خاتمة

الرياضيات الكبرى الموحَّدة
ثَمة شابٌّ مجازف من بورما،
توصَّل إلى برهانٍ لمبرهنة فيرما،
فعاش بعد ذلك في رعب،
مِن اكتشافِ عيب،
كان برهانُ وايلز مثلما رأى، أكثرَ إحكامًا!
فيرناندو جوفيا

لم يكن ثَمة شكٌّ في البرهان هذه المرةَ. فقد كانت الورقتان البحثيَّتان اللتان تتألَّفان إجمالًا من ١٣٠ صفحةً، أكثرَ المخطوطاتِ الرياضية التي رُوجِعت بإمعانٍ على مدى التاريخ، وقد نُشِرَتا في النهاية في دوريَّة «أنالز أوف ماثيماتيكس» (مايو ١٩٩٥).

ومرةً أخرى، وجد وايلز نفسَه على الصفحة الأولى لجريدة «ذا نيويورك تايمز»، لكن العنوان «رياضي يُعلن حلَّ أحد الألغاز الكلاسيكية»، قد غطَّى عليه بعضَ الشيء في هذه المرة خبرٌ عِلمي آخَر: «التوصل إلى عُمر الكون يَطْرح لُغزًا كونيًّا جديدًا». وبالرغم من أنَّ الصحافيِّين كانوا أقلَّ تحمُّسًا بعضَ الشيء بشأن مبرهنة فيرما الأخيرة في هذه المرة، فإنَّ علماء الرياضيات لم يَغْفلوا عن الأهمية الحقيقية للبرهان. فمِثلَما أعلن جون كوتس: «إنَّ البرهان النهائيَّ يُمثِّل للرياضيات ما يُمثله تقسيمُ الذرةِ أو اكتشافُ تركيب الحمض النووي. ذلك أنَّ برهانَ فيرما انتصارٌ فِكري عظيم، علينا ألَّا نُغفِل حقيقةَ أنه قد أحدثَ ثورةً في نظرية الأعداد في دفعةٍ واحدة. وبالنسبة إليَّ، يكمنُ جمال عمل وايلز وسحرِه في أنه كان خطوةً هائلة لنظرية الأعداد.»

•••

على مدى تَجرِبة وايلز القاسيةِ التي استمرَّت ثمانيةَ أعوام، جمَع وايلز فِعليًّا جميعَ الإنجازات التي تحقَّقَت في القرن العشرين في مجالِ نظرية الأعداد، ودمَجَها معًا في برهانٍ جليل. لقد ابتكَر أساليبَ رياضيةً جديدة تمامًا، وجمعَها مع أخرى تقليديةٍ بطرقٍ لم يُدرك أحدٌ أنها ممكنةٌ من قبل. ووَفقًا لكين ريبِت، فإنَّ البرهانَ توليفةٌ مثاليَّة بين الرياضيات الحديثةِ والإلهامِ للمستقبل: «أعتقد أنَّك إذا ضَللتَ طريقَك في جزيرة مهجورة، ولم يكن معك سِوى هذه المخطوطة، فسوف يكون لديك مادةٌ عظيمة للتفكير. سوف ترى جميعَ الأفكار الحاليَّة في نظرية الأعداد. ستفتحُ صفحةً ما وتجد ظهورًا موجزًا لمبرهنة أساسية لديلين، ثم تفتحُ صفحة أخرى وبطريقةٍ عرَضية تجدُ مبرهنة لإيلوجوارش، وجميع هذه الأفكار تُستدعى وتُستخدَم للحظةٍ قبل الانتقال إلى الفكرة التالية.»

