التفاضل بالبلاد

ألف الناس التمجد بالبلاد والآباء والأجداد والمال والبنين، عادة في البشر تكثر فيهم بكثرة الجهل، وتقل بانتشار العلم. ولقد كان لأهل هذه البلاد من هذا التمجد الباطل قسط وافر ساعد على إنمائه في النفوس جهل بعض ولاة الأمر السالفين، واتخاذ هذه الأضاليل حجة على من يريدون مناوأته وإرجاعه إلى الطاعة، لطالما خطب الحجاج في أهل العراق، ووصفهم بقوله أهل الشقاق والنفاق ومساوئ الأخلاق، وأطلق عليهم من قبله ومن بعده من أمراء ذاك القطر مثل تلك الصفات، وما كانت هذه المعاملة لأهل العراق إلا سياسية، ولو كانت أخلاقهم كذلك، وكان فيمن ولي رقابهم علم وشفقة؛ لسعى السعي الحثيث إلى نزعها منهم بحكم العادة والأسوة والقدوة، ولعل هذه الدعوة كانت جملة فلسفة أولئك الحكام وبيت قصيد حملهم على رقاب الناس، وكان من أهل الشام أن وسمهم أعداؤهم بكل كبيرة، وألصقوا فيهم باطل التهمات، وهكذا الحال بين الشام والحجاز والشام والعراق.

فإن معظم المؤرخين والمؤلفين نبغوا في العراق، فأكثروا في مصنفاتهم من الأحاديث الموضوعة على أهل الشام؛ لقلة من كتب من هؤلاء ودافع عنهم، ومثل ذلك قل في المغرب مع مصر، ومصر مع الشام، وفارس مع الهند، وكلها في الحقيقة سفاسف لا تساوي درهمًا عند المحققين، وما البلاد في أمر الأفضلية إلا سواء، لا يفضل شرق عن غرب ولا جنوب عن شمال إلا بالعلم النافع والأدب الرافع والعمران والسعادة؛ ولذا ضل رأي من وضعوا من المتأخرين كتبًا خاصة في فضائل بلد أو قطر، وأضل منهم من وضعوا أحاديث مكذوبة على الرسول في تفضيل مدينة أو بلد، كما ضل من وضعوا الموضوعات طعنًا على فئة خالفت ما هم عليه.

وبعد، فالأرض كلها سواء في هوائها ومائها، دحاها الله ليعيش فيها البشر، ويتنقلوا في أقطارها، وقد لا تختلف الأقطار المتنائية في قوة الإنبات إلا قليلًا، فليس من العقل أن تُمدح بلد لجبل فيها، أو سهل فسيح حواليها، أو نهر كبير يمر في وسطها، ولا أن تُذم أخرى لحرارتها أو لضيق حاراتها وجاداتها.

فكانت مصر — ولا تزال — مثلًا منذ ألوف من السنين طريدة من الأرض عرفت بخصبها وغناها الطبيعي، وكانت الشام — ولا تزال — منذ ألوف من الأعوام مشهورة باختلاف أهويتها، ورقة نسيمها، وتنوع جبالها وأوديتها، فما عُد ذلك فضيلة للأولى على الثانية ولا للثانية على الأولى، بل حسب لهما خاصية يمتاز بها كلا القطرين بعضهما عن بعض، وقد أنصفهما في الوصف أحد عمال الدولة، وقد سئل عنهما فقال: مصر مزرعة ممرعة، والشام مصيف بهيج.

إن كان ما تفاخر به البلاد بعضها بعضًا هذا إذا سوغنا التفاخر، فبالعلم والتربية وغلبة الفضيلة والخير على طبقات الناس كلها، لا بالماء والهواء والواحات والجبال والأودية والأشجار والأثمار، وكل ما وزعته الطبيعة بين بلدان العالم، فنال كل منها بحسب حالته. دخل أبو الحكم المغربي الأندلسي الحكيم المرسي مدينة دمشق، فلما حل ظاهرها سير غلامًا له يبتاع لهما ما يأكلانه في يومهما وأصحبه نزرًا يكفي رجلين، فعاد الغلام ومعه شواء وفاكهة وحلواء وفقاع وثلج، فنظر أبو الحكم إلى ما جاء به، وقال له عند استكثاره: أوجدت أحدًا من معارفنا، فقال: لا، وإنما ابتعت هذا بما كان معي، وبقيت منه هذه البقية، فقال أبو الحكم: هذا بلد لا يحل لذي عقل أن يتعداه، ودخل وارتاد منزلًا وسكنه، وفتح دكان عطار يبيع به ويطب، وأقام على ذلك إلى أن وافاه أجله.

ومثل ذلك ما وقع للملك المعظم شمس الدين توران شاه أخو السلطان صلاح الدين يوسف، لما تمهدت له بلاد اليمن واستقامت أمورها، مل المقام بها، وحن إلى الشام، وفيها نشأ واشتاق إلى خيراتها والتمتع بثمراتها؛ إذ إن اليمن محرومة ذلك، قال ابن خلكان: فكتب إلى أخيه صلاح الدين يستقيل منها، ويسأله الإذن له في العود إلى الشام، ويشكو حاله وما يقاسيه من عدم المرافق التي يحتاج إليها، فأرسل صلاح الدين رسولًا مضمون رسالته ترغيبه في الإقامة، وأنها كثيرة الأموال ومملكة كبيرة، فلما سمع الرسالة قال لمتولي خزانته: أحضر لنا ألف دينار فأحضرها، فقال لأستاذ داره والرسول حاضر عنده: أرسل هذا الكيس إلى السوق يشترون لنا بما فيه قطعة ثلج.

فقال أستاذ الدار: يا مولانا هذه بلاد اليمن من أين يكون فيها ثلج؟ فقال: دعهم يشترون بها طبق مشمش لوزي، فقال: أين يوجد هذا النوع ههنا؟ فجعل يعد عليه جميع أنواع فواكه دمشق، وأستاذ الدار يُظهر تعجبه من كلامه، وكلما قال له عن نوع يقول له: يا مولانا من أين يوجد هذا ههنا؟ فلما استوفى الكلام إلى آخره قال للرسول: ليت شعري! ماذا أصنع بهذه الأموال إذا لم أنتفع بها في ملذاتي وشهواتي، فإن المال لا يؤكل بعينه، بل الفائدة فيه أنه يتوصل به الإنسان إلى بلوغ أغراضه.

ولعمري، هل يصح أن تُجعل أمثال هذه القصص حجة في أفضلية دمشق على غيرها من أمهات المدن حيث المعيشة غالية، وهل هذا الرخص مما ينبغي أن يفاخر به، وأهل الاقتصاد في عصرنا يجعلونه إذا استحكم من بلد شؤمًا عليه، ويعدون البلد كل البلد الذي غلت فيه أسعار الحاجيات والكماليات، وارتفعت الأجور والارتفاقات على نسبتها، والأمثلة على ذلك كثيرة، فإنه يبلغنا لهذا العهد عن بلاد الأناضول وهبوط أسعار المأكولات فيها لقلة ما يصدر عنها، ما لا يكاد يُصدق لولا تواتره على ألسن الطارئين على ذاك الصقع، فهل تفضل السكنى فيه على الروم أيلى المرتفعة أسعار الأرزاق فيه، وبعد، فإن كان لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى، فلا فضل لبلد على آخر إلا بالعلم والعمل والسعادة الحقيقة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