السريع

ما تزال قصة الغريبَين المُتنافرَي المظهر العجيبة عالقةً في ذاكرة البعض في تلك المنطقة من ساحل ساسكس، حيث يُطِلُّ فندق «مايبول آند جارلاند» الكبير الهادئ عَبْر حدائقه على البحر. إذ يُحكى أنَّ شخصَين ذوَيْ مظهرٍ مُتنافرٍ على نحوٍ لافتٍ للنظر دخلا بالفعل هذا الفندق الهادئ في عصر يومٍ مشمس، كان أحدهما بارزًا بوضوح في ضوء الشمس ومرئيًّا من جميع أنحاء الشاطئ لأنَّه كان يعتمر عمامةً خضراء لامعة تحيط بوجهه الأسمر ولحيته السوداء، وبدا الآخر للبعض أغرب وأشدَّ شذوذًا لأنَّه كان يعتمر قبعة قسٍّ سوداء مرنة فوق وجهٍ ذي شاربٍ أصفر وشعرٍ أصفر بطول شعر الأسد. وقد كان ذلك الآخر على الأقل يُرى كثيرًا وهو يَعِظ في الشواطئ أو يتولَّى أمرَ تجمُّعات تابعة لجمعية «باند أوف هوب» الخيرية مستخدمًا مجرفة خشبية صغيرة، لكنه لم يُرَ من قبل بالتأكيد داخل حانة فندق. غير أنَّ وصول هذين الرفيقَين العجيبَين إلى الفندق كان ذروة القصة، وليس بدايتها، ولكي تُصبح القصص الغامضة واضحةً قدر المستطاع، فمن الأفضل سَردها من بدايتها.

قبل أن يدخل هذان الشخصان اللافِتان الفندقَ بنصف ساعة ويُلاحِظَهما الجميع، دخله شخصان آخران عاديان جدًّا، ولم يُلاحظهما أحد؛ كان أحدهما رجلًا ضخم البنيان ووسيمًا رغم ضخامته، لكنَّه كان يملك مقدرةً خاصة على شغلِ حيِّزٍ صغير جدًّا، كأنَّه مجرَّد خلفية، ولا يتبيَّن إلَّا بتدقيقٍ مُرتاب شِبه مَرَضيٍّ في حذائه أنَّه مُفتِّش شُرطي يرتدي ثيابًا مَدَنية عادية، بل عادية جدًّا؛ أمَّا الآخر، فكان رجلًا قصيرًا شاحبًا غير جديرٍ بالانتباه، ذا ثيابٍ عادية أيضًا، ولكن تصادَف أنَّها ثياب قسٍّ، ولكن لم يره أحدٌ يَعِظُ في الشواطئ من قبل.

ولسببٍ معيَّن حَدَّد جميع أحداث عصر ذلك اليوم المأساوي، وجَد هذان المسافران أيضًا نفسيهما في قاعةٍ أشبه بغرفةٍ كبيرة مُخصَّصة للتدخين وبها حانة. إن الحقيقة هي أنَّ الفندق الحسن السمعة الذي يُدعى «مايبول آند جارلاند» كان «يُعاد طلاؤه وتزيينه». لكنَّ هذه التجديدات جعلت أولئك الذين كانوا يحبونه في الماضي يقولون إنَّه يُشوَّه، أو ربما يُقضَى عليه. وكان هذا هو رأي المُتذمِّر المحلي، السيد راجلي، المُسِن الغريب الأطوار الذي كان يشرب كأسًا من براندي الكَرز في أحد أركان القاعة ويتفوَّه بلعناتٍ غاضبة. على أي حال، كان الفُندق يُجرَّد بعنايةٍ من كلِّ المؤشِّرات التي توحي بأنَّه كان نُزُلًا إنجليزيًّا في السابق، وكان يُحوَّل بهمَّة ونشاطٍ، ياردةً ياردة وغرفةً غرفة، إلى مكانٍ أشبه بقصرٍ يملكه مُرابٍ شاميٌّ في فيلمٍ أمريكي. باختصار، كان الفندق «يُعاد تزيينه»، لكنَّ الجزء الوحيد الذي اكتمل تجديده، والذي كان بإمكان النزلاء أن يشعروا فيه ببعض الارتياح حتى هذه اللحظة، كان هذه القاعة الكبيرة المؤدية إلى خارج بهو الفندق. وكانت هذه القاعة مُكرَّمةً سابقًا باسم «بار بارلور» لكنَّ اسمها تغيَّر تغيُّرًا غامضًا إلى «صالون لاونج»، وقد «زُيِّنت» حديثًا على طراز ديوانٍ آسيوي؛ وذلك لأنَّ المنظر العام الجديد أصبح يعجُّ بطُرُز الزينة الشرقية، وحيث كان يوجد بندقيةٌ مُعلَّقة على خطافات ولوحاتٌ رياضية وسمكة محنَّطة في وعاء زجاجي، أصبح يوجد الآن ستائر من الأقمشة الشرقية وسيوف محدَّبة وسكاكين وخناجر تذكارية، كأنَّها تحضيرٌ غير مقصود لمجيء الرجل ذي العمامة، لكنَّ بيت القصيد من كلِّ ذلك أنَّ النزلاء القلائل الذين وصلوا كانوا يُقتادون إلى هذه القاعة التي اكتمل تنظيفها وتزيينها؛ لأنَّ الغُرَف التقليدية المُخصَّصة للإقامة كانت قيد الطلاء والتزيين آنذاك. وربما كان هذا هو السبب أيضًا الذي جعل هؤلاء النزلاء القلائل يتعرَّضون للإهمال نوعًا ما؛ إذ كان المدير والموظفون الآخرون منشغلين بتقديم تفسيراتٍ أو إرشاداتٍ في مكانٍ آخر. على أيِّ حال، اضطرَّ المسافران الأوَّلان إلى الانتظار بعض الوقت دون أن يقابلهما أيٌّ من الموظفين. كانت الحانة آنذاك فارغةً تمامًا، وظلَّ المُفتِّش يقرع ويطرق بنفاد صبرٍ على نَضَدِها، لكنَّ القس القصير كان قد ارتمى بالفعل على أحد كراسي القاعة وبدا أنَّه لم يكن مُتعجِّلًا أيَّ شيءٍ على الإطلاق. بل إنَّ صديقه الشرطي حين التفت نحوه، رأى وجهه المستدير خاليًا تمامًا من أيِّ تعبير، كما هي عادته في بعض الأحيان؛ إذ بدا أنَّه يُحدِّق من خلال نظَّارته ذات العدستَين الأشبه بقمريْن إلى الحائط المطلي حديثًا.

قال المفتش جرينوود، وهو يبتعد عن نَضدِ الحانة متنهِّدًا: «ليس أمامي الآن سوى أن أعرض عليك بِنسًا مقابل معرفة الأفكار التي تجول بخاطرك؛ إذ يبدو أن لا أحدَ هنا يريد بِنساتي مقابل أيِّ شيء آخر. ويبدو أنَّ هذه هي الغرفة الوحيدة في الفندق التي ليست مليئة بالسلالم ودِلاء الطلاء، بل إنَّها فارغة جدًّا لدرجة عدم وجود ساقٍ يُعطيني حتى كأسًا من الجعة.»

قال القس وهو يمسح نظَّارته: «أوه … لا تستحق أفكاري بنسًا واحدًا، فضلًا عن كأسٍ من الجعة. لا أعرف سبب ذلك … لكنِّي كنت أفكر في أنَّ ارتكاب جريمة قتلٍ هنا سيكون سهلًا جدًّا.»

قال المفتش مُداعِبًا صديقه: «كلُّ أمورِك تسير على أحسن ما يرام أيُّها الأب براون. لقد حللتَ جرائم قتل أكثر بكثير من نصيبك العادل، فيما نظلُّ نحن الشرطيين المساكين نتعطَّش طوال حياتنا ولو لحلِّ جريمة قتلٍ صغيرة. ولكن لماذا تقول … أوه فهمت، إنَّك تنظر إلى كل تلك الخناجر التركية المُعلَّقة على الحائط. يوجد هنا الكثير من الأدوات التي يُمكن ارتكاب جريمة قتل بها، إذا كان هذا ما تقصده، لكنَّها ليست أكثر ممَّا يوجد في أيِّ مطبخ عادي من سكاكين أو قضبانٍ لتذكية النار أو ما إلى ذلك؛ لذا فهذا ليس المكان الذي قد تظهر فيه جريمة قتل مُفاجئة.»

بدا أن الأب براون يستحضر أفكاره المُشتَّتة ببعض الحيرة، وقال إنَّه يظنُّ ذلك.

قال المفتش جرينوود: «القتلُ سهلٌ دائمًا. فما من شيءٍ أسهل من القتل؛ إذ يمكنني قتلُك الآن، بسهولةٍ أكبر من إمكانية الحصول على مشروب في هذه الحانة اللعينة. الصعوبة الوحيدة هي ارتكاب جريمة قتل دون أن يُتَّهم فاعلها بأنَّه القاتل؛ فالإعراض عن الاعتراف بارتكاب جريمة قتل، وتحفُّظ القتلة السخيف حيال روائعهم الإجرامية، هو الذي يخلق تلك الصعوبة؛ لذا سيلتزمون بالفكرة الثابتة الخارقة المتمثلة في قتل ضحاياهم دون أن يُفتضَح أمرهم، وهذا ما يردعهم عن القتل، حتى في غرفةٍ مليئة بالخناجر، وإلَّا أصبَح كلُّ محلِّ سكاكين مكتظًّا بأكوامٍ من الجثث. وهذا، بالمناسبة، يُفسِّر النوع الوحيد من القتل الذي لا يمكن منعه بالفعل. ولذلك، بالطبع، دائمًا ما نُلام نحن الشرطيين المساكين على عدم منعه. فحين يقتل مجنونٌ ملكًا أو رئيسًا، لا يمكن منعه؛ إذ لا يمكنك أن تجعل ملكًا يعيش في قبوٍ لتخزين الفحم، ولا أن تحمل رئيسًا وتطوف به في صندوقٍ من الصلب؛ ولذا فأيُّ شخصٍ لا يمانع أن يصير قاتلًا، يستطيع قتله. وهنا يصبح المجنون كالشهيد، في دُنيا موازية. دائمًا ما يُمكن أن يقتل المُتعصِّب الحقيقي أيَّ شخصٍ يريد.»

