الفصل الثالث

مذهب الأنا في الفلسفة الألمانية

يوهان جوتليب فشته (١٧٦٢–١٨١٤م)

رغم أن فلسفة كانت تنطوي على الكثير من بذور الثورة الرومانتيكية على «عصر العقل»، فإن خصائص هذا العصر تظهر في معظم اتجاهات كانت الأساسية. فتأكيده الاستقلال الذاتي الأخلاقي للفرد هو صفة مميزة لفترة أنكرت فيها معظم الأذهان المتعمِّقة السلطةَ الروحية المستقلة لأي نظام. ولقد كان كانت فردي النزعة، بحيث كان الالتزام الأخلاقي الأساسي في نظره هو احترام فردية كل شخص بوصفها غايةً في ذاتها. ومع ذلك فهو لم يكن فرديًّا بالمعنى الرومانتيكي. ولا جدال في أنه كان يرتاع لو اطَّلع على تأكيد نيتشه لحقِّ الإنسان الأرقى في «قلب» جميع القيم، أو في النظر إلى مطامحه الشخصية على أنها قوانين لذاته. فكانت قد ظلَّ من أصحاب النزعة الكلية الشاملة؛ أي إن أي أمر أخلاقي هو في نظره أمر للناس أجمعين، لا للألمان أو المسيحيين أو الجنس الأبيض فحسب. ولقد كان ميله إلى جعل المسائل الخاصة بالسعادة الفردية وبرفاء المجتمع تحتل مركزًا ثانويًّا، كان هذا الميل من الخصائص المميِّزة لفترة كانت فيها المشكلة الاجتماعية الكبرى هي مشكلة الحقوق الإنسانية المشتركة.

ولقد اقتبس كانت من روسو، وهو الأب الحقيقي للرومانتيكية، الرأي القائل بأولوية الإرادة من وجهة نظر الأخلاق. غير أنه، على خلاف روسو، قد حرص على أن يُلحق هذا الرأي بشرط يقول إن الإرادة الأخلاقية هي في الوقت ذاته إرادة عاقلة لا بد لها من تصوُّر للقانون. كما أنه لم يشارك روسو خوفه من العقل النظري أو كراهيته له، ولم يشاطره رغبته في إخضاع المعايير العقلية للمعايير الأخلاقية أو الدينية. وقد يكون صحيحًا، بمعنًى معيَّن، أن للقلب، كما قال إسكال، أسبابه التي لا يعرفها العقل، غير أن هذا، في رأي كانت، لا يُبرِّر على الإطلاق تخلِّينا عن قوانين المنطق لحساب الضمير أو الإيمان، ولا يُحلِّل لنا الاعتقاد أن الشمس تُشرق من الغرب إذا بدا أن الأخلاق أو الدين تقتضي ذلك.

والواقع أن العناصر الأساسية المؤدية إلى فهم سليم للطابع الفلسفي الذي تميَّز به كانت هي تلك العناصر التي لم يكن فيها مقتفيًا أثر روسو. ولا مفر للمرء من إساءة فهم تعاليم كانت إلى حدٍّ بعيد إذا حاول أن يمضي بها إلى أبعد من فترة البداية الأولى للعصر الرومانتيكي. أمَّا في حالة فشته، الذي كان أول مفكر هام، وأصيل، تأثر بكانت، فلسنا في حاجة إلى مثل هذه المحاولة؛ إذ إنه يتجاوز حدود البدايات الأولى الرومانتيكية بطبيعته، وبحكم ميله ومزاجه وعقيدته. وفي تفكيره تخفُّ وطأة تلك القيود التي حالت دون تمجيد كانت للإرادة على حساب الذهن. كذلك يكاد يكتمل في تفكيره ذلك التحوُّل لمفهوم العقل، الذي كان قد بدأ عند كانت. فقد نظر كانت إلى قوانين المعقولية، لا على أنها انعكاس لتركيب الأشياء في ذاتها، بل على أنها صور للذهن البشري. ولكنه لم يفترض أن في وسع أي مخلوق بشري أن يطرح هذه الصور جانبًا إذا ما شاء ذلك. فلا جدال في أن الذهن البشري يفرض على ذاته من القواعد ما يلزم لإنجاز مهمة المعرفة. غير أن القواعد التي يشرِّعها الذهن للبحث واحدة بالنسبة إلى جميع الناس. أمَّا فشته فإنه يصبغ ثورة كانت الكبرنيكية، في البداية على الأقل، بصبغة ذات طابع أقوى بكثير؛ فهو يتخذ في البداية الموقف القائل إنه، مثلما أن أي قانون أخلاقي لا يمكن أن يُلزمني إلا إذا اخترت بنفسي أن ألتزم به، فكذلك لا تستطيع أية قوانين لا شخصية مزعومة للذهن البشري أن تشرِّع الطريقة التي يتعيَّن عليَّ بها أن أُنجز مهمة المعرفة إلا إذا كنت على استعداد لقَبول هذه القوانين بوصفها قوانين خاصة بي. ولا بد أن يكون أي «عقل» أعد مسئولًا أمامه، عقلًا «خاصًّا بي». وبالاختصار، فإن فشته يفسِّر الفلسفة «النقدية» بأنها تقوم على القول بأن مقتضيات الذات الفردية، أو الأنا، هي نقطة بداية كل تفكير فلسفي. والمشكلة الأساسية هي معرفة هذه المقتضيات.

وهكذا حوَّل فشته النقد الكانتي للعقل إلى مسألة حياة أو موت ﻟ «يوهان جوتليب فشته» ذاته، فإذا ما وجد أفراد آخرون أن النتائج التي انتهى إليها مقبولة لديهم بدورهم، فذاك شأنهم. ومن المُسلَّم به أن أحدًا لا يستطيع، ولا ينبغي، أن يظل جزيرةً عزلاء. أمَّا من الوجهة الفلسفية فإن عليه أن يبدأ على هذا النحو بالفعل.

ولن يدرك أحد الأزمة البشرية الأساسية الكامنة في النقد الكانتي للعقل إلا إذا اعترف باستحالة وجود أية نقطة بداية أخرى للتفلسف. أو إذا شئنا تحوير الاستعارة السابقة، فليقل إن أحدًا لا يستطيع مبارحة جزيرة الأنا إلا عن طريق جسور يختارها هو. كما أن «من المُحتَّم عليه»، من الوجهة العملية، أن يُشيد هذه الجسور. ولكن «الضرورة» الوحيدة هنا تكمن في إرادته الخاصة. ومع ذلك فقد حاد فشته عن هذا الموقف في النهاية إلى حد ما، وهكذا نجده يتحدَّث، ولا سيما في الفترة المتأخرة من تطوُّره، عن «روح مطلقة»، لا يُعد «أناي» المتناهي سوى مظهر لها. ولكن حتى لو بدا أن فشته لم يكن جادًّا كل الجد في تفسير التحوُّل الترنسندنتالي عند كانت تفسيرًا شخصيًّا خالصًا، فعلينا نحن على الأقل أن نأخذه مأخذ الجد إذا شئنا أن يكون لفلسفته أية أهمية بالنسبة إلينا.

ولقد كان تطوُّر فشته الفلسفي عكس تطوُّر كانت على خط مستقيم؛ فكانت قد بدأ بنزعة عقلية توكيدية، ولم يصل إلى فلسفته النقدية الجديدة إلا في مرحلة متأخرة من أواسط عمره. أمَّا فشته فقد بدأ تلميذًا لكانت، وعدَّ نفسه مُجرَّد مُنفِّذ لبرنامج كتب «النقد» الثلاثة على نحو أكمل، وانتهى به الأمر مثاليًّا توكيديًّا لا يعترف بحقيقة سوى الروح، ممَّا دفع كانت نفسه في النهاية إلى تفنيد فلسفة فشته بوصفها تحريفًا أساسيًّا لتعاليمه.

