الشفرة
ويليام يرتاد الجامعة
استمر ما يحرزه ويليام من تقدُّم في «الفنون الثلاثة» و«الفنون الأربعة» من الفنون الحرة السبعة في مدرسة جرايفريارز في لندن بين ثلاث سنوات وست على الأرجح. ولا بد أنه أثار إعجاب معلميه؛ لأنه اختِير حينها ليدرس من أجل شهادة الدكتوراه في اللاهوت. وكانت مدرسة جرايفريارز تنتسب مجازًا إلى جامعة أكسفورد؛ لذا في وقتٍ ما حوالي عام ١٣١٠، حين كان ويليام يبلغ من العمر ثلاثةً وعشرين عامًا تقريبًا، انطلق ليكمل دراساته في أولى جامعات إنجلترا ليتدرَّب على أن يصبح عالِمًا أو رجلَ دين في العصور الوسطى.
كانت أكسفورد على بُعد يومين ركوبًا بالاتجاه الشمالي الغربي من لندن وعلى طول طريقٍ مزدحم. وكان الطريق يتعرَّض باستمرار لغارات جماعات اللصوص؛ لذا نزع الطلاب المبتدئون إلى التجمُّع معًا ليصحبهم «محضِر» محترف مسلَّح. وعلى الأرجح أن ويليام انضم لمثل هذه المجموعات. وقد نتخيَّله كالكاهن الشاب من «حكايات كانتربري» لجيفري تشوسر الذي «بدأ دراسة المنطق»، لكنه
بعد أن وصل إلى أكسفورد، التحق ويليام بدير فرنسيسكاني، ربما كان يوجد في جرايفريارز هول على إيفلي رود. كانت الجامعة قد تأسَّست قبل قرن واحد فقط أو نحو ذلك، وكانت أصغر بكثير من نظيرتها الحديثة، فكانت تتكوَّن من حَفنة كليات بما فيها بيليل وميرتون، إضافة إلى عدة مدارس أسَّستها الرهبنتان الفرنسيسكانية والدومنيكانية. ولم يكن معظم الطلاب رهبانًا أو نسَّاكًا، لكن كان عليهم جميعًا أن يحلقوا رءوسهم ويرتدوا الرداءَ الإكليريكي من أجل أن يتمتعوا بالامتيازات الإكليريكية. وكانت أحد أنفع الامتيازات هي أن يُحاكم الطلاب حين يتم اتهامهم بجريمةٍ ما أمام محاكم كنسية بدلًا من أن تتم محاكمتهم أمام محاكم مدنية. وكانت تلك المحاكم الكنسية تحت رئاسة رئيس الجامعة، وفي بعض الأحيان كان بإمكانها أن تدَع طالبًا فاسدًا يفلت حرفيًّا بجريمة قتل.
بعيدًا عن كل هذا الصخب، كان ويليام يحضُر محاضرات في ديره وفي الأديرة وكليات الجامعة المجاورة. وحين تخرَّج، تعيَّن عليه أن يلقي محاضرات. وهذه المحاضرات كانت إما محادثات جامعية عادية تدوم حوالي الساعة أو «مناظرات» يستمع فيها الطلاب إلى الأساتذة يتجادلون في مسائلَ خلافية. وكانت الفصول الدراسية تُعقَد في حجرات لا تختلف عن تلك التي لا تزال موجودة في الكليَّات الأقدم بأكسفورد أو كامبريدج، بمقاعد أو مكاتب خشبية للطلاب ومنصة للأساتذة. مع ذلك، وعلى عكس قاعات المحاضرات الحديثة، لم يكن هناك فصل بين الجالسين؛ لذا كان الطالب وأستاذه يشغلون المساحةَ نفسها. على الأرجح أن هذا أضاف إلى الجو الصاخب بصفة عامة، حيث كان الكثيرُ من الطلاب — خاصة المدنيين الذين كانوا يتحملون تكاليفَ تعليمهم — يتهكمون على الأستاذ الذي لا يتقاضى أجرَ ما يقوم به من عمل، ويقذفونه بالألفاظ.
