الكتابةُ لوجه الوطنِ والحق
تنقَّلَت الحياة بالإنسان فيلقى فيها نماذجَ وأنماطًا تتَّسع الهوَّة بين بعضها والبعض، ونقف حيارى مشدوهين كيف استطاعت البيئة التي أنشأَت هؤلاء أن تُنشِئ أولئك. ونحن جميعًا فرائسُ للحياة، تضعُنا حيث يتحتَّم علينا أن نُعامل الخسيس والمترفِّع، والذليل وذا الكبرياء. وتزداد بنا الحياةُ قسوةً فترسمُ لنا خطوطًا من مجرى الحديث، فنقفُ أمام من نحقرهم، ونعلمُ أنهم حُقراءُ صامتون، يرفُض المجتمع أن نُجابهَهم بالبشاعة البشرية التي يمثِّلونها.
وأنا واحدٌ من الناسِ تعوَّدتُ أن أسير بالرأي، لا أكتبُ ما أكتبُ إلا لوجه الوطن والحق، وابتغاءً لرضاء ضميري، والله على ما أقول شهيد.
أيَّدتُ الحاكم حين أزال عن شعبي الخوف والطغيان والجبروت. ولو لم يفعل إلا هذا لكان حسبه عند الله، ولكان حسبي لأقفَ في صفِّه، وأدفعَ عنه غائلة الكلمة الرخيصة، وأردَّ عن رحابه عبيدَ كل العهود، وتجَّار الشرف، وسِفْلة الطغيان حين الطغيان سيد، وخدَم الأمان حين الأمان هو ظل الحياة.
وأيَّدتُ الحاكم وهو يُحقِّق النصر الوحيد الذي عَرفَه العرب في العصر الحديث، وأيَّدتُه وهو يشُق التاريخ إلى السلام، ويشُق المُستقبل إلى أمنِ أُمة، فيردُّ المواتَ بمصر حياةً والحربَ سلامًا.
وأعرف وأنا أؤيد أنهم يقولون يُداهن الحاكم لأنه حاكم، ويمالئ السلطان لأنه سلطان .. وردَّتني نفسي إلى الطريق أنَّ من يكتُم كلمة حقٍّ عند التأييد شرٌّ ممن يردُّ كلمة حقٍّ عند المعارضة .. ففي التأييد تُنافِق الغوغاء، وتُقرِّر رأيهم، وتتخلَّى عن أمانة القلم، وأمانة الضمير، وفي المُعارضة قد تركب حصان البطولة وكثيرًا ما يكون حصانًا من القَش.
وظللتُ حتى يومي هذا لا أقول إلا ما أعتقد، ولا أُرضي إلا ضميري الذي يُلازمني ليلي ونهاري، ويصحبني إذا تيقَّظتُ، ولا ينام في نفسي إذا أنا نمت.
ولكني اليوم أقف بقلمي حائرًا وجلًا، أو إن شئتَ فقل خجلًا؛ فإني أبتسم لناسٍ أعرف عنهم شرَّ ما يعرفه إنسانٌ عن إنسان. هم نُفاية من البشرية، يجمعون السيوف والأغماد في غير حرب، وفي غير شرع، وينالون الأموال بما يفعلون، ويُتاجِرون بالكلمة بل وبالوطن، محَق الزمنُ ضميرهم فهم شرٌّ من الحيوان.
وأعرفُ عنهم ما يجعلُني أخجل من نفسي إذا حادثتُهم، ولكني أُحادثهم؛ فإنَّ هذا الذي أعرفه تتناقلُه الألسنة، ويعرفُه الناس أجمعون، ولكن لا دليل عند الناس، ولا دليل عندي، فإذا هاجمتُ بغير دليلٍ أصبحتُ معتديًا، وإذا قاطعتُ بغير برهانٍ فأنا ظالم، ولكني أعرف الحقيقة المريرة، وهي حقيقة من شأنها أن تستخفي؛ فإن خيانة الخلق لا تتم بعقد، وبيع الكلمة لا يكون بميثاق، والمتاجرة بالوطن لا تكون بالعلن.
وتخجل نفسي من نفسي ثم أعود إليها أُهدهِد ثائرها؛ فكما عرفنا هؤلاء عرفنا رجالًا فيهم كبرياء الإنسان، وفي قلمهم شرف الكلمة، وفي مُعاملتهم أمانة الأنقياء، يُذكِّرونك بفروسية العرب إذا تأملتَ ففيهم الإنسان، وبعُمق المخلصين إذا عاملتَ ففيهم الأديب.