وأفضل كتابات فشته تلك الكتابات الأولى التي كان لا يزال فيها واقعًا تحت تأثير كانت، أمَّا كتاباته المتأخرة فأقل طرافة، وأقل تشويقًا بكثير. فلقد بدأ بدفاع قوي عن المُثل العليا التي استهلَّتها الثورة الفرنسية، مُؤكِّدًا بحماسته المعروفة أن للفرد حقوقًا لا يمكن مطلقًا أن يسلبه إياها أحد، وأن حرية الكلام والفكر ضرورية، وأن لكل شعب حقًّا أخلاقيًّا في الثورة على أي نوع من الحكم تُقمع فيه حرياته. ولكنه حين تحوَّل فيما بعدُ إلى وطنيٍّ ألماني متعصب، أغضبه غزو نابليون لوطنه، ألَّف كتابه المشهور «نداءات إلى الأمة الألمانية»، الذي تظهر فيه بوضوح نزعة عنصرية وقومية عنيفة جعلت بعض نُقاده يعدونه سلفًا مباشرًا للنازية. وفي آخر أطوار تفكيره، تحوَّلت نزعته الفردية الأولى تدريجيًّا إلى مذهب لتمجيد الدولة قائم على أُسس تاريخية الوجهة، وهو مذهب يتزايد فيه إخضاع حرية الأنا الفردي «للروح المطلقة» في تكشُّفها الذي يتبدَّى تاريخيًّا في حياة المجتمع، أو يؤكِّد أن تلك الحرية هي ذاتها هذه الروح المطلقة.

وهكذا يشبه تطوُّر فشته، في هذا الصدد، تطوُّر كثير من الرومانتيكيين الآخرين في عصره، ممن بدءوا ثوارًا وانتهَوا محافظين أو أسوأ من المحافظين.

وثمة طريقتان لفهم فلسفة فشته، تقترب كل منهما من الأخرى كثيرًا في نهاية الأمر. الطريقة الأولى لفهمه تسمَّى عادةً بالطريقة «الأخلاقية»، والثانية تسمَّى ﺑ «الميتافيزيقية». وسبب تقاربهما في نهاية الأمر هو أن الميتافيزيقا ليست عند فشته علم العلوم superscience، وإنما هي نسق من مواقف الإرادة أو تأكيداتها؛ فالواقع reality كما يفهمه، ليس مقترنًا بما يقال عنه إنه «موجود exist» بأي معنًى مألوف، وإنما بما تعده الإرادة ضروريًّا لتحقيق غاياتها الخاصة. ففي فلسفته يُقضى آخر الأمر تمامًا على أي تمييز بين ما ينبغي أن يكون وما هو واقع؛ ولهذا السبب لم يكن لديه أي تمييز قاطع بين الأخلاق أو الأيديولوجية الأساسية وبين الميتافيزيقا. فمن العبث، من وجهة نظر فشته، أن نتساءل، على طريقة العالِم، عمَّا إذا كان ثمة إله؛ فمثل هذه الطريقة في وضع هذه الأسئلة تُشوِّه تمامًا دلالتها، التي هي دلالة عملية لا نظرية؛ فالشخص الذي يشك فيما إذا كان ثمة عالم خارجي ليس في حاجة إلى دليل، وإنما إلى علاج؛ فإخلاصي في سعيي وجدِّي في عملي هو وحده الكفيل بجعل العالم الخارجي حقيقة بالنسبة إليَّ. كما أن ذاتي ومقتضياتها هي التي تأتيني بالضمان الوحيد الممكن للإيمان بالله. والواقع أن فشته لا يرى فارقًا أساسيًّا، في نطاق المسائل الميتافيزيقية، بين الاعتقاد بالشيء وبين الإيمان به. فأي شي يكون حقيقيًّا من الوجهة الميتافيزيقية إذا تحتَّم علينا الإيمان به، أو إذا شئنا ذلك، حتى لو لم يكن يوجد سبب، بالمعنى المعتاد، للقول بوجوده.

كل هذه الآراء تبدو خياليةً جامحة إذا لم يتأملها المرء دائمًا في ضوء التعاليم الكانتية الكامنة من ورائها. أمَّا إذا تتبَّعنا استدلالات فشته المعقَّدة من خلال هذا المنظور على الدوام، فسوف يبدو مذهبه أقرب إلى المعقول إلى حد ما. ويضع فشته، في البداية، تقابلًا بين فلسفتَين يطلق عليهما اسم «التوكيدية» و«المثالية». وهو يرى أن الأساس النهائي الوحيد لاختيار المرء بينهما هو ملاءمة الفلسفة التي يختارها «لنوع الإنسان الذي يكونه ذلك الشخص». وهنا يقول فشته في الواقع بذلك الرأي الذي يؤمن به الكثيرون، وإن كان القليلون هم وحدهم الذين يعترفون به، وأعني به أن الالتزامات النهائية تحدث آخر الأمر بِناءً على أُسس تنتمي إلى مجال الطبع أكثر منها إلى مجال البرهان. والأهم من ذلك أنه يقول إن هذه الالتزامات سابقة على المعقولية؛ إذ لا يمكن أن تُفهم الأحكام المتعلِّقة بما هو معقول أو صحيح إلا في علاقتها بهذه الالتزامات. إن الفيلسوف الواقعي يُسلِّم، دون تمحيص، بوجود عالم من الأشياء المستقلة الحقيقية التي لا تختبر حقيقة أفكارنا أو مطابقتها إلا عن طريقها، وينسى أن مجرد القول بوجود هذا العالم معناه اتخاذ موقف فلسفي تُعَد معطيات التجربة بالنسبة إليه محايدةً تمامًا.

إن التوكيدية هي فلسفة أولئك الذين يحتاجون إلى سلطة خارجية، ولو كانت سلطة عقل لا شخصي «موضوعي» يستطيع المرء بوصفه «كائنًا عاقلًا» أن يرتكن إلى قوانينه أو قواعده؛ فالفلاسفة العقليون، من أمثال ديكارت واسبينوزا، كانوا توكيديين، غير أن توكيديتهم تقضي على ذاتها إذ تعجز عن تبديد شكوكهم الفلسفية الباقية. إنهم حقًّا يتحدَّثون كما لو كانت المعرفة هي الغاية القصوى للحياة الفلسفية، ولكن المعنى الذي يتضح أنهم يستخدمون به كلمة المعرفة لا يعدو أن يكون الحدس السلبي. وهكذا ينتهي الأمر فعلًا بالعقليين إلى التوحيد بين المعرفة وبين التأمُّل الحسي على نحو يقضي بطريقة غريبة على التفرقة بين ما هو حقيقي بالفعل real، وما هو غير حقيقي unreal. ويرضى بالصور الخيالية بقدر ما يرضى بإدراك ما هو موجود. ومن المحال أن يتم أي تمييز جدِّي بين الذات واللاذات the not-self إلا على يد «أنا» يتجاوز ما هو «معطًى» في الحدس لكي «يؤكِّد» أنه إمَّا مظهر وإمَّا واقع. أمَّا المثالية فهي فلسفة إيجابية، تضع افتراضاتها عن إدراكٍ لِمَا تفعله، وتأبى التقيُّد بأي سلطة خارجية، حتى لو أكَّدت هذه السلطة على نحو لا شخصي باسم العقل ذاته. والمثالي لا يعترف بسلطة أي عقل سوى عقله هو، ولا يتقيَّد بقوانينه إلا لأنها تُعبِّر عن مطالب «أناه» هو. وعلى حين أن صاحب المذهب العقلي يسلِّم مقدَّمًا بعالم خارجي لأشياء في ذاتها يُفترض أن على أفكارنا مطابقتها، فإن المثالي يرفض التقيُّد مقدَّمًا بأي افتراض كهذا، ولا يقبل في البداية سوى حقيقة الأفكار كما تُعطى في التجربة. فإذا ما أكَّد بعد ذلك حقيقةَ عالم من وراء أفكاره هذه، فينبغي أن يُفهم قَبوله هذا على أنه نتيجة لِمَا اختار هو ذاته أن يصنعه منها.
وليس هناك بالطبع أي شك في نوع الرجل الذي كانه فشته؛ فقَبوله للمثالية لم يكن راجعًا إلى كونها «أقرب» إلى طبيعة الأشياء في نظره، بقدر ما كان راجعًا إلى مُلاءمتها على نحو أفضل لنظرته إلى ذاته على أنه فاعل حر الإرادة، وهو إذا كان يقبل حقيقة الطبيعة، كما فعل، فلا بد أن يكون ذلك بشروطه هو، لا لأن أي مبدأ لا شخصي للعقل يرغم على ذلك. إن فشته ليس من الشكاك، ولا هو من المنادين بمذهب «الذات الوحيدة solipsism»؛ فهو لا ينكر وجود شيء في الواقع عداه هو وأفكاره، غير أن هذا الشيء في نظره «حقيقي» لأنه يُتيح مجالًا لفاعلية إرادته.

