المحور الخامس

التناصُّ بين الكتب المقدَّسة

(١) التوراة وما قبلها/التوراة والإنجيل
(س): من خلال عرضك السابق لِتشكُّل الأسطورة الكبرى في الديانات التوحيدية، لاحظنا وجود تشابهاتٍ كثيرةٍ بين هذه الديانات، فهل تتعدَّى هذه التشابُهات الأسطورةَ الكبرى إلى نواحٍ أخرى؟
(ج): لا يُوجد تشابُهات بين الأديان التوحيدية (وأنا هنا أُلحِق بها اليهودية لغاية تبسيط الأمور)، وإنما هنالك تناصٌّ في كُتبها المقدَّسة. والتناصُّ هنا هو مصطلحٌ أستعيره من النقد الأدبي، وأعني به وجودَ نصٍّ من هذا الكتاب في كتابٍ آخر، إما بمضمونه، أو بصيغته الأصلية مع تعديلاتٍ يستدعيها الأسلوب الأدبي للكتاب الآخر، أو بمنظوره الأيديولوجي. وهذا التناصُّ بين الكُتب المقدَّسة بالغًا ما بلَغ شأنه فإنه لا يؤدِّي إلى التشابُه؛ فالمسيحية لن تشبه اليهودية أبدًا مهما استعار مؤلِّفو الأناجيل مقاطع من التوراة وأدخلوها في سرديتهم الخاصة، وكذلك الأمر فيما يتعلق بالإسلام. لكل دينٍ خصوصيتُه ورسالتُه الخاصة التي لا تشبه رسالةً أخرى. وهذه نقطةٌ أودُّ التركيز عليها قبل الدخول في هذا الموضوع الشائك، والذي يُمكِن أن يُفهم منه عكسُ ما أُريد تمامًا.
(س): أفهم من ذلك بأن التشابُهات، أو التناصَّ كما تُسمِّيه، يتعدَّى الأسطورة الكبرى؟
(ج): هذا صحيح.
(س): هل نبدأ بالزرادشتية؟ فلقد فهمتُ من سياقِ ما أوردتَه عن الديانات التوحيدية أن العناصر الرئيسية للأسطورة الكبرى ظهرَت أولًا في الزرادشتية، فهل كانت العقيدة الزرادشتية أصيلةً كل الأصالة، بمعنى أنها لم تتأثَّر بل أثَّرَت، ولم تَستعِر بل أعارت؟
(ج): لقد كان زرادشت كاهنًا على دين قومه قبل أن يأتيه وحي النبوة، ومن المتوقَّع أن نجد في عقيدته الجديدة آثارًا من عقيدته القديمة؛ لأن كل دين ينشأ ضمن حاويةٍ ثقافيةٍ معيَّنة، كما قُلتُ سابقًا، تُمِدُّه بكثيرٍ من العناصر القديمة. ولكن المشكلة التي لم أجد لها حلًّا، هي أن الزرادشتية لم تتأثَّر كثيرًا بحاضنتها الثقافية المحلية، وإنما بالحاضنة الثقافية الأوسع للشرق القديم؛ فلقد تلقَّت تأثيراتِها على غيرِ كلِّ ما هو متوقَّع من ثقافة مصر القديمة.
(س): هل يُوجد في سيرة زرادشت ما يُوحي ولو بإشارةٍ غامضةٍ على أنه جاء من مصر، أو أنه سافَر إلى مصر في مهمةٍ ثم عاد إلى موطنه؟
(ج): أبدًا. لقد كان كاهنًا على دينٍ ذي عقائدَ وأساطير وطقوسٍ هندو-أوروبية تشبه ديانة الآريين الذين سكَنوا الهند، كما أنه عاش في المناطق الشرقية من إيران والبعيدة حتى عن الاحتكاك المباشر بثقافة وادي الرافدَين.
(س): هل تعني أن فكرة التوحيد في الزرادشتية استلهمَت توحيد الفرعون أخناتون؟
(ج): لا أبدًا؛ لأن عصر أخناتون بعيدٌ جدًّا عن عصر زرادشت. التشابه الذي يمكننا ملاحظتُه بين الديانتَين يتركَّز في فكرة الروحَين التوءمَين؛ روح الشر وروح الخير، إضافة إلى عددٍ لا بأس به من التصوُّرات الأخروية؛ فبذور ثنائية أنجرا ماينيو الروح الخبيث وسبينتا ماينيو الروح القدس نجدها في ثنائية سيت-حورس التي استمرَّت فاعلة في الديانة المصرية حتى أواخر التاريخ المصري؛ فالإله سيت كما تُصوِّره نصوص الأهرام وهي أقدم النصوص الدينية المصرية، يُجسِّد كل القوى السالبة في الكون والطبيعة مقابل حورس الذي يمثِّل القوى الموجبة؛ فالإله حورس هو سيد السماء، وسيد الشمس التي تهَبُ الحياة وتعكسُ في حركتها الثابتة نظامَ الكون الدقيق، أما الإله سيت فهو العدو الأول للشمس وللضوء بجميع أشكاله؛ فهو الذي يَحرِف خط سَيْر الشمس في السماء باتجاه الجنوب عقب الانقلاب الصيفي، ويسرق من نور القرص فتقصُر ساعات النهار وتطول ساعات الليل، وهو الذي يسرق من القمر عقب اكتماله في منتصف الشهر، فيتناقص ليلةً بعد أخرى حتى ينطفئ في آخر الشهر، ولكن الإله تحوث يعمل على إشعاله مُجدَّدًا. ومملكة هذا الإله الذي يُعارِض نظام الطبيعة ويعمل على نشر الفوضى تقع في الجهة الشمالية من قُبة السماء، وهناك يقيم في كوكبة الدب الأكبر. ولقد كانت هذه الجهة لدى المصريين لا سيما سكان مصر العليا هي إقليم الظلام والبرد والمطر والضباب والبروق والرعود، ومنه تأتي العواصف والأعاصير، وهذه الظواهر الطبيعية جميعها التي لم تكن تتصل بالخصب في مصر التي تعتمد على فيضان النيل، وكانت تحت سيطرة سيت وبها يهدِّد نظام الطبيعة. كما ارتبط سيت بالأراضي الصخرية الجرداء، وبالصحاري القاحلة وبالبوار والجفاف.

