ثقافة الحرية

بقلم ماريو بارجاس يوسا

في هذا المقال يبدد ماريو بارجاس يوسا، الروائي الحاصل على جائزة نوبل في الأدب، المخاوف القائلة إن الرأسمالية العالمية تفسد الثقافات أو تسبب تآكلها، ويحتج بأن أفكار «الهوية الجمعية» تجرد البشر من إنسانيتهم، وأن الهوية تنبع من «قدرة البشر على مقاومة هذه التأثيرات ومعارضتها بأفعال حرة من إبداعهم».

ماريو بارجاس يوسا روائي عالمي ذائع الصيت ومفكر شهير. في عام ٢٠١٠ نال جائزة نوبل في الأدب عن «رسمه هياكل السلطة والتصوير الواضح لمقاومة الفرد وثورته وهزيمته». ألف روايات مثل «وليمة الماعز» و«حرب نهاية العالم» و«العمة خوليا والناسخ» و«الفتاة السيئة» و«الحياة الحقيقية لأليخاندرو مايتا» وغيرها كثير.

يعاد نشر هذا المقال، الذي ورد في الإصدار الأول من يناير لعام ٢٠٠١ من مجلة فورين بوليسي، بتصريح من كاتبه.

***

ليست أكثر الهجمات فعالية ضد العولمة في المعتاد هي تلك المرتبطة بالاقتصاد، وإنما هي هجمات اجتماعية وأخلاقية، وفي المقام الأول، ثقافية. ظهرت هذه الحجج على السطح إبان اضطرابات سياتل عام ١٩٩٩، ووجدت صدى مؤخرًا في دافوس وبانكوك وبراج. وهي تقول:

سيوجه اختفاء الحدود القومية وتأسيس عالم تترابط جوانبه بفعل الأسواق ضربة قاضية للثقافات القومية والإقليمية، وللعادات والتقاليد والأساطير والأعراف التي تحدد الهوية الثقافية لكل دولة أو إقليم. وبما أن أغلب العالم عاجز عن مقاومة غزو المنتجات الثقافية الآتية من الدول المتقدمة — أو، بالأحرى، من القوة العظمى، الولايات المتحدة — الذي يستتبع على نحو حتمي وجود شركات ضخمة متعددة الجنسيات، فستفرض ثقافة أمريكا الشمالية نفسها لا محالة، بحيث تصوغ العالم على الشكل نفسه، وتبيد ثقافاته المتنوعة. وبهذه الصورة ستفقد جميع الشعوب الأخرى، وليس فقط الشعوب الصغيرة والضعيفة، هويتها وروحها وتصير مجرد مستعمرات في القرن الحادي والعشرين؛ أي ستصير شعوبًا ماتت أرواحها أو صورًا هزلية مصاغة وفق المعايير الثقافية للقوة الاستعمارية الجديدة التي — بالإضافة إلى السيطرة على الكوكب برأسمالها وقوتها العسكرية ومعرفتها العلمية — ستفرض على الآخرين لغتها وطريقة تفكيرها وإيمانها واستمتاعها وحلمها.

هذا التصور الكابوسي، أو اليوتوبيا السلبية، لعالم يفقد بسبب العولمة تنوعه اللغوي والثقافي وتسيطر عليه الولايات المتحدة ثقافيًّا ليس شائعًا في أوساط ساسة اليسار، الذين يحنون لماركس وماو وتشي جيفارا، وحسب. فهذه المعاداة الجامحة — التي تستحثها مشاعر الكراهية والضغينة الموجهة للعملاق الأمريكي الشمالي — تظهر بالمثل في دول متقدمة وفي أمم ذات ثقافة غنية، وتتشاركها توجهات سياسية مختلفة، من اليسار والوسط واليمين.