وإذن فأولى خطوات الفلسفة المثالية عند فشته هي رفض ذلك الأثر الباقي للتوكيدية العقلية في نظرية المعرفة عن كانت؛ أعني «الشيء في ذاته». ويرى فشته أن أي حديث عن «الشيء في ذاته» هو حديث لا قيمة له من وجهة نظر الفلسفة النقدية الحقة؛ فما نسمِّيه ﺑ «نظام العالم» هو عالم قضايانا. والسبب الوحيد لتأكيد واقعية أي شيء من وراء انطباعاتنا المباشرة هو سبب عملي. وكل ما يفعله المفكر العقلي هو أن يخفي هذه الحقيقة عن ذاته باستخدام تعبيرات لا شخصية مثل «العقل» أو «الحدس» أو «الحقيقة الواضحة بذاتها».

فنقطة بداية فشته هي إذن تلك النتيجة التي انتهى إليها كانت في مذهبه في العقل العملي. فلقد اعترف كانت ذاته أن المنْفذ الوحيد الذي يصلنا بعالم الأشياء في ذاتها المتجاوز للتجربة هو مصادرات العقل العملي. ومضى فشته أبعد ممَّا مضى إليه كانت مؤكِّدًا أن المنفذ الوحيد الذي يصلنا بأي عالم، تجريبيًّا كان أم متجاوزًا للتجربة، هو تلك التأكيدات posits التي يتعيَّن على الذات الفاعلة القيام بها لممارسة نشاطها. ولقد اعترف كانت ذاته بأن موضوعات البحث العلمي ليست معطاة. ويرى فشته أن حقيقتها التجريبية ذاتها تتوقَّف على كوننا نجد من الضروري تأكيدها، تحقيقًا لأغراض المعرفة. والواقع أن أي موضوع نرى لزامًا علينا أن نؤمن به، سواء أكان هو الله أم الإرادة الحرة أم النفس الخالدة — وهي الموضوعات التي عدَّها كانت ضرورةً للحياة الأخلاقية — أم كان من الموضوعات التجريبية للعلم ولحياة الإنسان اليومية، ليس إلا هدفًا يفي بواحد من المطالب الجدية للذات.

وفي وسعنا أن نقدِّم صورةً لخلاصة مذهب فشته على النحو الآتي: فلنتصوَّر شخصًا عاديًّا، واقعيًّا إلى أبعد حد، تثيره أولًا تلك الخلافات الميتافيزيقية حول مسألة وجود العالم الخارجي، وتزيد بعد ذلك من حيرته تدريجيًّا، فينتهي به الأمر إلى الهتاف موجِّهًا هذا السؤال الذي يبدو غير فلسفي: «فيمَ يهم، على أية حال، إن كان ثمة عالم خارجي أم لا؟» مثل هذا السؤال ينتمي إلى صميم فلسفة فشته؛ فالسؤال الفلسفي عند فشته ليس السؤال عمَّا إذا كان ثمة شيء «هناك»، وإنما السؤال عمَّا إذا كان لهذا القول أية قيمة عملية.

ورغم أن فشته يؤكِّد أن كل نشاط بشري، سواء أكان علميًّا أم غير ذلك، يبدأ بتأكيدات معينة، وأن ما نسميه باللاذات not-self «الموضوعية»، هي ذاتها لا تعطى مستقلةً عن فاعلية الإرادة، فإنه لا يقول بأن شيئًا لا يُعطى في التجربة؛ فمواد الحس ليست من خلق الذهن العارف. صحيح أننا نستطيع بإرادتنا أن نهتم بها أو نطرحها جانبًا، ولكننا لا نستطيع أن نقرِّر إن كانَت ستظهر أمامنا عندما نفتح أعيننا؛ فهي معطاة، ولكنها ليست معطاةً بوصفها موضوعات، وكونها معطاةً ليس في ذاته كافيًا لجعلها حقيقية. وبعبارة أخرى فإن الإحساس، بما هو كذلك، لا ينطوي على عنصر التأكيد assertion أو الحكم. فليس ثمة إحساس يأتي منطبعًا بما في ذاته بصفة «الواقعية» أو «الظاهرية»، مثلما لا يوجد إحساس منطبع في ذاته بصفة «الزُّرقة»، أو «الصلابة». وقبل أن يمارس الذهن أي نشاط له على أي تمثُّل حسي، يظل هذا التمثُّل «س» غير مُصنَّفة وغير مُفسَّرة، لا يمكن أن يقال عنها سوى أنها ماثلة فحسب. ولا يتحوَّل ما تكشفه الحواس إلى معطيات أو شواهد لأي اعتقاد إلا عندما ننظر إليه على أنه كذلك، وفقًا لقواعد للبحث وضعناها نحن أنفسنا. وهكذا لا يكون المنهج العلمي ذاته شيئًا تتكشَّف أو تظهر لنا «صحته» أو «صدقه» على نحو واضح بذاته، بل إنه من حيث هو منهج، شيء ينبغي لنا الأخذ به تحقيقًا لمصالحنا الخاصة، والشيء الوحيد الذي يضمن آخر الأمر اتخاذ أي إجراء أو قاعدة معيارًا للصحة أو للتبرير هو جدية التزاماتنا وولائنا لغاياتنا الخاصة؛ فتصوُّر «الصحة validity» كتصوُّر الإلزام، لا ينطوي على إشارة إلى «علاقات فعلية» كامنة في واقع معطًى بصفة مستقلة، بل إن كل ما يعنيه هو شروط معينة للقابلية للتصديق نفرض بها مقدَّمًا تلك القواعد التي ينبغي في اعتقادنا تصديق أي شيء بِناءً عليها.
وهكذا يرفض فشته تلك النظرية القديمة، التلقائية، عن الحقيقة، المسماة ﺑ «نظرية التطابق»، ويستعيض عنها برأي يقترب كثيرًا ممَّا أسماه المثاليون اللاحقون باسم «نظرية الترابط»، القائلة إن حقيقة أي قول تُختبر تبعًا لتمشِّيه مع مجموع الأقوال الأخرى التي يتعيَّن علينا الأخذ بها. والهدف الأخير للمعرفة لا يعدو أن يكون تنظيم التأكيدات posits على أكمل وأحكم وجه يكفل تحقيقنا لذواتنا بوصفنا كائنات فاعلة. والبرهان الوحيد على صحة مثل هذا النسق هو استعدادنا للأخذ به.
وفي فلسفة فشته عناصر كثيرة استبق فيها الاتجاه الفلسفي للبرجماتيين في القرن التالي. ولقد أدرك أحد هؤلاء البرجماتيين، وهو «كلارنس أ. ليويس c. I. Lewis»١ وجه الشبه هذا بكل وضوح، وأشار أكثر من مرة إلى تأثير فشته في تفكيره. فالمعطى الحسي عند البرجماتي ليس معرفة. والتجربة ليست مرآةً لحقيقة مغايرة لا نستطيع، لظروف شاذة، إدراكها مباشرة. وإنما الأفكار مُوجِّهات للعمل، لا يمكن تقدير قيمتها إلا ببحث النتائج المترتبة على تصرُّفنا بموجبها. وليست معايير المعقولية في أي ميدان مُنزَّلةً من السماء، وإنما هي معايير تأخذ بها الكائنات الفاعلة بوصفها ضرورات عملية. وكل تفكير، إذا فُهم على حقيقته، إنما يكون استباقًا للتجربة، لا يتضح صوابه آخر الأمر إلا بقدرته على الوفاء بحاجاتنا. وإذن فأقصى ما يحقِّقه العقل ليس «التأمُّل»، وإنما الحل العملي للمشاكل. والحقيقي real ليس شيئًا يُتأمَّل، بل هو ما نقبله في النهاية بوصفه الحل المُرضي لمشكلاتنا.