وقد كان بين سيت وحورس صراعٌ دائم، ولكن هذا الصراع لم يكن يصل إلى نتيجةٍ حاسمة، وكان بقية الآلهة ولا سيما تحوث يتدخَّلون للفصل بينهما كُلما علا أحدهما على الآخر وأوشك على الإجهاز عليه. وهذا يدُل على أنهما كانا قُطبَين في ثنائيةٍ كونيةٍ لا يصل التناقُض بينهما إلى حد إلغاء أحدهما وسيادة الآخر؛ لأنه لا غنى عن صراعهما من أجل تفسير صيرورة العمليات الجارية على مستوى الكون ومستوى الحياة الطبيعية؛ ولهذا نجد النصوص تدعوهما بالأخوَين وبالتوءمَين، وتُصوِّرهما الأعمال الفنية من عصر الأُسرات في جسدٍ واحدٍ يحمل رأسَين، رأس الصقر وهو رمز الإله حورس، ورأس الحمار وهو رمز الإله سيت. وبينما اختص حورس برمز الصقر وهو رمزٌ يُشير دائمًا إلى الشمس، فقد تعدَّدَت رموز سيت؛ فهنالك الأفعى والخنزير البري والتمساح. كما ساد الاعتقادُ بأن القوة التدميرية لِسيت تحُل في بعض الحيوانات الشرسة؛ مثل الكلاب والقِطط البرية والنمور، وجرت العادة على تقديم القرابين من هذه الحيوانات في الأوقات التي تبلُغ فيها قوة سيت ذروتَها مثل أواخر الشهر القمري.

(س): ولكن هذه القطبية كما عرضتَها تبقى تمثيلًا للخير والشر على المستوى الطبيعاني، ولا صلة لها بالخير والشر على المستوى الاجتماعي، كما هو الحال في القطبية الزرادشتية!
(ج): إن ما قدَّمتُه حتى الآن هو الطور الأول من ميثولوجيا سيت-حورس، ويشتمل هذا الطَّور على عصر المملكة القديمة في الألف الثالث قبل الميلاد عندما لم تكن الأخلاق قد ارتبطَت بالدين، ولم تكن فكرة خلود الروح في عالمٍ أفضلَ عنصرًا أساسيًّا في العقيدة الدينية؛ لأن الخلود في ذلك الوقت كان وقفًا على الفرعون الذي اعتُبر من جنس الآلهة، ولكن انهيار المملكة القديمة جلَب معه تغييراتٍ عميقةً في بنية المجتمع والدين، وصار الخلود متاحًا للجميع ولكن على أساسٍ أخلاقي، وتَرافَق ذلك كله مع صعود الإله أوزوريس الذي كان إلهًا للخصب في الماضي، ثم تحوَّل إلى إله للعالَم الأسفل يُحاكِم الموتى على أعمالهم ويضمَن خلود الروح للأخيار منهم. وهنا استمرَّت ميثولوجيا سيت-حورس، ولكن حورس تحوَّل الآن إلى ابن لأوزوريس، وتابع الاثنان صراعهما، واتصل هذا الصراع بصراع الخير والشر على المستوى الأخلاقي.
(س): هذه المحاكمة التي يقيمها أوزوريس للموتى لا علاقة لها بفكرة القيامة العامة للموتى على ما فهمتُ من حديثٍ سابقٍ لك!
(ج): نعم؛ فالتاريخ في الديانة المصرية هو تاريخٌ مفتوحٌ ولم يكن لديهم تصوُّر عن نهاية الزمن، والقيامة هنا هي قيامةٌ فردية، وأحداثها تُشبه إلى حدٍّ بعيدٍ ما وجدناه في الزرادشتية، ولها مقدمات في وظائف الإله أوزوريس. فقد كان أوزوريس تجسيدًا للعدالة الإلهية، وكقاضٍ للعالم الأسفل كان يحتفظ بسِجلٍّ للأقدار دُوِّنَت فيه آجال كل البشر وأوقات مماتهم، وسِجلٌّ آخر يُسمَّى سِجلَّ المصائر يُشرِف عليه الإلهان تحوث وشيشيتا اللذان يُدوِّنان الأعمال الصالحة والأعمال السيئة لكلِّ إنسان، ويحفظانها إلى يوم الحساب لتُعرضَ على الميت عندما يقف أمام الميزان في قاعة العدالة؛ فعندما يفلح الميت في عبور المفازات المرعبة التي تفصل بين عالمَي الأحياء والأموات، يلقاه الإله أنوبيس الذي يحمل رأس ابن آوى ويقوده إلى قاعة العدالة التي يتصدَّرها أوزوريس جالسًا على عرشه، وأمامه ميزانٌ كبيرٌ منصوب يقف قُربه الإله تحوث إله الحكمة والكتابة في هيئة القرد، والوحش عم-ميت آكل الموتى الذي يلتهم الموتى الذين ثبتَت إدانتهم. وعلى طول جدار القاعة يصطَف آلهة الأقاليم المصرية وعددهم ٤٢، ولدى مرور الميت أمامهم يُعلِن براءته من ٤٢ خطيئة لم يرتكبها في حياته. وعندما يقف أمام الميزان يقوم أنوبيس بوزن أعماله، فإذا وُجِد مذنبًا انقَضَّ عليه الوحش عم-ميت والتهَمَه، وإذا وُجد بريئًا يُقاد إلى جنة أوزوريس، وهي عبارة عن أرضٍ خِصبةٍ تقع وراء الأفق الغربي، تتخلَّلها شبكة من القنوات المائية العذبة، وفيها ينمو الزرع والشجر من كل نوع، وهناك تعيش أرواح الصالحين خالدةً إلى الأبد.
(س): هل وردَت فكرة الجنة الأخروية قبل ذلك في أي ميثولوجيا خارج الميثولوجيا الأوزيرية؟
(ج): لا، وكذلك فكرة الحساب وميزان الأعمال التي نجدها أيضًا في الزرادشتية مثلما هي في الأوزيرية؛ فبعد أن يُودَع الميت في القبر وَفْق التصورات الزرادشتية تمكث روحه عند رأسه ثلاث ليالٍ تتأمل في حسناتها وسيئاتها، وخلال ذلك يزورها ملائكة الرحمة إذا كانت من الأخيار فيواسونها، أو شياطين العذاب إذا كانت من الأشرار فيسومونها سوء العذاب، وبعد ذلك تُقاد إلى جلسة الحساب التي يرأَسها ميترا رئيس فريق ملائكة الأهورا، وعن يمينه ويساره يقف مساعداه سراوشا وراشنو اللذان يقومان بوزن أعمال الميت بميزان الحساب، فمن رجحَت كفَّة خيره كان مآله الفردوس ومن رجحَت كفَّة شره كان مآله هاوية الجحيم. بعد ذلك تتجه الروح لتعبُر صراط المصير، وهو جسرٌ يتسع أمام الروح الطيبة فتسير فوقه الهوينَى وتعبُر إلى الجهة الأخرى المؤدِّية إلى الفردوس، ولكن الجسر يضيق أمام الروح الشرِّيرة فتتعثَّر وتسقط لتتلقَّفها هاوية الجحيم، أما من تساوت حسناته وسيئاته فيعبُر الصراط إلى مكانٍ وسطٍ حيث يستمر في وجودٍ شبحيٍّ كظلٍّ بلا إحساس.
(س): اليهودية، وهي الأولى زمنيًّا بين الأديان الإبراهيمية، ماذا أخذَت من الزرادشتية؟
(ج): إذا استثنينا خلق النور في اليوم الأول من قصة التكوين التوراتية، فإن هذه القصة تسير على خطى القصة الزرادشتية بحيث تُناظِر أيامُ الخلق السبعة مراحلَ الخلق السبعة وما تم فيها من فعاليات. وعلى الرغم من أصالة قصة خلق الإنسان في الرواية التوراتية وإسكانه في جنة عدن، إلا أن بعض العناصر الرئيسية في قصة الجنة لها ما يُناظِرها في الرواية الزرادشتية؛ مثل شجرة كل البذور، وشجرة الحياة الخالدة، والنهر الذي يخرج من الجنة، على ما بيَّنتُ سابقًا. وهنالك ملمحٌ ثانويٌّ يتعلَّق بستر عُرِي الزوجَين الأوَّلَين؛ ففي القصة التوراتية صنع الرب لآدم وزوجته أقمصة من جلد وألبسهما إياها (سِفر التكوين، ٣: ٢٠). وفي القصة الزرادشتية يصنع الملائكة ثيابًا من جلد ويُلبِسونها للزوجَين الأوَّلَين ماشيا وماشيو. وقد كانت فكرة المسيحِ المنتظَر الذي يأتي في آخر الزمان أهمَّ ما أخذَته اليهودية عن الزرادشتية ولكن بعد إفراغها من مضمونها الأصلي؛ فالمخلِّص الزرادشتي يأتي في آخر الزمان ليقود الحرب الأخيرة ضد الشيطان، أما في اليهودية فيأتي ليحارب أعداء بني إسرائيل، ويقيم مملكةَ يهوه على الأرض.