وباعتباره طالبَ لاهوت، لا بد أن كتاب الدراسة الأساسي عند ويليام هو كتاب لومبارد «كتب الأحكام الأربعة». وكان السؤال الذي جذب انتباهَه بصفة خاصة هو «هل اللاهوت عِلم؟». لقد أصرَّ توما الأكويني على أن اللاهوت لم يكن عِلمًا فحسب، بل كان «ملِك العلوم». وقد خالفه ويليام الرأي.
المناظرات
أكمل ويليام شروحاته عن كتاب «كتب الأحكام الأربعة» في وقتٍ ما بين عامي ١٣١٧ و١٣١٩، حين كان يقارب الثلاثين من عمره. بعدئذٍ، طُلِب منه أن يلقي محاضرات في أكسفورد وربما في لندن. في تلك المرحلة بدأت شروحاته تُنشر. كانت الممارسة الشائعة بشأن ذلك هي أن أحد الطلاب الذين يحضُرون المحاضرة يدوِّن ملحوظات مفصَّلة عما يجري فيها بالحبر على ورق الرق، فيما يُعرف باسم «الشروحات الأولية» وبإمكان الطلاب الآخرين من داخل الجامعة وخارجها نسخها. وقد يصحِّح المحاضر ما دوَّنه الطالب ويحسِّنه لتحرير نسخة معتمدة، تُعرف باسم «الشروحات النهائية». ومن المعروف عن ويليام أنه أنهى نسخةً نهائية عن شروحاته لكتاب لومبارد الأول من «كتب الأحكام الأربعة» بحلول العام ١٣٢٠، لكن النسخَ الوحيدة التي نجت لشروحاته عن الكتب الثلاثة الأخرى تظل مجرد شروحات أولية. وكان يتم تسجيل المناظرات أيضًا، وحين يصحِّحها المحاضر كان يُطلق عليها اسم المناظرات المدوَّنة النهائية. ومن تلك كان ويليام قد أنهى سبعًا بين عامي ١٣٢١ و١٣٢٤. بحلول ذلك الوقت، كتب ويليام أيضًا مقدِّمة طويلة عن عملَي أرسطو «الطبيعة» و«الفئات»، وأجاب عن سلسلة من الأسئلة عن كتاب «الطبيعة»، كما كتب العديدَ من الأعمال عن الفيزياء واللاهوت والمنطق.
ولكي نفهم لماذا كانت أفكار ويليام تتسبَّب في مثل هذا الاهتياج، علينا أن نغوص عميقًا في مصدرها، الذي يذهب إلى عمقِ علاقة المرء بكلٍّ من العالم، وربه، إن قُبِل وجوده.
الإله المحتجِب
كان هجوم ويليام الأوكامي على الفلسفة المدرسية لسابقيه هو استمرارًا بطرقٍ كثيرة للجدال الذي كان قد بدأ قبل جيل في عام ١٢٧٧، حين حظر أسقف باريس توبييه مناقشةَ الأفكار التي بدا أنها تحدِّد قدرةَ الرب بالحدود التي وضعها منطق أرسطو. وقد أصرَّ الأسقف توبييه على أن الرب المسيحي مطلَق القدرة حرٌّ في فعلِ ما يحلو له، بغض النظر عما لدى أرسطو ليقوله في هذا الصدد.