وقبل أن يستطيع القس الرد، دخلت القاعةَ مجموعةٌ مبتهجة من المندوبين التجاريين المتجولين مثل قطيعٍ من خنازير البحر، وجأرَ رجلٌ منهم ضخم متألِّق يرتدي ربطة عنقٍ ذات دبوسٍ كبيرٍ ومتألِّق أيضًا بصيحةٍ هائلة جَلَبت المدير المتلهِّف المتذلِّل راكضًا، ككلبٍ يهرع نحو صوت الصافرة، بسرعةٍ لم يستطع الشُّرطي ذو الثياب العادية استثارتها.

قال المدير، الذي ارتسمت ابتسامةٌ مرتبكة بعض الشيء على وجهه وتدلَّت إحدى خصلات شعره المموَّج الشديد اللمعان على جبينه: «أنا في غاية الأسف بكلِّ تأكيد يا سيد جوكس. إننا نعاني نقصًا في عدد الموظفين حاليًّا، وكنتُ مضطرًّا إلى أن أُباشر شيئًا بنفسي في الفندق يا سيد جوكس.»

كان السيد جوكس سخيًّا، لكنَّه كان سخاءً صاخبًا، وطَلَبَ مشروباتٍ للجميع على نفقته الخاصة، مُتكرِّمًا حتى بواحدٍ منها على المدير شبه المتذلل. وقد كان يعمل مندوبًا تجاريًّا متجولًا لدى إحدى شركات النبيذ والمشروبات الكحولية الشهيرة الرائجة جدًّا، وربما تصوَّر نفسه القائدَ الشرعي في مكانٍ كهذا. على أي حال، استهلَّ حديثًا فرديًّا صاخبًا يميل إلى تلقين المدير كيفية إدارة فندقه، وبدا أنَّ الآخرين يتقبَّلونه كصاحبِ سُلطة. وطوال هذا الوقت، كان الشرطي والقس منزويَين في الخلفية على دكَّة منخفضة أمام طاولةٍ صغيرة، حيث كانا يشاهدان الأحداث منها، حتى اللحظة اللافتة التي اضطرَّ فيها الشرطي إلى التدخُّل بحسمٍ شديد.

إن الشيء التالي الذي حدث، كما ذُكِر سلفًا، كان الظهور المُدهش — على غرار التجليات الدينية — للرجل الآسيوي الأسمر ذي العمامة الخضراء، مصحوبًا بظهورٍ أكثر إدهاشًا (إنْ جاز التعبير) لقسٍّ بروتستانتي انشقاقي، ومثلُ هذه النُّذُر تظهرُ قبل الموت، وفي هذه الحالة، لم يكن ثمة شكٌّ في الدليل الذي أكَّد هذا النذير؛ إذ شَهِد كلٌّ من الفتى الصموت، لكن القوي الملاحظة، الذي كان يُنظِّف عَتَبات الفندق الخارجية طوال الساعة المنصرمة (لأنَّه يعمل بتمهُّلٍ شديد)، وساقي الحانة الأسمر السمين الثقيل، وحتى المدير الدبلوماسي، المُشتَّت رغم ذلك؛ المعجزة التي وقعت.

وقد بَرَز هذان الظهوران لأسبابٍ طبيعية تمامًا، كما يقول المُشكِّكون؛ فالرجل ذو الشعر الأصفر الأسَدي والثياب الشبيهة بثياب القساوسة لم يكن مألوفًا بصفته واعظًا في الشواطئ فحسب، بل كان داعيةً معروفًا ينشر دعوته في جميع أرجاء العالم المعاصر. لقد كان هو القسُّ ديفيد برايس-جونز، الذي كان شعاره الرنَّان المؤثِّر هو «حظر المشروبات الكحولية والتطهُّر لوطننا والبريطانيين في الخارج.» وكان خطيبًا مفوَّهًا ومُنظِّمًا بارعًا، وقد خَطَرت بباله فكرةٌ كان يجب أن تخطر ببال أنصار حظر الكحوليات منذ أمدٍ بعيد. كانت فكرةً بسيطة مفادها أنَّه ما دام تحريم الكحوليات هو الصواب؛ فهذا يعني أنَّ بعض الفضل في ذلك يرجع إلى النبي الذي ربما كان أول دعاة تحريم المُسكِرات؛ ولذا كان يتراسَل مع بعض أئمة الفِكر الديني الإسلامي، إلى أن نجح أخيرًا في إقناع إمام مُسلِمٍ بارز (كان أحد كلمات اسمه «أكبر» بينما كانت الكلمات الأخرى منسوبةً إلى بعض أسماء الله غير القابلة للترجمة) بالمجيء إلى إنجلترا وإلقاء محاضرةٍ عن الحُكم الإسلامي القديم الأزل بتحريم الخمر والمُسكِرات، وبالتأكيد لم يدخل أيٌّ منهما حانة فندقٍ من قبل، لكنَّهما اضطرَّا إلى دخولها بسبب الإجراءات المذكورة سلفًا؛ إذ اقتادهما أحد الموظفين من غُرف احتساء الشاي الأنيقة إلى القاعة المطلية والمزيَّنة حديثًا. وربما كان كلُّ شيءٍ سيسير على ما يرام لو لم يذهب داعية حظر الكحوليات الشهير، بمنتهى البراءة، إلى نَضَدِ الحانة ويطلب كأسًا من اللبن.

ومع أنَّ المندوبين التجاريين المتجولين كانوا مُهذَّبين، أطلقوا تأوهاتٍ عَفوية من شدة المفاجأة حين سمعوا ذلك الطلب، وسُمِعَت همهمةٌ ببعض الدعابات الساخرة المكبوتة، مثل «اجتنب القَدَح.» أو «من الأفضل أن تُخرج البقرة من جعبتك.» لكنَّ السيد جوكس الضخم، الذي شعر بأنَّ مكانته ومظهره الراقي يُحتِّمان عليه أن يأتي بدُعابةٍ أكثر تهذيبًا، روَّح بيديه على وجهه كمروحةٍ ورقية كأنَّه على وشك الإغماء، وقال بنبرةٍ مثيرة للشفقة: «يعرفون أنَّهم يستطيعون إسقاطي أرضًا بريشةٍ. يعرفون أنَّ زفيرًا واحدًا سيذروني بعيدًا. يعرفون أنَّ طبيبي أوصاني بعدم التعرُّض لهذه الصدمات. وها هُم يأتون ويشربون اللبن البارد بدمٍ بارد أمام عيني.»

كان القس ديفيد برايس-جونز، المُعتاد على التعامل مع المشاكسين في الاجتماعات العامة، طائشًا جدًّا لدرجة أنَّه جازَف بإبداء تذمُّره من هذه الدعابات وإطلاق اتهاماتٍ مضادة في هذه الأجواء المختلفة تمامًا والأكثر شعبية بكثير. أمَّا رفيقه الشرقي الممتنع عن المُسكرات، فامتنع عن الردِّ. ولا شكَّ أنَّ هذا التصرُّف زاده وقارًا. وفي الواقع، كان يرى أنَّ الثقافة الإسلامية أحرزت بذلك انتصارًا صامتًا بالتأكيد؛ إذ تجلَّى بذلك أنَّه أرقى خُلُقًا بكثير من المندوبين التجاريين، لدرجة أنَّهم بدءوا يُبدون غيظًا طفيفًا من تحفُّظه النبيل، وحين بدأ السيد برايس-جونز يُشير في جدالٍ بينه وبينهم إلى شيء من هذا القبيل، تفاقم توتُّر الأجواء للغاية.

وقال السيد برايس-جونز بإيماءاتٍ ممدودةٍ كأنَّه يخطب على منبر: «أسألكم أيُّها الأصدقاء، لماذا يضرب صديقُنا هنا مثالًا للمسيحيين أمثالنا في ضبط النفس والأُخوَّة كما أمرت بهما التعاليم المسيحية حقًّا؟ ولماذا يقف هنا نموذجًا للمسيحية الحقيقية والتأدُّب الحق والسلوك الراقي الصادق، وسط كل المشاحنات والمشاكسات في أماكن كهذه؟ لأنَّ على الأقل تُربة روحه، بغض النظر عن الاختلافات العقائدية بيننا، لم ينبُت فيها نباتٌ خبيث، كالجنجل أو العنب الملعونين، قط …»

وفي هذه اللحظة العصيبة من الجدال، دخل الفندقَ مثل جيش غازٍ، جون راجلي — الأشبه بطائر نوء يظهر مصحوبًا بمائة عاصفةٍ من الجدال — يدخل بوجهه الأحمر وشعره الأبيض — معتمرًا قبعته العالية العتيقة على مؤخرة رأسه ومؤرجحًا عصاه كالهراوة.

