحيي فيه المجاز، فإنه إما يكون هازلًا، أو أنه يتسبب في حرج شديد لسامعه. ولا يمكن تصورُ جدية إحياء المجاز الميت إلا هزلًا؛ أي: من قبيل الدعابة (أو بطبيعة الحال من جانب الأجنبي الذي قد يفعل ذلك جهلًا بالمصطلح اللغوي). وتصور معي متحدثًا إنجليزيًّا يصف مهمة قام بها بالسهولة فيقول: It was a piece of cake! بمعنى «ما أيسرها»! «كم كانت يسيرة»! تصور معي المخاطب وهو يردُّ عليه قائلًا:
But wasn’t the cake too rich in butter?
هذا موقف مألوف في أدب المسرح الحديث، وهو يمثل عقبة كبيرة للمترجم إذ يضطره أن يحيي المجاز الميت مثلما فعل المتحدثان، فكيف يفعل ذلك والعربية تفتقر — بسبب الاختلاف الثقافي — إلى التعبير الأول؟ الحل في نظري ليس بإيراد المقابل أو المثيل، بل بإيراد البديل، فلا يقابل ذلك التعبير في العربية تعبير «كانت قطعة من الفطير»؛ بحيث يستطيع المخاطب أن يحْيي المجاز فيقول: «ولكنها كانت دسمة مفعمة بالزبد»! ولكنه يلجأ هنا إلى بديل عربي مثل «كان الطريق مُعبَّدًا» أو «موطَّأ الأكناف»؛ بحيث يكون الرد «ولكنه كان مُعبَّدًا بالحصى والحصباء» مثلًا. أما إذا كان التعبير قد استُخدم دون أي تلاعب في دلالته الأصلية، فالأفضل في نظري أن نترجم معناه فحسب. وفي السياق الذي ذكرناه هنا، إذا وصف المتحدث مهمته باليسر قائلًا: It was plain sailing دون أي إيحاء بالمعنى الأصلي للاستعارة الميتة، فالأفضل تحاشي إيجاد صورة أو استعارةٍ ميتة مقابلة وتقديمُ المعنى وحسب، إلا إذا كان الموقف الدرامي يقتضي ذلك.

(٢) التعبير الاصطلاحي

من طرائق التعبير الاصطلاحية في الإنجليزية ما يُجهِد المترجم إجهادًا كبيرًا إذا حاول الالتزام بحرفيته؛ فطريقة التعبير غير التعبيرات المحددة التي يمكن رصدها وتحليلها والتحايلُ عليها؛ لأن طريقة التعبير تتصل بأسلوب في التفكير ينعكس في أسلوب التخاطب وأسلوب الكتابة. ومن هذه مثلًا اللجوء إلى ما يسمى في الإنجليزية ﺑ understatement (وهو عكس overstatement؛ أي: المبالغة) ومن ثَم فربما استطعنا ترجمته بالمخافضة، وهذا يتطلب بعض الإيضاح.
إن متحدث الإنجليزية ينشأ في بيئة ثقافية؛ أي: حضارية cultural، تختلف عن البيئة الثقافية العربية. وهي تفرض عليه ضروبًا من التفكير واستخدام اللغة تختلف عن الطرائق العربية؛ فهو يعتاد منذ صغره استخدامَ المصطلح الذي ذكرناه بفئاته، كما يعتاد استخدام أساليب التعبير التي نحن بصددها، فهو مثلًا يعمِد إلى:
  • (١)

    التعبير عن المشاعر في صور تكسر من حدَّتها وتُظهرها أدنى مما هي عليه.

  • (٢)

    تجنب التعبير القاطع الحاسم مفضِّلًا التعبيرَ الحذِر المحترز (ما سبق أن قلت إنه الاحتراز في القول).

  • (٣)

    تفضيل المبني للمجهول على المبني للمعلوم، حتى لو كان يعرف الفاعل (وقد سبق الحديث عن ذلك في لغة الكتابة).