بالرغم من أنَّ صحافيِّي العلومِ أشادوا ببرهان وايلز لمبرهنةِ فيرما الأخيرة، فإنَّ قلةً منهم فقط هم مَن علَّقوا على برهان حَدْسية تانياما-شيمورا الذي يرتبطُ به ارتباطًا لا يَنفصم. وعددٌ أقلُّ هم مَن تكبَّدوا عناء ذِكْر مساهمة يوتاكا تانياما وجورو شيمورا، وهما عالِما الرياضيَّات اليابانيَّان اللذان غرَسا في خمسينيَّات القرن العشرين البذورَ لعمل وايلز. وبالرغم من أنَّ تانياما قد انتحرَ قبل ما يَزيد على ثلاثين عامًا، فإنَّ زميله شيمورا كان هناك ليشهدَ إثباتَ الحَدْسية. وحين سُئِل شيمورا عن ردِّ فعله تجاهَ البرهان، ابتسم بلطفٍ وأجاب بتحفُّظٍ ورصانة: «لقد أخبَرتُكم بذلك.»

figure
شكل ٨-١: الصفحة الأولى من برهان وايلز المنشور، الذي يمتدُّ إلى ما يزيد عن مائة صفحة.

ومِثل العديد من زملائه، يشعرُ كين ريبِت أنَّ إثباتَ حدسية تانياما-شيمورا قد غيَّر شكلَ الرياضيَّات، وعن ذلك يقول: «ثَمَّة تداعياتٌ نَفْسية مهمة وهي أنَّ الأفراد يستطيعون الآن أن يُقْدِموا على معالجةِ مسائلَ أخرى كانوا يتَهيَّبونها قبل ذلك تهيُّبًا شديدًا. فالمشهد الآن مختلِف؛ إذ تعرف أنَّ جميعَ المعادلات الإهليلجية نمَطية، ومِن ثَمَّ فحين تثبت مبرهنة للمعادلات الإهليلجية، تتصدَّى للأشكال النمطية في الوقت نفسه، والعكس أيضًا صحيح. صار لديك منظورٌ مختلِف عما يجري، وقلَّت الرهبةُ التي تتولَّد من فكرةِ العمل مع الأشكال النمطية؛ لأنَّ ما تفعلُه حينها بصفةٍ أساسية هو العمل مع المعادلات الإهليلجية. ولا شك بأنَّ الأمرَ يختلف أيضًا حين تكتبُ مقالًا عن المعادلات الإهليلجية؛ فبدلًا من قول إننا لا نعرفُ شيئًا لذا فسيكون علينا افتراضُ صحة حدسية تانياما-شيمورا؛ يُمكننا الآن أن نقولَ إننا نعرفُ أنَّ حدسية تانياما-شيمورا صحيحة، ومِن ثَمَّ فلا بد أن يكون هذا وذاك صحيحًا. وهي تجرِبةٌ تبعث على السرور بدرجةٍ أكبرَ كثيرًا.»

من خلال حدسيةِ تانياما-شيمورا، وحَّد وايلز بين العالَمَين الإهليلجيِّ والنمَطي، وقدَّم بذلك إلى الرياضياتِ طريقًا مختصَرًا إلى العديد من البراهينِ الأخرى؛ فالمسائلُ التي تنتمي إلى أحَدِ المجالين يُمكن حلُّها بالقياس على المسائل التي تنتمي إلى المجالِ الموازي. ومِن ثَمَّ، فيُمكن الآن إعادةُ النظر في المسائل الإهليلجية الكلاسيكية التي يعودُ تاريخها إلى اليونانيِّين القُدامى، باستخدام جميعِ الأدوات والأساليب النمطية المتاحة.

والأهمُّ من ذلك أنَّ وايلز قد قام بالخطوةِ الأولى في مخطَّط لانجلاندز الكبير للتوحيد: برنامج لانجلاندز. ثَمة مجهوداتٌ جديدة تُبذَل الآن لإثباتِ غيرِ ذلك من الحدسيات التي تُوحِّد بين جوانبَ أخرى من الرياضيات. في مارس عام ١٩٩٦، تقاسمَ وايلز مع لانجلاندز جائزةَ وولف التي تبلغ قيمتها ١٠٠٠٠٠ دولار أمريكي (التي لا ينبغي الخلطُ بينها وبين جائزة ولفسكيل). لقد أدركَت لجنة جائزة وولف أنَّ برهانَ وايلز لم يكن إنجازًا رائعًا في حدِّ ذاته فحسب، بل بعَث الحياة من جديد في مخطَّط لانجلاندز الطَّموح. كان ذلك إنجازًا يمكن أن يقودَ الرياضياتِ إلى العصر الذهبي التالي من حلِّ المسائل.

