تقديم المترجم

لم يُخفِ مُؤلِّف الكتاب، أو ناشره، «هنري ديفد أيكن»، على القارئ في مقدمة كتابه تعقُّد التيارات الفلسفية وتعدُّدها في القرن التاسع عشر، إلى الحد الذي يجعل من العسير، أولًا، اختيار الفلاسفة الذين ينبغي أن يمثلوا في كتاب من النصوص المقتطفة مثل كتابه هذا، وثانيًا، اختيار النصوص التي تُعرَض في الكتاب لهؤلاء الفلاسفة أنفسهم؛ فعملية الاختيار هنا مزدوجة، وفي كل مرحلة منها صعوبة وحيرة؛ إذ يُضطر المرء دائمًا — كما أشار أيكن في المقدمة — إلى التضحية بفلاسفة لهم مكانتهم المؤكَّدة في عالم التفكير الفلسفي، ثم يُضطر بعد ذلك إلى اختيار نصٍّ ضئيل جدًّا، لا يتجاوز خمس عشرة صفحةً في الأصل الإنجليزي، من بين ألوف الصفحات التي يكتبها كل مفكِّر من هؤلاء.

ولقد تحدَّث أيكن في مقدمته عن عملية الاختيار الأولى؛ أعني اختيار الفلاسفة. وأود هنا أن أعرض بضع ملاحظات على عملية الاختيار الثانية؛ أعني اختيار النصوص؛ فمن الضروري، في كتاب كهذا، أن تتوافر في النصوص المختارة صفتان؛ الأولى: أن تكون مُمثِّلةً لتفكير الفيلسوف بإيجاز. والثانية: أن تكون دالةً على اتجاهه الأيديولوجي. وأستطيع أن أقول إن المؤلف كان في معظم الأحيان مُوفَّقًا فيما اختاره من النصوص، ولكني أعتقد أن التوفيق لم يحالفه في حالات قليلة، وهو أمر ينبغي، في رأيي، أن يُنبَّه القارئ إليه حتى لا يحكم على كل الفلاسفة الذين يقرأ لهم من خلال النصوص التي تُمثِّلهم في هذا الكتاب.

فالنص المختار من «كانت» ليس دالًّا على فلسفته بأسرها، بل إنه يتناول جانبًا محدودًا منها فحسب، ولا يكشف بوضوح عن طابعها «الأيديولوجي»، بالمعاني التي حدَّدها المؤلف في الفصل الأول لهذا اللفظ. وكم كنت أتمنى أن يختار المؤلف نصًّا دقيقًا، واضحًا، جامعًا، مثل مقدمة الطبعة الثانية لكتاب «نقد العقل الخالص»، حيث يجد القارئ تلخيصًا كاملًا لاتجاه «كانت» الفكري، وللدلالة الأيديولوجية لفلسفته، معروضًا بلغة واضحة في صفحات قليلة نسبيًّا.

أمَّا النص المختار من «فشته»، فهو في رأيي غير مُوفَّق على الإطلاق، ويبدو أن المؤلف ذاته أحسَّ بذلك لأنه اهتم في مقدمته كثيرًا بهذا النص ودافع بقوة عن اختياره له. وبغض النظر عن تبرير المؤلف لهذا الاختيار، فإن هناك ناحيةً أخرى كان ينبغي أن يحسب لها حسابًا، وهي: إذا قدمت لقارئ «فشته» في عشر صفحات، فهل تُقدِّمه له في صورة هذه المبادئ التي تتحدث كلها عن «الأنا» «واللاأنا» بطريقة تمثِّل قمة التعقيد في المثالية الألمانية؟ وهل هذا يتفق مع نفسية قارئ «النصوص الموجزة المختارة»، ويُقدِّم إليه صورةً صحيحة عن «فشته»، أم إنه يُنفِّره منه نفورًا قد يصبح فيما بعدُ أبديًّا؟

وبعد ذلك، فإن النص المختار من «جون ستيوارت مل»، وإن يكن مُوفَّقًا من حيث دلالته على تفكير «مل» الهادئ المتسلسل في دقة وإحكام، فإنه لا ينطوي — في رأيي — على أية دلالة أيديولوجية، ولا يعدو أن يكون اختبارًا منطقيًّا للمعاني المختلفة للفظ «الطبيعة».

أمَّا النص المختار من «هربرت اسبنسر»، فهو خاتمة لأحد كتبه، تفترض مُقدَّمًا إلمام القارئ بهذا الكتاب، وليست خاتمةً من النوع الذي يُلخِّص المناقشات الماضية تلخيصًا يمكن أن يُفهم بذاته.