وهاك نماذج من هذه الخصائص التعبيرية في شكل حوار بين شخصين خياليَّين أسمينا الأول A والثاني B:
  • A: Good morning! You don’t seem very happy! what happened?
  • B: Oh, well! The office boy has just managed to lose my most important file!
  • A: Not the Personnel File, is it?
  • B: It is indeed!
  • A: It may just be misplaced. Have you looked everywhere?
  • B: It is not to be found anywhere … definitely lost!
  • A: So the office boy has done a thorough job of it, hasn’t he?
  • B: And I am not overjoyed.
  • A: No, I daresay you’re not!
  • B: Well, will you have some coffee?
  • A: I don’t mind if I do, actually.
  • B: Right! See if there’s any left.
وترجمتها الحرفية يمكن أن تكون كما يلي:
أ: صباح الخير! لا يبدو أنك سعيد جدًّا! ماذا حدث؟
ب: حسنًا! لقد استطاع الساعي أن يُضيع أهم ملف لدي!
أ: إنه ليس ملف المستخدمين، أليس كذلك؟
ب: إنه هو حقًّا!
أ: ربما يكون قد وُضع في غير مكانه، هل بحثت عنه في كل مكان؟
ب: لا نستطيع أن نجده في أي مكان، لقد فُقد بالتأكيد!
أ: تقصد أن الساعي قد أنجز عملًا محكمًا؟
ب: ولست لذلك بالغَ الفرحة!
أ: بلى! أعتقد أنك لست بالغ الفرحة!
ب: والآن هل لك في بعض القهوة؟
أ: لا مانع لديَّ في الواقع.
ب: إذن فانظر إذا كان قد بقي لدينا شيء منها.
وهذه الترجمة الحرفية هي أسوأ ما نقدمه لقُراء العربية، وهي بكل أسف قد شاعت واستفحلت كما تستفحل الأمراض الخبيثة؛ فنحن نقرؤها رغم أنوفنا على شاشة السينما وشاشة التليفزيون، حتى إن المتابع للحوار بالإنجليزية لا يستطيع أن يغمض عينيه عنها. وقد وصفتها بالسوء الشديد؛ لأنها لا تأخذ في حسابها اعتبارات المصطلح ولا اعتبارات طرائق التعبير التي أشرت إليها. وأما كيف نتجنب الرطانة والركاكة التي كان العقاد ينعي وجودهما في ترجمات عصره، فهو بأن نجعل الشخصيتين تتحدثان بلغة عربية تلتزم بمصطلحها هي لا بالمصطلح الإنجليزي، وتتبع طرائق تعبيرها هي لا الطرائقَ الإنجليزية؛ فنقول مثلًا:
أ: صباح الخير! ما هذا التجهم والعبوس؟ ماذا حدث؟
ب: لقد أضاع الساعي أهم ملف من ملفات المكتب.
أ: عسى ألا يكون ملف المستخدمين!
ب: بل إنه هو.
أ: ربما كان في غير مكانه، هل فتشت المكتب كما ينبغي؟
ب: فتشناه ولم نجده، لقد ضاع دون شك.
أ: تقصد أن الساعي قد أضاعه حقًّا؟
ب: أضاعه وجلب لي الغم والهم.
أ: طبيعي .. مفهوم.
ب: لا بأس! أتريد قدحًا من القهوة؟
أ: نعم .. في الواقع.
ب: إذن تفضل، ما زال في الإبريق قليل منها.
الترجمة الثانية — كما هو واضح — لا تلتزم بالأبنية الحرفية للعبارات، بل تخرج المعنى كما لو كان المتحدثان يتكلمان العربية أصلًا، لا ترجمة؛ أي: إنها تتجاهل مثلًا صيغ «المخافضة» في not overjoyed، ومعناها «مهموم/ مكروب»، وتتجاهل صيغة seem to be فتحولها إلى معناها، وهو ظاهر التجهُّم والعبوس. وتتجاهل صيغة did a thorough job (of losing the file)؛ أي: أنجز عملًا محكمًا (بأن أضاع الملف بحيث لا يجده أحد على الإطلاق)، ومعناها «أضاعه حقًّا». وتحول مصطلح I don’t mind if I do إلى معناها البسيط؛ وهو نعم. كما تحول مصطلح See if there’s anything left
إلى معناه الحقيقي؛ وهو: إن لدينا قليلًا منها (أي: ما زال لدينا القليل). أما الثمن الذي لا بد أن يدفعه المترجم في سبيل إخراج هذا النص المقبول لغويًّا وثقافيًّا، فهو التضحية بالدلالات الهامشية للعبارات الإنجليزية؛ وهي دلالات السخرية والاستهزاء الخافتة (الكامنة فيما نسميه بالنبرات التحتية undertones) مثل دلالة السخرية من الساعي أو الفرَّاش الذي أتقن «مهمة إضاعة الملف» بصورة يستعصي معها استرداده، وهي الدلالة الكامنة في التعبير الإنجليزي:
So the office boy’s done a thorough job of it!

وقد يفضِّل المترجم في هذه الحالة أن يضيف إلى المعنى العام عبارة عربية توحي بهذه الدلالة الساخرة، كأن يقول المتحدث مثلًا (بدلًا من «تقصد أن الساعي قد أضاعه حقًّا؟»):

- تقصد أن الساعي قد قام بمهمة إضاعة الملف خير قيام؟

أو (إذا شئنا الإيجاز):

- تقصد أن الساعي قد أخلص في إضاعة الملف؟

ولكن المترجم عادةً ما يَحار أمام هذه «المعاني» غير المألوفة في لغته، وهو عادةً ما يسيء ترجمتها؛ ولذلك فأنا أحبذ الاكتفاء بالمعنى العام المقصود والاستعاضةَ بجودة الصياغة عن النبرات التحتية.

والمشكلة في رأيي لا حل لها في الفصحى؛ فالحوار الحي في الإنجليزية ينبغي أن يترجَم إلى حوار حي بالعربية؛ أي: بالعامية، ولو اقتضى ذلك إخراج ترجمة له في كل بلد عربي باللهجة الدارجة له:

أ: صباح الخير! مالك كفى الله الشر؟ خير؟
ب: أبدا! الساعي بس ضيع أهم دوسيه في المكتب!
أ: إوعى يكون دوسيه المستخدمين!
ب: هو بعينه!
أ: لا يا شيخ .. يمكن بس منطور هنا والا هنا .. دورت عليه كويس؟
ب: فص ملح وداب! ضاع يعني ضاع!
أ: يعني الساعي عرف يخفيه المرة دي.
ب: وغمني آخر غم.
أ: طبعًا .. حاجة تغيظ.
ب: ولا يهمك .. تشرب قهوة؟
أ: ما عنديش مانع في الحقيقة.
ب: ماشي .. أظن فاضل شوية في البرَّاد.
وأنا أحيل القارئ هنا مرةً أخرى إلى كتاب الدكتور السعيد بدوي «مستويات اللغة العربية في مصر»؛ حيث يجد مناقشة ممتعة لمستويات العامية أيضًا (لا مستويات الفصحى فقط).

(٣) الصياغة

وإذا كنا قد تحدثنا حتى الآن عن الترجمة بصفة عامة، وارتضينا التحويل مذهبًا؛ خصوصًا عندما يواجه المترجم نصوصًا لا مناص من تحويلها، فالواقع أن حديثنا قد انصرف حتى الآن إلى ما يسمى «بالترجمة العلمية»، وهي تسمية غير دقيقة، ومعناها الترجمة التي تهدف إلى إخراج المعنى فقط؛ بغض النظر عن أشكال الصياغة اللغوية والأسلوبية؛ أي: إنها التي تقابل ما يسميه نيومارك١ بالترجمة التوصيلية communicative، والتي سبق القول بأنها تهدف إلى توصيل المعنى كاملًا إلى القارئ فحسب.

