بيلي الذي لا يُبالي

كنا نقترب من نهاية شهر أغسطس. بدا أننا آخر اثنَين لم يرحلا من النادي. كان يجلس بالقرب من نافذة مفتوحة، وصحيفة «التايمز» مُلقاة بجواره على الأرض. سحبت كرسيًّا واقتربت منه قليلًا وقلت: «صباح الخير.»

كتم تثاؤُبًا وردَّ بكلمة «مورنين»، وهي التحية المختصرة التي أضحت موضة مؤخرًا. كان دائمًا ما يصيب فيما يتعلق بالموضة.

تابعت حديثي قائلًا: «أخشى أن اليوم سيكون شديد الحرارة.»

رد قائلًا: «أظن ذلك»، ثم حوَّل رأسه بعيدًا وأغمض عينَيه في هدوء.

أدركت أنه لا يرغب في الحديث، لكن هذا الإدراك جعلني أكثر إصرارًا على الكلام، والكلام معه تحديدًا دون بقية سكان لندن. استحوذَت عليَّ رغبة في مضايقته، وتعكير صفو هذا الهدوء الراسخ الذي يحيط به ويشكِّل كيانه؛ ومن ثَم استجمعتُ رباطة جأشي وشرعت في تنفيذ هذه المهمة.

علَّقتُ: «صحيفة شيِّقة، أقصد التايمز».

أجابني: «جدًّا»، ثم رفع الصحيفة من على الأرض وناولني إياها قائلًا: «ألن تقرأها؟»

كنت قد حرصت على التحدُّث بنبرة مرح زائد، توقَّعتُ أنها ستزعجه، لكن أسلوبه ظلَّ أسلوب رجل يشعر بالملل فحسب. تجادلت معه بأدب حول أَخْذ الصحيفة، لكنه أصرَّ، بالأسلوب الضجِر نفسه، على أنه انتهى من قراءتها. فأخذتُها وبالغتُ في شكره؛ إذ قدَّرتُ أنه يكره المبالغة.

صمَّمتُ على مواصلة الحديث فأضفت: «يُقال إن افتتاحية التايمز هي درس في فن الكتابة باللغة الإنجليزية.»

رد في تؤدة: «هكذا سمعت. أنا نفسي لا أقرؤها.»

حينئذٍ أدركت أن جريدة التايمز لن تساعدني كثيرًا في مسعاي. أشعلت سيجارة وذكرت أني لاحظت أنه لم يشارك في رحلات صيد الطيور. قال إنه لم يشارك فعلًا. في الموقف الحالي، كان إنكار هذه الحقيقة سيُرهقه، بَيْد أن اضطراره إلى الاعتراف بعدم المشاركة أخرجه عن سكوته.

فاستطرد: «أرى أن الخوض في الطين لمسافة أميال، وفوق كتفي بندقية ثقيلة، بصحبة أربعة رجال متجهمين، يرتدون ملابس من المخمل الأسود، وكلبَين بائسَي المنظر، لا لغرض سوى قتل مجموعة من الدواجن لا تتعدَّى قيمتها شلنًا وستة بنسات أمرٌ ينطوي على كثير من الشطط.»

أطلقتُ ضحكة مجلجلة وهتفت: «كلام معقول، معقول جدًّا!»

كان من نوعية الرجال الذين يقشعرون داخليًّا عند سماع صوت الضحك. راودتني رغبة في ضربه بكفي على ظهره، لكني أدركت أن هذه الفعلة قد تدفعه إلى مغادرة المكان كله.

سألته إذا كان يصطاد الحيوانات. فأجاب أن قضاء أربع عشرة ساعة يوميًّا في الحديث عن الخيل، ولا شيء آخر سواها كان ينهكه؛ لذا تخلى عن ممارسة الصيد.

سألته: «هل تصطاد السمك؟»

أجابني: «لا، لست واسع الخيال بما يكفي لممارسة هذا النشاط.»

قلت: «أظن أنك تسافر كثيرًا.»

بدا أنه قرَّر الاستسلام لمصيره؛ إذ استدار ناحيتي مذعنًا. طالما وصفتني مربية قديمة لي بأني أكثر طفل «متعب» لقيته في حياتها. لكني أفضِّل وصف نفسي بأنني «مثابر».

قال: «حَرِيٌّ بي أن أسافر أكثر. فلربما أرى اختلافًا بين مكان وآخر.»

سألته: «هل جرَّبتَ زيارة أفريقيا الوسطى؟»

رد قائلًا: «ذهبت إلى هناك مرَّة أو مرتين، دائمًا ما تذكِّرني بحدائق كيو.»