لم يدُم الحظر الذي أقامه الأسقف، لكنه أثار تقييمًا أكثرَ انتقادًا لفلسفة أرسطو على يد العلماء المدرسيِّين ولا سيما فيما يتعلَّق بآثار القدرة الإلهية المطْلقة. كان هذا المفهوم دخيلًا على الفلسفة اليونانية الكلاسيكية؛ حيث كانت قدرات الآلهة اليونانية دائمًا محدودة: فبوسايدن كان يحكم البحارَ، لكن قدرته على السيطرة على اليابسة كانت ضئيلة. كان الرب المسيحي مختلِفًا كلَّ الاختلاف؛ حيث إنه لم يخلق الكونَ فحسب، بل وضع قوانينه أيضًا: فهو العليم وصاحب القدرة المطْلقة.
كانت تداعيات القدرة الإلهية المطْلقة تَهدِر عبْر أروقة أكسفورد طيلةَ جيل قبل قدوم ويليام إليها. كان سابقه دنس سكوتس (١٢٦٦–١٣٠٨) قد ناقش مشكلةَ معرفةِ الفَرق بين الصواب والخطأ إن كان بإمكان الرب أن يغيِّر القوانين على نحوٍ اعتباطي. وقد زاد ويليام على ذلك. ففي نهجٍ أنذر بما جرى على يد ديكارت من تفكيكٍ للفلسفة الغربية حتى وصل إلى المبدأ الشهير «أنا أفكِّر إذن أنا موجود»، استخدم الأوكامي شفرته ليجرِّد فلسفةَ العصور الوسطى من كل شيء عدا القدرة الإلهية المطلقة.
وكانت المشكلة التي واجهها ويليام حينها هي أن الرب صاحب القدرة المطْلقة — بالإضافة إلى أنه قاهر — كان أيضًا محتجِبًا ولا سبيل لمعرفته. تصبح هذه المشكلة واضحةً بعد أن نأخذ في اعتبارنا أن الإله القاهر ليس في حاجة لأن يتقيَّد بالمنطق البشري أو يتوافق معه — وهذا بغض النظر عن قانون عدم التناقض (على سبيل المثال، أن الرب لا يمكن له أن يوجد ولا يوجد في الوقت نفسه). قد يقوم الرب بأشياء غير منطقية على سبيل المثال، كأن يخلق النباتَ في اليوم الثالث من الخلق (كما هو مذكور في سِفر التكوين) قبل أن يخلق الضوءَ اللازم لنموه في اليوم التالي لذلك. وعلى الرغم من أن ترتيب الأحداث بهذا الشكل قد يتعارض مع منطق أرسطو، فإن من قدرةِ الرب أن تنمو النباتات في الظلام بقدرِ ما أراد من وقتٍ ومن دون أن يقدِّم للبشرية أيَّ سبب على اختياره القيام بذلك.
طبَّق ويليام النوعَ نفسه من التفكير ليهاجم العمود الفقري للفلسفة، وهو الواقعية. تذكُر أن الواقعيِّين من الفلاسفة اعتقدوا أن المُثل الأفلاطونية أو الكليَّات الأرسطية تُعَد أساسَ العالَم بأسره. فثمر الكرز هو ثمر كرزٍ لأنه يتشارك في كلية «الكرزية»؛ والآباء آباءً لأن صفة «الأبوة» الكليَّة تملؤهم.
كان في نبذ الكليَّات أيضًا تقويضٌ لحجر الزاوية في منطق العصور الوسطى، وهو القياس المنطقي. تذكَّر أن المنطقَ القائل بأن «كل البشر فانون. سقراط بشر، إذن سقراط فانٍ» يعتمد على أن كل البشر يتشاركون في كليَّات ﮐ «البشرية» أو الفناء. لكن إن كان الشيء الوحيد الشائع بين سقراط، ولنقل أفلاطون، هو مجرَّد كلمة — وهي كلمة بشر — فإن حقيقةَ أن سقراط فانٍ لا تقول شيئًا عما إن كان أفلاطون أو أي بشري آخر يتصف بالفناء. هنا ارتعب المدرسيون. فأنَّى لهم إذن أن يكتسبوا معرفةً بالعالَم؟ بالنسبة إلى الأوكامي، كانت هناك طريقة واحدة أكيدة لاكتشاف ما إن كان المرء فانيًا: أطلِق عليه سهمًا ولاحظْ ما إن كان سينجو. في منطق الأوكامي، الخالي من الكليَّات المليء فقط بالفرديات، تكون الطريقة الوحيدة للحصول على معرفةٍ موثوق فيها هي من خلال الخبرة والملاحظة. بالطبع يُعَد هذا هو حجرَ الأساس للعلوم الحديثة.