فالقارئ لن يكترث للطريقة التي تصوع بها الحقائقَ العلمية طالما استطعتَ إيصالها إليه في صورة غير معقدة؛ أي: إن المقياس الوحيد هنا سيكون قدرة القارئ على إدراك مرماك دون عناء. وهذا فيه ما فيه من عناء لك أيها المترجم.

ويذكر ف. ل. لوكاس٢ في كتابه عن الأسلوب مقارنة طريفة بين الإنجليزية والفرنسية والألمانية، فهو يقول: «إن الكاتب الفرنسي يكتب دون عناء؛ ولذلك يتعب القارئ في إدراك معناه، وإن الكاتب الإنجليزي يكتب بعناء شديد؛ كي يوفر على القارئ بذل الجهد في فهم مقصده. بينما يتعمد الألماني الكتابة بعناء حتى يعاني القارئ في الوصول إلى مرماه.» وهذه بالقطع مقارنة زائفة وذات دوافع سياسية في المقام الأول؛ إذ لا بد لنا أن نسأل من المقصود بالكاتب؟ هل يقصد لوكاس الأديب أم الناقد أم كاتب الكتب العلمية أم الصحفي أم موظف الحكومة الذي يكتب المذكرات والخطابات أم رجل القانون …؟ والقائمة طويلة؛ فباستثناء الأديب الذي يعتبِر الأبنية اللغوية جزءًا من معناه لا يكترث الكُتاب إلا لتوصيل المعنى، وإن كانوا يلجئون إلى تلوينه أحيانًا (للتأثير في القارئ) بحيل الصياغة اللغوية المعروفة، وهي جِدُّ محدودة، فالكاتب الذي يصف أوضاع اللاجئين الأكراد في شمال العراق (يوم ٥ أبريل ١٩٩١م) يورد ما يعتبره حقائقَ وحسب:
More than a million refugees, many dying of starvation and exposure, crammed the mountainous roads out of the country yesterday.
  • (١)
    احتشد ما يزيد على مليون لاجئ أمسِ في الطرق الجبلية المؤدية إلى خارج الحدود، وكان الكثيرون منهم على شفا الموت جوعًا أو بسبب التعرض للبرد.
  • (٢)
    اكتظت الطرق الجبلية على الحدود بالأمس بما يزيد على مليون من اللاجئين، وكان الكثيرون منهم على شفا الموت جوعًا أو بسبب البرد.

وللقارئ أن يفضِّل الترجمة الأولى بسبب اقترابها من النص الأصلي من ناحية البناء، إذا كان يرى في البناء دلالة خاصة، أو الترجمة الثانية بسبب اقترابها من الأسلوب الصحفي الحديث. ولكن الواقع أن كلًّا منهما ينقُل الوقائع دون تغيير؛ فليس للابتداء باللاجئين في الجملة دلالةٌ فنية كبرى، وليس لاختيار الكلمات المعبرة عن الاكتظاظ أو الاحتشاد أو الازدحام دلالةٌ خاصة، فالمعنى قائم ويتقبله القارئ العربي في يُسر.

ولنقرأ باقي الخبر:
The President said at least 100,000 refugees had been admitted, but added that his country did not have the resources to cope with the half-million more who were converging on the frontier. He called for international pressure to halt the violence against his people.
«وقال الرئيس إن بلاده قد سمحت بدخول ما لا يقل عن مائة ألف من اللاجئين، ولكنه أضاف أن بلاده تفتقر إلى الموارد اللازمة لإيواء الآخرين الذين يتقاطرون على الحدود، ويبلغ عددهم نصف مليون. ودعا المجتمع الدولي إلى ممارسة الضغط لوضع حد لما يُرتكب ضد هؤلاء من أذًى.»
ولا شك أن أي تصرف في البناء أو التركيب لن يغير كثيرًا من الحقائق الواردة في هذه الفقرة، فالمترجم هنا يواجه مهمة نقل المعنى الذي أراده الكاتب، وليست هذه بيسيرة؛ فكلمة cope من الكلمات التي لا تحمل معنًى محدَّدًا ولكنها تتلون وَفقًا للسياق، فالقاموس يقول لك إن معناها: يستطيع تدبير أمر أو حلَّه، وأنت تقول للطبيب: I can’t cope؛ بمعنى: إنني مريض ولا أدري سببًا لذلك. ويوصف بعضُ المرضى النفسيين نفسَ الوصف؛ بمعنى عدم استطاعتهم أن يعيشوا حياة طبيعية، وهكذا. ومعنى الإيواء الذي أورده المترجم هنا هو أحد جوانب معناها فحسب، وربما كانت كلمة (التعامل) الشائعة في الفصحى المصرية أقدرَ على نقل معنى النص، فالمقصود هو الإيواء والرعاية والإشراف، أو حتى مجرد تنظيم دخول اللاجئين. وكذلك كلمة violence التي جرى العرف على ترجمتها بالعنف أو أعمال العنف (حتى في هذا الكتاب)، فهي تعني الإساءة والإيذاء وإيقاع الضرر أيضًا، بل وإفساد الشيء، كقولك:
Change the wording as much as you like, as long as you don’t do violence to the substance of the news story.

أي: يمكنك إجراء أية تعديلات تريدها في صياغة الخبر طالما أبقيت على جوهره.