كان معظم الآخرين يرون جون راجلي مجنونًا. لقد كان يبعث برسائل إلى الصحيفة، لكنَّها لم تكن تُنشَر في الصحيفة عادةً، بل تُنشر بعد ذلك على هيئة كتيبات مطبوعة (أو سيئة الطباعة بالأحرى) على نفقته الخاصة، وتوزَّع في نهاية المطاف على المئات من سلال النفايات الورقية. وكان يدخل في مشادَّاتٍ مع الإقطاعيين المحافظين والمجالس الراديكالية في المُقاطعة على حدٍّ سواء، وكان يكره اليهود، ولم يكن يثق في أيِّ شيء تقريبًا يُباع في المتاجر، أو حتى في الفنادق. غير أنَّ نزواته الجنونية كانت مدعومة بحقائق؛ لأنَّه كان على درايةٍ بكلِّ خبايا المُقاطعة وتفاصيلها الغريبة، وكان قوي الملاحظة. وحتى المدير، المدعو بالسيد ويلس، كان يُبدي احترامًا مصطنعًا للسيد راجلي؛ إذ كان على درايةٍ فِطرية بنوعية الجنون المسموح بها في الطبقة الراقية، وصحيحٌ أنَّ احترامه للسيد راجلي لم يكن كالتبجيل المُتذلل الذي يُبديه تجاه العَظَمة المَرِحة للسيد جوكس، الذي كان بارعًا جدًّا في التجارة، لكنَّه على الأقل كان محض رغبةٍ في تجنُّب التشاجر مع المتذمر المُسِن؛ ربما كي يَسلَم من لسانه.

قال السيد ويلس وهو ينحني ناظرًا بخُبثٍ عبر نَضَدِ الحانة: «أظنُّك ستشرب مشروبك المعتاد يا سيدي.»

قال السيد راجلي متذمرًا وهو يخلع قبعته العتيقة الغريبة ويضعها أمامه بعُنف: «إنَّه المشروب الوحيد المناسب الذي ما زال لديك. سُحقًا، أحيانًا ما أظنُّ أنَّ الشيء الإنجليزي الوحيد المتبقي في إنجلترا هو براندي الكَرز؛ إذ يشعر المرء فيه بمذاق الكَرز. هل يُمكنك أن تذكر لي أيَّ جعةٍ يشعر شاربها بمذاق الجنجل، أو أيَّ نبيذ تفاح يشعر شاربه بمذاق التفاح، أو أيَّ نبيذ عنب يحوي أدنى مؤشرٍ على أنَّه مصنوعٌ من العنب؟ توجد بعض الممارسات الخادعة الجهنمية التي تحدث الآن في كل فنادق البلد، والتي كانت ستُشعِل ثورةً لو حدثت في أيِّ بلدٍ آخر. ويُمكنني القولُ إنني اكتشفت شيئًا أو اثنين بشأنها. فلتنتظرْ حتى أطبعها، وحينئذٍ سيستفيق الشعب من غفلته. فإذا استطعت إيقاف تسميم شعبنا بكلِّ هذه المشروبات السيئة …»

وهنا، مرَّة أخرى، أظهر القسُّ ديفيد برايس-جونز إخفاقًا واضحًا في التحلِّي باللباقة، مع أنَّها كانت فضيلةً يكاد يقدِّسها. كان شديد الحماقة لدرجة أنَّه حاول تشكيل تحالف مع السيد راجلي، بالخلط الساذج بين فكرة الشراب الكحولي السيئ وفكرة أنَّ تناول الشراب الكحولي شيء سيئ. وسعى مرَّة أخرى إلى إقحام صديقه الشرقي الرزين الرابط الجأش في الجدال، باعتباره أجنبيًّا راقيًا، سلوكه أسمى من سلوكياتنا الإنجليزية الفظَّة. بل بَلغ من الحماقة أنَّه تحدَّث من وجهة نظرٍ لاهوتية أوسع، حتى وصل به المطاف إلى ذِكر اسم النبي محمد، الذي تكرَّر بعدها في انفعالٍ مُدوٍّ كالانفجار.

صاح السيد راجلي في ردِّه عليه من منظورٍ لاهوتي أضيق: «لعنة الربِّ على روحك! أتقصدُ أنَّ الإنجليز يجب ألَّا يشربوا الجعة الإنجليزية؛ لأنَّ ذلك المدعي محمدًا حرَّم الخمر في صحراء لعينة؟»

وفي لحظةٍ واحدة، وصل المفتش إلى وسط الغرفة بخطوةٍ واسعة؛ ويرجع ذلك لأنَّ اللحظة التي سبقتها شهدت تغيُّرًا ملحوظًا في سلوك الرجل الشرقي، الذي كان يقف حتى تلك اللحظة ساكنًا تمامًا بعينَين ثابتتَين متلألئتَين. ولكن، في مفارقة لما قاله صديقه عن أنه قد ضَربَ مثالًا في مبادئ ضبط النفس والأخوة المسيحية حقًّا، إذا به في هذه اللحظة يصل إلى الجدار بوثبةِ نمر، وينتزع أحد السكاكين الثقيلة المُعلَّقة عليه، ويسدده بقوةٍ كحجرٍ منطلق من مقلاع، فيستقر مُهتزًا اهتزازة طفيفة في الجدار فوق أذُن السيد راجلي بنصف بوصةٍ بالضبط. وكان السكين سيستقرُّ بلا شكٍّ في جسد السيد راجلي لو لم يتدخل المفتش جرينوود في الوقت المناسب ليدفعه بذراعه بقوة ويُبعده قليلًا عن مرمى السكين. ظلَّ الأب براون جالسًا على مقعده يُراقب المشهد بعينَين شبه مغلقتَين وقسماتٍ ملتوية ناجمة عن شيءٍ أشبه بابتسامةٍ في زوايا فمه، كأنَّه رأى شيئًا آخر يتجاوز العنف اللحظي الذي شهدته المشادَّة.

ثم اتخذت المشادَّة منعطفًا غريبًا قد لا يفهمه الجميع، حتى يفهم الآخرون ماهية أولئك الرجال أمثال جون راجلي فهمًا أفضل ممَّا يفهمونها بالفعل؛ وذلك لأنَّ المتعصِّب المُسِن ذا الوجه الأحمر وَقَف وظلَّ يضحك بصخبٍ كأنَّه سمع أطرف نكتة على الإطلاق. وبدا أنَّ كلَّ ذَمِّه اللاذع وتذمُّره الحاد قد فارقاه، وعامَل المُتعصِّب الآخر، الذي حاول قتله للتو، بنوعٍ من اللُّطف الصاخب.

إذ قال له: «سُحقًا لك، إنَّك أول رجلٍ ألتقيه منذ عشرين عامًا!»

فقال المُفتِّش بارتيابٍ: «هل تريد أن توجه له اتهامًا، يا سيدي؟»

قال راجلي: «أتَّهمه؟! بالتأكيد لا. بل كنتُ سأهديه مشروبًا على نفقتي لو كان يجوز له شُرب أيِّ مشروب. لم يكن يحقُّ لي التطاول على دينه، وأتمنَّى من الربِّ أن تكون لديكم جميعًا أيُّها الحقراء الجرأة الكافية لقتل رجل، لن أقول للتطاول على دينكم لأنَّكم بلا أيِّ دين، ولكن للتطاول على أيِّ شيء، حتى ولو جِعتكم.»

قال الأب براون لجرينوود: «ها هو يصفنا جميعًا الآن بالحقراء، ويبدو أنَّ السلام والوئام قد عادا إلى نصابهما. كنت أتمنى أن يُطعَن هذا الخطيب الناهي عن المسكرات بسكين صديقه؛ لأنَّه كان السبب في كل هذا الأذى.»

وبينما كان يتحدث، بدأت الجماعات المتنافرة الموجودة في الغرفة تفترق بالفعل؛ إذ أخلى بعض الموظفين الغرفة التجارية للمندوبين التجاريين، الذين ذهبوا إليها، ثم تبعهم ساقي الحانة حاملًا دُفعةً جديدة من المشروبات على صينية. وظلَّ الأب براون يُحدِّق بُرهةً إلى الكئوس المتروكة على نضد الحانة، وسرعان ما عَرف كأس اللبن المشئومة، وكأسًا أخرى تفوح منها رائحة الويسكي، ثم التفتَ في اللحظة المناسبة ليرى الافتراق بين هذين الشخصين اللافتَين الغريبَين؛ المتعصِّب الشرقي والمتعصِّب الغربي. كان راجلي ما يزال يُبدي لُطفًا صاخبًا حادًّا، أمَّا الرجل المُسلم، فكان ما يزال فيه شيءٌ غامض قليلًا يُنذِر بشؤمٍ ما، وربما كان ذلك شيئًا طبيعيًّا، لكنَّه فارَق السيد راجلي بإيماءاتٍ جادة توحي بإتمام مُصالحةٍ وقورة، وكانت كل المؤشرات تُشير إلى أنَّ المشكلة انتهت بالفعل.

ومع ذلك، ظلَّ تذكُّر هذه التحيَّة الوداعية المهذبة بين الرجلَين المتشاحنَين وتفسيرها يحملان بعض الأهمية، في ذهن الأب براون على الأقل؛ وذلك بسبب الحدث الشديد الغرابة الذي وقع لاحقًا؛ فحين نزل الأب براون من غرفته باكرًا جدًّا في صباح اليوم التالي؛ لأداء فروضه الدينية في الجوار، وجَد قاعة الحانة الطويلة، بزينتها الآسيوية الرائعة، مفعمةً بضوءٍ أبيض شاحب من ضياء الفجر بَدَت فيه كلُّ تفاصيلها جليةً، وكان من بين هذه التفاصيل جثَّةُ جون راجلي مُحدَّبةً ومكوَّمةً في أحد أركان القاعة بخنجرٍ معقوف ثقيل المقبض مغروسٍ في قلبه.

صعد الأب براون بهدوءٍ شديد إلى الطابق العلوي مرَّة أخرى واستدعى صديقه المفتش، ووقف الاثنان بجوار الجثة، في الفندق الذي لم يكن أيُّ أحدٍ آخر قد استيقظ فيه حتى الآن على ما يبدو. قال جرينوود بعد صمت: «يجب ألَّا نفترض ما هو واضحٌ أو نتغاضى عنه، لكنِّي أظنُّ أننا من الأفضل أن نتذكر ما كنت أقوله لك عصر البارحة. ومن الغريب، بالمناسبة، أنني قُلتُه عصر البارحة تحديدًا.»