قلت: «ماذا عن الصين؟»

قال: «أرى أنها مزيج من رسومات أشجار الصفصاف على الأطباق الخزفية والأحياء الفقيرة في نيويورك.»

قرَّرتُ أن أذكر وجهة إضافية، على أمل أن يحالفني الحظ في المحاولة الثالثة، فقلت: «والقطب الشمالي؟»

رد عليَّ بقوله: «لم أبلغه قط، بَيْد أني وصلت إلى كيب هاكلايت مرة.»

سألت: «ما الأثر الذي تركه في نفسك؟»

أجاب: «لم يترك أثرًا.»

تحوَّلَت دفة الحديث إلى النساء والشركات الصورية والكلاب والأدب وما إلى ذلك من موضوعات. ووجدت أنه مُلمٌّ بها كلها، لكن جميعها يُثير ملله.

ففي مجري الحديث عن النساء قال: «كنَّ مسليات فيما مضى، حتى بدأن يتعاملن بجدية. والآن صِرنَ سخيفات ليس إلا.»

في خريف ذاك العام، فُرض عليَّ قضاء مزيد من الوقت مع «بيلي الذي لا يبالي»؛ إذ تصادف، بعد شهر من محادثتنا، أن حللنا ضيوفًا على بيت سيدة عزيزة، وحينئذٍ بدأ يروقني أكثر. أدركت أنه من المفيد معرفة رجل مثله. فيما يخص الأزياء، على سبيل المثال، كان الاقتضاء به خيارًا مضمونًا في جميع الأوقات. فهو دائمًا ما يرتدي ربطة العنق وطوق الرقبة والجوارب الملائمة، حتى إن لم تكُن تتفق مع أحدث صيحات الموضة؛ وفي المسائل الاجتماعية، كان دوره لا يُقدَّر بثمن بصفته صديقًا ومرشدًا وفيلسوفًا. كان يعرف الجميع، ويعرف القناعات السابقة لكلٍّ منهم أو منهن. كان على دراية بماضي كل امرأة، ولديه من بُعد النظر ما يمكِّنه من تخمين مستقبل كل رجل. كان بوسعه أن يدُلَّك على مخزن الفحم؛ حيث كانت كونتيسة جلنليمان تلهو في شبابها، وأن يصحبك لتناول طعام الإفطار في المقهى القريب من طريق مايل إند، والذي تعلوه لافتةٌ كُتبَ عليها «مقهى سام سميث، أُسِّس عام ١٨٢٠». وهناك سيخبرك أن مَن يُدير المقهى هو شقيق الروائي سميث ستراتفورد ذي الشهرة العالمية، والذي تتناول رواياته المجتمع الراقي، مضيفًا أن شقيقه يحيا هنا حياةً لا يكتب عنها أو يصوِّرها أو ينقدها أحد، ويكسب قوته من بيع شرائح لحم الخنزير، الشريحة بثلاثة بنسات ونصف، وشرائح الخبز السميكة، الشريحتان ببنس. كان يعرف الموائد التي يُعد التنديد بالفساد السياسي عليها فعلًا غير لائق. وكان بوسعه أن يحدِّد بسهولة أيًّا من العلامات التجارية ترتبط بأيٍّ من شعارات النبالة، ويتذكَّر سعر كل لقب بارونيت مُنح خلال الخمسة عشر عامًا الماضية.

أما فيما يتعلَّق بشخصيته، فربما ينطبق الوصف الذي أطلق قبلًا على الملك تشارلز: لم يتفوَّه قطُّ بعبارة حمقاء ولم يقُم قطُّ بفعل حصيف. كان يحتقر معظم رفاقه من الرجال، أو يتصنَّع ذلك، ومعظم رفاقه ممَّن تُحترَم آراؤهم كانوا يحتقرونه صدقًا.

باختصار، كان شابًّا مسلِّيًا، يتمتَّع بقدرٍ من الذكاء، ما يجعل المرء يستمع بصحبته بعد العشاء، لكنه يتجنَّبه في الصباح الباكر.

كان هذا رأيي فيه إلى أن جاء اليوم الذي وقع فيه في الحب، أو «تدَلَّه في غرام جيرتي لوفيل»، حسب تعبير تيدي تدمارش الذي حمل الخبر إلينا.

أضاف تيدي: «جيرتي ذات الشعر الأحمر»، كي يُميِّزها عن أختها التي تبنَّت مؤخرًا موضة صبغ الشعر باللون الأصفر الذهبي.