لكن من المهم أن نفهم أن هذا المنهج التجريبي لا يحتوي على أيِّ شيء مؤكَّد بيقين. فسهمٌ واحد قد يثبت أن سقراط فانٍ، لكن لا يمكن له أن يثبت أن «كل البشر فانون». ومائة سهم يصيبون مائة رجل قد تسمح لنا بأن نتقدَّم بالفرضية التي تقول إن كل البشر فانون، لكن بالنسبة إلى الأوكامي، كلُّ الفرضيات مؤقَّتة واحتمالية وعُرضة لأن يدحضها السهمُ رقم مائة وواحد. يرى الأوكامي أن هذا يمثِّل اختلافًا مهمًّا آخر بين العلم والدين. فمن وجهة نظر الراهب الفرنسيسكاني، كان وجود الرب يقينيًّا، لكن لا يمكن للعلم إلا أن يتشكَّل من الفرضيات. ورأى الأوكامي أن العلم يُثمر عن احتمالاتٍ وليس أدلة.
ليس من الصعب أن نرى لماذا تسبَّبت شفرة أوكام في هذا الاهتياج. فطيلة قرون عديدة، تجادل المدرسيون فيما بينهم حول طبيعة الكليَّات والفئات، لكن بجرات قليلة بقلمه رأى الأوكامي أن النظام بأكمله مضيعة للوقت؛ كالشيء الضئيل القيمة الذي بكى عليه الأكويني.
ويليام يطيح بالمَلِك عن عرشه
لم يكتفِ ويليام بسحق الواقعية الفلسفية، فانطلق ليهاجم الأدلةَ العلمية على وجود الرب التي وضعها الأكويني وآخرون. تتذكَّر أن الأكويني في أربعةٍ من أساليبه الخمسة كان قد دفع بأن الأسباب الأرسطية (المادية والصورية والفاعلة والنهائية) قد تؤدي إلى سلاسلَ لا نهائية من الأسباب والنتائج التي لا بد أن يعلوها سببٌ أول، وهو الرب. فأشار ويليام إلى أن سلاسلَ الأسباب والنتائج لا تؤدِّي بالضرورة إلى ارتدادٍ لا نهائي يحتاج إلى وضعِ حدٍّ له. إذ يمكنك على سبيل المثال أن تتخيَّل كونًا مملوءًا بثلاثة أشياء فحسب، تقضي الأبدية في ارتطام مستمر فيما بينها مما يُنتِج أسبابًا (ارتطامات) ونتائجَ (مسارات متغيِّرة)، لكنها تظل مع ذلك ثلاثة أشياء قابلة للعد. وإن لم يكن هناك ارتداد لا نهائي، إذن فليس هناك حاجة لحدٍّ إلهي. فالإله في إطار شفرة أوكام هو كيان يتجاوز حدود الضرورة، ومِن ثَمَّ فإن حجَّة الأكويني اللبقة هذه لا يمكن أن تثبِت وجوده.