قال الأب براون مومِئًا بالموافقة ومُحدِّقًا بنظرةٍ أشبه بنظرة البومة: «صحيح.»

قال جرينوود: «كنتُ أقولُ إنَّ النوع الوحيد من جرائم القتل الذي لا يُمكننا منعه هو جرائم القتل التي يرتكبها أشخاصٌ كالمتعصبين لدينهم. وربما يظنُّ هذا الرجل الأسمر أنَّه إذا شُنِق، فسيدخل الجنة مباشرةً لدفاعه عن شرف النبي.»

قال الأب براون: «هذا واردٌ بالطبع. من المنطقي جدًّا، إن جاز التعبير، أن يكون هذا الرجل المسلم قد طعنه. وربما ستقولُ إننا لا نعرف حتى الآن أيَّ شخصٍ آخر من الممكن أن يكون قد طَعَنه لأي سببٍ منطقي، لكن … لكنِّي أظن …» وفجأة صار وجهه المستدير خاليًا من أيِّ تعبير مرَّة أخرى واندثر كلُّ الكلام على شفتَيه فجأةً.

سأله الآخر: «ماذا دهاك؟»

قال الأب براون بصوتٍ بائس: «حسنًا، أعرف أنَّ ذلك يبدو مُضحكًا. لكنِّي أظن … أظن، بطريقةٍ ما، أنَّ هُوية طاعنه ليست شديدة الأهمية.»

تساءل صديقه: «هل هذا هو المذهب الأخلاقي الجديد يا تُرى؟ أم أنَّه ربما يكون التحايل الشرعي القديم؟ هل صار اليسوعيون يستمتعون بالقتل حقًّا؟»

قال الأب براون: «لم أقل إنَّ هوية قاتله ليست مهمة. صحيحٌ أنَّ الرجل الذي طعنه قد يكون هو نفسه الرجل الذي قتله، لكنَّه قد يكون رجلًا مختلفًا تمامًا. على أيِّ حال، لقد طُعِن القتيل في وقتٍ مختلف تمامًا عن وقت مقتله. أظنُّ أنَّك ستريد فحص مقبض الخنجر لمعرفة البصمات، ولكن لا تكترث بها كثيرًا؛ إذ يُمكنني تخيُّل أسبابٍ أخرى قد تدفع أشخاصًا آخرين إلى غرس هذا الخنجر في جسد هذا المُسِن المسكين. صحيحٌ أنَّها ليست أسبابًا تنويرية جدًّا، لكنَّها مختلفة تمامًا عن دوافع القتل؛ لذا ستضطرُّ إلى أن تغرس فيه مزيدًا من الخناجر لتعرف ذلك.»

قال الآخر وهو ينظر إليه باهتمامٍ حاد: «أتقصدُ …»

قال القس: «أقصدُ تشريح الجثة لمعرفة سبب الوفاة الحقيقي.»

قال المفتش: «أعتقد أنَّك محقٌّ تمامًا بشأن الطعن على أيِّ حال. يجب أن ننتظر ما سيقوله الطبيب، لكنِّي متيقنٌ من أنَّه سيؤكِّد افتراضك؛ إذ لا يوجد دمٌ كافٍ؛ أي أنَّ هذا الخنجر غُرِس في الجثة حين كانت باردة بعد ساعاتٍ من مقتل صاحبها. ولكن لماذا؟»

أجاب الأب براون: «ربما لإلصاق التهمة بالرجل المسلم. وصحيحٌ أنَّ هذا فِعلٌ وضيع، لكنَّه ليس قتلًا بالضرورة. أظنُّ أنَّ ثمة أشخاصًا في هذا المكان يحاولون كتمان أسرار، لكنَّهم ليسوا قتلةً بالضرورة.»

قال جرينوود: «لم أنسج تكهُّناتٍ بهذا الخيط حتى الآن. ما الذي يجعلك تظنُّ ذلك؟»

أجاب الأب براون: «ما قُلتُه البارحة، حين دخلنا هذه القاعة الرهيبة أول مرة. قُلتُ إنَّ ارتكاب جريمة قتلٍ هنا سيكون سهلًا. لكنَّي لم أكن أفكِّر آنذاك في كل هذه الأسلحة اللعينة، مع أنَّك ظننتَ ذلك. بل في شيءٍ مختلف تمامًا.»

وعلى مرِّ الساعات القليلة التالية، أجرى المفتش وصديقه تحقيقًا دقيقًا شاملًا في تحرُّكات الجميع طوال الساعات الأربع والعشرين الماضية، وطريقة تقديم المشروبات، والكئوس التي غُسِلَت والتي لم تُغسَل، وكلِّ تفصيلة عن كلِّ فردٍ قد يكون متورِّطًا أو يبدو حتى أنَّه غير متورِّط، لدرجة أنَّ المرء قد يتصوَّر أنَّهما كانا يظنَّان أنَّ ثلاثين شخصًا قد تعرَّضوا للتسمُّم، بالإضافة إلى القتيل.

بدا من المؤكَّد أنَّ المبنى لم يدخله أحدٌ إلَّا عبر المدخل الكبير المجاور للحانة؛ إذ كانت جميع المداخل الأخرى مسدودةً بطريقةٍ أو بأخرى بسبب الإصلاحات. وكان يوجد فتًى يُنظِّف العَتبات الواقعة خارج هذا المدخل، لكنَّه لم يلاحظ أيَّ شيءٍ واضح جدًّا ليُبلِّغ عنه. وإلى أن ظَهَر المشهد المُذهِل الذي دخل فيه الرجل التركي ذو العمامة، مع صديقه الخطيب الناهي عن المُسكِرات، الفندقَ، لا يبدو أنَّ أيَّ زبونٍ آخر قد دخله، باستثناء المندوبين التجاريين المتجولين الذين جاءوا ليشربوا ما يُسمُّونه «مشروباتٍ سريعة»، وبدا أنَّهم ظلُّوا يتحرَّكون معًا مثل «سحابة وُردزوُرث»، وقد ظهر اختلافٌ طفيف في الأقوال بين الفتى الذي كان يُنظِّف العتبات بالخارج والعاملين بالداخل بشأن ما إذا كان أحدهم قد شَرِب مشروبه السريع بسرعةٍ غير طبيعية، وخرج وحده إلى عتبة الباب الخارجية، لكنَّ المدير والساقي قالا إنَّهما لا يتذكران أنَّ أيَّ فَردٍ من المندوبين قد فعل هذا. وكان المدير والساقي يعرفان جميع المندوبين المتجولين جيِّدًا، ولم يكن يوجد أيُّ شكٍّ في تحركاتهم كجماعةٍ واحدة. لقد وقفوا عند نَضدِ الحانة يمزحون ويشربون، وتورَّطوا، بسبب زعيمهم المتعجرف السيد جوكس، في مشادَّةٍ غير خطرة مع السيد برايس-جونز، وشهدوا المشاحنة المفاجئة الخطرة للغاية بين السيد أكبر والسيد راجلي. ثم قيل لهم إنَّ بإمكانهم الانتقال إلى الغرفة التجارية، التي ذهبوا إليها بالفعل، وتبعهم الساقي بمشروباتهم كأنَّها جائزةٌ قيِّمة على صينية.

قال المفتش جرينوود: «يوجد قَدرٌ ضئيل جدًّا من الأدلَّة التي يُمكن أن نبني افتراضاتنا عليها. لا شكَّ أنَّ الكثير من العاملين النشيطين قد أدَّوا واجباتهم كالمعتاد، وغسلوا كلَّ الكئوس، ومن بينها كأس السيد راجلي. لولا كفاءة الآخرين كلِّهم، لربما أصبحنا نحن — المُحقِّقين — أكْفاء للغاية.»

قال الأب براون بينما اكتسى فمه بالابتسامة الملتوية مرَّة أخرى: «هذا صحيح. أحيانًا أظنُّ أنَّ المجرمين هُم الذين اخترعوا النظافة. أو ربما دعاة الالتزام بالنظافة هم الذين اخترعوا الجريمة؛ إذ يَبدون هكذا، أو بالأحرى بعضهم. فالجميع يتحدث عن الأوكار القذرة والأحياء الفقيرة الوسخة التي يُمكن للجريمة أن تنتشر فيها كالنار في الهشيم، لكنَّ العكس هو الصحيح؛ إذ توصف بأنَّها قذرة، ليس لأنَّ الجرائم تُرتكب فيها، بل لأنَّ الجرائم تُكتَشف فيها؛ لذا فالأماكن النظيفة الأنيقة المُطهَّرة المُرتَّبة هي التي يُمكن للجريمة أن تنتشر فيها كالنار في الهشيم؛ لأنَّها لا تحتوي على ترابٍ ينسخ آثار الأقدام، ولا ثُمالةٍ متبقية في الكئوس تحتفظ بآثار السُّم، بينما يُنظِّف العاملون الطيِّبون كل آثار الجريمة، ويُمكن للقاتل أن يقتل ست نساء ويحرق جثثهن، وكلُّ ذلك بسبب عدم وجودِ قَدرٍ ولو ضئيلًا من التراب المسيحي. أظنني أعبِّر عمَّا يجول بخاطري بحماسةٍ أشد من اللازم، ولكن أصغِ إليَّ. في الواقع، أتذكَّر كأسًا واحدةً، لا شكَّ في أنَّها غُسِلت منذ ذلك الحين، لكنِّي أود معرفة المزيد عنها.»