صاح النقيب متعجبًا: «جيرتي لوفيل، كيف ذلك؟! لطالما قيل لي إن الأختَين لوفيل لا تملكان قرشًا واحدًا.»

علَّق تيدي: «أنا متأكد أن أباهما العجوز مُفلِس تمامًا»، وكان تيدي يحصِّل دخلًا مُرضيًا من العمل بمكتب بالقرب من شارع هاتون جاردن، بَيْد أن طبيعة عمله ظلَّت لغزًا، ورغم اتباعه مبدأ الصراحة المطلقة فيما يخص شئون الآخرين الخاصة، فإنه كان يستثني ذاته دائمًا من هذا.

استطرد النقيب قائلًا: «على الأرجح ظهر لها عمٌّ غني ممَّن أثْروا من تجارة لحم الخنزير أو بيع الألماس في أستراليا أو أمريكا أو أحد تلك البلدان، وبلغ بيلي خبر عنه في الوقت المناسب. إن بيلي لا تنقصه النباهة.»

اتفقنا على ضرورة وجود تفسير من هذا النوع يبرِّر هذا الزواج، على الرغم من أن اختيار جيرتي لوفيل زوجةً لبيلي كان اختيارًا منطقيًّا من النواحي الأخرى كافةً، بيد أن المنطق لا يُتبع دائمًا فيما يتعلَّق باختيار الزوجة.

في ضوء الشمس، لم تبدُ الآنسة لوفيل جذابة جدًّا، لكن في الحفلات المسائية؛ حيث التوزيع الجيد للإضاءة، كانت ملامحها تكتسب مزيدًا من الحيوية والنضارة. لم تكُن جميلة في أفضل حالاتها، غير أنها ظلَّت تعكس هالة من الرُّقيِّ والتهذيب حتى في أسوأ حالاتها، ما جنَّبها تجاهل الناس لها، فضلًا عن تميُّزها بأناقة الملبس. من حيث الشخصية، كانت سيدة مجتمع نموذجية؛ تقطر لطفًا على الدوام، ولا تنطق صدقًا في أغلب الأحوال. على صعيد الدِّين، كانت ترتاد إحدى كنائس حي كينسنجتون، وفيما يتعلَّق بالأخلاق، كانت تلتزم بالقيم السائدة في حي مايفاير؛ كانت تقرأ الأعمال الأدبية التي تُتيحها مكتبة مودي، وتتابع الحركة الفنية في معرض جروسفينور الفني، ومكَّنها ذلك من الثرثرة بطلاقة في مواضيع السياسة والفلسفة والأعمال الخيرية على جميع موائد شاي الساعة الخامسة التي كانت تُدعى إليها. كانت أفكارها تتطابق دومًا مع أحدَث الأفكار السائدة، وآراؤها تتفق مع رأي مَن تتحدَّث معه. في عصر أحد الأيام بنادي بيونير، طلب روائي مشهور من السيدة بوند الشابة، وهي زوجة الرسام بوند، أن تصفها له باختصار. ظلَّت السيدة صامتة للحظات وشفتاها الجميلتان مزمومتان ثم قالت: «إنها امرأة غاية أملها في الحياة أن تتلقى دعوة على العشاء في بيت دوقة، ولا يؤلمها شيء أكثر من ارتداء زي غير مناسب.»

ربما وجب عليَّ وقتها قول إن هذا الوصف الوجيز كان صادقًا بقدر ما كان قاسيًا، لكن الحاضرين يومها لم تجمعهم معرفة وثيقة حسبما أظن.

هنَّأتُ السيد المحترم ويليام سيسل ويتشوود ستانلي درايتون، أو «بيلي الذي لا يبالي»، كما نلقِّبه في النادي، على الحدث السعيد عندما لقيتُه لاحقًا على سلالم مطعم سافوي، ولاحظت أن وجهه قد تورَّد، أو ربما توهَّمتُ ذلك بفعل ارتعاش ضوء المصباح الكهربائي. قلت له: «فتاة لطيفة جدًّا، يا لك من وغد محظوظ يا بيلي.»

كانت عبارتي هذه لا تزيد على ما يُقال عادةً في تلك المناسبات، وقد نطق بها لساني من تلقاء ذاته دون تفكير، لكن بيلي رأى أنها تعبير صادق وودود لا يُقدَّر بثمن.

فانتهز الفرصة وقال: «سوف تحبها أكثر عندما تتعرَّف عليها. إنها تختلف كثيرًا عن النساء اللاتي يلقاهن المرء. تعالَ والقها غدًا عصرًا، سوف تُسَر كثيرًا للقائك. تعالَ في الساعة الرابعة، سوف أبلغها أن تنتظرك.»