ولسببٍ غيرِ مفهومٍ تبنَّت اليهودية الكثير من بنود الشريعة الزرادشتية المتعلقة بالمأكل والمشرب والطهارة والنجاسة، وهي أمورٌ لم تعرفها الثقافة المشرقية كشأنٍ دينيٍّ وإنما كأعرافٍ اجتماعية، وبالحد الأدنى المطلوب. وأقول لسببٍ غيرِ مفهومٍ لأن للشريعة الزرادشتية منطقًا ينسجم مع مبادئها الاعتقادية عن مسئولية الشيطان عن كل ما يمُتُّ إلى عالم الموت بصِلَة؛ مثل العفونةِ والقذارة والروائح الكريهة وأنواعٍ معيَّنة من الحشرات والحيوانات. أما الشريعة التوراتية فلا تستند إلى أي مرجعيةٍ اعتقاديةٍ وتبقى أقرب إلى مفهوم التابو غير المُفسر، ولكي أُعطي مثلًا عما أقوله هنا، أقتبس من سفر اللاويين هذا النموذج البسيط من مئات المحرَّمات التي تحتويها شريعة التوراة: «هذه هي الحيوانات التي تأكلونها من جميع البهائم على الأرض؛ كل ما شَقَّ ظلفًا وقسمه ظلفَين ويجتَر من البهائم فإياه تأكلون، إلا هذه فلا تأكلوها؛ الجمل لأنه يجتَر لكنه لا يشُق ظلفًا فهو نجسٌ لكم، والأرنب لأنه يجتَر لكنه لا يشُق ظلفًا فهو نجسٌ لكم، والخنزير لأنه يشُق ظلفًا ويقسمه ظلفَين لكنه لا يجتَر فهو نجسٌ لكم، من لحمها لا تأكلوا وجثثها لا تلمسوا» (سفر اللاويين، ١١: ١–٨).

(س): دعنا نوسِّع دائرة التشابه قليلًا ونقول: إذا كان الإله التوراتي لا يُشبِه الإله الزرادشتي، فهل من شَبهٍ ما بآلهة الشرق القديم الوثنية؟
(ج): سؤالك في مكانه؛ لأنني كنتُ أودُّ التحدُّث عن تاريخ الإله يهوه الذي شاءت له الأقدار أن يرتقي إلى مرتبة الله في العقائد اللاحقة. وهذا التاريخ يوضِّح دَيْن اليهودية للوثنية المشرقية من جهة، ومن جهةٍ أخرى يكشف عن الطبيعة الانتقالية لشخصية يهوه من حيث كونه في نقطة الوسط بين المفهوم الوثني عن الألوهة، وبين مفهوم الله.

دعني أبدأ من المدخل التالي، إذا راجعتَ القواميس العربية القديمة، وبحثتَ عن معنى كلمة «إيل» لوجدتَ أنها تعني اسم الله تعالى (راجع على سبيل المثال قاموس المحيط، فصل اللام، باب الألف).