سأله جرينوود: «أتقصدُ كأس راجلي؟»

أجاب القس: «لا، بل أقصدُ الكأس غير المعروف صاحبها. لقد كانت موجودة بالقرب من كأس اللبن، وتبقَّى فيها بوصةٌ أو اثنتان من الويسكي. حسنًا، لم يشرب أيٌّ منَّا الويسكي، لا أنت ولا أنا. وأتذكرُ أنَّ المدير، حين تكرَّم عليه السيد جوكس المَرِح بمشروبٍ على نفقته الخاصة، شرب «بعضًا من نبيذ الجِن» وآمل ألَّا تفترض أنَّ الرجل المسلم كان سِكِّيرًا مُدمِنًا للويسكي متنكرًا في عمامة خضراء، أو أنَّ القس ديفيد برايس-جونز شرب الويسكي واللبن معًا، دون أن يلاحظ ذلك.»

قال المفتش: «معظم المندوبين التجاريين المتجولين شَرِبوا الويسكي. هذا من دأبهم.»

قال الأب براون: «نعم، ومن دأبهم أيضًا أن يروا أنَّهم يشربونه. وفي هذه الحالة، نُقِلَت كلُّ المشروبات وراءهم بعناية إلى غرفتهم الخاصة، لكنَّ هذه الكأس تُرِكت على النَّضد.»

قال جرينوود بارتياب: «أظنُّها محض مصادفة؛ فصاحب هذه الكأس كان بإمكانه الحصول على مشروبٍ آخر في الغرفة التجارية بعد ذلك بسهولة.»

هزَّ الأب براون رأسه وقال: «عليك أن ترى الناس على حقيقتهم؛ فالبعض يصف مثل هؤلاء الرجال بأنَّهم سوقيون والبعض يصفهم بأنَّهم مبتذلون، لكنَّ كل هذه محض تفضيلاتٍ شخصية. أمَّا أنا، فيُسعدني القولُ إنَّ معظمهم رجال بسطاء، والكثيرين منهم رجال طيِّبون جدًّا، يبتهجون للغاية بالعودة إلى زوجاتهم وأطفالهم، وصحيحٌ أنَّ بعضهم ربما يكون خبيثًا، وربما تكون لديه عدة زوجات، أو يكون حتى قد قَتَل عدة زوجات، لكنَّ معظمهم رجال بُسطاء، ولا يَثملُ منهم، ولتضع تحت ذلك خطًّا، سوى قلة قليلة جدًّا. نعم قلة قليلة، في حين أنَّ الكثيرين من النبلاء، ممَّن يحملون ألقابًا مثل الدوق والدون في أكسفورد يثملون، ولكن حين يكون أحد هؤلاء الرجال في هذه الحالة من الابتهاج الصاخب، فلا يستطيع تجنُّب ملاحظة الأشياء من حوله، بل ملاحظتها بصخبٍ شديد أيضًا. ألم تلاحظ أنَّ أبسط حادثة تدفعهم إلى الكلام عنها؟ فحين تُستثار الجعة مُكوِّنة الزَّبَد على سطحها، يُستثارون معها، ويقولون عباراتٍ على غرار «أوه! انظروا إلى هذه المرأة الفاتنة.» أو «هذا يُسعدني، ألا يُسعدكم أيضًا؟» لذا أقول إنَّه من المستحيل تمامًا أن يقعد خمسةٌ من هؤلاء الرجال المبتهجين الصاخبين حول طاولةٍ في الغرفة التجارية، ويُوضَع أمامهم أربع كئوس فقط؛ أي يُترَك الرجل الخامس بلا مشروب، دون أن يجعجعوا بصخبٍ بشأن ذلك، بل الأرجح أنَّهم كانوا سيجعجعون بشأن ذلك، ومن المؤكَّد أنَّه كان سيجعجع بشأن ذلك. ولم يكن لينتظر، كأيِّ رجل إنجليزي من طبقة أخرى، حتى يحصل بهدوءٍ على مشروبٍ آخر لاحقًا. وكنت ستسمعُ أصداء عباراتٍ رنَّانة من نوعية «وماذا عن مشروبي أنا المغضوب عليَّ؟» أو «يا جورج، هل تراني انضممت إلى جمعية «باند أوف هوب»؟» أو «هل تراني أرتدي عمامة خضراء يا جورج؟» لكنَّ الساقي لم يسمع أيَّ تذمُّراتٍ كهذه؛ لذا فأنا على يقينٍ من أنَّ كأس الويسكي التي تُرِكَت على النَّضد قد شربها شخصٌ آخر، شخصٌ لم نفكِّر فيه بعد.»

سأله المفتش: «ولكن هل لديك أيُّ تصورٍ بشأن هذا الشخص المقصود؟»

أجاب الأب براون: «لأنَّ المدير والساقي لم يسمعا أيَّ شيءٍ عن هذا الشخص المقصود، فأنت تتجاهل الدليل الوحيد المستقل بالفعل؛ الدليل الذي ذكره ذاك الفتى الذي كان يمسح العَتبات خارج الفندق. لقد قال إنَّه رأى رجلًا، كان مندوبًا تجاريًّا متجوِّلًا على الأرجح لكنَّه في الحقيقة لم يكن مُلازمًا للمندوبين التجاريين المتجولين الآخرين، والذي دخل الفندق وخرج منه على الفور تقريبًا. ولم يره المدير ولا الساقي قَط، أو هكذا يقولان. لكنَّه حصل على كأس ويسكي من الحانة بطريقةٍ ما. دعنا نُسمِّه جدلًا «السريع». والآن، تعلمُ أنني نادرًا ما أتدخَّل في عملك، الذي أعرفُ أنَّك تؤدِّيه أفضل ممَّا كُنتُ سأؤديه، أو ممَّا أريدُ أن أؤديه. إذ لم أتدخل قط في إصدار أوامر عمل جهاز الشُّرطة، أو ملاحقة المجرمين، أو أيِّ شيء من هذا القبيل، لكنِّي، لأول مرة في حياتي، أريد أن أفعل ذلك الآن. أريد أن أعثر على ذلك «السريع»، وأن ألاحق «السريع» حتى أقاصي الأرض، وأن أُصدر الأوامر إلى جهاز الشرطة الرسمي الجهنمي كلِّه بنصب شبكةٍ عبر الدول، والإمساك بهذا «السريع» بحقِّ السماء؛ لأنَّه هو الرجل الذي نريده.»

أومأ جرينوود إيماءةً بائسة، ثم سأله: «هل لديه ملامح أو هيئةٌ معيَّنة أو أيُّ صفة واضحة أخرى باستثناء السرعة؟»

قال الأب براون: «كان يرتدي معطفًا فضفاضًا بلا أكمام، وقال للفتى الذي كان يمسح العتبات في الخارج إنَّه يجب أن يصل إلى إدنبرة بحلول صباح اليوم التالي. هذا كلُّ ما يتذكَّره ذاك الفتى، لكنِّي أعرف أنَّ مؤسستك الشُّرطية تتوصَّل إلى بعض الأشخاص بأدلةٍ أقل من ذلك.»

فقال المفتش وهو يبدو متحيِّرًا قليلًا: «تبدو مهتمًّا جدًّا بذلك.»

بدا القسُّ متحيِّرًا أيضًا، كأنَّه متحيرٌ إزاء الأفكار التي تجول بخاطره؛ إذ قعد عاقدًا جبينه ثم قال فجأة: «افهمني جيدًا، فهذا الكلام قد يُساء فهمه بسهولةٍ شديدة. البشر كُلُّهم مُهمُّون. أنت مُهِم، وأنا مُهِم، وهذا أعصى شيءٍ على التصديق في اللاهوت.»

حدَّق إليه المفتش دون أن يفهم قصده، لكنَّ الأب براون واصل حديثه على أيِّ حال.

إذ أضاف قائلًا: «نحن مُهِمُّون للرب، والربُّ وحده يعلم سبب ذلك، لكنَّ هذا هو التبرير الوحيد لوجود الشُّرطة.» وهنا بدا أنَّ الشُّرطي لم يكن على درايةٍ بالتبرير الكوني لوجود مهنته. بينما واصل الأب براون قائلًا: «ألا تفهم، القانون مُحِقٌّ بالفعل من منظورٍ ما، رغم كلِّ شيء. فإذا كان البشر كُلُّهم مهمِّين، تُصبح جرائم القتل كلها مهمة. وما خلقه الربُّ بغموضٍ شديد، يجب ألَّا نتركه يُدمَّر بغموضٍ شديد. لكن …»

قال القسُّ هذه الكلمة الأخيرة بنبرةٍ حادة، كأنَّه يعتزم الانتقال إلى نقطة جديدة.

«لكن حالما أُنحِّي هذا المستوى الصوفي من المساواة جانبًا، أرى أنَّ معظم جرائم القتل التي تراها مهمة ليست شديدة الأهمية؛ فدائمًا ما تقول لي إنَّ هذه القضية أو تلك مهمة، وبصفتي رجلًا بسيطًا عمليًّا ذا خبرةٍ في أحوال الدنيا، سيتبادرُ إلى ذهني بلا شكٍّ أنَّ القضية التي تقصدها شهدت مقتل رئيس الوزراء، ولكن بصفتي رجلًا بسيطًا عَمَليًّا ذا خبرةٍ في أحوال الدنيا، فأنا لا أظنُّ أنَّ رئيس الوزراء مهمٌّ على الإطلاق. وعلى صعيد محض الأهمية البشرية، عليَّ القول إنَّه يكاد يكون غير موجودٍ إطلاقًا. هل تظنُّ أنَّه إذا أُردِيَ هو أو غيره من الشخصيات العامة بالرصاص غدًا، فلن يُطِلَّ علينا أشخاصٌ آخرون ويقولوا إنَّ كل الطُّرُق والأزقة تُمشَّط، أو إنَّ الحكومة تتعامل مع القضية بأقصى قدر من الجديَّة؟ إنَّ سادة العالم الحديث غير مُهمِّين. وحتى السادة الحقيقيون ليسوا شديدي الأهمية. وأيُّ شخصٍ قرأتَ عنه يومًا ما في أيِّ صحيفة يكاد يكون غير مهم إطلاقًا.»