ولا جدال في أن طريقة فشته في التعبير مختلفة كل الاختلاف عن مثيلتها لدى البرجماتيين المتزمِّتين، الذين لا يقبلون على الإطلاق طريقته التشخيصية في الكلام؛ فذلك الميل الغريب لدى فشته إلى وصف الأمور كما لو كان ثمة شيء يسمى ﺑ «الحرية»، هو الذي يؤكِّد ذاته ويحقِّق ذاته في الفعل، يصدم القارئ الذي لا يقبل آراءه، فيصف الكثير منها بأنها أشنع أنواع التضليل الميتافيزيقي. كذلك لا يمكننا أن ننكر أن فشته قد وقع، ولا سيما في مرحلته المتأخرة (التوكيدية)، في نفس الحبائل التي تحاول الفلسفة النقدية الكشف عنها، فهو يقع آخر الأمر ضحية ميله إلى تشخيص التصوُّرات والنظر إليها كما لو كانت هي، لا نحن، التي تريد وتفعل. وتكون خاتمة مطافه المحزنة هي اتخاذه موقف «المثالي المطلق»، الذي ينظر إلى الذات الفردية، ومعها «اللاذات» التي تؤكدها الذات لأسباب عملية، على أنها أوجه أو مظاهر لروح مطلقة أو ذات كبرى يقال إنها تشمل الواقع بأسره.

وهكذا ينتهي الأمر بفشته إلى محاولة الإمساك بفطيرته والتهامها؛ فهو يبدأ بأنا جزئي متناهٍ يضع posits عالمًا يخدم أغراضه العملية، وينتهي بإدماج الاثنَين معًا في أنا مطلق يضعهما معًا. وهكذا فإن الشيء في ذاته الذي قال به كانت، والذي سبق لفشته أن رفضه رفضًا قاطعًا، بوصفه آخر بقايا التوكيدية، يعود إليه آخر الأمر كشبح لا يبارحه. والنتيجة أنه هو ذاته قد منح الميتافيزيقا التوكيدية فسحةً جديدة من العمر أتاحت لها القضاء على كل مبرِّر لمذهبه في أولوية العقل العملي. وهو إذ قضى على تمييز كانت بين الترنسندنتالي (المرتبط بالتجربة) والعالي (المتجاوز للتجربة)، فقد أحال المذهب الذي بدأ في صورة نقد ذاتي مشروع إلى «نقد أعلى» ممسوخ انتهى به آخر الأمر إلى الخلط بينه وبين الواقع ذاته.
ومع ذلك فمن الممكن، إذا اقتفينا أثر أكثر مفسِّريه تحمُّسًا له؛ أعني «جوشيا رويس Josiah Royce»، أن نجد حتى في هذا الحُطام شيئًا ينقذه، شيئًا لا يُعد مجرَّد خزعبلات ميتافيزيقية. فرغم قوة «مذهب الأنا» لدى فشته، فإنه يدرك بوضوح الطابع الاجتماعي، بل العرفي، لكل نشاط إنساني.
ولقد أدرك كانت ذاته أن ما نسمِّيه «عقليًّا» في أي ميدان هو ما نتصوَّره مشتركًا بيننا وبين آخرين مثلنا؛ فنحن لا نتصوَّر أنفسنا عمليًّا على أننا نشتغل وحدنا، ولا ننظر إلى معاييرنا على أنها مقتصرة علينا. وبالاختصار، ففي كل مهمة نضطلع بها، سواء أكانت شيئًا نسمِّيه فعلًا أخلاقيًّا أو بحثًا عمليًّا، ننظر إلى أنفسنا على أننا مقيَّدون بمعايير «موضوعية» أو مشتركة بين الأشخاص، يلتزم بها الآخرون مثلما نلتزم نحن بها. ولو لم نفترض أن الآخرين موجودون مثلنا، لَمَا استطعنا الحديث عن معايير موضوعية على الإطلاق. ولو لم نفترض أن ثمة مجتمعًا من الكائنات المماثلة لنا والراغبة في الالتزام بهذه المعايير، لَمَا استطعنا القول بأن أي كائن عاقل ملزم بالاعتراف بهذه المعايير. فما قيمة الحديث عن «الحقوق» و«الواجبات»، بل ما قيمة الحديث على إطلاقه، إن لم أكن أفترض أن عالمي عالم مشترك للفعل، يندمج فيه آخرون مثلي، وذلك لأسباب مماثلة لأسباب؟ وهكذا فرغم أن أحدًا غيري لا يستطيع القيام بدلًا مني بعملية التأكيد الخاصة بي (my position)، فما زلت مضطرًّا إلى النظر إلى القواعد التي أختار بها أن أحيا على أنها قواعد مشتركة بين الأشخاص أو الذوات.
لا مفر لأحد، إذن، من أن ينظر إلى عالمه على أنه عالم اجتماعي، وإلى أناه على أنه ينتمي إلى مجتمع من «الأنوات egos» أوسع نطاقًا. وربما لم يكن هذا «معطًى» كاللون الأصفر أو طعم الثوم، ولكنه مع ذلك وجه ضروري لتفكيرنا وفعلنا بوصفنا موجودات اجتماعية، فلو نحَّينا جانبًا كل الادعاءات، لقلنا إذن إن ما نسمِّيه بالعالم المشترك هو كثرة من «الأنوات»، أو ينطوي على الأنوات من أمثالنا، وهي كثرة تُصدر تأكيدات مشتركة، وتعد نفسها مسئولةً عن قواعد مشتركة للفكر والعمل. وليس هناك، من وجهة نظر فشته، سوى خطوة واحدة بين هذا القول وبين افتراض «أنا أعظم» يريد هذا العالم المشترك وهذه الحياة المشتركة من خلالنا. ولا شك في أننا لسنا مُلزَمين بأن نخطو هذه الخطوة، ولكن كثيرًا من الناس في جميع العصور قد خطَوها. وهي في رأيهم ضرورية لإضفاء الحقيقة على المبادئ المشتركة التي نجد أنفسنا مسئولين عنها.
والنص التالي مختار من الأقسام الثلاثة الأولى من كتاب فشته: «مبادئ النظرية العامة في العلم».٢

(النص)

القسم الأول: المبدأ الأول الأساسي غير المشروط على الإطلاق.