وبعد هذه الانتقادات التي أرى لِزامًا عليَّ أن أُوجِّه إليها أنظار القارئ، أود أن أمتدح في المؤلف شيئَين:
  • أولهما: أن البعض الآخر من نصوصه كان مُوفَّقًا دون شك، ولا سيما النصوص المختارة من كونت ونيتشه وكيركجورد.
  • وثانيهما: أن الشروح التي سبقت كل نص، والتي تكاد تُعادل النصوص ذاتها في عدد صفحاتها، هي بالفعل شروح واضحة مفيدة، تُقدِّم إلى القارئ لمحةً سريعة قيِّمة عن تفكير الفيلسوف موضوع البحث وعلاقته بغيره من فلاسفة الفترة نفسها، وربما غيرها من الفترات. (هذا إذا استثنينا بعض المقارنات التي لا تُجدي فتيلًا، مثل مقارنة فكرتَي المراحل الثلاث عند كونت وعند كيركجورد!) وهكذا، فعلى حين قد يجد القارئ في نص مُعيَّن غموضًا أو قصورًا عن شرح وجهة نظر الفيلسوف الكاملة، فإن الشرح السابق للنص — وهو دائمًا شرح وإيضاح لفلسفة المفكِّر كلها، لا النص الوارد بعدها فحسب — يفيد إلى حد بعيد في سد ثغرات الاختيار.

وينبغي في هذا المقام أن أُشير بإيجاز إلى بعض مشكلات الترجمة التي يثيرها هذا الكتاب، وإلى طريقتي في معالجة هذه المشكلات. وأهم ما ينبغي أن يشار إليه في هذا الصدد، هو اضطراري إلى ترك بعض الكلمات الأصلية بأصلها الإنجليزي، ونقلها إلى العربية كما هي.

فلفظ «الأيديولوجية» الذي يتصدَّر عنوان هذا الكتاب، يُترجم عادةً ﺑ «العقائدية»، وهي ترجمة قد يتسنَّى قَبولها في مقال سياسي أو ثقافي عام، أمَّا في سياق كتاب متخصِّص كهذا، فمن المحال أن يكون له مجال. ويكفي أن يتصفح القارئ الفصل الأول من هذا الكتاب، ليدرك اتساع معاني هذا اللفظ وتشعُّبها إلى الحد الذي يستحيل معه التعبير عنه بلفظ واحد كهذا، لا يتناول إلا معنًى واحدًا من المعاني المقصودة، هو معنى «الاعتقاد»، وهو معنًى ليس هو وحده المميِّز للفظ. ولعل أفضل شرح للفظ الأيديولوجية هو ذلك الذي أتى به «مانهيم Karl Mannheim» في كتابه «الأيديولوجية والمدينة الفاضلة Ideology and Utopia»، والذي يُلخَّص في أن اللفظ يُطلق بمعنيَين؛ أحدهما مذموم والآخر مقبول. فالمعنى المذموم تكون الأيديولوجية فيه هي آراء الخصم الظاهرية، التي تُخفي الطبيعة الحقيقية لموقفه، والتي ليس من صالح ذلك الخصم الكشف عنها. وبالمعنى المقبول يقال إن أيديولوجية عصر أو طبقة ما هي إلا خصائص الذهن وتركيبه في ذلك العصر أو تلك الطبقة.١
ويظهر هذان المعنيان معًا في الفلسفة الماركسية، التي يرجع إليها إذاعة شُهرة لفظ الأيديولوجية؛ فترى ماركس يتحدَّث عن الأيديولوجية على أنها تمثِّل مواقف الناس كما لو كانت في صورة مقلوبة، ويضع الأيديولوجية مقابل التفكير العلمي الأصيل، وينظر إلى مذهبه ذاته على أنه تجاوز للأيديولوجية وكشف لخداعها، وبهذا المعنى يتحدث عن «الأيديولوجية الألمانية» بوصفها مذهبًا فكريًّا لفلاسفة خضعوا لمؤثِّرات لم يشعروا بها، على حين أن فلسفته هو لم تكن في نظره «أيديولوجيةً» على الإطلاق. ومع ذلك فقد تطوَّر اللفظ إلى حد أن أي تفكير أصبح يمكن أن يُعَد أيديولوجيًّا، بمعنى أنه لا بد أن يعكس ظروف طبقة معينة. وهكذا اختفى التقابل القديم بين الأيديولوجية وبين التفكير العلمي، وأصبحنا نجد مفكِّرًا ماركسيًّا مثل «جورج بوليتزر» يصف الأيديولوجية بأنها «مجموعة من الأفكار تُكوِّن كلًّا أو نظرية أو مذهبًا أو حالة ذهنية فقط في بعض الأحيان»، ويعترف بأن المذهب الماركسي ذاته له أيديولوجيته التي تعكس تأثير العوامل الاقتصادية والاجتماعية المؤثِّرة في الطبقة العاملة.٢