وكذلك كلمة converge التي تعني التجمع من كل حدب وصوب في نقطة واحدة؛ فلا مجال في الصحافة للتعبيرات الطويلة التفصيلية، وإن كانت أقرب إلى النص الإنجليزي؛ ولذلك فالأسلوب هنا — بأي معنًى من المعاني — ثانوي بالقياس إلى نقل المعنى كاملًا للقارئ.
فإذا عدنا إلى مقولة لوكاس وجدنا ثغرة كبرى تَفغَرُ فاها؛ وهي أن الكثير من كتَّاب الإنجليزية هذه الأيام يستخدمون نوعًا آخر من المصطلح؛ وهو ما يسمى بالرطانة jargon (ترجمة الأمم المتحدة)، وهي في الحقيقة لغة أهل وسائل الإعلام التي انتشرت فأثرت في اللغة بصفة عامة، ومن أمثلتها في العربية لدينا تعبير «المرحلة القادمة»، وهو التعبير الذي يوحي لقارئ الصحيفة أن حياتنا تنقسم إلى مراحل، ولكنه يرجع في الحقيقة إلى ترجمة للكلمة التي دخلت اللغة الإنجليزية بعد الحرب بتأثير المصطلح العسكري stage؛ إذ يضع العسكريون خططهم الحربية في صورة مراحل؛ ومن ثم فالمقصود بها «المستقبل» أو «الفترة المقبلة» أو «الأعوام المقبلة» وحسب. ومن أمثلتها «خطاب تاريخي …» أو «لقاء هام» وهلم جرًّا.
وقد تغلغلت هذه الرطانة في حياتنا؛ فأصبحت مذيعة التليفزيون لا تقول: «نستمع إلى أغنية» بل «نلتقي بأغنية»، وبدلًا من «نشاهد مسرحية» تقول: «نلتقي ومسرحية»، وأصبحنا نقول: «لقاء المسرح الحر» بدلًا من «مهرجان المسرح الحر». وشاعت كلمات منقولة عن مقابلاتها في اللغة الإنجليزية، مثل «موقف» و«مسئولية» و«اهتمام»، و«تدابير»؛ إلى آخر القائمة التي تطول فتُمعِن في الطول.
ومعنى ذلك أن المترجم الذي يعمل في أجهزة الإعلام يصعب عليه الفكاك من أسْر هذه الرطانة، فهو يتصور أن لها معانيَ خاصة مقصودة لذاتها، وهو يتصور أن الكاتب — ما دام يكتب الإنجليزية — فهو حتمًا يستخدم أسلوبًا محكمًا لا ينبغي التحرر منه، وهذا وهم كبير. وقد كتب سير إرنست جاورز «الكتاب الكامل للكلمات الواضحة»٣ لتبيان أبعاد هذا الوهم، وهو يرصد هذه الرطانة ويحلل أساليب الإنجليزية الحديثة تحليلًا مستفيضًا، وأعتقد أن مثلًا من أمثلته كفيل بإيضاح ما أعني، إنه يورد فقرة وردت في تقرير حكومي تقول:
The attitude of each, that he was not required to inform himself of, and his lack of interest in, the measures taken by the other to carry out the responsibility assigned to such other under the provision of plans then in effect, demonstrated on the part of each lack of appreciation of the responsibilities vested in them, and inherent in their positions.

«فهذه عبارة ركيكة تعتمد على الرطانة وترهق القارئ في فَهمها، فما بالك بالمترجم؟ لم يقم أي منهما بمحاولة الإحاطة بالموقف الذي اتخذه صاحبه، بل ولم يُبدِ أي اهتمام بالتدابير التي اتخذها للنهوض بالمسئولية الملقاة على عاتقه بمقتضى الخطط القائمة؛ مما يظهر عدم تقدير كل منهما للمسئوليات الموكولة إليهما، والتي تتضمنها وظيفة كل منهما.»

وهو يورد «ترجمة» إنجليزية للنص الإنجليزي هكذا:
Neither took any interest in the other’s plans, or even found out what they were. This shows that they did not appreciate the responsibilities of their positions.
«لم يُبدِ أيُّهما اهتمامًا بالخطط التي وضعها صاحبه، بل ولم يكن يعرف عنها شيئًا؛ مما يدل على أنهما لا يقدِّران مسئوليات الوظائف التي يشغلانها.»

ولا أريد الإفاضة في هذا الباب، فلدينا كتب كثيرة تناقش خصائص الأسلوب بصفة عامة، وعلى من يريد الاستزادة أن يرجع إلى بعض المذكور منها في قائمة المراجع. ولكن الذي يعنيني هنا هو خصائص الأسلوب «الإعلامي» الحديث الذي نطالعه في المجلات والصحف السيارة، ونسمعه في نشرات الأخبار والتعليقات اليومية بالإنجليزية والعربية جميعًا؛ بل أصبحنا نطالعه في التقارير الدولية والمحلية. ولا أبالغ إذا قلت إننا نطالعه في كثير من الكتب التي تُنشر اليوم، وتزعم التزامها بالدقة العلمية.

وإلى جانب كتاب The Complete Plain Words لدي كتيبان يقولان الشيء نفسَه، وينصحان النصائح نفسها؛ على حين يتجاهل معظم الكتَّاب ما يقولان؛ الأول هو: A Guide to Writing for the United Nations من تأليف W. H. Hindle (١٩٧٤).
والآخر هو Amnesty International Style Book (١٩٨٥م). أما الأول فيستعرض شتى العيوب التي يشكو منها سير إرنست جاورز في الكتاب المشار إليه، مع تقديم نماذجَ كثيرة من هذه العيوب التي تشيع في تقارير الأمم المتحدة، والتي تسربت بكل أسف إلى اللغة العربية عن طريق الترجمة. وربما كان من المفيد لقارئ العربية أن يدرك أن هذه العيوب يمكن تفاديها في الترجمة، ومع ذلك فالمترجم مطالَب بأن يلتزم بكل شيء في النص حتى عيوبه.

ولا أبالغ إذا قلت إن بعض المسئولين لا يرضَون بنص مترجم «يخلو» من عيوب النص الأصلي؛ إذ ما زلنا نتصور أن المترجم ناقل لا كاتب، وما زلنا نعتبر النص الإنجليزي نصًّا مقدسًا يتحتم على كاتب العربية أن يحاكيَه؛ صوابًا أم خطأ. والحمد لله أن زملائي الذين مارسوا الترجمة معي سنواتٍ طويلةً يحيطون بمشاكل سوء الأسلوب الإنجليزي في لغة الصحافة والتقارير إحاطةً تامة، وهم يطالبون بأن يتسم موقفنا منها بالمرونة نفسها التي تتسم بها ترجماتنا من العربية إلى الإنجليزية (رغم أنني أقرأ كثيرًا من ترجمات المستشرقين التي تُخرج نصوصًا إنجليزية مَعيبة بحجة محاكاة العربية).