قرعتُ جرس منزلها بعدما تجاوزت الساعة الخامسة بعشر دقائق. وكان بيلي هناك. ارتجفت قليلًا وهي تسلِّم عليَّ كناية عن الإحراج، ورغم أن هذا التصرُّف بدا مُستغرَبًا منها، فإن تأثيره لم يخلُ كليًّا من اللطف. شكرتني على أنني جئت لزيارتها مبكرًا. مكثت نصف ساعة، لكن المحادثة صارت رتيبة، وبعض ملاحظاتي الذكية لم تسترعِ انتباهًا من أي نوع.

وعندما نهضتُ كي أستأذن بالانصراف، قال بيلي إن عليه أن يغادر هو الآخر، وأنه سوف يصحبني. لو كانا عاشقَين عاديَّين لكنتُ حرصت على أن أفسح لهما المجال كي يودِّع بعضهما بعضًا على انفراد، لكن في حالة السيد المحترم ويليام درايتون والآنسة لوفيل الكبرى، ارتأيت أن لا داعي إلى هذه التكتيكات؛ لذا انتظرت حتى تصافحا ونزلت السلالم معه.

لكن ما إن بلغنا بَهْو المنزل حتى هتف بيلي فجأة: «رباه! انتظرني نصف دقيقة»، ثم عاد صاعدًا السلالم ركضًا. ويبدو أنه وجد ما دفعه إلى العودة على قمة السلالم؛ إذ لم أسمع صوت باب غرفة الاستقبال يُفتح. بعد ذلك، نزل مجددًا وعلى ملامحه سَمْت رَزين لا مبالٍ.

وبينما يضع ذراعه في ذراعي، قال مفسرًا: «نسيت قفازيَّ، دائمًا ما أترك قفازيَّ هنا وهناك.»

لم أقُل إنني رأيته يتناول قفازَيه من داخل قبعته ويضعهما خلسة في جيب معطفه.

لم نرَ بيلي كثيرًا في النادي طوال الأشهر الثلاثة التالية، وعلق النقيب بأنه سوف يعوضنا عن غيابه هذا وأكثر بعد الزواج؛ كان النقيب يستمتع بلعب دور الصديق المتشائم في غرفة التدخين بالنادي، وربما تحسَّن أداؤه لهذا الدور لو اتسم، بين الحين والآخر، بقدر من الأصالة. خُيِّل إليَّ مرَّة، في ضوء الشفق، أنني لمحت رجلًا ذكَّرني ببيلي تصحبه امرأة تشبه الآنسة لوفيل الكبرى، لكن مَن رأيتهما كانا في حديقة باترسي، التي لا تُعد وجهة أنيقة للنزهات الليلية، فضلًا عن أنهما كانا متعانقَي الأيدي وبدا المشهد كله أشبَه بالفصل الأخير من رواية عاطفية نُشرت في مجلة «لندن جورنال» الأسبوعية، ومن ثَم قررت أنني أخطأت في ظني.

بَيْد أني رأيتهما بالفعل، في إحدى الأمسيات، جالسَين في المقاعد الأمامية بمسرح أديلفي، ومستغرقَين في متابعة مسرحية ميلودرامية عاطفية. لقيتهما في الاستراحة بين الفصول، وشرعت أُلقي ملاحظات ساخرة على المسرحية، مثلما نسخر عادةً مما يعرضه مسرح أديلفي، لكن الآنسة لوفيل ترجَّتني بحرارة ألا أؤثر سلبًا على إعجابها بالعرض، وأراد بيلي أن يتناقش معي جدِّيًّا حول ما إذا كان يحق لرجل أن يتصرَّف مثلما تصرف ويل تيريس، بطل المسرحية، توًّا مع المرأة التي يحبها. تركتهما ورجعت إلى مجموعة الأصدقاء الذين جئت معهم، ما أراح جميع الأطراف، حسبما ظننت.