بعد عامٍ من الإحراج والشكِّ، صار بوُسعِ المجتمع الرياضي أن يبتهجَ أخيرًا. فخصَّصَت كلُّ ندوة وكلُّ حلقة دراسية وكلُّ مؤتمر، جلسةً لبرهان وايلز، وأطلقَ علماءُ الرياضيات في بوسطن مسابقةً للشعر الفكاهيِّ احتفالًا بهذا الحدث العظيم. وقد اجتذبتُ المشاركةَ التالية:

الزبد أيها النادل مكتوبٌ عليه!
سُمِع أحد الزبائن يُلقي بهذه التهمة!
اضطُرِرت إلى الكتابة فيه!
صاح بهذا النادل بيير.
لم أجد مكانًا كافيًا في المرجرين.
بقلم إي هاو وإتش لينسترا ودي مولتون

(١) الجائزة

يعتمد برهانُ وايلز لمبرهنة فيرما الأخيرةِ على إثباتِ صحةِ حَدْسيةٍ وُلِدت في خمسينيَّات القرن العشرين. تَستخدم الحُجةُ المنطقية مجموعةً من الأساليب الرياضية التي ابتُكِرت في العَقد الأخير، وبعضُها من ابتكارِ وايلز نفسِه. يُعَد البرهانُ من روائع الرياضيات الحديثة، وهو ما يُؤدِّي إلى النتيجة الحتمية بأنَّ برهانَ وايلز يختلفُ عن برهانِ فيرما. لقد كتَب فيرما أنَّ هامشَ نسختِه من كتاب «أريثميتيكا» لديوفانتوس لن يتَّسِع لبرهانه، ولا شكَّ بأنَّ برهان وايلز الذي يأتي في مائة صفحة من الرياضيات المكثَّفة يَفِي بهذا المعيار، لكنَّ الفرنسيَّ لم يخترع الأشكالَ النمطية ولا حَدْسية تانياما-شيمورا قبلَ أيِّ شخصٍ آخرَ بالطبع.

إذا كان فيرما لم يتوصَّلْ إلى برهان وايلز، فما الذي توصَّل إليه؟ ينقسم علماءُ الرياضيات في هذا الصدَدِ إلى معسكَرَين. يعتقد الواقعيُّون المتشكِّكون أنَّ مبرهنةَ فيرما الأخيرةَ جاءت نتيجةَ لحظةِ ضعفٍ نادرة مرَّ بها عبقريُّ القرن السابع عشر. فهم يزعمون أنَّ فيرما قد كتب: «لقد وجَدتُ برهانًا بديعًا بحق.» لكنه لم يَجِد سِوى برهانٍ مَعيب. وهذه الطبيعة الدقيقة لهذا البرهانِ المعيب مَحلُّ جدالٍ كبير، لكنها قد تكون في نطاق عملِ كوشي أو لاميه.

ويعتقد بعضُ علماء الرياضيات الآخَرين من الرومانتيكيِّين المتفائلين أنَّ فيرما ربما قد توصَّل إلى برهانٍ عبقري. أيًّا ما كان هذا البرهان، فلا بد أنه كان يستندُ إلى تِقْنيات القرن السابع عشر، ولا بد أنه تضمَّنَ حُجةً بارعة للغاية، حتى إنها غابت عن الجميع وفيهم أويلر ووايلز. وبالرغم من نشرِ حلِّ وايلز للمسألة، يعتقد الكثيرُ من علماء الرياضيات أنه لا يزال باستطاعتِهم تحقيقَ الشهرة والمجد باكتشاف برهانِ فيرما الأصلي.

بالرغم من أنَّ وايلز اضطُرَّ إلى اللجوء إلى طرُقِ القرن العشرين لإثباتِ لُغزٍ من القرن السابع عشر، فقد تمكَّن على أي حال من التصدِّي لتحدي فيرما؛ وَفْقًا لقواعدِ لجنة ولفسكيل؛ ففي السابع والعشرين من يونيو عام ١٩٩٧، اجتمع الأعضاءُ الموقَّرون للجمعية الملكيَّة للعلوم في جوتينجن بالقاعة الكبرى في جامعة جوتينجِن لمنحِ الجائزة التي وهبها بول ولفسكيل في بداية القرن.