وبالنسبة إلى «حجَّة التدرُّج» لدى الأكويني، فيقرُّ الأوكامي أولًا بأن نظامًا متسلسلًا من الأشياء الأفضل هو نظامٌ لا بد له بالفعل أن يُحدَّ بأفضل شيء. لكنه يشير إلى أن هناك تعدُّدية «للأفضل»، وكلٌّ منها يمكن أن يُحدَّ بأفضل ما فيها. على سبيل المثال، لربما تجادل الأوكامي ومعاصروه حول الأجمل من بين كاتدرائية نوتردام بباريس وكاتدرائية كانتربري؛ أو لربما تجادلوا بشأن أكثر الأقسام شعريةً في «الكوميديا الإلهية» لدانتي. لكن، ما كان الجدال بشأنِ ما إن كانت كاتدرائية كانتربري أفضلَ من «الكوميديا الإلهية» ليكون له أي معنًى. وهكذا فإن حجَّة التدرُّج عند الأكويني يمكن أن يكون لها عدة حدود مختلفة مثل البشر أو الإله أو الحمار، والأمر في ذلك يتوقَّف على الملمَح الذي يُصنَّف.
لكن أبقى الأوكامي على الجزء الأهم لحججه المعارِضة للأدلة على وجود الرب من أجل العدوِّ الأول للعلم، وهو الغائية. تتذكَّر أن الغاية هي السبب الرابع من أسباب أرسطو، وهي تقبَع بخلاف الأسباب الأخرى في المستقبل وليس في الماضي. فغاية وجود الخنازير أن تُؤكل. إن الغائية تقوِّض العلوم الحديثة لأنها تقوِّض أساسها القائم على السببية والذي يمتد تأثيرُه من الماضي إلى الحاضر ثم إلى المستقبل. وحيث إننا ليس لدينا وصول للمستقبل، فإن ترْك مساحة للأسباب التي تكمُن في المستقبل يجعل العلوم شيئًا مستحيلًا. إلا أن الأكويني كان قد دفع بحتميةِ أن يكون الرب هو السببَ النهائي، أو الغاية، لكل شيء في العالم. وإن كان محقًّا، فسيكون العالَم غير قابل لأن نتعرَّف عليه؛ حيث إن غايات الرب ليست متاحة لأن يعرفها البشر.
بعد هدم ودحض الواقعية الفلسفية — مفهوم الأنواع والأدلة الخمسة الأكثر رسوخًا على وجود الرب — كان معظم العلماء ليقنعون بما قدَّمه معلِّمهم. إلا أن ويليام كان يضع نُصبَه هدفًا مهمًّا آخرَ، والذي يتمثَّل في تحايل الأكويني الفلسفي فيما يتعلَّق بالمعجزة الأساسية في المسيحية، وهي القربان المقدَّس.
خلعُ مَلكِ العلوم
لكن القديس توما الأكويني كان قد خبَّأ طعمَ الخبز ورائحته وقوامه في معجزة القربان المقدَّس في فئة الكم. إذ قبل المعجزة كان هناك رغيف خبز واحد، وبعد وقوع المعجزة كان هناك مسيح واحد. وبالتخلُّص من الكلية الخاصة بالكم كان الأوكامي قد تخلَّص من الأساس الذي ضمَّن من خلاله الأكويني المعجزةَ في العلم. وهنا أطيح بمَلكِ العلوم عن عرشه.
الدفاع عن الطريق الثالث
[فيما يتعلَّق باللاهوت] إنه ليس بالعلم الأول أو الأخير أو الأوسط لأنه ليس بعلم ملائم …
ومع ذلك، تسبَّب كل هذا في إزعاجٍ شديد لرفاق الأوكامي في القرن الرابع عشر في أكسفورد ولندن. فاللاهوتيون الذين كدحوا من أجل بناء علمٍ من مجال تخصصهم كانوا غاضبين أشدَّ الغضب، وكان الفُطُن من بينهم قد أدركوا أن إصرارَ ويليام على الطبيعة غير القابلة للمعرفة للإله قد قلَّص بصورةٍ فاعلة من مجال تخصُّصهم إلى ما هو أكثر قليلًا من قراءة الكتاب المقدَّس. وكان الفلاسفة الواقعيون منزعجين بالقدرِ نفسه. إذ ظنُّوا أن إصرار الأوكامي على أن الكليَّات هي خيالات عقلية هو أمرٌ يرادف إخبار أحد رجال الاقتصاد بأن المال غير موجود.