(س): ولكن الاسم إيل لم يَرِد في القرآن الكريم، أو في الحديث النبوي الشريف في معرض الإشارة إلى الله، فمن أين جاء أهل القواميس بهذه البدعة؟
(ج): ليست بدعة؛ فنحن لو قرأنا التوراة بلغته الأصلية لوجدنا أن الإله التوراتي يُدعى أحيانًا بالاسم إيل، وهي كلمةٌ سوريةٌ كنعانيةٌ قديمة تعني إله، وهي في نفس الوقت اسم علم لكبير الآلهة الكنعانية. وهنالك كلمةٌ أخرى يستخدمها المحرِّر التوراتي في الإشارة إلى إلهه وهي إيلوهيم، والكلمة هي صيغة جمع من إيل، والمقصود بها أن الإله يهوه يجمع في شخصه قوى الآلهة طُرًّا ويعبِّر وحده عن مفهوم الألوهة المطلَقة. وقد استُخدمَت كلمة إيلوهيم في القرآن الكريم في معرض الإشارة إلى الذات الإلهية وذلك بصيغة اللهم: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ (آل عمران: ٢٦). اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ (المائدة: ١١٤).
(س): وكيف اكتسب يهوه اسم إيل على ما بينهما من تباعُد؟
(ج): لم يكن يهوه إلهًا قديمًا في فلسطين، وقد وفد إلى المناطق الهضبية التي قامت عليها مملكتا إسرائيل ويهوذا فيما بعدُ، وجاءت به جماعةٌ رعويةٌ كانت تتجوَّل في مناطق الصحاري الجنوبية قبل أن تستقر وتتحوَّل إلى الزراعة، وذلك في زمنٍ ما من مطلع عصر الحديد الأول (١٢٠٠–١٠٠٠ق.م). وقد حفظ لنا محرِّرو التوراة موروثاتٍ قديمةً تُنبئنا عن موطنه السابق، ومنها: «يا رب بخروجك من سعير، بصعودك من صحراء آدوم ارتعدَت الأرض» (القضاة، ٥: ٤). وصحراء آدوم هنا هي المنطقة الجرداء الوعرة الممتدة بين البحر الميت وخليج العقبة، أما سعير فتقع في الطرف الشمالي الغربي من جزيرة العرب. وأيضًا: «الرب جاء من سيناء وأشرق لهم من سعير» (التثنية: ٣٣). ويبدو أنه كان إلهًا بركانيًّا على ما يبدو لنا من مشهد نزوله على جبل سيناء للقاء موسى: «وكان جبل سيناء كله يدخن من أجل أن الرب نزل عليه بالنار، وصَعِد دخانه كدخان الأتون وارتجف الجبل جدًّا» (الخروج، ١٩: ١٨). وخلال مسيرته الطويلة التي انتهت بأن يكون الإله الرئيسي لمملكتَي إسرائيل ويهوذا، حاول كهنته إيجاد موطئ قدمٍ له في أرضٍ حاشدة بالآلهة عن طريق المطابقة بينه وبين إيل كبير آلهة كنعان. وبهذه الطريقة تسرَّب الاسم إيل أو إيلوهيم إلى نصوص التوراة. ولكن عملية الترجمة من العبرية إلى اللغات الأخرى أخفت الصيغة الأصلية للاسم؛ فالترجمة اليونانية وهي أُولى الترجمات، استَخدمَت كلمة «ثِيوس» كمقابلٍ لإيل، والتي تعبِّر عن مفهوم الألوهة المطلَقة، والترجمة الفرنسية استَخدمَت كلمة «ديو» والإنكليزية استَخدمَت God والعربية كلمةَ الله.
(س): ولكن الاسم وحدَه لا يكفي لإحداث المطابقة المطلوبة بين الإلهَين.
(ج): هذا صحيح؛ ولذلك فقد سارت المطابقة أبعدَ من ذلك، واشتملَت على ألقاب إيل الكنعاني التي تنطوي على صفاته، ومنها:
  • (١)

    إله السماء؛ فقد كان إيل إلهًا للسماء، وفي الوقت نفسه كان رئيسًا لمجمع الآلهة الكنعاني. وكذلك كان يهوه إلهًا للسماء وفيها مسكنه.

  • (٢)

    إيل عليون؛ أي إيل العالي أو السامي، وهو لقبٌ مستمدٌّ من عُلو وسُمو قُبة السماء، ونجده في التوراة بلفظه الكنعاني في أكثر من موضع، ومنها: «أصرُخ إلى الله العلي (بالعبرية إيل عليون) إلى الله المدافع عني» (المزمور، ٥٧: ٢). وقد تَرِد لفظة العلي غير مقترنةٍ بإيل مثل: «أرعد الرب من السماوات، والعلي (أي عليون) أعطى صوته» (المزمور، ١٨: ١٣).

  • (٣)

    إيل عولم (أي الأبدي): «وغرس إبراهيم أثلًا في بئر السبع ودعا باسم الإله السرمدي (بالعبرية إيل عولم).»

  • (٤)

    أب شنم (أبو السنين): وتدُل أبوة إيل الكنعاني للزمن على قِدَمه؛ ولذلك نقرأ في التوراة: «كنتُ أرى أنه وُضعَت عروش، وجلس القديم الأيام. لباسُه أبيضُ كالثلج، وشَعرُ رأسه كالصوف النقي» (رؤيا دانيال، ٧: ٩). وأيضًا: «هو ذا الله (إيلوهيم)، عظيم ولا نعرفه، وعدَد سنيه لا يُفحص» (أيوب، ٣٦: ٢٦). وأيضًا: «إلى دهر الدهور سِنوك … أنت هو، وسِنوكَ لا تنتهي» (المزمور: ١٠٢: ٢٤–٢٧).

  • (٥)

    أدون إيليم ربون (أي سيد الآلهة العظيم): وهؤلاء الآلهة هم أولاد إيل السبعون الذين ولدَتهم له زوجتُه عشيرة. وقد ورد في التوراة: «إله الآلهة، الرب إله الآلهة» (يشوع، ٢٢: ٢٢).

  • (٦)

    إيل قوني أرص (أي خالق الأرض)، وورد في التوراة: «رفعتُ يدي إلى الرب الإله مالك السماوات والأرض (= قوني شماييم وأريص)» (التكوين، ١٤: ٢٢).

  • (٧)

    إيل فوئد (أي الرحيم)، وإيل لطفان (أي اللطيف والرحيم)، وورَد في التوراة: «الرب إلهٌ رحيم (= راحوم)، وحنون (= حانون)».