ثم نهض وقَرَع الطاولة قَرعةً خفيفة، في إحدى إيماءاته النادرة، وتغيَّرت نبرته مرَّة أخرى. وأضاف: «لكنَّ راجلي كان مُهمًّا؛ إذ كان واحدًا من سلسلةٍ عظيمة من حوالي ستة رجالٍ ربما كانوا سيُنقذون إنجلترا. إنهم يقفون مُجرَّدين قاتمين كلافتاتٍ مُهمَلة على طول هذا الطريق الهابط الأملس الذي ينتهي بذلك المستنقع الذي يُمثِّل محض الانهيار التجاري؛ فكُلٌّ من كبير الكهنة سويفت والدكتور جونسون والعجوز وليام كوبيت بلا استثناء وُصِف بأنَّه فظٌّ أو هَمجيٌّ، وكانوا جميعًا محبوبين لدى أصدقائهم، واستحقوا كُلُّهم هذه المحبة. ألم ترَ كيف وقف هذا الرجل المُسِن، بقلب أسد، وعفا عن عدوِّه عفوًا لا يُضاهيه سوى عفو المُقاتلين؟ لقد فَعَلَ ما تحدَّث عنه ذلك الخطيب الناهي عن المُسكِرات؛ إذ ضَرَب مثلًا لنا نحن — المسيحيين — وكان نموذجًا للمسيحية. وحين يُقتَل رجلٌ كهذا في جريمةٍ سرية شنيعة، فإني أعتقد حينئذٍ أنَّها مُهِمَّة، بل شديدة الأهمية لدرجة أنَّ حتى جهاز الشُّرطة الحديث سيكون أداةً في يد أيِّ شخصٍ محترم يمكنه استغلالها … أوه، أرجو منك المعذرة. وهكذا، أريد حقًّا استغلالك، لمرَّة واحدة إن جاز التعبير.»

وهكذا، يُمكننا القول إنَّ قامة الأب براون القصيرة ظلَّت، على مدى بعض الوقت من تلك الأيام والليالي الغريبة، تُقود أمامها جيوش قوات شرطة الإمبراطورية البريطانية وسيَّاراتها مُسخِّرةً إيَّاها للعمل على هذه القضية، كما كانت قامة نابليون القصيرة تُقود أمامها مدافع وخطوط المعارك الاستراتيجية الهائلة التي سادت أرجاء أوروبا؛ إذ ظَلَّت أقسام الشرطة ومكاتب البريد تعمل طوال الليل، وأُوقِفَت الحركة المرورية، واعتُرِضَت المراسلات، وأُجريت التحرِّيات في مئات الأماكن، من أجل اقتفاء الأثر المراوغ لهذا الشخص الغامض كالشبح، الذي لا يعرفون اسمه ولا ملامح وجهه ولا أيَّ شيء آخر سوى أنَّه يرتدي معطفًا فضفاضًا بلا أكمام ويحمل تذكرةً إلى إدنبرة.

وفي الوقت نفسه، لم تتجاهل الشرطة مسارات التحقيق الأخرى بالطبع. صحيحٌ أنَّ التقرير الكامل لتشريح الجثة لم يكن قد صَدَر بعدُ، لكنَّ الجميع بدا واثقًا من أنَّها كانت حالة تسمُّم. وهذا بطبيعة الحال ألقى بظلال الشكِّ الرئيسي على براندي الكَرز، وهذا بدوره ألقى بظلال الشكِّ الرئيسي على الفندق بطبيعة الحال.

قال جرينوود بفظاظة: «تشير أصابع الشكِّ على الأرجح إلى مدير الفندق؛ إذ يبدو لي كأفعى صغيرة حقيرة. صحيحٌ أنَّ بعض العاملين قد يكون متورطًا، مثل ساقي الحانة، الذي يبدو لي نموذجًا بَشَريًّا نكِد المزاج؛ إذ ربما وجَّه إليه راجلي بعض السِّباب، نظرًا إلى أنَّه كان سريع الغضب، مع أنَّه صار بعد ذلك لطيفًا جدًّا في العموم، ولكن رغم كل ذلك، يقع اللوم الرئيسي، والشكُّ الرئيسي بالتبعية، على مدير الفندق كما قُلت.»

قال الأب براون: «أوه، كنت أعلمُ أنَّ الشكَّ الرئيسي سيقع على مدير الفندق؛ لذا لم أشك فيه. افهمني جيدًا، أظنُّ أنَّ شخصًا آخر كان متيقنًا من أنَّ الشك الرئيسي سيقع على مدير الفندق أو العاملين به؛ لذا قُلتُ إنَّ قتل أيِّ شخصٍ في الفندق سيكون سهلًا … لكنِّي أظن أنَّه من الأفضل أن تذهب إليه وتناقشه بشأن ذلك.»

وبالفعل ذهب المفتش إلى المدير، لكنَّه عاد مُجددًا بعد مُقابلةٍ قصيرة إلى حدٍّ مُدهِش، ووجد صديقه القس يُقلِّب بعض الأوراق التي بدا أنَّها ملفٌّ يحوي تفاصيل حياة جون راجلي العاصفة.

قال المفتش: «لقد كانت مُقابلةً غريبةً. ظننتُ أنِّي سأضطر إلى قضاء ساعاتٍ في استجواب ذلك التافه القصير المُراوِغ؛ لأننا لا نملك أي دليلٍ قانوني ضده، لكنَّه انهار دفعةً واحدةً، وأعتقدُ أنَّه قال لي كل ما يعرفه بجُبنٍ شديد.»

قال الأب براون: «كنت أعرف ذلك. لقد انهار هكذا أيضًا حين وجد جُثَّة راجلي تبدو مسمومةً في فندقه؛ ولذا فقد صوابه لدرجة أنَّه أقدَم على فعلٍ أخرق كتزيين الجثة بخنجرٍ تُركي؛ لإلصاق التهمة بالرجل الأسمر، كما قال لك على حدِّ ظنِّي. لقد كان خطؤه الوحيد هو جُبنه، لكنَّه آخر رجلٍ قد يغرس خنجرًا في جسد شخصٍ حي. بل أراهنُ أيضًا على أنَّه اضطرَّ إلى تقوية أعصابه قدر المستطاع ليجرؤ على غرسه في جثة هامدة، لكنَّه أول شخصٍ يرتعدُ من اتهامه بفعلةٍ لم يرتكبها، ويفعلُ شيئًا يجعله يبدو أحمق، كما فعل.»

قال جرينوود: «أظنُّ أنني يجب أن أقابل ساقي الحانة أيضًا.»

ردَّ الآخر: «أظنُّ ذلك، وإن كنت أعتقد أنَّ الفاعل ليس أيًّا من أفراد الفندق؛ لأنَّ الجريمة هُيِّئت لتبدو من تنفيذ أحدهم بكلِّ تأكيد … ولكن انظر هنا، أرأيتَ أيًّا من هذه الأشياء التي جمعوها عن راجلي؟ لقد كان يعيش حياةً سعيدة شائقة، وأتساءل عمَّا إذا كان أيُّ أحدٍ سيكتب سيرة حياته.»

قال المفتش: «لقد دوَّنتُ كل شيءٍ ربما يؤثِّر في مجرى قضية كهذه. كان أرمل، لكنَّه تشاجر ذات مرَّة مع رجلٍ بسبب زوجته، وكان ذلك الرجل آنذاك سمسار أراضٍ اسكتلنديًّا في هذه المنطقة، ويبدو أنَّ راجلي كان عنيفًا جدًّا في تلك المشاجرة. ويُقال إنَّه كان يكره الاسكتلنديين، وربما هذا هو السبب … أوه، أعرف سبب هذه الابتسامة الكئيبة التي ترتسم على شفتيك. رجلٌ اسكتلندي … يعني أنَّه ربما يكون رجلًا من إدنبرة.»

قال الأب براون: «ربما. لكنَّ الأرجح أنَّه كان يكره الاسكتلنديين لأسبابٍ أخرى غير الأسباب الشخصية. هذا غريب، لكنَّ كلَّ المنتمين إلى مَعشر المحافظين الراديكاليين، أو أيًّا كان ما تُسمُّونهم به، الذين كانوا يقاومون التوجُّه التجاري الذي تبنَّاه حزب الأحرار؛ كُلهم كانوا يكرهون الاسكتلنديين؛ إذ كان كوبيت يكرههم، والدكتور جونسون أيضًا، بينما تحدَّث سويفت عن لكنتهم في أحد أعماله اللاذعة، وحتى شكسبير اتُّهِم بالتحامُل عليهم، لكنَّ تحامُل العظماء عادةً ما يكون مرتبطًا بالمبادئ، وأظنُّ أنَّ ثمة سببًا وراء ذلك؛ لقد جاء هذا الاسكتلندي من منطقة زراعية فقيرة والتي صارت منطقة صناعية غنية. كان قديرًا ونشيطًا، وظنَّ أنَّه كان يجلب معه الحضارة الصناعية من الشمال، لكنَّه ببساطة لم يكن يعلم أنَّ الجنوب فيه حضارةٌ زراعية راسخة منذ قرون. إنَّ منطقة جده كانت ريفيةً جدًّا، لكنَّها لم تكن متحضرةً … حسنًا، حسنًا، أعتقد أنَّنا ليس في وسعنا سوى انتظار مزيدٍ من المستجدَّات.»

قال المُفتِّش مبتسمًا: «لا أظنُّ أنَّك ستعرف آخر المستجدات من شكسبير والدكتور جونسون؛ فرأيُ شكسبير في الاسكتلنديين ليس دليلًا دقيقًا.»