تزوَّجا بعد مرور فترة مناسبة. وعندئذٍ اكتشفنا أننا أخطأنا في بعض ظنوننا. فبيلي لم يحقِّق أي استفادة مادية من الزواج. لكن بدا لنا أن الزوجَين راضيان بالعيش على ما يملك بيلي من ثروة معقولة. سكنا منزلًا صغيرًا جدًّا بالقرب من محطة فيكتوريا، وأجَّرا عربة بأحصنة في أثناء الموسم الاجتماعي. لم يستضيفا الكثير من الناس في منزلهما، لكنهما حرصا على أن يرتادا جميع الأماكن العصرية واللائقة التي ينبغي أن يراهم الناس بها. وبتحوُّل الآنسة لوفيل الكبرى إلى حرم السيد درايتون المحترمة، صارت أكثر شبابًا وتألُّقًا مما كانت عليه قبلًا، ولأنها ظلَّت ترتدي ملابس في غاية الأناقة، ترقَّت سريعًا في المراكز الاجتماعية. اصطحبها بيلي معه إلى كل مكان، وتجلى فخره بما حققته من نجاح. بل قيل إنه هو مَن يصمِّم فساتينها، وقد لاحظته بنفسي يدرس بإمعانٍ الفساتين في واجهة محل راسيل آند آلين.

لم تتحقَّق توقعات النقيب. فبعدما تزوَّج بيلي الذي لا يبالي، إن كان هذا اللقب لا يزال ينطبق عليه، لم يعُد يأتي إلى النادي إلا نادرًا. لكنه صار يروقني، وبدأت أعجب أيضًا بزوجته، مثلما تنبَّأ قبلًا. وجدت أن ما يتَّسمان به من لا مبالاة هادئة حيال قضايا العصر الملحَّة يُتيح لي متنفَّسًا حقيقيًّا يُريحني من الأجواء المرهقة للذهن في الأوساط الفنية والأدبية. ففي غرفة الاستقبال بمنزلهما الصغير في شارع إيتون رو، كانت المقارنة بين جورج مريديث وجورج آر سيمز من حيث البراعة والقيمة الأدبية موضوعًا لا يستحق النقاش. فكلاهما كانا يُعَدَّان فردَين يوفِّران قدرًا معيَّنًا من الترفيه مقابل مبلغ محدَّد من المال. ولو أتى لزيارتهما، في عصر أي يوم أربعاء، هنريك إبسن وآرثر روبرتس للقي كلاهما القدر ذاته من الترحيب بصفتهما إضافة مُمتِعة إلى تجمع الضيوف المحدود بمنزلهما. لو حكم عليَّ العيش في هذا البيت كنت سأمل من هذا السلوك الساذج، لكن زيارته بين الحين والآخر، كان تأثيرها منعشًا؛ لذا استغللتُ فرصة ترحيبهما بي، الذي أحسبه صادقًا، وزرتهما كلما سنحت الفرصة.

ومع توالي الأشهر، بدا أنهما يزدادان قربًا، رغم أني سمعت أن هذا التقارب بين الزوجين ليس معتادًا في أوساط المجتمع الراقي. في إحدى الأمسيات، قدمت إلى بيتهما مبكِّرًا عن موعدي بقليل، فقادني رئيس الخدم، وهو رجل لا تُسمع خطواته، إلى غرفة الاستقبال. وهناك وجدتهما جالسين في ضوء الغسق وذراع كلٍّ منهما حول الآخر. كان الانسحاب من الغرفة مستحيلًا؛ لذا واجهت الموقف وسعلت. تفاجآ وشعرا بإحراج كبير كما لو كانا عاشقين من الطبقة الوسطى.

لكن هذا الحادث أدَّى إلى خلق حالة من التفاهم بيننا، فصارا يُعاملانني بصفتي الصديق الذي لا يحتاجان إلى التظاهر أمامه.

وبملاحظتهما عن قرب، توصَّلتُ إلى استنتاج مفاده أن أشكال الحب وأساليبه تتشابه جدًّا في هذا العالم الواسع، وكأن كيوبيد، ذاك الفتى الطائش، الغافل عن تطوُّر البشر، فرض منهجًا واحدًا للحب على كلٍّ من الشاعر المغمور وبائع المتجر الصبي بحي إيست إند، وعلى الفتاة خريجة كلية جريتون وصانعة القبعات البسيطة؛ والدرس نفسه الذي لقَّنَه رجال الهون والبيكتيين الملتحين منذ أربعة آلاف سنة علَّمَه جوني الشاب الذي يحيا في أواخر القرن التاسع عشر.

وهكذا مرَّ صيف وشتاء هانئ على السيد المحترم بيلي درايتون، ثم شاء الحظ أن يسقط مريضًا في منتصف الموسم الاجتماعي بلندن، عندما تتوافد دعوات الحفلات الراقصة وحفلات العشاء ودعوات زيارات المنازل وتناول طعام الغداء من كلِّ حَدبٍ وصوب، وعندما يصير العشب الذي يكسو مروج نادي هارلنجهام في نعومة الحرير وتكون حلبات تجهيز وعرض الخيول في أبهى رونق.