وأود أن يذكر القارئ جيدًا قبل أن ينتقل إلى باب ترجمة الشعر أنني معنيٌّ في هذا الكتاب بترجمة اللغة المعاصرة المستخدمة في أجهزة الإعلام، والتي كثيرًا ما توصف بأنها لغة علمية، وما هي كذلك؛ فهي لا تقدم الحقائق الخالصة، ولكنها تَمزُجها بالإعراب عن المواقف، وتلوِّنها بوجهات النظر، بل وتضمِّنها مشاعر كثيرًا ما تبرُز إلى السطح. ولقد تعلمت بعد الممارسة الطويلة أن المترجم مطالب في المقام الأول بإخراج المعنى كاملًا غير منقوص، فإذا كان المعنى يتضمن موقفًا أو وجهة نظر أو مشاعر، فلا بد من إخراج ذلك أيضًا؛ فمشكلة المترجم الأولى تظل إدراك المعنى الكامل ونقله بأمانة.

والتحويلات التي يجريها المترجم في الصياغة تساعده في الواقع على هذا النقل الأمين الكامل، بل هي تساعده أيضًا على تجنب العيوب الأسلوبية التي سأذكر الآن طرفًا منها، مما أتى به Hindle في الكتيب المشار إليه، وكذلك الكتاب الموجَّه لمحرري منظمة العفو الدولية، وأولها هو المبني للمجهول (الزائف)، واستخدام الأسماء بدلًا من الأفعال. وفيما يلي نماذج من هذين الكتابين، مع الصياغة المعادة لكل منها، والترجمة التحويلية المشار إليها:
(1) The death penalty was called for by the State Prosecutor. (The State Prosecutor called for the death penalty.)
«طالب المدعي العام بتطبيق عقوبة الإعدام.»
(2) The release of detainees can be obtained if there has been fulfilment by them of all these conditions. (Detainees can be released if they have fulfilled all these conditions.)
«يجوز الإفراج عن المعتقلين إذا استوفَوا جميع هذه الشروط.»
(3) Although in general it is considered preferable by the ILO to arrange individual training programmes …
  • (أ)
    مع أن منظمة العمل الدولية تعتبِر أنه من الأفضل إعداد برامج تدريب فردية …
  • (ب)
    تفضِّل منظمة العمل الدولية إعداد برامج تدريب فردية، ومع ذلك …
(4) In part, the inflow of international capital and donations derives its importance from the fact that …
(the inflow of international capital and donations is important because …)
  • (أ)
    إن تدفُّق رءوس الأموال والتبرعات الدولية يستمد أهميته إلى حد ما من حقيقة أن …
  • (ب)
    ترجع أهمية تدفق رءوس الأموال والتبرعات الدولية إلى أن …
وثاني هذه العيوب هو الغموض ambiguity، وينبَع من عدم الحرص في الصياغة، وأنواعه كثيرة؛ منها إساءة فهم معنى الكلمة المستخدمة، أو استخدامها في المعنى القاموسي بدلًا من الشائع، أو العكس. ومن الأمثلة التي يوردها هندل:
The figure supplied by the Department for this book is notional.
ويعلق على ذلك قائلًا إنه سأل الكاتب عن معنى notional فقال إنه «تقديري»، وهذا خطأ في رأي هندل؛ لأنها تعني «تخمين» (ص٢٤). والفرق بين التخمين والتقدير هو أن الأول لا يستند إلى معلومات أو حقائق، بينما يستند الثاني إلى بعضها، ويقرِّب البعض الآخر منها. فالميزانية التقديرية (وكل ميزانية توضع هي في الواقع تقديرية) تستند إلى حقائق الميزانية السابقة، وتقرِّب تأثير المتغيرات حتى تضع التقديرات.
والحق أن هذا العيب — أي: إساءة استخدام الكلمة في الأصل الإنجليزي — يوقِع المترجم في حيرة: هل عليه أن يلتزم بما أمامه، أم ينفُذَ إلى ما يعنيه الكاتب، أو إلى ما يتصور أنه يعنيه؟ القاعدة العامة هي الالتزام بما أمامه إن كان معنى الكلمة هو سبب المشكلة، فهذا وِزْر يتحمله الكاتب وحده. أما إذا كان الغموض يرجع إلى التركيب، ويدل على إهمال واضح من الكاتب، فلن يغفر القارئ للمترجم غموضه. وإليك هذا المثل (ص٢٤ أيضًا):
Information has been gathered … on special aspects such as measures to be adopted in relation to the expansion of slum areas …
ويقول هندل هنا: إن الصياغة توحي بأن القصد هو توسيع الأحياء الفقيرة، وهو ما لم يَرْمِ إليه الكاتب ولم يقصده، ولو أنه استخدم to prevent بدلا من عبارة in relation to لاتَّضح المعنى:
  • (أ)
    جُمعت المعلومات اللازمة … عن بعض جوانب الموضوع، مثل التدابير التي ينبغي اتخاذها فيما يتعلق بتوسيع الأحياء الفقيرة …
  • (ب)
    التي ينبغي اتخاذها للحد من اتساع الأحياء الفقيرة …
وإليك هذا النموذج الآخر (ص٢٥):
Equal pay for equal work, however important it may be, is only one aspect of the broader question of women’s wages. It has been noted that their chief characteristic is their low level as compared with those of men.
ويقول هندل: إن their قد تشير إلى المرأة (النساء) أو إلى الأجور، ولكن الواضح أنها تشير إلى الأجور:
«ومهما كانت أهمية تقاضي المرأة أجرًا مساويًا لأجر الرجل الذي يؤدي العمل نفسه، فإن هذا مجرد جانب واحد من جوانب القضية العامة/الأعم، وهي أجور المرأة؛ إذ لوحظ أن أهم سماتها هي انخفاض مستواها بالمقارنة إلى أجور الرجال.»