وهنا رفع الأب براون أحد حاجبَيه كأنَّ فكرةً جديدةً خَطَرت بباله، وقال: «يا إلهي! لقد خَطَر ذلك ببالي الآن، ربما يوجد دليلٌ أقوى، حتى إن كان مأخوذًا من شكسبير أيضًا؛ إذ لم يكن شكسبير يذكر الاسكتلنديين كثيرًا، بل كان مولعًا بالسخرية من الويلزيين.»

كان المُفتِّش يُدقِّق في وجه صديقه؛ لأنَّه ظنَّ أنَّه لاحظ تأهُّبًا مستترًا خلف تعبيرات وجهه الرزينة. وقال: «عَجَبًا! لم يُفكِّر أحدٌ في تحويل مجرى الشكوك هكذا بأيِّ حال من الأحوال.»

قال الأب براون بهدوءٍ ينُمُّ عن رحابةِ أُفقِه: «حسنًا، لقد بدأتَ تخميناتك بشأن هوية القاتل بالحديث عن المتعصِّبين، وكيف يُمكن للمتعصِّب أن يفعل أيَّ شيء. حسنًا، أظنُّ أننا حظينا في هذه القاعة يوم أمس بشرف استضافة رجلٍ يكاد يكون أشدَّ المتعصبين في العالم الحديث وأصخبهم وأحمقهم. ولو كان الإقدامُ على القتل مقترنًا بأن يكون القاتل أحمقَ عنيدًا مهووسًا بفكرةٍ واحدة، لفضَّلتُ اتهامَ أخي القس برايس-جونز، الداعي إلى حظر المُسكِرات، على اتِّهام كلِّ النُّسَّاك الدراويش في آسيا، ومن الصحيح تمامًا، كما قُلتُ لك، أنَّ كأس اللبن العجيبة التي طَلَبها كانت موجودة بجوار كأس الويسكي الغامضة على النضد.»

قال جرينوود مُحدِّقًا: «التي تظنُّها مرتبطة بالجريمة. أصغِ إليَّ، لا أعرف ما إذا كُنتَ جادًّا حقًّا أم لا.»

وفي اللحظة التي كان يُحدِّق فيها إلى وجه صديقه، مُلاحظًا شيئًا ما يزال مُبهمًا في تعبيراته، رنَّ جرس الهاتف مُدوِّيًا خلف النضد. رفع المُفتِّش مصراع النَّضَد القلَّاب، وسرعان ما أصبح في الجانب الداخلي من النَّضد، ثم رفع السمَّاعة، وظلَّ يُنصِت بُرهةً إلى مُحاوِره، وبعدها أطلق صيحةً، ليست موجَّهة إلى محاوره، بل في الهواء عمومًا. ثم أنصت باهتمام أشد، وقال على لحظاتٍ متقطعة: «نعم، نعم … تعالَ حالًا، وأحضره معك إن أمكن … أحسنت صُنعًا … أُهنئك.»

ثم عاد المفتش جرينوود إلى القاعة الخارجية، كرجلٍ جدَّد شبابه، وقعد على كرسيه مباشرةً، واضعًا يديه على ركبتَيه ومُحدِّقًا إلى صديقه، وقال:

«أيها الأب براون، لا أعرف كيف تفعل ذلك. يبدو أنَّك عرفت أنَّه قاتلٌ قبل أن يعلم أيُّ شخصٍ آخر أنَّه رجلٌ. لقد كان مجهولًا، كان محض عدمٍ، لم يكن سوى التباسٍ طفيف في أقوال الشهود؛ إذ لم يره أحدٌ في الفندق، ولم يكن الفتى الذي كان واقفًا على العتبات متيقنًا تمامًا منه؛ لقد كان مجرد شكٍّ ضئيل قائم على كأسٍ إضافية متَّسخة، لكنَّا قبضنا عليه، وهو الرجل الذي نريده.»

كان الأب براون قد نهض من كرسيه مُستشعرًا الأزمة التي وقعت، ومُمسكًا بتلقائية بالأوراق المُقدَّر لها أن تصبح قيِّمة جدًّا لكاتب سيرة حياة السيد راجلي، ووقف مُحدِّقًا إلى صديقه. وربما دفعت هذه الإيماءة صديقه إلى إضافة تأكيداتٍ جديدة، ظنًّا منه أنَّها رغبةٌ في التيقن.

إذ قال: «نعم، قبضنا على «السريع». وقد كان سريعًا جدًّا، كالزئبق، في هروبه؛ إذ أمسكناه للتوِّ بعيدًا عن هنا أثناء ذهابه في رحلة صيدٍ إلى جُزر أوركني، بحسب قوله. لكنَّه الرجلُ المراد بكلِّ تأكيد، إنَّه سمسار الأراضي الاسكتلندي الذي كان يحاول التودد إلى زوجة راجلي؛ إنَّه الرجل الذي شرب الويسكي الاسكتلندي في هذه الحانة ثم استقلَّ قطارًا إلى إدنبرة. ولم يكن أيُّ أحدٍ ليعرفه لولاك.»

قال الأب براون بنبرةٍ مذهولة بعض الشيء: «حسنًا، ما قصدته كان …» ولكن في اللحظة نفسها، قوطِع كلامه بأصوات خشخشة وقعقعة ناجمة عن المركبات الثقيلة التي وصلت خارج الفندق، وسَدَّ فَردان أو ثلاثة من الشُّرطيين الآخرين الأقل رُتبة الحانة بوجودهم فيها. وقَعَد أحدهم، بدعوةٍ من رئيسه المفتش إلى القعود، متمددًا كرجلٍ سعيد ومُتعَب في آن واحد، ونظر إلى الأب براون بإعجاب.

ثم قال: «قبضنا على القاتل. أوه بالمناسبة يا سيدي، أعرفُ أنَّه قاتل؛ لأنَّه كاد يقتلني. لقد قبضتُ على أشخاصٍ أشداء من قبل، ولكن لا أحدَ منهم كان كهذا الرجل؛ لقد لكَمني في بطني لكمةً كركلةِ حصان، وكاد يهرب من خمسة رجال. أوه، لقد صار في قبضتك قاتلٌ حقيقي هذه المرة سيدي المفتش.»

تساءل الأب براون مُحدِّقًا: «أين هو؟»

أجاب الشرطي: «بالخارج في الشاحنة مُكبَّلًا بالأصفاد، ومن الحكمة أن تتركه هناك، الآن على الأقل.»

ارتمى الأب براون على أحد الكراسي ارتماءة أشبه بانهيارٍ ليِّن، وتناثرت حوله الأوراق التي كان يُحكم قبضته عليها بعصبيةٍ، وسقطت وانزلقت على الأرض كأنَّها ألواح ثلجٍ مكسورة. وأوحى وجهه، بل جسده كله، بانطباع بالونٍ مثقوب.

وظلَّ يُكرِّر تأوهاته كأنَّ أيَّ قَسَمٍ سيكون غير كافٍ، قائلًا: «أوه … أوه … أوه! لقد فعلتُ ذلك مرَّة أخرى!»

قال جرينوود: «إذا كُنتَ تقصدُ أنَّك قبضتَ على المجرم مرَّة أخرى …» لكنَّ الأب براون قاطعه بهياجٍ واهن، كأنَّه عبوة مياه غازية تلفظ فورانها الأخير.

وقال: «أقصدُ أنَّ ذلك يحدث دائمًا، وبكلِّ أمانة، لا أعرف السبب. دائمًا ما أحاول قولَ ما أقصده، لكنَّ الجميع يُؤَوِّل كلامي تأويلاتٍ كثيرة مختلفة.»

صاح جرينوود بسَخَطٍ مفاجئ: «ما الخطبُ الآن بحقِّ السماء؟»

قال الأب براون بنبرةٍ واهنة استطاعت وحدها نقل وَهَن الكلمات: «حسنًا، أقولُ كلمات … أقول كلماتٍ، ولكن يبدو أنَّ الجميع يعتقد أنَّها تعني أكثر من مقصدها الحرفي. ذات مرة رأيت مرآة مكسورة، وقلت: «حَدَث شيءٌ ما.» فأجاب جميع السامعين: «نعم صحيح، كما تقولُ بالفعل، لقد تشاجر رجلان وركض أحدهما إلى الحديقة.» وهلُم جرًّا. لا أفهم ذلك! فجُملتا «حَدَث شيءٌ ما» و«تصارَع رجلان»، لا يبدوان لي أنَّهما سيَّان على الإطلاق، ولكن يُمكنني القولُ إنِّي قرأتُ كتب المنطق القديمة. حسنًا، ما حدث الآن شبيهٌ بذلك؛ إذ يبدو أنَّك على يقينٍ من أنَّ هذا الرجل قاتِل، لكنِّي لم أقُل قَط إنَّه قاتل، بل قُلتُ إنَّه الرجل الذي نريده. وهو كذلك بالفعل؛ فأنا أريده بشدة. أريده إلى حدٍّ فظيع. أريده بصفته الشيء الوحيد الذي نفتقر إليه في هذه القضية المروعة برمتها؛ شاهدًا!»

حدَّقوا إليه جميعًا، ولكن بقسماتٍ عابسة، كرجالٍ يحاولون اتِّباع منعطفٍ جديد حاد في مجرى النِّقاش، غير أنَّه هو الذي استأنف النقاش.