من سوء الحظ أيضًا أن صيحات الموضة في هذا الموسم كانت تناسب حرم السيد بيلي أكثر من أي موسم سابق. وكان الزوجان قد اجتهدا، مع بداية الربيع، في تصميم أزياء توقَّعَا أن تخطف القلوب في جميع أنحاء حي مايفاير، وكانت الفساتين والقبعات، وكلٌّ منها عمل فني، مُعلَّقة على المشاجب في انتظار أن تطلق العنان لتأثيرها الساحر. لكن حرم السيد بيلي المحترمة لم تعُد تهتم بتلك الأمور، لأول مرة في حياتها.

حزن أصدقاؤهم حزنًا حقيقيًّا على ما أصابهما؛ فالمجتمع الراقي هو الوسط الطبيعي لبيلي، وفيه يصير جذابًا وممتعًا. لكن مرضه لا يعني بالضرورة حكمًا بالسجن على زوجته، حسبما علقت السيدة جوير. فانعزالها عن العالم لن ينفعه بشيء وسوف يبدو تصرُّفًا غريبًا.

ولأن حرم السيد درايتون المحترمة كانت ترى الغرابة جريمة، ولأنها كانت تعد صوت السيدة جوير النبيلة هو صوت الواجب، فقد ضحَّت برغباتها على مذبح القبول الاجتماعي، وأحكمت لف ثيابها الجديدة حول قلبها المتألم وولَّت وجهها شطر المجتمع الراقي.

لكن حرم السيد درايتون المحترمة لم تحقِّق النجاح الذي حقَّقَته في المواسم الاجتماعية السابقة. فالمحادثات القليلة التي كانت تتبادلها مع الناس صارت أقل بكثير، حتى إنها باتت غير مُرضية لقاطني طريق بارك لاين من الأثرياء الجدد. صار لضحكتها الشهيرة وقع أجوف. وكانت عبارات الحكمة التي يتفوَّه بها الدوقات تجعلها تبتسم، ونوادر المليونيرات المضحكة تُصيبها بالحزن. أجمع المجتمع الراقي على كونها زوجة صالحة، لكنه رأى أن صحبتها مُملَّة، ومن ثَم قصر اهتمامه بها على الرسائل القصيرة التي تستعلم عن الحال. شعرت حرم السيد درايتون المحترمة بالامتنان لأنها ارتاحت من هذا الهم، ولأن بيلي كان يزداد ضعفًا. ففي عالم الأوهام الذي أحاط بها، كان بيلي هو الحقيقة الوحيدة. ومع أن دورها في العناية به كان محدودًا من الناحية العملية، واسَتْها فكرة أنها تساعد في تمريضه.

لكن بيلي نفسه كان منزعجًا.

كان يقول لها: «كم أتمنى أن تخرجي أكثر من البيت يا عزيزتي. أشعر أنني رجل قاسٍ وأناني لأني أبقيك هنا بجانبي في هذا البيت الصغير الكئيب. فضلًا عن أن الناس سيفتقدونك، وسوف يكرهونني لأني أبعدتكِ عنهم.» فمعرفة بيلي الواسعة بالعالم لم تنفعه في المسائل المتعلِّقة بزوجته. كان يظن حقًّا أن المجتمع الراقي يتوق لصحبة حرم السيد درايتون المحترمة، ولم يهدأ له بال ما دامت بعيدة عن ذاك المجتمع.

كانت زوجته ترد عليه قائلة: «أفضِّل البقاء معك يا عزيزي. لا يهمني الذهاب هنا وهناك وحدي. عليك أن تتحسَّن سريعًا كي تصحبني إلى تلك الأماكن.»

ظلَّ الحديث بينهما يدور على هذا المنوال حتى مساء اليوم الذي دلفت فيه الممرضة بهدوء إلى حجرة السيدة بيلي درايتون، حيث كانت الأخيرة تجلس وحدها، وأغلقت الباب وراءها، ثم سارت إليها.

قالت الممرضة: «أتمنى أن تخرجي الليلة يا سيدتي، لساعة أو ساعتَين ليس إلا. أعتقد أن السيد بيلي سيسرُّه ذلك؛ إنه يقلق نفسه لأنه يظن أنكِ لا تخرجين بسببه، وفي الوقت الحالي …» تردَّدَت الممرضة للحظة، ثم أضافت: «في الوقت الحالي أرغب في أن يظل هادئًا جدًّا.»