أشهر الأمثلة على ذلك هي فرنسا، التي كثيرًا ما نرى فيها حملات حكومية تدافع عن «الهوية الثقافية» الفرنسية من التهديدات المفترضة للعولمة. ونطاق واسع من المفكرين والسياسيين منزعج من إمكانية تعرض الأرض التي أنجبت مونتين وديكارت وراسين وبودلير — والدولة التي ظلت لوقت طويل موطن الموضة في الملبس والفكر والطعام وكل ميادين الروح — للغزو من قبل مطاعم ماكدونالدز وبيتزا هات ودجاج كنتاكي المقلي، وموسيقى الروك والراب، وأفلام هوليوود، والجينز الأزرق والأحذية الرياضية والقمصان قصيرة الأكمام. وقد أدى هذا الخوف، على سبيل المثال، إلى منح الحكومة الفرنسية لمعونات ضخمة لصناعة السينما المحلية ومطالبة دور العرض بعرض عدد محدد من الأفلام القومية والحد من استيراد الأفلام من الولايات المتحدة. وهذا الخوف هو أيضًا السبب وراء إصدار البلديات لتعليمات مشددة بفرض غرامات مرتفعة على أي إعلانات دعائية تكتب لغة موليير بالأحرف الإنجليزية. (لكن يبدو، بالحكم من منظور من يمشي في شوارع باريس، أن هذه التعليمات لم تُحترم تمامًا.) ولهذا السبب صار جوزيه بوفيه، المزارع والمناضل ضد ما أسماه «الطعام القذر» بطلًا شعبيًّا في فرنسا. ومن المرجح أن تزيد شعبيته بعد الحكم الأخير عليه بالحبس لثلاثة أشهر.

مع أنني أؤمن بأن هذه الحجة الثقافية ضد العولمة غير مقبولة، فإننا يجب أن نقر بأنها تحمل في أعماقها حقيقة لا يرقى إليها الشك. ففي هذا القرن ستكون صورة العالم الذي سنعيش فيه أقل غنى وأقل تشربًا بالألوان المحلية عن القرن الماضي. فالمهرجانات والملابس والعادات والاحتفالات والطقوس والمعتقدات التي أمدت البشرية في الماضي بتنوعها الفلكلوري والعرقي تختفي على نحو متواصل أو تقيد نفسها في قطاعات محدودة، بينما يهجرها السواد الأعظم من المجتمع ويتبنى أشياء أخرى تتوافق على نحو أفضل مع واقع عصرنا. وجميع الدول في كوكبنا تمر بهذه العملية، بعضها على نحو أسرع من الأخرى، بيد أن هذا ليس راجعًا إلى العولمة. بل السبب في هذا هو التحديث، الذي تعد العولمة أحد تأثيراته، لا أسبابه. بطبيعة الحال، يمكننا الانتحاب والعويل بسبب حدوث هذه العملية، وأن نشعر بالحنين لأفول أساليب حياة الماضي التي تبدو، على الأخص من منظورنا المريح في الحاضر، مليئة بالتسلية والأصالة والألوان. لكن من المحال تجنب هذه العملية. إن الأنظمة الشمولية في دول مثل كوبا وكوريا الشمالية تنغلق على نفسها، خوفًا من أن يدمرها أي انفتاح، وتصدر المحظورات بجميع أنواعها وتستنكر الحداثة. لكن حتى هذه الدول عاجزة عن إعاقة التسرب البطيء للحداثة إلى هوياتها الثقافية المزعومة وتقويضها تدريجيًّا. من الناحية النظرية، ربما تستطيع الدولة الحفاظ على هذه الهوية، لكن هذا لن يحدث إلا إذا قررت العيش في عزلة تامة — مثل بعض القبائل في مجاهل أفريقيا أو الأمازون — بحيث تمتنع عن أي تعاملات مع الأمم الأخرى وتمارس الاكتفاء الذاتي. لكن الهوية الثقافية من هذا النوع من شأنها أن تعود بالمجتمع إلى المستويات المعيشية لعصور ما قبل التاريخ.

صحيح أن التحديث يتسبب في اختفاء أشكال عديدة من الحياة التقليدية، لكنه في الوقت ذاته يوفر الفرص ويمثل خطوة مهمة للأمام للمجتمع ككل. ولهذا السبب، حين يُمنح الناس فرصة الاختيار الحر، فإنهم أحيانًا يعارضون ما يحبذه قادتهم أو مفكروهم التقليديون، ويختارون التحديث دون أدنى لبس.