والعبارة — كما هو واضح — مثقلة بالكلمات التي وصفتها بالحشو في مكان سابق، والتي أصبحت تشكل جزءًا لا يتجزأ من لغة أجهزة الإعلام، مثل:

aspect - broad (broader) - question - note (noted) - chief - characteristic - low - level - as compared

ووجود هذا الحشد من هذه الكلمات في عبارة واحدة ليس فريدًا؛ فنحن نقرأ الآلاف مثلها في الصحف اليومية (بل والكتب). وليقارن القارئ بين العبارة التي أوردتها وهذه الصيغة المختصرة؛ ليرى ما أعني:

«تقاضي المرأة أجرًا مساويًا لأجر الرجل في مقابل نفس العمل؛ قضية مهمة، ولكنها جزء من قضية أكبر؛ وهي انخفاض أجرها عن أجر الرجل.»

ولا شك أن الإطالة دون داعٍ تؤدي إلى الغموض، ولكنها تؤدي إلى ما هو أسوأ؛ ألا وهو بطء التفكير واضطرابه؛ ولذلك فقد يجد المترجم نفسه عازفًا عن نصٍّ هذا شأنه؛ لأنه سيتطلب منه جهدًا كبيرًا في إعادة الصياغة، ولكن ماذا عساه يفعل إذا كان عليه أن يترجم أمثال هذه النصوص؟ وأنا أعني زملاءنا المحترفين في الوكالات المتخصصة للأمم المتحدة، وفي الصحف والإذاعة وسواها من الأجهزة العامة، بل ومترجمي الكتب الحديثة أيضًا.

والحق أن العربية في أجهزة الإعلام قد استوعبت كلَّ ما استحدثته أجهزة الإعلام العالمية وأشاعته؛ فأصبح جزءًا من اللغة المعاصرة، ومنها كلمات خصَّها هندل بالذكر لكثرة ورودها في تقارير الأمم المتحدة، ووصفها بأنها كلمات «احتفالية» ceremonial؛ أي: كلمات تستخدم في المناسبات العامة ويجب ألا تَشيعَ في غير ذلك من ضروب الكتابة العلمية، ومنها:
appropriate - aspects - balanced and integrated - basic - breakdown - broad - to centre - central - clarification - concept - conceptually - emanate - focus - implement - inter alia - meaningful - overall - portion - reaction - relevant - significant - fields …

وترجمتها الحرفية هي:

ملائم (مناسب) – مظاهر (جوانب) – متوازن ومتكامل – أساسي – تصنيف – عام – يركز – أساسي – إيضاح – مفهوم – نظريًّا – ينبع – بؤرة (يتركز) – ينفذ – ضمن أمور أخرى – له مغزًى (كبير) – شامل – جزء (جانب) – رد فعل (استجابة) – ذو صلة – له مغزًى (كبير) – ميادين (مجالات/حقول)…
أما عبارة inter alia فنادرًا ما أترجمها بالعبارة الواردة هنا، فمعناها سوف يتضح مما يلي:
(1) He said, inter alia, that he wanted the Commission to submit a detailed report …
«جاء في خطابه أنه يريد أن تقدم اللجنة تقريرًا تفصيليًّا …»
وليس «قال ضمن أمور أخرى إنه يريد …»
(2) The law provides inter alia for the punishment of young offenders …
«ومما ينص عليه القانونُ إيقاع العقوبة بالمذنبين من صغار السن …»
وليس «وينص القانون ضمن أمور أخرى على …»
(3) The President referred inter alia to the need to economize at the level of local government agencies …
«وكان من بين ما أشار إليه الرئيسُ ضرورة الاقتصاد في النفقات على مستوى هيئات الحكم المحلي …»

وليس «وأشار الرئيس ضمن أمور أخرى إلى …»

وثالث هذه العيوب هو ما يسميه هندل بالحشد cramming؛ أي: محاولة إدراج أكبر قدر من الأفكار في جملة واحدة أو فقرة واحدة، وهذه من السمات التي عالجتها في الأبواب السابقة من هذا الكتاب، وإن كانت جديرةً بوقفة قصيرة في هذا الباب.

انظر إلى العبارة التالية:

As regards regional economic integration movements, it was agreed that such movements should be encouraged among the developing countries, with due regard to the special features of the countries concerned, and that mechanisms should be promoted whereby payments could be facilitated, and trade between the countries concerned could be financed; the scope of such integration movements should be fully understood by the industrial countries, and they should not take any action to hinder or counteract those movements.
وهندل يطالب بتقسيم هذه الجملة إلى ثلاث جمل؛ بحيث تبدأ الثانية ﺑ Mechanisms والثالثة ﺑ The scope. كما يقترح حذف عشر كلمات من الجملة الحالية؛ هي and that (السطر الرابع) وbetween the countries concerned (السطر ٦) وhinder or (في السطر الأخير). والواقع أن المترجم المحترف يفعل ذلك دون توصية من هندل؛ لأن صياغة الجملة كما هي سيئة، ويمكن إصلاحها بتقسيمها عن طريق التحويل المتبع في الترجمة، فماذا تقول الجملة؟
تقول: «إن الأمم المتحدة اتفقت على تشجيع حركات التكامل الاقتصادي الإقليمي بين البلدان النامية؛ وَفقًا لخصائص كل منها، وضرورة إنشاء أجهزة لتسهيل نظم المدفوعات والتجارة فيما بينها، وأن على الدول الصناعية أن تدرك نطاق هذه الحركات إدراكًا كاملًا؛ فلا تعوقها أو تقاومها

ولكن قد يلجأ المترجم إلى الالتزام بالصياغة الأصلية للجملة التي تعاني من الحشد (ما يسميه العرب المعاظلة في الكلام؛ أي: ركوب بعضه على بعض) فيخرج بالترجمة التالية:

«أما بالنسبة لحركات التكامل الاقتصادي الإقليمي، فقد اتُّفق على تشجيع مثل هذه الحركات فيما بين البلدان النامية، مع الأخذ في الاعتبار تمامًا السمات الخاصة للبلدان المعنية، وعلى ضرورة إيجاد آليات من شأنها تسهيلُ المدفوعات. كما يمكن تمويل التجارة بين البلدان المعنية. ويجب على البلدان الصناعية أن تدرك إدراكًا كاملًا نطاقَ مثل هذه الحركات التكاملية. ويجب ألا تتخذ أي إجراء لتعويق أو مقاومة هذه الحركات.»