علينا أن نبحث عن المبدأ المطلق الأول، والأساسي غير المشروط على أي نحو، للمعرفة البشرية. ولكي يكون هذا مبدأً أول مطلقًا، فلا يمكن أن يقبل البرهنة عليه أو تحديده.

هذا المبدأ ينبغي أن يعبر عن ذلك الفعل Thathandlung الذي لا يحدث ولا يمكن أن يحدث، بين التحديات التجريبية لوعينا، وإنما يكون هو أساس وعينا، وهو وحده أول ما يجعل هذا الوعي ممكنًا. والأمر الذي يُخشى منه عند تصوُّر هذا الفعل ليس هو ألَّا يفكِّر المرء فيما ينبغي أن يفكِّر فيه، بقدر ما هو أن يفكِّر فيما لا ينبغي له التفكير فيه. وهذا يحتِّم علينا تأمُّل ما قد يُعَد مؤقتًا فعلًا كهذا، وتجريده من كل ما لا ينتمي فعلًا إليه.

هذا الفعل، الذي ليس بالواقعة، التجريبية للوعي، لا يمكن أن يتحوَّل، حتى عن طريق هذا التأمُّل التجريدي إلى واقعة للوعي، ولكنا نستطيع عن طريق هذا التأمُّل التجريدي أن ندرك ما يلي؛ إن هذا الفعل ينبغي بالضرورة أن يُعَد أساس كل وعي.

وإن القوانين٣ التي ينبغي بالضرورة أن يُعد هذا الفعل تبعًا لها أساسًا للمعرفة البشرية، أو بعبارة أخرى، تلك القواعد التي يسير ذلك التأمُّل التجريدي تبعًا لها، لم تثبت صحتها بعد، ولكننا سنفترض ضمنًا، وبصفة مؤقتة، أنها معروفة متفق عليها. وسوف نستنبطها، أثناء سيرنا، من ذلك المبدأ الأساسي الذي لا يصبح إثباته إلا إذا كانت هي صحيحة. وفي هذا حقًّا دور، ولكنه دور لا مفر منه. ولمَّا كان دورًا لا مفر منه، ومعترفًا به فعلًا، فإنه يحق لنا الإهابة بجميع قوانين المنطق العام في وضع هذا المبدأ الأساسي الأعلى.

وعلينا أن نبدأ، عند القيام بهذا التأمل التجريدي، من قضية يسلِّم بها الجميع دون جدال. ولا شك أن ثمة قضايا عديدةً كهذه. وسنختار منها تلك التي تبدو في نظرنا أقرب الجميع إلى تحقيق الغرض الذي نرمي إليه.

ولا بد عند قَبول هذه القضية من قَبول الفعل الذي نعتزم أن نتخذه أساسًا لكل نظرية العلم لدينا، ولا بد أن يوضِّح التأمُّل أن هذا الفعل يُقبل بمجرَّد قَبول القضية. وهكذا سنتناول أية واقعة من وقائع الوعي التجريبي يُعترف بأنها قضية لها مثل هذه الصحة، ونعزل عنها واحدًا بعد الآخر من تحديداتها التجريبية، حتى لا يتبقَّى فيها إلا ما لا ينطوي على شيء يُعزل أو يجرَّد.

والقضية التي سنتناولها من هذا النوع هي: أ هي أ (وهي تعادل أ = أ؛ لأن هذا هو معنى الرابطة المنطقية). فصحة هذه القضية معترف بها من الجميع دون أي تردُّد. والكل يُقرون بيقينيتها ووضوحها التام.

فإذا ما طلب أحد برهانًا على يقينيتها، فلن يأتي أحد بمثل هذا البرهان، بل سيقول: إن هذه القضية يقينية فحسب؛ أي دون أي أساس آخر. وهو إذ يقول هذا، يعزو إلى نفسه القدرة على تأكيد (setzen) شيء على نحوٍ مطلق.

وأنت حين تؤكِّد يقينية القضية السابقة في ذاتها، لا تؤكِّد أن أ موجودة؛ إذ إن القضية أ هي أ لا تعادل على الإطلاق القضية أ موجودة، أو: توجد أ (إذ إن تأكيد الوجود دون محمول يختلف كل الاختلاف عن تأكيده مع محمول). ولو فرضنا أن أ تعني مكانًا منحصرًا بين خطَّين مستقيمَين، فعندئذٍ تكون القضية أ هي أ صحيحة رغم ذلك، وإن كانت القضية «أ موجودة» كاذبة؛ إذ إن مثل هذا المكان محال.

ولكنك تؤكِّد بهذه القضية ما يلي. إذا كانت أ موجودة، فإن أ موجودة، وإذن فمسألة كون أ موجودة أو غير موجودة، لا تتأثَّر هنا أصلًا. ومحتوى القضية لا يُبحث هنا على الإطلاق، بل إن موضع البحث هو صورتها فحسب. والمسألة ليست ذلك الموضوع الذي تدور معرفتك حوله، بل ما تعرفه عن أي موضوع ما. وإذن فالشيء الوحيد الذي يؤكَّد في هذه القضية هو الارتباط الضروري بصفة مطلقة بين أ وأ. وسوف نرمز إلى هذا الارتباط بالحرف س.

أمَّا بالنسبة إلى أ ذاتها فإنا لم نؤكِّد شيئًا بعد.

وهكذا يظهر السؤال التالي: تحت أي الشروط تكون أ موجودة؟ إن س على الأقل توجد في الأنا، وتؤكَّد من خلال الأنا؛ إذ إن الأنا هو الذي يؤكِّد القضية السابقة، وبذا يؤكِّدها عن طريق س بوصفها قانونًا، ومن ثم وجب أن تكون س هذه، أو هذا القانون، معطاةً للأنا. ولمَّا كانت تؤكَّد على نحو مطلق، ودون أي أساس آخر، فلا بد أن تكون معطاةً للأنا عن طريق ذاته.

ولكنا لا نعلم إن كانت أ تؤكد «Gesetzt»، ولا كيف تؤكد، ولكن لمَّا كان المقصود من س هو أن تُعبِّر عن ارتباط بين تأكيد غير معروف ﻟ أ (أ الأولى في القضية أ هي أ) وتأكيد ﻟ أ نفسها، وهو تأكيد مطلق في الحالة الأخيرة بِناءً على التأكيد الأول، فالنتيجة هي أن أ تؤكد، على الأقل بقدر ما يؤكد هذا الارتباط، في الأنا ومن خلاله، مثل س؛ ذلك لأن س لا تكون ممكنةً إلا في ارتباطها ﺑ أ. ولكن الأنا هو الذي يؤكِّد س، وإذن فالأنا هو الذي يؤكِّد أ أيضًا، بقدر ما ترتبط بها س.
وفي القضية السابقة ترتبط س ﺑ أ التي تحتل فيها موقع الموضوع المنطقي، وكذلك ﺑ أ التي تحتل فيها موقع المحمول؛ إذ إن س هي التي تجمع بينهما. وإذن فكلتاهما، بقدر ما تؤكد Gesetzt، تؤكد في الأنا، كما أن أ المحمول تُؤكد تأكيدًا مطلقًا إذا ما أُكدت الأولى. ومن هنا فمن الممكن التعبير عن القضية السابقة على النحو الآتي: إذا أُكدت أ في الأنا، فإنها تؤكد (أو توضع)؛ أي تكون.

وهكذا يؤكد الأنا عن طريق س: أن أ موجودة بصفة مطلقة بالنسبة إلى الأنا المؤكد، وأنها موجودة لا لشيء إلا لأنها مؤكدة في الأنا، أو أن في الأنا شيئًا يظل دائمًا على ما هو عليه، وبذلك يتمكَّن من أن يربط أو يؤكِّد، ومن ثم فمن الممكن أيضًا التعبير عن س المؤكدة تأكيدًا مطلقًا على النحو الآتي: أنا = أنا، أو: «أنا أكون أنا».