ويليام يتورَّط في المتاعب
وفي ربيع عام ١٣٢٣ — حين كان ويليام في نحو الثامنة والثلاثين من عمره — دُعي ليدافع عن آرائه في اجتماعٍ إقليمي لرهبنة الفرنسيسكان أُقيم في كامبريدج. من الواضح أنه لم يبذل جهدًا كبيرًا لتهدئة ناقديه، فاستمرت الشائعات عن أفكاره الجذرية في التسرُّب خارج أكسفورد ولندن حتى استرعت في نهاية المطاف انتباه أقوى رجل في العالم المسيحي. وصلت المفاجأة المذهلة إلى أكسفورد في وقتٍ مبكِّر من عام ١٣٢٤: إذ وصل استدعاء من البابا يطلب حضورَ ويليام جلسات استماع في أفينيون، وهي مقام المقعد البابوي في ذلك الوقت، ليرد على اتهامات بتدريس الهرطقة.
أفينيون
… أنا على دراية تامة بخبث البشر …
لم يتضح مَن نبَّه البابا إلى ما قد تنطوي عليه أفكارُ ويليام من هرطقة، لكن جون لوتريل الرئيس السابق لجامعة أكسفورد كان في الصورة مجددًا. كان قد سافر إلى أفينيون في عام ١٣٢٣ يبتغى ترقيةً على الأرجح. وكان البابا جون الثاني والعشرون قد طلب منه أن يفحص شروحاتِ ويليام لكتاب لومبارد «كتب الأحكام الأربعة» بحثًا عن آراءٍ مهرطقة محتملة. في اليوم التالي قدَّم لوتريل بيانًا بثلاثة وخمسين «خطأً»، معظمها يتعلَّق برفض الأوكامي لفئة الكم لأرسطو، وهي المسألة التي كانت تتعلَّق بشدة بمعجزة القربان المقدَّس. وقد استجاب البابا لذلك بأن استدعى ويليام إلى أفينيون لتستجوبه لجنةٌ مكوَّنة من ستة أساتذة كبار بينهم لوتريل.
لا بد أن أخبار اتهام البابا لواحد من الرهبان بالهرطقة قد تسبَّبت في اضطراب واهتياج في أروقة لندن وأكسفورد. فالجميع كان يعرف طريقةَ الموت التي تنتظر المهرطقين غير التائبين. ويمكن للمتهم أن يتجنَّب المحرقةَ دائمًا بأن يتخلى عن آرائه المهرطقة، لكن هل سيفعل ويليام ذلك؟ حيث إنه الآن في أواخر الثلاثينيات من عمره، كان ما يُعرف عنه من عنادٍ يشي بأنه قد يستمر على الأرجح في الجدال مع مَن اتهموه فيما تلتهب ألسنةُ النار تحت أقدامه.
انطلق ويليام إلى مدينة أفينيون، بعد استدعائه بوقت قصير. ولا بد أنه سلك طريقًا جنوبيًّا إلى دوفر، ومن هناك عبَر القناة الإنجليزية فيما كانت بشكلٍ شبه مؤكَّد رحلتَه البحرية الأولى. وبمجرد أن وصل ويليام إلى فرنسا، فعلى الأرجح كثيرًا أنه سلك طريقًا عبْر باريس. فهل حظي بفرصة لقاء العلماء والتدريس هناك؟ ليس هناك دليلٌ على ذلك، لكن إن كان قد فعل، فقد يساعد هذا في تفسيرِ تبني بعض العلماء الباريسيِّين أفكارَه بحماسةٍ شديدة. بعدها لا بد أنه سلك الطريقَ الروماني القديم جنوبًا ليصل إلى أفينيون بحلول وقت مبكِّر من صيف ١٣٢٤ على الأرجح.