والواضح أن الترجمة الأولى أقصر كثيرًا رغم إضافة الفاعل (الأمم المتحدة) وهو غير موجود في النص الإنجليزي (٤٠ كلمة في مقابل ٥٦ كلمة). ومع ذلك فالترجمة القصيرة أشدُّ وضوحًا، وأقرب إلى نقل المعنى من الترجمة التي توحي بالأمانة بسبب الالتزام بالصياغة الأصلية.

وقد صادفت من واقع ممارستي للترجمة صعوباتٍ عديدةً يرجع بعضها إلى هذا العيب، وإن كان يتخذ أشكالًا مختلفةً؛ أحدها هو أسلوب ضغط الجملة الإنجليزية بصورة مخِلَّة بدلًا من بسطها، كما هو الحال هنا.

وهاك مثالًا صارخًا:

Group arrests have taken place immediately before or after religious feast days or processions.
فالتركيب or … or مستخدم هنا بصورة تجعل نقله إلى العربية كما هو مستحيلًا؛ فالكاتب يقول:
«إن حملات القبض الجماعي على الأشخاص كانت تقع قبل أيام الأعياد الدينية مباشرةً أو بعدها مباشرة، وكذلك قبل المواكب الدينية مباشرةً أو بعدها مباشرة.»

ولا سبيل في العربية إلى ضغط هذه العبارة لتوازي البناء الإنجليزي.

وهاك مثالًا آخر:

Some of those arrested on political grounds have been suspected or accused of setting up or having links with unauthorized political organizations, most frequently of an Islamic tendency.

والصعوبة تكمن هنا في أن الفعل مبني للمجهول، ثم هو فعل مزدوج، يتلوه تركيب فعلي مزدوج أيضًا. والتحويل هنا قد يتمثل في إعادة الصياغة إعادةً كاملة، وإلا تعذرت ترجمة هذه العبارة؛ فالمعنى هو أن بعض المقبوض عليهم لأسباب سياسية كان يُشتبه في قيامهم بتكوين منظمات سياسية غير مرخَّص بها، واتُّهم بعضهم بذلك فعلًا؛ على حين اشتبه في أن نفرًا منهم قد أقام علاقات مع هذه المنظمات، وكانت في معظم الأحوال ذات اتجاه إسلامي، واتُّهم عددٌ آخر بإقامة هذه العلاقات فعلًا. أي: إن العبارة يمكن أن تقسم إلى أربع عبارات:

وقد تعود الصعوبة إلى الربط المبتسر بغية الضغط؛ كما هو الحال هنا:

One former political prisoner described how he had spent many months in total isolation, during which time, without his knowledge, his wife, then in an advanced state of pregnancy, had been interrogated, stripped of her papers and forcibly expelled from the country with her family.

فالكاتب هنا يحاول أن يضغط أكبر كَمٍّ من المعلومات في جملة واحدة؛ على حين يمكن تقسيمها في الترجمة لتفادي هذا الضغط:

«وصف أحد السجناء السياسيين السابقين كيف قضى شهورًا عديدةً في عزلة تامة، ولم يكن يدري أن زوجته التي كانت حاملًا في الشهور الأخيرة قد تعرضت للاستجواب، وانتُزعت منها أوراقها، وطُردت قسرًا هي وأسرتها من البلاد.»

أو إليك هذه الجملة التي طالت فأمعنت في الطول:

Political detainees held under these regulations are denied the most basic safeguards under international human rights law, safeguards which would require them to be informed of their rights, have access to defence counsel and their relatives and challenge the legality of their detention without delay before an independent judicial authority.
الواضح أن هذه الجملة تنقسم بطبيعتها إلى قسمين: الأول يتحدث عن حرمان المعتقلين السياسيين من الضمانات التي يكفُلها القانون الدولي لحقوق الإنسان. والثاني يفصِّل القول في هذه الضمانات الثلاث. وقبل أن نناقش مشكلة البناء لا بأس من التذكير بأسلوب المفاضلة المستخدم هنا في تعبير most basic؛ إذ جرى العرف على ترجمة basic بكلمة أساسي (أساسية هنا)؛ مما يجعل اشتقاق المصدر منها أمرًا عسيرًا، إلا إذا لجأنا إلى المصدر الصناعي (أساسية)، وهو غير مألوف في العربية المعاصرة. وكما سبق أن بينت، يحتاج المترجم إلى المصدر لاستخدامه مع كلمة تشديد (أشد/أكثر). ولكننا نستطيع التغلب على الصعوبة باستخدام صفة بسيطة تقترن بأفعل التفضيل (أولى/أهم الضمانات الأساسية)، وبعد ذلك يمكننا اللجوء إلى التحويل؛ إما باستخدام المبتدأ والخبر أو المبني للمعلوم:
  • (أ)
    والمعتقلون السياسيون الذين احتُجزوا بموجَب هذه اللوائح محرومون من أولى الضمانات الأساسية التي يكفلها لهم القانون الدولي لحقوق الإنسان.
  • (ب)
    ولا يتمتع المعتقلون السياسيون المحتجزون بموجَب هذه اللوائح.

ويلي هذه العبارة تفصيلُ القول في الضمانات:

«وتقضي هذه الضمانات بإبلاغهم بحقوقهم، وتمكينهم من الاتصال بالمحامين وبأقربائهم، ومن الطعن في قانونية اعتقالهم دون إبطاء أمام سلطة قضائية مستقلة.»