وهكذا وصلنا إلى القضية «أنا أكون» لا بوصفها تعبيرًا عن فعل، وإنما على الأقل بوصفها تعبيرًا عن واقعة.

ذلك لأن س مؤكدة بصفة مطلقة، وهذه واقعة للوعي التجريبي كما يتبيَّن من القضية المعترف بها. ولكن معنى س يساوي «أنا أكون أنا»، ومن هنا فإن هذه القضية مؤكدة على نحو مطلق.

غير أن «أنا أكون أنا»، لها معنًى مختلف كل الاختلاف عن أن أ هي أ؛ إذ إن القضية الأخيرة لا يكون لها محتوًى إلا بِناءً على شرط مُعيَّن؛ أي إذا أكدت أ. ولكن القضية «أنا أكون أنا» صحيحة على نحو مطلق غير مشروط، ما دامت معادلةً ﻟ س، وهي صحيحة لا من حيث صورتها فحسب، ولكن من حيث محتواها أيضًا. وفيما يؤكد الأنا لا بِناءً على شرط، بل على نحو مطلق، مع محمول المساواة للذات، وهكذا فإن الأنا يؤكِّد، ويمكن التعبير عن القضية أيضًا على هذا النحو: «أنا أكون».

هذه القضية، «أنا أكون» لا تقوم حتى الآن إلا على واقعة، وليست لها سوى صحة واقعة. فلكي تكون «أ = أ»، (أو س) يقينية، ينبغي أن تكون «أنا أكون» يقينية بدورها. على أن من وقائع الوعي التجريبي أننا مضطرون إلى النظر إلى س على أنها يقينية على نحو مطلق، وإذن «فأنا أكون» يقينية بدورها؛ إذ إنها أساس س. وهذا يستتبع أن أساس تفسير جميع وقائع الوعي التجريبي هو الآتي:

قبل كل تأكيد (setzen) في الأنا، ينبغي أن يؤكِّد الأنا ذاته.

•••

إن في القضية أ = أ حكمًا، غير أن كل حكم (urtheilen) فعل للذهن البشري؛ إذ إن له جميع شروط هذا الفعل في الوعي التجريبي، الذي ينبغي أن نفترض مقدَّمًا كونه معروفًا، ومسلَّمًا به، حتى نتقدَّم بتفكيرنا. على أن هذا الفعل مبني على شيء ليس له أساس أعلى؛ أي س أو أنا أكون.
وعلى ذلك فما يؤكِّد posited على نحو مطلق، وما يكون مبنيًّا على ذاته، هو أساس فعل معيَّن (وستكشف لنا نظرية العلم بأسرها أنه أساس كل فعل) للذهن البشري، ومن هنا كان طابعه الخالص، وهو الطابع الخالص للفعل في ذاته، مجرَّدًا تمامًا من شروطه التجريبية الخاصة.
وإذن فتأكيد الأنا لذاته هو الفعل الخالص للأنا؛ فالأنا «يؤكد ذاته»، والأنا، لهذا السبب، هو مجرَّد تأكيد ذاته. وبالعكس، فإن الأنا «يكون ويؤكد» وجوده، لمجرَّد كونه موجودًا؛ فهو الفعل وحاصل الفعل معًا، والفاعل ونتيجة الفاعلية معًا، والنشاط والفعل متحدَين، ومن هنا فإن «أنا أكون» تعبِّر عن فعل Thathandlung، وعن الفعل «الوحيد» الممكن، كما ستكشف لنا نظرية العلم بأسرها بالضرورة.
القسم الثاني: المبدأ الأساسي الثاني المشروط بمقتضى محتواه.

لا يمكن البرهنة على المبدأ الأساسي الثاني؛ لنفس السبب الذي لم يمكن من أجله البرهنة على المبدأ الأول. وعلى ذلك فنحن نبدأ في هذه الحالة أيضًا من واقعة للوعي التجريبي على النحو ذاته.

ولا شك في أن كل شخص على استعداد للاعتراف بيقينية القضية لا أ ليست هي أ (A nicht = A)، ولا يكاد يُتوقع من أحد أن يطلب عليها برهانًا.

ومع ذلك، فإذا كان مثل هذا البرهان ممكنًا، فلا بد في مذهبنا هذا … أن يُستنبط من القضية أ = أ.

غير أن هذا البرهان مستحيل. فلنتصور، على أحسن الفروض، أن القضية السابقة تعادل لا أ هي لا أ (وبذلك تكون لا أ مساويةً ﻟ ص التي تؤكَّد في الأنا)، وأن معنى قضيتنا هذه قد أصبح الآن، نتيجةً لذلك، هو: إذا أكد عكس أ، فإنه يؤكد؛ ففي هذه الحالة لا نكون قد أكَّدنا سوى نفس الارتباط (س) الذي وصلنا إليه في القسم الأول، وبدلًا من أن تكون قضيتنا «لا أ ليست هي أ» مستمدةً من أ = أ، فإنها عندئذٍ تكون هي هذه القضية ذاتها. وهنا يغفل تمامًا السؤال الرئيسي، وهو: هل يؤكد عكس أ، وتحت أي شرط من صورة الفعل البحت يؤكد؟٤ إن هذا الشرط ينبغي أن يكون مستمَدًّا من القضية أ = أ، إذا كانت قضيتنا الثانية هذه قضية مستمدة، ولكن كيف يمكن أن تتضمَّن القضية أ = أ، التي لا تنطوي إلا على صورة التأكيد، صورة التأكيد العكسي Gegensetzen٥ أيضًا، الذي هو مقابل الأولى وعكسها؟ لا بد إذن أنها غير مشروطة تؤكد عكسيًّا على نحو مطلق بدورها؛ أي إن لا أ تؤكد بما هي كذلك لمجرد كونها تؤكَّد.
وعلى ذلك، فكما أن القضية لا أ ليست هي أ تحدث قطعًا ضمن وقائع الوعي التجريبي، فإنه يحدث ضمن أفعال الأنا تأكيد عكسي، وهذا التأكيد العكسي ممكن على نحو مطلق غير مشروط، من حيث صورته، وهو فعل Handlung ليس له أساس أعلى.
وعن طريق هذا الفعل Handlung المطلق يؤكد العكس، من حيث هو مجرد عكس. وكل عكس، بما هو مجرد عكس، لا يكون إلا بفضل فعل مطلق الأنا، وليس له أي أساس عدا ذلك.

فالعكس عامةً لا يعدو أن يكون مؤكَّدًا من خلال الأنا.

ولكن تأكيد أي «لا أ» يحتِّم تأكيد أ. ومن هنا فإن فعل التأكيد العكسي هو أيضًا، ومن وجهة نظر أخرى، مشروط؛ فمجرد كون الفعل ممكنًا يتوقف على فعل آخر، ومن ثم فإن الفعل في محتواه، من حيث هو فاعلية ein Handeln على الإطلاق، مشروط، وهو فاعلية ein Handeln بالنسبة إلى فاعلية أخرى، أمَّا كون الفعل قد حدث على هذا النحو، لا على نحو آخر، فهو أمر غير مشروط؛ أي إن الفعل من حيث الصورة (أي من حيث «الكيف das wie» غير مشروط. (فالتأكيد العكسي Das Entgegenaetzen لا يكون ممكنًا إلا بشرط وحدة الشعور بالتأكيد والتأكيد العكسي؛ إذ لو لم يكن الشعور بالفعل الأول مرتبطًا بالشعور بالثاني، لَمَا كان التأكيد الثاني تأكيدًا عكسيًّا، بل لكان تأكيدًا مطلقًا. وهو لا يغدو تأكيدًا عكسيًّا إلا من خلال علاقته بتأكيد).