سألت الزوجة: «هل زادت حالته سوءًا أيتها الممرضة؟»

أجابتها الممرضة: «لنقُلْ إن حالته لم تتحسَّن يا سيدتي، وأرى … أرى أنه لا بد لنا من مسايرة رغباته.»

نهضت حرم السيد درايتون المحترمة وسارت نحو النافذة، وظلَّت واقفة هناك لبرهة تتطلَّع إلى الخارج.

ثم قالت أخيرًا: «لكن إلى أين سأذهب؟»، ثم الْتفتت إليها مبتسمةً وأضافت: «لم أعُد أتلقى أي دعوات.»

قالت الممرضة: «هل بوسعك التظاهر أنك تلقَّيت دعوة اليوم؟ إن الساعة لم تتجاوز السابعة مساءً. قولي إنكِ ذاهبة إلى حفل عشاء، وحينئذٍ يمكنك أن تدَّعي أنكِ عُدت مبكرًا إلى المنزل. اذهبي وارتدي ثيابك، وانزلي لتوديعه، ثم عودي إليه في الساعة الحادية عشرة مثلًا، وتظاهري بأنكِ قد عُدتِ لتوِّك من الخارج.»

سألتها الزوجة: «أترين ضرورة لهذا؟»

ردَّت الممرضة: «أرى أن الوضع سيكون أفضل هكذا يا سيدتي. أتمنى أن تجرِّبي هذه الفكرة.»

توجَّهَت حرم السيد درايتون المحترمة نحو الباب ثم توقَّفَت وقالت: «إن سمعه حادٌّ أيتها الممرضة، سوف ينصت لصوت الباب إذ ينفتح ولصوت العربة.»

قالت الممرضة: «سأتولى هذه المسألة. سوف أخبر الخدم أن يحضروا العربة إلى باب المنزل في الساعة الثامنة وعشر دقائق. ويمكنك حينئذٍ الذهاب بالعربة حتى آخر الشارع ثم مغادرتها والعودة مشيًا إلى البيت، سوف أفتح لك الباب بنفسي.»

سألت الزوجة: «وماذا عن خطة العودة إلى المنزل؟»

ردَّت الممرضة: «عليكِ أن تتسللي إلى الخارج قبل حلول الساعة الحادية عشرة ببضع دقائق، وستجدين العربة لا تزال تنتظرك في آخر الشارع. دعي هذا الأمر لي.»

وهكذا، في ظرف نصف الساعة، دلفت حرم السيد درايتون المحترمة إلى غرفة زوجها المريض، وهي تشع أناقة مرتدية فستان سهرة ومجموعة من الحُلِيِّ. ولحسن الحظ كانت الأضواء خافتة في الغرفة، وإلا كان من المحتمَل أن يتشكَّك في الانطباع الذي تحاول زوجته إيصاله إليه. فالتعبير على وجهها لم يكن تعبير امرأة ذاهبة إلى حفل عشاء.

قال بيلي: «أبلغتني الممرضة أنكِ ذاهبة إلى آل جريفيليس هذا المساء. يُسعدني ذلك حقًّا. كنت قلِقًا من أن تظلي هنا في هذا الجو المُفعَم بالكآبة طوال الموسم.» ثم أمسك بيدها ورفعها على بعد ذراع منه، وأضاف: «يا لجمالك يا عزيزتي! إنني على يقين من أنهم جميعًا يلعنونني لأني أبقيكِ محبوسة هنا مثل أميرة في قلعة غول! لن أجرؤ على مواجهتهم مجددًا.»

ضحكَت زوجته مسرورة بكلماته.

ثم قالت: «لن أتأخر. سأتوق إلى العودة سريعًا كي أرى كيف تصرَّفت في غيابي. وإذا لم تُحسن التصرُّف، فلن أخرج مجددًا.»

تبادلا القبل، ثم افترقا، وفي الساعة الحادية عشرة، عادت زوجته إلى الغرفة. وأخذت تحكي له كم كانت الأمسية مبهجة وتباهت قليلًا بما نالته من إعجاب.

ولاحقًا أخبرتها الممرضة أنه كان مبتهجًا في تلك الليلة أكثر من ليالٍ عديدة سابقة.