تكشف الدعاوى المضادة للعولمة والمؤيدة للهوية الثقافية عن إدراك متحجر للثقافة ليس له أساس تاريخي. فأي ثقافة تلك التي ظلت كما هي ولم تتغير مع الزمن؟ للعثور على ثقافة كهذه علينا البحث في المجتمعات البدائية القائمة على خليط من السحر والدين، التي تعيش في الكهوف وتعبد الرعد والوحوش، وبسبب بدائيتها هي أكثر عرضة للاستغلال والإبادة. وجميع الثقافات الأخرى، وتحديدًا تلك التي لها الحق في أن تطلق على نفسها ثقافات حديثة ونشطة، تطورت حتى وصلت إلى درجة أنها لم تعد سوى انعكاس بعيد لما كانت عليه منذ جيلين أو ثلاثة أجيال خلت. هذا التطور ظاهر بوضوح في دول كفرنسا وإسبانيا وإنجلترا، حيث كانت التغيرات على مدار النصف قرن المنصرم تغيرات مذهلة وعميقة، حتى إن مارسيل بروست أو فيدريكو جارثيا لوركا أو فيرجينيا وولف كانوا سيجدون صعوبة في التعرف اليوم على المجتمعات التي ولدوا فيها؛ المجتمعات التي ساعدت أعمالهم بقوة على تجديدها.

إن فكرة «الهوية الثقافية» فكرة خطيرة. فمن المنظور الاجتماعي هي مجرد مفهوم مصطنع محل شك، لكن من المنظور السياسي هي تهدد أثمن إنجازات البشرية؛ الحرية. لا أنكر أن من يتحدثون اللغة نفسها، وولدوا وعاشوا في المنطقة نفسها، ويواجهون المشكلات نفسها، ويعتنقون الديانات نفسها، ويمارسون العادات نفسها يملكون سمات مشتركة. لكن هذا القاسم المشترك يستحيل أن يحدد هوية كل فرد منهم على نحو تام، وكل ما يفعله هو إنزال مجموع السمات والخصائص المتفردة التي تميز أحد أفراد الجماعة عن الآخرين إلى مستوى أدنى محل ازدراء. إن مفهوم الهوية، حين لا يوظف على مستوى فردي مانع، ينتقص بطبيعته من قدر البشر ويجردهم من سماتهم الإنسانية، فهو تجريد جمعي أيديولوجي لكل ما هو أصيل وإبداعي في الإنسان، لكل ما لم يُفرض بفعل الوراثة أو الجغرافيا أو الضغوط الاجتماعية. بدلًا من ذلك تنبع الهوية الحقيقية من قدرة البشر على مقاومة هذه التأثيرات ومعارضتها بأفعال حرة من إبداعهم.

إن فكرة «الهوية الجمعية» وهمٌ أيديولوجي، وهي أساس القومية. ويرى كثير من علماء الأعراق البشرية ودراسة الإنسان أن الهوية الجمعية لا تمثل الحقيقة، حتى في أقدم المجتمعات البائدة. قد يكون للممارسات والعادات المشتركة أهمية كبيرة في الدفاع عن الجماعة، لكن هامش المبادرة والإبداع بين أفرادها — الذي يدفعهم لتحرير أنفسهم من الجماعة — أكبر بلا ريب، وتسود الاختلافات الفردية على السمات الجمعية عند دراسة الأفراد كلٍّ على حدة، لا كمجرد عناصر ثانوية لوحدة جمعية. توفر العولمة على نحو جذري لجميع مواطني هذا الكوكب إمكانية صنع هوياتهم الثقافية الفردية من خلال الفعل الاختياري، وذلك وفق تفضيلاتهم ودوافعهم الشخصية. الآن ليس المواطنون مجبرين دومًا — كما كان الحال في الماضي وفي أماكن عديدة في الحاضر — على احترام هوية تجعلهم أسرى معسكر اعتقال لا مفر منه؛ تلك الهوية المفروضة عليهم بواسطة اللغة والجنسية والكنيسة وأعراف المكان الذي ولدوا فيه. وبهذا المعنى يجب أن تكون العولمة محل ترحيب لأنها توسع آفاق الحرية الفردية على نحو ملحوظ.

تاريخان لقارة واحدة

ربما تعد أمريكا اللاتينية أفضل مثال على صعوبة وعبثية محاولة إرساء الهويات الجمعية. أي هوية ثقافية يمكن أن تكون لأمريكا اللاتينية؟ ما الذي سيُدرج ضمن المجموعة المتماسكة من المعتقدات والعادات والتقاليد والممارسات والأساطير التي تمنح هذه المنطقة نقطة تفردها المتميزة الراسخة؟ لقد تشكل تاريخنا من خلال مجادلات فكرية — بعضها شديد الضراوة — تسعى للإجابة عن هذا السؤال. وأكثر هذه المجادلات شهرة هي تلك التي بدأت مع أوائل القرن العشرين وألبت مناصري الهوية الهسبانية ضد مناصري الهوية الهندية وتردد صداها في أرجاء القارة.