ونحن إلى الآن لم نتحدَّث إلا عن الفعل من حيث هو مجرد فعل؛ أي عن «نوع» الفعل، فلنختبر الآن ناتجه، وأعني به «لا أ».

ففي لا أ يمكننا أن نميِّز بين صورة ومادة. أمَّا الصورة فهي التي تقرر كونها ضدًّا gegentheil، وأمَّا المادة فتقرَّر كونها عكس شيء محدَّد (هو أ)؛ أي كونها ليست هذا الشيء المحدد.
وتتحد صورة لا أ عن طريق الفعل فحسب، وهي «ضد» لأنها نتيجة تأكيد عكسي gegensetzen، أمَّا مادتها فتتحدَّد بواسطة أ؛ فهي ليست ما تكونه أ، وماهيتها كلها تنحصر في كونها ليست ما تكونه أ، فكل ما أعلمه عن لا أ هو أنها ضد أ. أمَّا كُنه ذلك الذي أعلم عنه هذا، فذلك ما لا يتسنَّى لي معرفته إلا عن طريق معرفة أ.

والأصل أن الأنا وحده هو الذي يؤكد، وهو وحده الذي يؤكد على نحو مطلق (القسم الأول). ومن ثم فإن أي تأكيد عكسي مطلق لا يمكن إلا أن يشير إلى الأنا. ونحن نطلق على عكس الأنا اسم «اللاأنا».

وكما يُسلم بالقضية «لا أ ليست هي أ» على نحو غير مشروط بوصفها واقعةً في الوعي التجريبي، فكذلك يؤكد اللاأنا بوصفه العكس المطلق للأنا. وكل ما قلناه من قبلُ بشأن التأكيد العكسي عامة، يُستنبط من هذا التأكيد العكسي الأصلي، ومن ثم فهو يسري عليه، وإذن فهو غير مشروط في صورته ولكنه مشروط في مادته. وهكذا نجد المبدأ الثاني لكل المعرفة البشرية:

فكل ما ينتمي إلى الأنا، لا بد أن ينتمي ضده إلى اللاأنا.

•••

وبإجراء نفس التجريد الذي أجريناه على القضية الأولى، على هذه القضية، نحصل على القضية المنطقية لا أ ليست هي أ، التي ينبغي أن أسمِّيها قضية التأكيد العكسي. هذه القضية، أولًا، لا يمكن حتى الآن تحديدها على النحو الصحيح، أو التعبير عنها في صيغة، وذلك لسبب سنذكره في القسم المقبل.

وبالتجريد من الفعل المحدد للحكم المتضمَّن في هذه القضية، والنظر المجرَّد إلى صورة استخلاص اللاوجود من الوجود المؤكد عكسيًّا، نحصل على «مقولة السلب»، وهذا أيضًا لا يمكن إيضاحه بإسهاب حتى القسم المقبل.

القسم الثالث: المبدأ الثالث الأساسي المشروط بمقتضى صورته.

إن كل خطوة نسيرها في علمنا تُقرِّبنا من النقطة التي يصبح فيها كل شيء مبرهنًا عليه؛ ففي المبدأ الأول كان ينبغي ألَّا يبرهَن، أو أن يتسنَّى البرهنة، على شيء. وفي الثاني، كان فعل التأكيد العكسي هو وحده غير القابل للبرهنة. ولكن ما إن أُكد هذا الفعل العكسي بصورته المجرَّدة تأكيدًا مطلقًا، فقد برهن بدقة على أن العكس ينبغي أن يكون لا أنا. أمَّا المبدأ الثالث فكله تقريبًا قابل للبرهان؛ إذ إنه ليس مشروطًا في مادته، كالثاني، وإنما في صورته فحسب، وهو فضلًا عن ذلك مشروط في صورته بالقضيتَين السابقتَين.

ومعنى كونه مشروطًا في صورته، هو أن القضيتَين السابقتَين هما اللتان تكونان مشكلة الفعل التي يثيرها ذلك المبدأ، ولكنهما لا تأتيان بحل لهذه المشكلة؛ إذ الحل ناتج عن فعل مطلق غير مشروط للعقل.

فنحن إذن نبدأ باستنباط، ثم نمضي أبعد ما يمكننا المضي. فإذا ما بلغنا نقطةً لا نستطيع المُضي بعدها، فسوف يكون علينا أن نهيب بهذا الفعل المطلق.

  • (١)

    فبقدر ما يؤكد اللاأنا، لا يؤكد الأنا؛ إذ إن اللاأنا يلغي الأنا تمامًا.

    على أن اللاأنا يؤكد في الأنا؛ لأنه يؤكد عكسيًّا في مقابله، وكل تأكيد عكسي يفترض مقدمًا هُوية الأنا.

    وإذن فالأنا لا يؤكد في الأنا بقدر ما يؤكد فيه اللاأنا.

  • (٢)

    ولكن لا يمكن تأكيد اللاأنا إلا بقدر ما يؤكد في الأنا (أي في الوعي القائم على الهُوية) أنا يكون اللاأنا هو تأكيده العكسي المقابل.

  • (٣)

    وإذن فبقدر ما يؤكد اللاأنا في الأنا، لا بد أن يؤكد الأنا بدوره فيه.

  • (٤)

    ومع أن كلا من نتيجتَي القضيتين ١ و٢ عكس الأخرى، فإن كلتَيهما مستمدة من المبدأ الأساسي الثاني، وعلى ذلك فهذا المبدأ الثاني معاكس لذاته ويلغي ذاته.

  • (٥)

    ولكنه يلغي ويرفع ذاته بقدر ما يعمل المؤكد عكسيًّا على إلغاء المؤكد؛ أي بقدر ما يكون هذا المبدأ صحيحًا.

    وإذن، فهو لا يلغي ذاته؛ فالمبدأ الأساسي الثاني يلغي ذاته ولا يلغي ذاته.

  • (٦)

    فإذا كان هذا حال المبدأ الثاني، فلا بد أن يكون أيضًا حال المبدأ الأول. فهذا المبدأ الأول يلغي ذاته ولا يلغي ذاته؛ إذ إنه:

    إذا كان الأنا = الأنا، فكل ما يؤكد في الأنا يؤكد.

    ولكن المبدأ الثاني يتعيَّن أن يؤكد وألَّا يؤكد في الأنا.

    وإذن فالأنا ليس هو الأنا، وإنما الأنا هو اللاأنا واللاأنا هو الأنا.

كل هذه النتائج قد استُنبطت من المبادئ المقرَّرة وفقًا لقوانين الفكر التي افترضنا مقدَّمًا صحتها، وعلى ذلك فلا بد أن تكون صحيحة، ولكن إذا كانت صحيحة، فإن هذا يؤدي إلى إلغاء هُوية الوعي، وهي الأساس الوحيد المطلق لمعرفتنا، وهذا يحدِّد مشكلتنا. فعلينا أن نجد س تتيح صحة هذه النتائج كلها، دون قضاء على هُوية الوعي.
  • (١)

    ولمَّا كانت الأضداد الواجب توحيدها موجودةً في الأنا بوصفه وعيًا، فلا بد أن تكون س بدورها في الوعي.

  • (٢)

    والأنا واللاأنا معًا ناتجان عن أفعال أصيلة للأنا، والوعي ذاته ناتج عن هذا النوع للفعل الأصيل الأول للأنا؛ أي لتأكيد الأنا لذاته.

  • (٣)

    ولكن نتيجتَينا السابقتَين تدلان على أن الفعل الذي يكون اللاأنا ناتجه؛ أي التأكيد العكسي، ليس ممكنًا على الإطلاق دون س. وإذن فلا بد أن تكون س ذاتها ناتجةً عن فعل أصيل للأنا؛ أي لا بد أن يكون هناك فعل للذهن البشري = ص، يكون ناتجه هو س.