  • (٨)

    إيل ث ر (إيل الثور): وهو وصفٌ يدل في الكنعانية على القوة. وقد أطلق المحرِّر التوراتي على يهوه لقب الثور في ستة مواضع من النص، ولكن الترجمات العربية استبدلَت كلمة العزيز أو القدُّوس بكلمة الثور: «إني أنا الرب فاديك ومخلِّصُك، عزير يعقوب (= ثور يعقوب بالعبرية)» (إشعيا، ٤٩: ٢٦). «تركوا الرب، استهانوا بقدوس إسرائيل (= ثور إسرائيل)» (إشعيا، ١: ٤). وهذا اللقب الذي لِيهوه يفسِّر لنا لماذا قام يربعام ملك إسرائيل ببناء مقامَين دينيَّين؛ واحد في شمال المملكة وآخر في جنوبها، ووضع في كلِّ منها تمثالًا للعجل (الملوك الأول، ١٢: ٢٥–٢٩).

  • (٩)

    أخيرًا فإن يهوه في بعض المواضع عندما كان يتحدث عن نفسه نجده يقول: «أنتم شهودي، وأنا الله» (إشعيا، ٤٣: ١٢). أو كما نقرأ هذه الجملة بنصها العبري: «أنتم شهودي وأنا إيل.» من هنا لا عجب إذا ورَد الاسم إيل في القواميس العربية باعتباره من أسماء الله.

(س): في حديثٍ سابقٍ لك، قلتَ إن لقب راكب السحاب الذي أطلقه مُحرِّرو التوراة على يهوه، والذي كان وراء مشهد قدوم المسيح على سحاب السماء في اليوم الأخير، مستمدٌّ من لقب راكب السحاب الذي للإله بعل على ما ورَد في نصوص أوغاريت. وهذا يعني بأن الإله التوراتي لم يتماهَ فقط مع إيل وإنما مع الإله بعل أيضًا. أليس كذلك؟
(ج): يهوه لم يتماهَ مع بعل كما فعل مع الإله إيل، ولكنه دخل في صراعٍ معه من أجل اكتساب قلوب الناس، وفي خِضَم هذا الصراع كان يهوه الإله البركاني القادم من الصحاري الجنوبية ينزع عنه وجهه القديم ويدَّعي لنفسه الخصائص والوظائف التي لبعل، ومنها ترويض المياه الأولى، التي ترمز إلى حالة العماء والشواش البدئي، من أجل إحلال النظام في الكون. لقد كان أوَّل عملٍ استهَلَّ به بعل مشروعه للصعود إلى سُدة السلطان على الآلهة والكون هو ترويض المياه الأولى المتمثِّلة بالإله يم (= البحر) والسيطرة عليها، وقد قام إله الحِرَف اليدوية كوثر-حاسيس بصنع سلاحَين لبعل من أجل المعركة مع يم، وقدَّم له نبوءةً بالنصر:
هو ذا أعداؤك يا بعلُ،
هو ذا أعداؤك الذين ستقتلهم،
هو ذا أعداؤك الذين ستقضي عليهم،
ولسوف تقبض على المُلك إلى الأبد (من ملحمة بعل وعناة).

وقد ورَد هذا المقطع بنصِّه تقريبًا في التوراة:

لأنه هو ذا أعداؤك يا رب،
هو ذا أعداؤك يبيدون،
يتبدَّد كل فاعلي الإثم،
أما أنتَ يا رب فمُتعالٍ إلى الأبد. (المزمور: ٩٢)

هذا ويَحفِل النص التوراتي بالإشارات إلى ترويضِ يهوه لمياه البحر: «أنت متسلِّط على كبرياء البحر، عند ارتفاع لُججه أنت تُسكنها» (المزمور: ٨٩: ٩). «صوتُ الرب على المياه، إله المجد أرعد، الرب فوق المياه الكثيرة» (المزمور: ٢٩). وها هو يفتخر في سفر أيوب بقهره للبحر: «ومن حجَز البحر بمصاريعَ حين اندفق فخرج من الرحِم؛ إذ جعلتُ عليه حدي وأقمتُ له مغاليق ومصاريع وقلت له: إلى هنا تأتي ولا تتعدَّى، وهنا تُتخم كبرياء لُججك» (أيوب، ٣٨: ٩-١٠).

ومن جملة فعالياته في ترويض البحر قتلُه للتنين البحري المدعو لواياتان، وهو التنين نفسه الذي صَرعَه الإله بعل. نقرأ في النص الأوغاريتي: «والآن تُريد أن تقتل لوتان الحيَّة الهاربة، الآن تُريد أن تُجهِز على الحية المتحوِّية ذات الرءوس السبعة» (من ملحمة بعل وعناة). ونقرأ في النص التوراتي: «في ذلك اليوم يعاقب الرب بسيفه القاسي الشديد لواياتان الحية المتحوِّية، ويقتل التنين الذي في البحر» (إشعيا، ٢٧ : ١). وفي موضعٍ آخر من النص التوراتي نقرأ: «أنتَ شققتَ البحر بقُوَّتك، وكسرتَ رءوس التنانين على المياه، أنت رضضتَ رءوس لواياتان» (المزمور، ٧٤).

ومن جهةٍ أخرى فقد استولى يهوه على وظائف بعل الإخصابية، وادَّعى لنفسه لقب بعل الرئيسي وهو راكب السحاب الذي يَرِد مرارًا في ملحمة بعل وعناة. نقرأ في المزمور ١٠٤: «الجاعل السحاب مركبتَه، الماشي على أجنحة الريح» (المزمور: ١٠٤: ٢). وكما كانت غيوم البعل تسقي الأرض العطشى لتُنبِت زرعًا للإنسان، كذلك هو يهوه: «الساقي الجبال من علاليه، من ثَمر أعمالك تُشبِع الأرض، المُنبت عشبًا للبهائم وخُضرةً لخدمة الإنسان، لإخراج خبز من الأرض» (المزمور: ١٠٤: ١٣-١٤). كما ادَّعى لنفسه أسلحة البعل وهي البرق والرعد والصاعقة، وهي أدواتٌ إخصابيةٌ وقتالية في آنٍ معًا؛ فالبعل يزمجر بصوته من السماء فيُشتِّت أعداءه، على ما نقرأ في نصوص أوغاريت، وكذلك يهوه عندما يُرعِد ويقدح بُروقَه ويُلقي صواعقه، على ما نقرأ في المزمور: ١٨: «طأطأ السماوات ونزل وضبابٌ تحت رجلَيه … أَرعَد الرب من السماوات، والعلي أعطى صوته بَرَدًا وجمْر نار، أرسل سهامه فشتَّتَهم وبروقًا كثيرةً أزعجتهم» (المزمور: ١٨: ٩–١٣). وأيضًا: «صوت الرب على المياه، إله المجد أرعد، الرب فوق المياه الكثيرة، صوت الرب بالقوة، صوت الرب بالجلال … صوت الرب يقدح لهب نار، صوت الرب يُزلزِل البرِّية» (المزمور، ٢٩).