فمن منظور مناصري الهوية الهسبانية أمثال خوسيه دي لا ريفا وفيكتور أندريس بيلاوندي وفرانسيسكو جارسيا كالديرون، ولدت أمريكا اللاتينية حين توحدت القارة، بفضل الاكتشاف والغزو، مع اللغتين الإسبانية والبرتغالية، ثم صارت جزءًا من الحضارة الغربية مع اعتناقها للمسيحية. لم يسفه مناصرو الهوية الهسبانية من ثقافات ما قبل الوجود الإسباني، لكنهم اعتبروا أنها لا تؤلف سوى طبقة — وليست حتى طبقة أساسية — من الواقع الاجتماعي والتاريخي، وأنها استوفت طبيعتها وشخصيتها فقط بفضل التأثير المفعم بالحيوية للغرب.

ومن ناحية أخرى، رفض مناصرو الهوية الهندية بسخط أخلاقي المنافع المزعومة التي جلبها الأوروبيون لأمريكا اللاتينية. فمن وجهة نظرهم، تضرب هويتهم بجذورها وروحها في الثقافات والحضارات السابقة على الوجود الإسباني، التي أعيق تطورها وتحديثها بقسوة بفعل العنف، وخضعت للنقد والقهر والتهميش ليس فقط خلال ثلاثة قرون من الاستعمار، بل أيضًا لاحقًا، بعد حلول الحكم الجمهوري. يرى المفكرون المناصرون للهوية الهندية أن «التعبير الأمريكي» (إذا استخدمنا عنوان كتاب خوسيه ليزاما ليما) يكمن في كل التجسيدات الثقافية — من اللغة الأم إلى المعتقدات والطقوس والفنون والأعراف الشعبية — التي قاومت الاضطهاد الثقافي الغربي وصمدت إلى يومنا. بل إن مؤرخًا شهيرًا ينتمي لهذا التيار، وهو المفكر لويس إي بالكارثيل من بيرو، أكد أن الكنائس والأديرة وغيرها من آثار العمارة الاستعمارية ينبغي أن تُحرق لأنها تمثل «بيرو مضادة». إنها تنتحل الهوية الأمريكية الأصلية التي ليس لها سوى الجذور الهندية وتنكرها. وقد روى خوسيه ماريا أرجيداس، أحد أكثر الروائيين الأمريكيين المبدعين، في قصص ذات رقة عظيمة واحتجاج أخلاقي رنان، ملحمة نجاة ثقافة الكيشوا في عالم جبال الإنديز، رغم الحضور الخانق والمشوِّه للغرب.

أنتجت النزعتان الهسبانية والهندية مقالات تاريخية ممتازة وأعمالًا أدبية بالغة الإبداع، لكن بالحكم عليهما من منظورنا الحالي، يبدو كل معتقد منهما ضيق الأفق واختزاليًّا وخاطئًا. كلاهما عاجز عن احتواء التنوع الفسيح لأمريكا اللاتينية في عباءته الأيديولوجية المقيِّدة، وكلاهما يضج بالعنصرية. فمن ذا الذي يجرؤ على الزعم في وقتنا الحالي بأن ما هو «هسباني» أو «هندي» وحده يعد الممثل الشرعي لأمريكا اللاتينية؟ مع هذا تتواصل جهود تشكيل «هويتنا الثقافية» وعزلها إلى اليوم بحماس سياسي وفكري يستحق التوجيه في سبيل قضية أكثر قيمة وأهمية. إن السعي لفرض هوية ثقافية على البشر يعادل حبسهم في سجن وحرمانهم من أغلى حرياتهم؛ حرية اختيار ما وكيف ومن يريدون أن يكونوا. ليس لأمريكا اللاتينية هوية واحدة، بل هويات عدة، وليس بوسع إحداها الزعم بأنها أكثر مشروعية أو نقاءً من سواها.