وأخيرًا أود الوقوف عند محاولات كاتب الإنجليزية إضفاءَ صبغة من المنطق على عباراته التي تطول بإقامة روابط سببية ترهق المترجم الذي يحاول الالتزام بهذا المنطق. وأبسط هذه الروابط السببية الجملُ القائمة على البناء التالي:

إن كذا وكذا أدى إلى كذا وكذا …
وهذه يمكن ترجمتها إلى الصيغة التالية: حدث كذا وكذا؛ مما أدى إلى كذا وكذا.

خصوصًا حين يطول صدرُ الجملة بحيث يصبح من المتعذر الابتداءُ بالفعل في العربية، وحين يتضمن العَجُز جملًا اعتراضيةً أو تفصيلاتٍ كثيرة؛ مثلًا:

In view of the almost entirely closed nature of political trials in the country (although Amnesty International was able to observe two sessions of a trial in 1987) and the absolute secrecy surrounding the court’s findings and judgments, it is difficult to establish whether or not those on trial have used or advocated violence, as conviction under article 159 of the penal code would appear to indicate.

فالمعنى هنا هو أن المحاكمات السياسية في البلاد تكاد تكون مغلقةً تمامًا في وجه الجمهور، وأن السِّرية المطلقة تكتنف ما تنتهي إليه المحكمة وما تصدره من أحكام؛ ولذلك يصعب القطع برأي فيما إذا كان المتهمون قد لجئوا إلى استخدام العنف أو حضُّوا على استخدامه؛ فالمادة رقم ١٥٩ من قانون العقوبات تنص — فيما يبدو — على عدم إدانة أحد إلا إذا لجأ إلى العنف أو حضَّ عليه.

أما إذا بدأ المترجم عبارته العربية بالمنطق نفسِه الذي يحكم بناء الجملة الإنجليزية، فسوف يفلت الخيط من يده. ويشبه هذا إلى حد ما بناء so … that الشهير، وهو في أبسط صوره يسيرٌ قريب المتناوَل:
He was so mean that he would not spend any money before consulting his family.

«بلغ من بخله أنه لم يكن ينفق أيَّ نقود قبل استشارة أسرته.»

ولكن التعقيدات تبدأ حين تحل الصفات المركبة، أو أسماء المفعول المستخدمة صفات، محلَّ الصفات البسيطة:

Some said that they experienced such a degree of shock at the announcement of a visit after months of total isolation that they were quite unable to communicate with their families during such visits.

أي: إن الصدمة التي شعر بها البعض عند الإعلان عن زيارة أحد أقربائهم لهم بعد شهور من العزلة التامة؛ بلغت من القوة حدًّا جعلهم عاجزين عن الحديث معهم أثناء تلك الزيارات؛ فكيف نصوغ ذلك وَفقًا للنص الإنجليزي؟

  • (١)
    قال البعض إنهم كانوا يصابون بصدمة كبيرة عند الإعلان عن زيارة أحد أقربائهم لهم بعد شهور من العزلة التامة؛ حتى إنهم كانوا يعجِزون عن الحديث مع أسرهم أثناء تلك الزيارات.
  • (٢)
    ذكر البعض أن الصدمة التي تنتابهم عندما يسمعون أن أحد أقربائهم جاء لزيارتهم بعد شهور من العزلة التامة كانت بالغة؛ بحيث جعلتهم عاجزين عن …
  • (٣)
    قال البعض إنهم حين كانوا يسمعون أن أحد أقربائهم جاء لزيارتهم كانوا يصابون بصدمة شديدة تمنعهم من الحديث.

والمثال الثالث — كما هو واضح — يُلغي التركيب الإنجليزي الأصلي تمامًا، ويُحِلُّ محلَّه عبارةً عربية تحمل المعنى الذي يتضمنه النص. وقد أحس بذلك بعضُ مترجمي معاني القرآن الكريم؛ إذ ترجموا معنى الآية الكريمة: وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِن مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوةِ (القَصَص، ٧٦) هكذا:

and We gave him so much treasure that the stores thereof would verily have been a burden for a troop of mighty men.
(Picktall)
Such were the treasure We had bestowed on him that their very keys would have been a burden to a body of strong men.
(Abdullah Yusuf Ali)

وأعتقد أن هذه الأمثلة تكفي لإيضاح ما أعنيه بضرورة إفلات المترجم من قبضة الصياغة الإنجليزية، وتؤكد ما ذهبت إليه من ضرورة التحويل. كما أظن أنها كفيلة بإزالة رهبة المبتدئ والممارس جميعًا من النص الإنجليزي؛ فالكاتب ليس منزَّهًا ولا معصومًا، بل إن الكثير من الكتَّاب لا يستحقون هذه الصفة.

وإذا كان ثَم استثناءٌ من هذا جميعًا فهو الأدب؛ فالأديب لا شك كاتب. والفصل التالي لا يعدو أن يكون مقدمة في فن ترجمة الشعر، وأوصي من يبغي الفائدة أن يبدأ بقراءة مقدمة ترجمتي لمسرحية يوليوس قيصر؛٤ حيث أثير قضية مفهوم الأدب نفسه، وأنتهي إلى القول بأن تصور وجود لغة خاصة بالأدب وهمٌ كبير؛ فاللغة واحدة، ولكن الأديب يستخدمها بطرائقَ وأساليب خاصة؛ مما يلقي بأعباء إضافية على كاهل المترجم. وأوضح مجال أدبي تتبدَّى فيه هذه الأعباء هو الشعر؛ ولذلك سأتناول بإيجاز بعض مشكلات ترجمة الشعر بما يسمح به هذا الكتاب.
١  Newmark, p.: Approaches to translation, Oxford, Pergamon Press, 1984.
٢  Lucas, F. L., style.London, 1960.
٣  Gowers, E., The Complete Plain Words, Pelican Books, 1977.
٤  شكسبير، وليم: يوليوس قيصر، ترجمة محمد عناني، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ١٩٩١م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