(س): شخصية الإله التوراتي إذن هي شخصيةٌ بالغة التركيب وَفْق ما قدَّمتَه في حديثك!
(ج): نعم؛ فهي تحتوي على أربعة مستويات:
  • (١)

    المستوى الأول وهو أقدمها، ينتمي إلى إله المناطق الصحراوية الجنوبية، وهو إلهٌ بركاني يتجلى في ثَورة البراكين وقوَّتها التدميرية، ومنه اكتسب الإله التوراتي طبعه الغضوب وهيجانه الدائم وميله إلى العنف والانتقام، وردود أفعاله التلقائية؛ فهو لا يفكِّر ثم يفعل، وإنما يفعل ثم يفكِّر بنتائج عمله؛ ولهذا كان يندم في كثيرٍ من الأحيان على ما قدَّمَت يداه.

  • (٢)

    المستوى الثاني وينتمي إلى كبير الآلهة الكنعانية إيل إله السماء، وهو ألوهةٌ خالقةٌ وحافظة لخلقها، مهيبة وجليلة، مفارقة للعالم، ولكنها في الوقت نفسه رحيمة وحنونة على مخلوقاتها.

  • (٣)

    المستوى الثالث وينتمي إلى الوجه الأول للبعل، باعتباره ربًّا للظواهر الطبيعانية المولِّدة لخصب الأرض.

  • (٤)

    المستوى الرابع وينتمي إلى الوجه الثاني للبعل، وهو وجه المُحارِب الذي يستخدم الظواهر الطبيعانية نفسَها في محاربة خصومه.

وعلى الرغم من أن المستوى الثاني الذي ينتمي إلى كبير الآلهة إيل كان الأبرز في تشكيل صورة الله في الأديان اللاحقة، إلا أن بقية المستويات بقيَت قابعةً في خلفية هذه الصورة.

(س): أعتقد أن المستوى الأول البركاني، والمستوى الثاني المحارب، هما الأبرز والأكثر طغيانًا في صورة الإله التوراتي.
(ج): هذا صحيح؛ لأن المستويَين الآخرَين مُضافان على الأصل ومُستعاران.
(س): من هنا يأتي سؤالي الآتي: كيف عُدَّت هذه الألوهة التوراتية إلهًا ليسوع المسيح؟
(ج): أولًا، إن كل مؤسسي الديانات نشئوا على دين قومهم ثم انشقُّوا عنه، وأكثر من ذلك فقد كان بعضهم كاهنًا على دين قومه مثل زرادشت، وبعضهم ناسكًا على ملة قومه مثل البوذا. وثانيًا، فقد عمل مؤلِّفو أسفار العهد الجديد على رسم صورةٍ مختلفةٍ لإله العهد القديم، ويظهر ذلك منذ ظهور يسوع لأول مرة في السردية الإنجيلية عندما اعتمد بماء نهر الأردن على يد يوحنا المعمدان؛ فبينما هو خارج من الماء رأى السموات قد انشقَّت والروح القدس مثل حمامة نازلًا عليه، وصوتٌ من السماء يقول: أنت ابني الحبيب الذي به سُررت. وفي هذا المشهد يخلُق العهد الجديد شبه قطيعة مع العهد القديم فيما يتعلق بصورة الله؛ فقد تجلَّى إله موسى للمرة الأولى في النار، في لهيبِ شجرةٍ شوكيةٍ تحترق في الصحراء، ومن داخل اللهيب تحدَّث إليه، وفي المرة الثانية نزل على جبل سيناء بالنار فصَعِد دخانه مثل دخان الأتون وارتجف الجبل جدًّا، ثم دعا موسى إليه. أما إله يسوع فقد تجلَّى في هيئة الحمامة الوديعة التي اعتُبرَت في ميثولوجيا اليونان والشرق القديم رمزًا للحب. وعَبْر أسفار العهد الجديد كان الحب هو الذي يربط بين الله والعالم وبينه وبين مخلوقاته وبين الناس بعضهم مع بعض، حتى إن يسوع في موعظة الجبل حَضَّ على حُب الأعداء والخصوم، بينما كان الخوف هو ما يربط الناس إلى إلههم في العهد القديم. وهنالك ملاحظةٌ جديرةٌ بالاهتمام، وهي أن إله يسوع ليس له اسم، وكلمة الله التي نجدها في الإشارة إليه هي كلمة «ثِيوس» في الأصل اليوناني، وهي ليست اسم علم، بل تعبيرٌ يدُل على الألوهة المطلقة. كما كان يسوع يدعوه بالآب، فيقول أبي، وأبي وأبوكم، والصلاة المسيحية تبدأ بجملة أبانا الذي في السموات. وباختصار فقد انشَق يسوع عن اليهودية بشكلٍ راديكالي وهذا ما قاده إلى الموت على الصليب.
(س): إذا كانت رسالة يسوع على هذه الدرجة من الاستقلال عن اليهودية، فلماذا أدمجَت الكنيسة كتاب التوراة في الكتاب المقدَّس المسيحي واعتبرَتْه عهدًا قديمًا؟
(ج): عندما ظهر يسوع كانت الآمال الميسيانية (من كلمة ميسايا أي المسيح) تُسيطِر على الحياة الدينية في فلسطين وبقية أجزاء آسيا الغربية، والكل كان في انتظار المُخلِّص الذي سيُنهي العالم القديم ويُدخل البشرية إلى عالمٍ جديدٍ مقدَّس؛ ولذلك فقد ظن أتباع يسوع المقرَّبين بأنه هو المسيح، وبسبب خلفيتهم الدينية اليهودية فقد راحوا يبحثون في التوراة عن شواهد على ظنهم هذا، أو تفكيرهم الرغبي. أما يسوع فقد كان موقفه ملتبسًا إزاء قبوله لهذا اللقب، وبقي على هذا الموقف الملتبس حتى نهاية محاكمته. وبعد أربعين سنةً على حادثة الصلب، بدأَت الأناجيل التي تقُص عن سيرة يسوع بالظهور واحدًا تلو الآخر، وراح مؤلِّفوها يستعينون بنصوص التوراة من أجل إثبات مسيحانية يسوع. وبذلك ترسَّخ التناصُّ بين النبوءات التوراتية والسرديات الإنجيلية عن ظهور المسيح، أو ما اعتبَره أولئك الإنجيليون نبوءات. وهذا ما أسبغ على النص التوراتي طابع القداسة باعتباره شاهدًا على مسيحانية يسوع.
(س): ولربما ابتكر هؤلاء أحداثًا لم تقع في حياة يسوع من أجل إحداث المطابقة المطلوبة!
(ج): بالضبط؛ فنحن لا نستطيع الآن التمييز بين ما حدث فعلًا في سيرة يسوع وبين رغبة أولئك المؤلِّفين في حدوثه. لقد كان أولئك الإنجيليون قارئين ممتازين للنص التوراتي وعارفون بخباياه وخفاياه، وانتقَوا بعنايةٍ ما يناسب نصَّهم.
(س): إذن سيرة يسوع في الأناجيل تتطوَّر من خلال التناص.
(ج): نعم. وأوَّل تناصٍّ يَرِد على لسان يسوع نلحظه في أول خطابٍ علنيٍّ له بعد اعتماده بمياه نهر الأردن، ومكوثه في الصحراء أربعين يومًا؛ فعند عودته إلى مدينته الناصرة على ما يَرِد عند لوقا: «دخل المجمع حسب عادته يوم السبت وقام ليقرأ، فدفع إليه سفر إشعيا النبي، ولما فتح السفر وجد الموضع الذي كان مكتوبًا فيه: روح الرب عليَّ لأنه مسحَني لأُبشِّر المساكين، لأشفي منكسري القلوب، لأنادي للمأسورين بالإطلاق وللعُمي بالبصر، وأُرسل المنسحقين في الحرية وأكرِّز بسُنةٍ مقبولةٍ للرب. ثم طوى السفر وسلَّمه للخادم وجلس، وجميع الذين في المجمع كانت عيونهم شاخصةً إليه، فابتدأ يقول لهم إنه اليوم قد تم هذا المكتوب في مسامعكم» (إنجيل لوقا، ٤: ١٦–٢١). وهذا المقطع الذي قرأه يسوع موجود في سفر إشعيا التوراتي (الإصحاح ٦١: ١-٢). وهو يفسَّر عادةً بأنه كلام على لسان مسيحِ آخرِ الأزمنة؛ ولذلك فقد قرأه يسوع ثم أخبرهم أن هذه النبوءة تتحدَّث عنه عندما قال: اليوم قد تم هذا المكتوب.