بطبيعة الحال، تضم أمريكا اللاتينية عالم ما قبل الوجود الهسباني، وثقافات هذا العالم لا تزال تملك قوة اجتماعية كبيرة في المكسيك وجواتيمالا ودول جبال الإنديز. لكن أمريكا اللاتينية هي أيضًا مكان احتشاد أعداد كبيرة من المتحدثين بالإسبانية والبرتغالية، الذين يملكون تقاليد تمتد لخمسة قرون، وكان وجودهم وأفعالهم حاسمين في منح القارة سماتها الحالية. أيضًا، ألا تحمل أمريكا اللاتينية مسحة من أفريقيا، التي وصل مواطنوها لشواطئنا مع وصول الأوروبيين؟ ألم يترك الوجود الأفريقي بصمته على بشرتنا وموسيقانا وسماتنا المتفردة ومجتمعنا؟ إن المكونات الثقافية والعرقية والاجتماعية التي تتكون منها أمريكا اللاتينية تربطنا بجميع ثقافات العالم ومناطقه تقريبًا. إننا نملك هويات ثقافية متعددة، حتى إن الأمر صار أشبه بعدم امتلاك أي هوية على الإطلاق. وهذا الواقع، على عكس ما يؤمن به القوميون، هو أعظم كنوزنا. وهو أيضًا مؤهل ممتاز يمكننا من الإحساس بأننا مواطنون ذوو مكانة متميزة في عالمنا المتحد بفضل العولمة.

أصوات محلية ومدى عالمي

إن الخوف من أمركة الكوكب هو نوع من جنون الارتياب الأيديولوجي أكثر من كونه واقعًا. لا شك بالطبع في أنه في ظل العولمة صارت اللغة الإنجليزية اللغة العامة لزماننا، كما كان حال اللاتينية في العصور الوسطى. وسوف تواصل صعودها؛ لأنها أداة لا يمكن الاستغناء عنها في المعاملات الدولية والتواصل. لكن هل يعني هذا أن اللغة الإنجليزية تتطور بالضرورة على حساب اللغات العظيمة الأخرى؟ بالقطع لا. في الواقع، العكس هو الصحيح. فاختفاء الحدود والعالم المعتمد بعضه على بعض على نحو متزايد أوجد الدوافع كي تعرف الأجيال الجديدة الثقافات الأخرى وتتفهمها، ليس فقط كهواية، بل أيضًا بدافع من الضرورة؛ لأن القدرة على تحدث لغات عديدة والتبحر بسهولة في الثقافات المختلفة صارت متطلبًا ضروريًّا للنجاح المهني. خذ إسبانيا كمثال: منذ نصف قرن، كان المتحدثون بالإسبانية مجتمعًا منغلقًا على ذاته، وكنا نظهر أنفسنا خارج حدودنا اللغوية على نحو محدود للغاية. واليوم صارت اللغة الإسبانية لغة نشطة ومزدهرة، وأقامت جسورًا، بل كسبت أراضي شاسعة في القارات الخمس كافة. ووجود من خمسة وعشرين إلى ثلاثين مليون متحدث بالإسبانية في الولايات المتحدة اليوم يفسر لنا سبب استخدام اثنين من مرشحي الرئاسة في الولايات المتحدة حديثًا، وهما حاكم تكساس جورج دابليو بوش ونائب الرئيس آل جور، ليس اللغة الانجليزية وحدها في حملاتهما الانتخابية، وإنما الإسبانية كذلك.