صرَّح البروفيسور هاينز واجنر، رئيسُ اللجنة، أنَّ جائزة ولفسكيل أهمُّ كثيرًا من أيِّ جائزةِ نوبل؛ فجوائزُ نوبل تُمنَح كلَّ عام، أما جائزة ولفسكيل، فقد كان عليها أن تنتظرَ تسعين عامًا قبل منحِها. مُحاطًا بالصور الشخصية للملوك الهانوفريين، قَبِل وايلز الجائزةَ التي يبلغ قدرها ٥٠٠٠٠ دولار أمريكي، وأخيرًا، صار ثَمةَ حلٌّ رسميٌّ لمبرهنة فيرما.

يُدرِك وايلز أنه كي يُقدِّم للرياضيات واحدًا من أعظمِ البراهين فيها، قد اضطُرَّ أيضًا إلى أن يحرِمَها من لُغزها الأعظم: «لقد أخبرني بعضُ الأشخاص أنني أخذتُ منهم مسألتَهم، وسألوني إذا كان من الممكنِ أن أُعطِيَهم شيئًا بدلًا منها. ثَمة شعورٌ بالكآبة. لقد فقَدْنا شيئًا صاحَبَنا مدَّةً طويلة للغاية، وهو شيء جذَب الكثيرَ منا إلى الرياضيات. ربما يكون هذا هو الحال دومًا مع مسائل الرياضيات. كل ما علينا فِعله هو أن نعثرَ على مسائلَ جديدةٍ تجذبُ انتباهَنا.»

لكن ما الذي سيجذبُ انتباهَ وايلز لاحقًا؟ ليس غريبًا على رجلٍ ظل يعملُ في سرِّية تامة على مدى سبعِ سنوات أن يرفضَ التعليق بشأن بحثه الحاليِّ، لكن أيًّا كان ما يعملُ عليه، فلا شكَّ أنه لن يُعوِّض أبدًا عن افتتانه بمبرهنةِ فيرما الأخيرة بشكلٍ كامل. «ما من مسألةٍ أخرى ستُمثِّل لي الأهميةَ نفسها. لقد كانت هذه المسألةُ شغفَ طفولتي. وما من شيءٍ آخَر يُمكن أن يحلَّ محلَّ ذلك. لقد حلَلتُها. وسوف أُحاول حلَّ مسائل أخرى، أنا متأكِّد من ذلك. سيكون بعضُها صعبًا للغاية وسأُحقِّق الشعورَ بالإنجاز مجددًا، لكن لا يُمكن لأيِّ مسألة رياضية أخرى أن تستحوذَ عليَّ مثلَما استحوذَت عليَّ مسألةُ فيرما.»

«لقد حَظِيتُ بذلك الامتياز شديدِ النُّدرة بأن أسعى في مرحلةِ نُضْجي وراءَ حلمِ طفولتي. أنا أعرفُ أنه امتيازٌ شديد النُّدرة، لكن إذا تمكَّنتَ في حياتك وأنت بالغٌ كبير من دراسةِ شيء يُمثل لك مثلَ هذه الأهمية، فإنَّ ذلك يكون مُجزيًا أكثرَ من أي شيء يُمكن تخيُّلُه. ثَمة شعورٌ بالفقد ينتابُني بعد أن حللتُ هذه المشكلة، لكنه مصحوبٌ في الوقت نفسه بشعورٍ هائل من الحرية. لقد كنتُ شديدَ الهوس بهذه المسألة حتى إنني كنتُ أفكر فيها طوالَ الوقت على مدى ثماني سنوات، بداية من استيقاظي في الصباح وحتى خُلودي إلى النوم ليلًا. وذلك وقتٌ طويل على التفكير في شيءٍ واحد. لقد انتهت الآن تلك الأوديسة المحدَّدة. وقد استراح عقلي.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