وسأقدِّم فيما يأتي نماذج من هذا التناصِّ تفي بالغرض:

  • يسوع هو من سلالة داود ويَرِث عرشه:
    • «لأنه يُولد لنا ولد ونُعطى ابنًا، وتكون الرياسة على كتفَيه … لنمو رياسته وللسلام لا نهاية على كرسي داود أبيه» (إشعيا، ٩: ٦–٩).

    • «وها أنتِ «يا مريم» ستحبلين وتلدين ابنًا وتُسمِّينه يسوع، هذا يكون عظيمًا وابن العلي يُدعى، ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه، ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد» (إنجيل لوقا، ١: ٣٢-٣٣).

  • المسيح يُولد في بيت لحم:
    • «أما أنتِ يا بيت لحم أفراته، وأنت صغيرة في ألوف يهوذا، فمنكَ يخرُج لي الذي يكون مُتَسلِّطًا على إسرائيل» (ميخا، ٥: ٢).

    • «وأنتِ يا بيت لحم أرض يهوذا، لستِ الصغرة بين رؤساء يهوذا؛ لأن منكِ يخرج مُدبِّر شعبي إسرائيل» (إنجيل متى، ٢: ٦).

  • يُولد من عذراء:
    • «ولكن يعطيكم السيد نفسه آية؛ ها العذراء؛ تحبل وتلد ابنًا وتدعو اسمه عمانوئيل» (إشعيا، ٧: ١٤).

    • «هو ذا العذراء تحبل وتلد ابنًا … وتدعو اسمه عمانوئيل، الذي تفسيره الله معنا» (إنجيل متى، ١: ٢٠-٢١).

  • اليهود يرفضون المسيح ويتآمرون عليه:
    • «تآمر الرؤساء معًا على الرب وعلى مسيحه قائلين: لنقطع قيودهما ولنطرح عنا رُبُطهما» (المزمور: ٢: ١-٢).

    • «ليس نبي مقبولًا في وطنه» (إنجيل لوقا، ٤: ٢٤). «جاء إلى بيته فما قبلَه أهل بيته» (إنجيل يوحنا، ١: ١١).

  • يدخل أورشليم راكبًا على حمار:
    • «هو ذا ملككِ يأتي إليك، هو عادل ومنصور ووديع، وراكب على حمار وعلى جحش ابن أتان» (زكريا، ٩: ٩). «قولوا لابنة صهيون: هو ذا ملككِ يأتيك وديعًا وراكبًا على أتان وجحش ابن أتان» (إنجيل متى، ٢١: ٥).

  • يخونه أحد المقرَّبين إليه:
    • «رجل سلامتي الذي وثقتُ به، الذي أكل من خبزي، رفع عقبه عليَّ» (المزمور: ٤١: ٩).

    • «إن واحدًا منكم سيُسلِمني، الآكل معي» (إنجيل مرقس، ١٤: ١٨).

  • قَدَّم نفسه للموت وعُدَّ بين خاطئين:
    • «سكَب نفسه للموت وأُحصِي مع أثَمة» (إشعيا، ٥٣: ١٢).

    • «وصلَبوا معه لصَّين؛ واحدًا عن يمينه وآخر عن يساره، فتَم الكتاب القائل أُحصِي مع أثَمة» (إنجيل مرقس، ١٥: ٢٧-٢٨).

وفي مشهد الصلب تَرِد التقاطُعات الآتية:

  • لا تُكسر عظامه:
    • «كثيرة هي بلايا الصدِّيق ومن جميعها ينجيه الرب، يحفظ جميع عظامه، واحدٌ منها لا ينكسر» (المزمور: ٣٤: ١٩-٢٠).

    • «فجاء الجنود فكسَروا سيقان الأول والآخر اللذَين صُلِبا معه، أما يسوع فلم يكسروا ساقَيه لأنهم لما وصلوا إليه رأوه ميتًا … وحدث هذا ليتم الكتاب القائل: عظم له لا يُكسر» (إنجيل يوحنا، ١٩: ٣٣–٣٧).