وإذن، فلفظ الأيديولوجية ينطوي على معانٍ معقدة لا يمكن أن يعبِّر عنها لفظ «العقائدية» بأية حال. وإذا كان هذا الأخير يمكن — تجاوزًا — أن يُعَد تعبيرًا عن الناحية التي يُعَد فيها اللفظ دالًّا على مجموعة من الأفكار والمواقف الأساسية للإنسان، فإنه لا يمكن أن يُعَد معبِّرًا عن الوجه الآخر الذي يُعَد فيه اللفظ دالًّا على «انعكاسٍ» لأوضاع وظروف تؤثِّر في الفكر الظاهري وتكون أهم وأسبق منه. وهكذا يستحق اللفظ في رأينا أن يدخل على اللغة العربية بصورته الأجنبية دون تغيير.

ومثل هذا يقال عن لفظ «الترنسندنتالي» الذي أذاعته ونشرته في الأوساط الفلسفية كتابات «كانت». وأنا أول من يدرك أن اللفظ بصورته الأجنبية المعربة هذه ثقيل على اللسان والأذن، ولكن مثل هذا الحل يبدو أمرًا لا مفر منه؛ فليس للَّفظ علاقة بالعلو أو «التعالي»، التي يدل عليها اشتقاقه في اللغات الأجنبية، بل هو، كما يردِّد «كانت» في كتاباته دائمًا، ولا سيما في «المدخل إلى كل ميتافيزيقا مقبلة»، على عكس العلو والتعالي تمامًا؛ لأنه تعبير عن الشروط «الكامنة» في المعرفة بحيث تجعلها ممكنة. وقد كنت أوثر ترجمةً مثل «الممكن» أو «التمكيني»، ولكن هذه الألفاظ ما زالت عاجزةً عن التعبير عن كل المعاني المعقَّدة التي استخدم بها «كانت» هذا اللفظ. وهكذا فأنا أعترف بأن استخدام لفظ «الترنسندنتالي» هنا هو، إلى حد بعيد، حلٌّ مبعثه العجز عن الإتيان بما هو أحسن.

أمَّا عن الترجمة نفسها، فقد يجد القارئ اختلافًا طفيفًا بين بعض الترجمات وبين النص الإنجليزي الأصلي، ولا سيما في النصوص التي يكون أصلها غير إنجليزي؛ وسبب هذا الاختلاف هو إيثاري الرجوع إلى الأصل في هذه الحالات.

بقيت أخيرًا كلمة عن مؤلف الكتاب أو ناشره، هنري ديفد أيكن. وقد وُلد أيكن عام ١٩١٢م، وتلقَّى دراساته بالجامعات الأمريكية، ولا سيما جامعة هارفارد، ثم تولَّى التدريس فيها أيضًا. ومؤلفاته المنشورة في صورة كتب قليلة العدد، منها، إلى جانب هذا الكتاب، نشرة لكتاب «الفلسفة الأخلاقية والسياسية» لديفيد هيوم Moral and Political Philosophy، كما أصدرت له دار «نوبف A. Knopf» للنشر بنيويورك منذ أشهر قليلة كتاب «العقل والسلوك Reason and Conduct».
أمَّا الكتاب الذي نترجمه ها هنا فقد أصدرته أولًا دار Houghton Mifflin بأمريكا سنة ١٩٥٦م، ثم دار Braziller في سنة ١٩٥٧م، وبعد نفاد هاتَين الطبعتَين، صدرت له طبعتان شعبيتان، في دار Mentor للطباعة الشعبية. والكتاب هو المجلد الخامس في سلسلةٍ من ست مجلدات بعنوان «العصور الكبرى للفلسفة الغربية Great Ages of Western Philosophy».
نيويورك في يناير ١٩٦٢م
فؤاد زكريا
١  Kard Mannheim: Ideology and Utopie. (Routledge Paperbacks) London 1960.
٢  George Politzer: Principes élémentaires de philosophie. Edition Sociale, Paris 1948, p. 245–247.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