كم مليون شاب وفتاة في العالم استجابوا لتحديات العولمة بأن تعلموا اليابانية أو الألمانية أو الصينية الفصحى (الماندارين) أو لغة إقليم كانتون الصيني أو الروسية أو الفرنسية؟ لحسن الحظ، سيتزايد هذا الاتجاه في السنوات القادمة. ولهذا السبب يكون أفضل دفاع عن ثقافاتنا ولغاتنا هو بالترويج لها بقوة في أرجاء هذا العالم الجديد، وليس الإصرار على التظاهر الساذج بتحصين نفسها من خطر اللغة الإنجليزية. إن من يقترحون مثل هذه العلاجات يتحدثون كثيرًا عن الثقافة، لكنهم على الأرجح أشخاص جهلاء يخفون دعواهم الحقيقية؛ القومية. وإذا كان هناك شيء على النقيض تمامًا من النزعة العامة لنشر الثقافة، فهي الرؤية المرتبكة الإقصائية ضيقة الأفق التي تحاول وجهات النظر القومية فرضها على الحياة الثقافية. إن أكثر الدروس التي تعلمها لنا الثقافة إثارة للإعجاب هو أنها ليست بحاجة لحماية البيروقراطيين أو المسئولين أو أن تكون حبيسة خلف قضبان حديدية، أو معزولة بفعل مصلحة الجمارك كي تظل حية ومفعمة بالنشاط، بل على العكس، مثل هذه الجهود من شأنها أن تجعل الثقافة تذبل أو حتى تقلل من شأنها. يجب أن تعيش الثقافات بحرية، وأن تنخرط باستمرار في صراع مع الثقافات الأخرى. هذا الأمر يحييها ويجددها ويمكنها من التطور والتكيف مع تيار الحياة المستمر. في العصور القديمة لم تقتل اللاتينية الإغريقية، بل على العكس، تغلغلت الأصالة الفنية والعمق الفكري للثقافة الهيلينية في أواصر الحضارة الرومانية، ومن خلالها وصلت قصائد هوميروس وفلسفات أفلاطون وأرسطو إلى العالم أجمع. لن تتسبب العولمة في اختفاء الثقافات المحلية، ففي إطار عام من الانفتاح العالمي، سيجد كل ما له قيمة ويستحق البقاء في الثقافات المحلية أرضًا خصبة يزدهر فيها.

يحدث هذا في كل أنحاء أوروبا، وعلى وجه الخصوص في إسبانيا، حيث تعاود الثقافات الإقليمية الظهور بحيوية شديدة. فأثناء الحكم الديكتاتوري للجنرال فرانسيسكو فرانكو، رضخت الثقافات الإقليمية للقمع وحُكم عليها بالعيش في الخفاء. لكن مع عودة الديمقراطية انطلق التنوع الثقافي الغني لإسبانيا وسُمح له بالنمو في حرية. وفي ظل نظام الحكم الذاتي الذي تتمتع به البلاد شهدت الثقافات المحلية ازدهارًا هائلًا، خاصة في كاتالونيا وجالسيا وريف الباسك، إضافة إلى سائر أنحاء إسبانيا. بطبيعة الحال علينا ألا نخلط بين ذلك البعث للثقافة الإقليمية، الذي يعد أمرًا إيجابيًّا مثريًا، وبين ظاهرة القومية، التي تهدد ثقافة الحرية تهديدًا خطيرًا.

تنبأ تي إس إليوت في مقاله الشهير المكتوب عام ١٩٤٨ بعنوان «ملاحظات نحو تعريف الثقافة» بأنه في المستقبل ستشهد الإنسانية نهضة للثقافات المحلية والإقليمية. بدت نبوءته في وقتها جريئة إلى حدٍّ بعيد، إلا أنه من المرجح أن تحققها العولمة في القرن الحادي والعشرين، وعلينا أن نسعد بذلك. فبعث الثقافات الصغيرة المحلية سيعيد للإنسانية وفرة السلوكيات والتعبيرات التي أفنتها الدول القومية في سبيل خلق تلك الهويات القومية المزعومة قرب نهاية القرن الثامن عشر، وتحديدًا في القرن التاسع عشر. (هذه الحقيقة يسهل نسيانها، أو نحاول نسيانها بسبب دلالاتها الأخلاقية الخطيرة.) عادة ما شُكلت الثقافات القومية بالدم والنار، ومنعت تعليم اللغات الإقليمية أو النشر بها، أو ممارسة الشعائر الدينية والعادات المعارضة لما اعتبرته تلك الدول القومية مثاليًّا. وبهذه الطريقة فرضت دول قومية عديدة في جميع أنحاء العالم ثقافة مهيمنة على الثقافات المحلية التي تعرضت للاضطهاد والإقصاء من الحياة الرسمية. لكن، خلافًا لتحذيرات من يخافون العولمة، ليس من السهل محو الثقافات تمامًا — مهما كانت صغيرة — إذا وقفت خلفها تقاليد غنية وأشخاص يمارسونها، حتى ولو سرًّا. واليوم، بفضل ضعف الدول القومية، بتنا نشهد ثقافات محلية منسية مهمشة مقموعة وهي تعاود الظهور وتبدي علامات قوية على الحياة ضمن التناغم العظيم لهذا الكوكب المتحد بفضل العولمة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