  • (٤)

    وتتحدَّد صورة هذا الفعل ص على أساس المشكلة السابقة، فعليه أن يكون توحيدًا للضدَّين (الأنا واللاأنا) دون أن يلغي أحدهما الآخر؛ أي إن من الواجب جلب الضدَّين معًا في هُوية الوعي.

  • (٥)

    ولكن المشكلة لا تُحدِّد كيف؛ أي بأية طريقة، يتحدان، بل لا توحي بها على الإطلاق. فعلينا إذن أن نجري تجربة، ونتساءل: كيف يمكن التفكير في أ ولا أ؛ أي في الوجود واللاوجود، والإيجاب والسلب معًا، دون أن يُلغي كلٌّ منهما الآخر؟

  • (٦)
    لا يُتوقَّع من أحد أن يجيب عن هذا السؤال إلا على النحو الآتي: لا بد أن يحد (einschränken) كل منهما الآخر. فإذا كان هذا الجواب صحيحًا، فإن الفعل ص هو حد الضدَّين كل عن طريق الآخر، ويكون معنى س هو الحدود (die Schränken).
  • (٧)

    على أن فكرة الحدود تتضمَّن أكثر من س المطلوبة؛ «إذ هي تنطوي أيضًا على مفهومَي الإيجاب والسلب، الواجب التوحيد بينهما». وإذن، فلكي نصل إلى س خالصة، ينبغي أن نقوم بتجريد آخر.

  • (٨)

    ومعنى أن يحد شيء هو إلغاء إيجابيته بالسلب لا إلغاءً تامًّا، وإنما إلغاء جزئي. وإذن ففكرة الحدود تتضمَّن، إلى جانب فكرتَي الإيجاب والسلب، فكرة القابلية للانقسام (أي القابلية للإنصاف بصفة الكم عامة، لا الحكم المحدد). وهذه الفكرة هي س المطلوبة، ومن هنا، فعن طريق الفعل ص، يؤكد الأنا وكذلك اللاأنا بوصفهما قابلَين للانقسام.

  • (٩)

    إن الأنا، وكذلك اللاأنا، يؤكدان بوصفهما قابلَين للانقسام؛ إذ لا يمكن أن يعقب الفعل ص فعل التأكيد العكسي؛ إذ تبيَّن أن فعل التأكيد العكسي هو في ذاته مستحيل، كما لا يمكنه أن يسبق هذا الفعل؛ إذ إن الفعل ص لا يحدث إلا لكي يجعل فعل التأكيد العكسي ممكنًا؛ والقابلية للانقسام ليست سوى شيء قابل للانقسام. ومن ثم فإن الفعل ص وفعل التأكيد العكسي يحدثان كل منهما في الآخر ومع الآخر، وكلاهما نفس الفعل، وهما لا يتميَّزان إلا بالفكر. وإذن فعن طريق تأكيد لا أنا في مقابل الأنا، يؤكد الأنا واللاأنا معًا بوصفهما منقسمَين.

فلنرَ الآن إن كان الفعل الذي وصلنا إليه ها هنا قد حلَّ المشكلة بالفعل ووحَّد الأضداد.

إن النتيجة الأولى تتحدَّد الآن على النحو التالي؛ فالأنا لا يؤكد في الأنا عن طريق تلك الأجزاء من الواقع التي يؤكد بها اللاأنا؛ فذلك الجزء من الواقع الذي يُعزى إلى اللاأنا، يُلغى في الأنا.

هذه القضية، في صورتها الحالية، لا تناقض النتيجة الثانية؛ فبقدر ما يؤكد اللاأنا، ينبغي أيضًا أن يؤكد الأنا؛ إذ إنهما معًا يؤكدان بوصفهما منقسمَين من حيث حقيقتهما.

والآن فقط يمكنك أن تقول عن أحدهما إنه شيء ما؛ إذ إن الأنا المطلق في المبدأ الأساسي الأول ليس «شيئًا» (أي ليس له، ولا يمكن أن يكون له محمول)، وإنما هو لا يعدو أن يكون ما هو عليه. ولكن كل واقع reality إنما يكون في الوعي، ومن هذا الواقع يُنسب إلى اللاأنا ذلك الجزء الذي لا ينبغي أن ينسب إلى الأنا، والعكس بالعكس؛ فكلاهما شيء ما. واللاأنا هو ما لا يكونه الأنا، والعكس بالعكس. وفي مقابل الأنا المطلق، يكون اللاأنا لا شيء مطلقًا (ولكنه لا يمكن أن يوضع في مقابل الأنا المطلق إلا بقدر ما يكون موضوعًا للتمثل، كما سنرى فيما بعد)؛ ففي مقابل الأنا المنقسم، يكون اللاأنا كميةً سالبة.

وهكذا يتعيَّن على الأنا أن يكون مساويًا لذاته، وأن يكون مع ذلك مضادًّا لذاته. ولكنه مساوٍ لذاته فيما يتعلق بالوعي، وفي هذا الوعي يؤكد الأنا المطلق بوصفه غير منقسم، ويؤكد الأنا، الذي يقابله اللاأنا، بوصفه منقسمًا. وهكذا تتحد كل الأضداد في وحدة الوعي؛ إذ إن الأنا ذاته، بقدر ما يكون هناك لا أنا مقابل له، يكون فيها مقابلا للأنا المطلق، وذلك هو الاختيار الذي يدل على أن مفهوم القابلية للانقسام، الذي تمَّ وضعه، هو المفهوم الصحيح.

وعلى أساس افتراضنا الأول، الذي لا يمكن إثباته إلا بالانتهاء من المعرفة، لا يمكن أن يكون هناك سوى مبدأ واحد مطلق غير مشروط ومبدأ واحد مشروط في محتواه، ومبدأ واحد مشروط في صورته. وإذن فلا يمكن أن يكون ثمة مبدأ آخر؛ فقد استنفد كل ما هو مؤكد على نحو مطلق غير مشروط، وأستطيع أن أعبِّر عن الكل بهذه الصيغة:

«أنا أؤكد في الأنا لا أنا قابلًا للانقسام مقابل أنا قابلٍ للانقسام».

وليس في وسع أية فلسفة أن تمضي إلى ما وراء هذه المعرفة، وإنما ينبغي أن تصل إليها كل فلسفة دقيقة، فتصبح بذلك نظريةً للعلم. وكل ما يمكن أن يحدث بعد ذلك في نسق الذهن البشري ينبغي أن يكون قابلًا للاستنباط ممَّا أثبتناه ها هنا.

١  فيلسوف أمريكي معاصر، شغل طويلًا منصب أستاذ الفلسفة بجامعتَي كاليفورنيا ثم هارفارد. تأثر بفلسفة بيرس ووليم جيمس وجون ديوي، وكذلك بالاتجاهات الرياضية الحديثة في المنطق والتحليل الفلسفي، وكان من أهدافه الرئيسية التوفيق بين الرياضة والفلسفة، وإيجاد أساس مشترك بينهما. (المترجم)
٢  ترجمه إلى الإنجليزية أ. إ. كروجر A. E. Kroeger، لندن، مطبعة Trubner & Co. ١٨٨٩م، ص٦٣–٧٣، ٧٥–٧٨، ٧٩–٨٤. وعنوان الأصل الألماني هو: Grundlage der gesammten Wissenschaftslehre. وقد طُبع لأول مرة سنة ١٧٩٤م.
٣  قوانين المنطق العام.
٤  Unter welcher Bedingung der Form der blossen Handlung.
٥  يلاحَظ أن اللفظ اشتقاقيًّا يحمل معنى التأكيد العكسي، بينما يعني عادةً العكس أو التضاد أو التقابل فحسب، وقد تُرجم في النص حسبما يقتضيه السياق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