  • تُثقب يداه ورجلاه:
    • «جماعةٌ من الأشرار اكتنفَتني، ثقبوا يديَّ ورجليَّ» (المزمور: ٢٢: ١٦).

    • «بعد قيامته من القبر ظهر يسوع لتلاميذه وأراهم مواضِع الثقب في يدَيه ورجلَيه» (إنجيل لوقا، ٢٤: ٣٨–٤٠).

  • يقترعون على ثيابه:
    • «يقسمون ثيابي بينهم، وعلى لباسي يقترعون» (المزمور: ٢٢: ١٨).

    • «ولما صلبوه اقتسموا ثيابه مقترعين عليها ما يأخذ كلُّ واحد» (مرقس، ١٥: ٢٤).

  • يُشربونه خلًّا:
    • «العار قد كسر قلبي فمرضت، انتظرتُ رقةً فلم أجد، ويجعلون في طعامي علقمًا وفي عطشي يُسقونني خلًّا» (المزمور: ٦٩: ٢٠-٢١).

    • «لكي يتم الكتاب قال يسوع أنا عطشان. وكان إناء موضوعًا مملوءًا خلًّا، فمَلئوا إسفَنجة من الخل ووضعوها على قضيبٍ من الزوفا وقدَّموها إلى فمه، فلما أخذ يسوع الخل قال: قد كَمُل. ونكَّس رأسه وأسلم الروح» (إنجيل يوحنا، ١٩: ٢٨–٣٠).

  • كلمات يسوع الأخيرة:
    • «إلهي، إلهي لماذا تركتَني بعيدًا عن خلاصي؟» (المزمور: ٢٢: ١).

    • «ونحو الساعة التاسعة صَرخَ يسوعُ بصوتٍ عظيمٍ قائلًا: إيلي، إيلي لما شبقتَني؛ أي إلهي، إلهي لماذا تركتَني» (إنجيل متى، ٢٧: ٤٦).

(س): ولكن المسيح اليهودي، على ما قدَّمتَه في حديثٍ سابق، هو مسيحٌ منتصرٌ وملِكٌ يُعيد أمجاد أبيه داود. ولا يتألم أو يموت على الصليب؛ ولذلك فصورة مسيح الأناجيل لا تتفق وصورة مسيح التوراة!
(ج): عندما مات يسوع على الصليب بعد أن عانى الآلام، كان على من اعتقد أنه المسيح أن يبحث عن تسويغٍ لذلك؛ ولهذا نجد في الأناجيل أقوالًا ليسوع يتنبأ فيها بأنه سيتألم ويموت وفي اليوم الثالث يقوم: «وكان يُعلِّم التلاميذ ويقول لهم إن ابن الإنسان (= يسوع) سيُسلَّم إلى أيدي الناس فيقتلونه، وبعد ثلاثة أيام يقوم» (إنجيل مرقس، ٩: ٣٠–٣٢).
(س): في هذه الحالة ينبغي أن يُوجد في التوراة ما يشير إلى ذلك!
(ج): نعم، لقد وجد مؤلِّفو الأناجيل ضالَّتهم في صورة «عبد يهوه البار»، وهو شخصيةٌ ضبابية تظهر بشكلٍ خاص في سفر إشَعيا، ولا ندري على وجه التحقيق صلتها بصورة المسيح لأن العبد البار لا يسير في طريق الانتصارات العسكرية، وإنما يحيا حياة الطاعة المُطْلقة، فيأخذ على عاتقه حِمل خطايا الشعب بفضل ما يتكبَّده من آلام:

«هو ذا عبدي يعقِل، يتعالى، ويرتقي ويتسامى جدًّا … لا صورة له ولا جمال فننظر إليه، ولا منظر فنشتهيه، محتقَر ومخذول من الناس. رجل أوجاع ومُختبرُ الحزن، وكمُسْتَرٍ عنه وجوهنا، محتقَر فلم نعتدَّ به. لكن أحزانًا حملَها وأوجاعنا تحمَّلَها، ونحن حسبناه مصابًا مضروبًا من الله ومذلولًا … كلنا كغنمٍ ضلَلنا، مِلنا كلُّ واحد إلى طريقه، والرب وضع عليه إثم جميعنا، ظُلم. أما هو فلم يفتح فاه كشاةٍ تُساق إلى الذبح، وكنعجةٍ صامتةٍ أمام جلَّاديها فلم يفتح فاه … سكَب للموت نفسه وأُحصي مع أثَمة، وهو حمَل خطيئةَ كثيرين وشفَع في المذنبين» (إشعيا، ٥٣: ١–١٣).

إن صورة العبد الصالح المتألِّم هذه قد زوَّدَت مؤلِّفي الأناجيل بنبوءاتٍ تفسِّر ما حصل ليسوع من آلام وموتٍ فاجع؛ فقد وضع مؤلِّف إنجيل مرقس على لسان يسوع قوله: «إنا لصاعدون إلى أورشليم، وسيُسلِّم ابن الإنسان إلى رؤساء الكهَنة والكتَبة، فيحكُمون عليه بالموت ويُسلمونَه إلى الوثنيِّين، فيسخرون منه ويبصقون عليه ويجلدونه ويقتلونه، وبعد ثلاثة أيامٍ يقوم» (مرقس، ١٠: ٣٢–٣٤). وهذا ما حصل ليسوع قبل المحاكمة وبعدها وانتهت آلامه بالصلب. ومن ناحيته فقد جعل متَّى يسوع يبقى صامتًا طيلة مدة المحاكمة لا يرُدُّ على اتهامات خصومه (متَّى، ٢٧: ١١–١٤)، وذلك تحقيقًا لما فعلَه العبد الصالح: «وكنعجةٍ صامتةٍ أمام جازيها فلم يفتح فاه». كما قام مؤلِّف إنجيل يوحنا بإطلاق لقب حَمَل الله على يسوع، (يوحنا، ١: ١٩). وأطلق عليه مؤلِّف سفر رؤيا يوحنا اللاهوتي لقب الخروف (سفر الرؤيا، ٥: ٦).

كما وجد هؤلاء الإنجيليون في سِفر المزامير ما يُعزِّز صورة عبد يهوه المتألم مما ذكرتُه أعلاه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