كان خليفة كليمنت الخامس — وهو جون الثاني والعشرون — هو مَن استدعى ويليام. وكان يقطُن في قصر الأسقف القديم فيما كان قصره الجديد — قصر البابوات المهيب — بأبراجه القوطية المميزة لا يزال قيدَ الإنشاء. وفي نهاية المطاف ضُمِّن القصر القديم في البناء الجديد؛ لذا من المرجَّح أن محاكمة ويليام جرت على أرض قصر البابوات الموجود اليوم.
في تلك الأثناء، كان ويليام مجبرًا على أن يظلَّ في المدينة حيث أقام في دير الفرنسيسكان المحلي. وعلى الأرجح أنه أكمل أعظمَ أعماله الفلسفية هناك، وهو كتاب «خلاصة المنطق». من الواضح أن ذلك الكتاب كان مثيرًا للغضب والاستفزاز، حيث كان يدل ضمنيًّا على أن مجلَّدًا واحدًا — بآرائه الاسمانية القوية — يحتوي على كل شيء من الأجدر أن نعرف به عن مجال المنطق. ففيه يشدِّد الأوكامي على أن «المنطق هو أكثر الأدوات نفعًا في كل الفنون. ومن دونه لا يمكن لنا أن نعرف أيَّ علم من العلوم على نحوٍ كامل».
وبحلول شهر أغسطس لعام ١٣٢٥، أي بعد عام تقريبًا من وصول ويليام إلى أفينيون، كان من الواضح أن المحاكمة لم تكن تسير على ما يُرام. ففي ردٍّ له على خطابٍ من الملك إدوارد الثاني الذي طلب أن يعود لوتريل إلى إنجلترا، قال البابا إن رئيس الجامعة السابق مشغولٌ بمهمة اجتثاث «عقيدة خبيثة». وفي عام ١٣٢٧ أصدر البابا جون الثاني والعشرون مرسومًا عامًّا يتهم فيه ويليام بالتفوُّه ﺑ «الكثير من الآراء الخاطئة والمهرطقة».
لكنَّ محاكمة ويليام لم تكتمل قط، كما حدث في تعليمه. عوضًا عن ذلك، أصبح متورِّطًا في صراعٍ آخر أكثرَ خطورة حتى، صراعٍ حصد بالفعل الكثيرَ من الحيوات، وغيَّر وجهَ تاريخ أوروبا، وذلك طبقًا للعديد من المؤرِّخين.
هوامش
-
(١)
آلة موسيقية تشبه العود.
-
(٢)
كان استخدام الأسلوب الشرطي أسلوبَ «الخروج من المأزق» المعتاد لإبعاد حججه عن الحجج الخاصة بالسلطة الإلهية.
-
(٣)
تشتمل بعض تأويلات ميكانيكا الكم على السببية الرجعية.
-
(٤)
قارن البيروني (٩٧٣–١٠٤٨) بين مشاكلِ علماء الفلك الهنود الذين كان يتعيَّن عليهم أن يوفِّقوا بين علم الفلك والديانة الهندية، وبين موقف القرآن في هذا الشأن مؤكدًا أن «القرآن لم يتحدَّث بوضوح عن هذا المجال [علم الفلك] أو أي [مجال] آخرَ من مجالات [المعرفة] الضرورية».
-
(٥)
رغم أن الإلحاد كان بعيدًا عن التصوُّر في عالَم العصور الوسطى — إذ لمَ يتعيَّن على أحد أن يثبت وجودَ الإله إن لم يكن هناك بذلك شك من قبل؟ — وكانت وجهة نظر على الأرجح تبنَّاها الكثير من الأفراد سرًّا، فإن أي إعلان عام عن الإلحاد كان ليؤدِّي بك إلى محرقة المهرطقين إن لم تتدارك نفسك لاحقًا.