لذا، واصلا أداء هذه المسرحية الهزلية يوميًّا لأجل خاطره. فكانت الزوجة تتظاهر بأنها مدعوَّة على الغداء اليوم، وتخرج مرتدية ثوبًا من تصميم ريدفيرن، متجر الأزياء الشهير، وفي الليلة التالية كانت تدَّعي أنها ذاهبة إلى حفلٍ راقص، مرتدية فستانًا أُرسل مباشرة من باريس، وعاودت الكَرَّة كل يوم، فكانت تُخبره أنها ستخرج لزيارة أحد المنازل أو لحضور حفل موسيقي أو حفل عشاء. كان المارة والمتسكعون يتوقفون كي يحدِّقوا في تلك المرأة المنهكة، الحمراء العينَين التي ترتدي ثيابًا أنيقة، وتتسلَّل مثل اللصوص من وإلى بيتها.

سمعت مجموعة تتحدَّث عنها في عصر أحد الأيام، في منزل كنت أزور أصحابه، فانضممت إليهم كي أنصت لما يقولون.

كانت امرأة منهم تقول: «طالما اعتقدت أنها قاسية القلب، لكني ظننت أنها امرأة عاقلة. لا يتوقع أحد من النساء أن يغرمن بأزواجهن، لكني لا أرى داعيًا إلى أن تستعرض تجاهلها له وهو على فراش الموت.»

تذرَّعتُ بأني كنت غائبًا عن المدينة كي أستفهم عما تعنيه، فسمعت القصة نفسها منهم جميعًا. لاحظ أحدهم أن عربتها كانت تقف عند باب منزلها ليومَين أو ثلاثة أيام متتالية. ورآها آخر وهي عائدة إلى المنزل. ولمحها شخص ثالث وهي خارجة منه، وهكذا.

شعرت أن ما سمعته يتناقض مع ما أعرفه عنها؛ لذا قررت زيارتها في مساء اليوم التالي. وفور أن بلغت المنزل، فتحت لي الباب بنفسها.

وقالت: «رأيتك قادمًا من النافذة. ادخل بسرعة، لا تتكلم.»

تبعتها إلى الداخل، وأغلقَت هي الباب وراءها. كانت ترتدي ثوبًا مبهرًا، وكان شعرها يلمع ببريق الألماس الذي يزينه، فتجلَّت على وجهي أمارات الحيرة.

ضحكَت بمرارة ثم قالت مفسِّرةً: «من المفترض أن أكون في الأوبرا الليلة. اجلس، إذا كان لديك القليل من الوقت.»

قلت إني جئت كي أتحدَّث معها؛ فجلسنا في غرفة مظلمة لا يُضيئها سوى الضوء القادم من عمود الإنارة بالشارع، وأخبرتني القصة كاملة. وبعدما أنهت حديثها أرخت رأسها على ذراعَيها العاريَتين، وتحوَّلتُ أنا عنها وطفقت أنظر من النافذة لبعض الوقت.

نهضت من مكانها ثم قدمت ناحيتي وقالت: «أشعر بسخافة بالغة. سأظل جالسة هنا طوال المساء، مرتدية تلك الثياب. أخشى ألا أمثِّل دوري جيدًا، لكن بيلي العزيز لم يتمتع قطُّ بملكات نقدية، وقدراتي على التمثيل تكفي لإقناعه. سوف أخبره بأكاذيب نكراء عما قاله الجميع لي، وعمَّا قلته لهم، وعن إعجابهم بفساتيني. ما رأيك في الفستان الذي أرتديه اليوم؟»

رددتُ عليها رد صديق مُخلِص ومتعاطف.

قالت: «يسعدني أنك تُحسن الظن بي. إن بيلي يحترمك كثيرًا. سوف تسمع بعض الحكايات الغريبة. يسرني أنك تعرف الحقيقة.»

اضطررت إلى مغادرة لندن مجددًا، وتوفي بيلي قبل عودتي. سمعت أنهم اضطروا إلى إحضار زوجته من حفل راقص، وأنها استطاعت تقبيله في آخر لحظة قبل أن تبرد شفتاه. بَيْد أن أصدقاءها عذروها، بزعم أنه تدهور فجأة.

زُرتها بعد ما حدث بفترة قصيرة، وقبل أن أغادر ألمحت إلى ما كان الناس يردِّدونه، وسألتها أليس من الأفضل أن أخبرهم بالحقيقة.

أجابتني قائلة: «أفضِّل ألا تفعل ذلك. أرى في ذلك إفشاء لأسرار تخصُّ الجانب الشخصي من حياة المرء.»

احتججت بقولي: «لكنهم سوف يظنون …»

قاطعتني قائلة: «هل يهم حقًّا ما يظنونه؟»

وقد فاجأني سماع هذا الرأي الاستثنائي من حرم السيد درايتون المحترمة، التي كانت تُدعى قبلًا الآنسة لوفيل الكبرى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