إذ أضاف: «منذ الوهلة الأولى التي دخلتُ فيها هذه الحانة أو القاعة الكبيرة الفارغة، عرفتُ أنَّ مشكلة هذا الوضع هي الفراغ، أي الخلوة، وتوافر كمٍّ هائل من الفرص أمام أيِّ شخصٍ ليكون وحيدًا. باختصار، عدم وجود شهودٍ عليه. كُلُّ ما نعرفه أنَّ المدير وساقي الحانة لم يكونا في الحانة حين دخلنا. ولكن متى كانا في الحانة؟ وما فرصةُ معرفة تحرُّكات أيِّ شخص بالزمان والمكان المُحدَّدين؟ كان كلُّ ذلك مجهولًا تمامًا لعدم وجود شهود. وأظنُّ أنَّ ساقي الحانة أو شخصًا ما كان في الحانة قُبيل مجيئنا مباشرةً، وهكذا حصل الرجل الاسكتلندي على كأس الويسكي الاسكتلندي؛ لأنَّه لم يحصل عليها بعد مجيئنا بالتأكيد. لكنَّنا لا نستطيع بدء تحرِّياتٍ عمَّا إذا كان أيُّ شخصٍ في الفندق قد سَمَّم براندي الكَرز الذي شربه راجلي المسكين، إلَّا حين نعرف بالفعل مَن كان في الحانة ومتى. والآن، أريدكم أن تسدوا إليَّ صنيعًا آخر، بالرغم من هذا الالتباس الغبي، الذي ربما يكون خطئي أنا بالكامل. أريدكم أنَّ تجمعوا كلَّ الأشخاص المعنيِّين في هذه القاعة، أظنُّ أنَّهم جميعًا ما زالوا موجودين، إلَّا إذا عاد الرجل الآسيوي إلى آسيا، ثم حُلُّوا أصفاد الاسكتلندي المسكين، وأحضروه إلى هنا، ودَعوه يُقول لنا مَن قدَّم له الويسكي، ومَن كان في الحانة، ومَن سواه كان في القاعة، وما إلى ذلك. فهو الرجل الوحيد الذي يُمكن أن تكشف أقواله ما حدث في ذلك الوقت الذي وقعت فيه الجريمة بالضبط. ولا أجد أيَّ سببٍ يجعلنا نشكُّ في كلامه.»

قال جرينوود: «ولكن هذا يعيد توجيه كلِّ أصابع الشك إلى أفراد الفندق، وأظنُّك توصَّلت إلى أنَّ المدير ليس القاتل. فهل هو ساقي الحانة أم ماذا؟»

قال القس بقسماتٍ مشدوهة خالية من أيِّ تعبيرات: «لا أعرف. ولستُ متيقنًا حتى من عدم تورُّط المدير. ولا أعرف أيَّ شيءٍ عن ساقي الحانة. أظنُّ أنَّ المدير قد يكون متآمرًا بعض الشيء، حتى إذا لم يكن قاتلًا، لكنِّي أعرف أنَّ شاهدًا وحيدًا أوحد على وجه الأرض ربما يكون قد رأى شيئًا؛ لذا جعلت كلَّ كلابك البوليسية تتقفى أثره إلى أقاصي الأرض.»

كان الرجل الاسكتلندي الغامض، حين ظهر أخيرًا أمام الجَمع الذي كان قد اجتمع في الغرفة آنذاك، مَهيب الهيئة؛ إذ كان طويل القامة ذا خطواتٍ ثقيلة واسعة، ووجهٍ رفيع وحاد وطويل وتهكُّمي، وخصلات من الشعر الأحمر المتلبِّد، ولم يكن يرتدي معطفًا فضفاضًا بلا أكمامٍ فحسب، بل كان يعتمر قُبَّعة اسكتلندية مستطيلة بلا حواف، وربما كان معذورًا على التصرُّف الحاد بعض الشيء الذي أبداه عند القبض عليه، لكنَّ الجميع رأى فيه أنَّه من نوعية الرجال الذين يقاومون الاعتقال، حتى ولو بالعنف. ولم يكن من المستغرب أنَّه تشاجر مع رجلٍ صِدامي مثل راجلي، بل لم يكن من المستغرب أيضًا أنَّ الشُّرطيين اقتنعوا، من مجرَّد تفاصيل واقعة القبض عليه، بأنَّه قاتل عتيد متمرس، لكنَّه أكَّد أنَّه مُزارعٌ محترم جدًّا في مقاطعة أبردينشير، واسمه جيمس جرانت. وبطريقةٍ ما، لم يكن الأب براون هو الوحيد المتيقن من براءته، بل سرعان ما اقتنع المفتش جرينوود — وهو رجلٌ بصيرٌ ذو خبرة كبيرة — أيضًا بأنَّ الضراوة التي أبداها الاسكتلندي عند القبض عليه كانت ضراوةً نابعةً من براءةٍ وليس من ذنب.

قال المفتش بجدية، مُرقِّقًا صوته إلى نبرةٍ مُلاطِفة دون مزيدٍ من الكلام التفاوضي: «ما نريده منك الآن يا سيد جرانت هو شهادتك على حقيقةٍ واحدة شديدة الأهمية. أنا في غاية الأسف على سوء الفهم الذي جعلك تعاني، لكنِّي متيقنٌ من رغبتك في أن تخدم غايات العدالة. أعتقدُ أنَّك أتيت إلى هذه الحانة بعد فتحها مباشرةً، في الساعة الخامسة والنصف، وقُدِّمت إليك كأسٌ من الويسكي، لكنَّنا لسنا متيقنين من هوية موظَّف الفندق الذي كان موجودًا في الحانة آنذاك، وممَّا إذا كان ساقي الحانة أم المدير أم أيَّ مرءوسٍ آخر. فهلَّا تنظر حولك في هذه القاعة، وتُخبرني بما إذا كان ساقي الحانة الذي قدَّم إليك الكأس موجودًا هنا.»

قال السيد جرانت بابتسامةٍ متجهمة بعدما فحص كل الموجودين بنظرةٍ سريعة متبصرة: «نعم، إنَّه موجود. أستطيعُ معرفته في أي مكان، وستوافقُني الرأي في أنَّه ضخمٌ بما يكفي لرؤيته. هل كُلُّ موظفي فندقك ضخامٌ مثلك هكذا؟»

ظلَّت نظرات المفتش جامدةً وثابتة، وبقي صوته متواصلًا خاليًا من أي تعبير، بينما كان وجه الأب براون مشدوهًا، لكنَّ وجوه الآخرين اكتست بتجهُّم؛ إذ لم يكن ساقي الحانة ضخمًا جدًّا ولا عملاقًا على الإطلاق، بينما كان المدير ذا بنيانٍ ضئيل تمامًا.

قال المفتش بهدوء: «لا نريد سوى تحديد هوية ساقي الحانة الذي رأيته. نحن نعرفه بالطبع، لكننا نريد منك تأكيد صحة ذلك بمفردك. أتقصدُ …؟» وسَكَتَ فجأةً.

قال الاسكتلندي بضجر، ملوِّحًا بإشارة إلى أحد الموجودين: «حسنًا، ها هو ذا واضحٌ جدًّا.» وعند هذه الإشارة، هَبَّ جوكس الضخم، زعيم المندوبين التجاريين المتجولين، من كرسيه مثل فيلٍ يَنهِمُ رافعًا خرطومه، فانقضَّ عليه ثلاثة شرطيين وأحكموا قبضتهم عليه في لمح البصر ككلابِ صيدٍ تهجم على حيوانٍ مفترس برِّي.

قال الأب براون لصديقه بعد ذلك: «حسنًا، الأمر برمته كان بسيطًا جدًّا. كما قُلتُ لك، منذ الوهلة الأولى التي دخلتُ فيها الحانة، تبادر إلى ذهني أنَّه إذا كان ساقي الحانة قد تركها هكذا دون رقابة، فلن يوجد شيءٌ في الدُّنيا يمنعك أو يمنعني أو يمنع أيَّ شخصٍ آخر من رَفْع المصراع القلَّاب ودخول الجانب الداخلي من الحانة، ودسِّ السُّمِّ في أيٍّ من الزجاجات التي تنتظر الزبائن. وبالطبع كان من المُرجَّح أن يفعل ذلك أيُّ شخصٍ عازم على دسِّ السم بالفعل، كما فعله جوكس، بإحلال الزجاجة المسمومة محل الزجاجة العادية، وقد كان من الممكن فعلُ ذلك في لمح البصر. وكان سهلًا جدًّا عليه؛ لأنَّه يسافر حاملًا زجاجات الخمر لبيعها، أن يحمل زجاجةَ براندي كرز مُجهَّزة سلفًا ومماثلةً لنوعية الزجاجات الموجودة في الحانة. وصحيحٌ أنَّ إتمام جريمته يتطلَّب شرطًا واحدًا، لكنَّه شرطٌ سهل المنال جدًّا؛ إذ كان من المستحيل الشروع في تسميم الجعة أو الويسكي اللذين يشربهما عشرات الأشخاص؛ لأنَّ ذلك كان سيُسبِّب مجزرة، ولكن حين يشتهر رجلٌ بأنَّه لا يشرب إلَّا مشروبًا واحدًا خاصًّا، مثل براندي الكرز، الذي لا يشربه الكثيرون، فسيصبح الأمر أشبه بتسميمه في عقر داره تمامًا، باستثناء أنَّ تسميمه في الحانة سيكون أسلَم بكثير؛ لأنَّ كل أصابع الشكِّ تقريبًا ستتجه في الواقع إلى مدير الفندق، أو إلى شخصٍ يعمل في الفندق، ولا يوجد أيُّ حُجَّةٍ يُمكن تخيُّلها في الدُّنيا ستُثبِت أنَّها ارتُكِبَت بأيدي أيِّ شخصٍ من مئات الزبائن الذين ربما أتوا إلى الحانة، حتى لو أدرَك الناس أنَّ أحد الزبائن من الممكن أن يكون قد فعل ذلك. لقد كانت بكل تأكيد جريمة غريبة وصعب تحديد الجاني فيها.»

سأله صديقه: «ولماذا ارتكبها القاتل بالضبط؟»

نهض الأب براون من كرسيه، ولملم بجدية الأوراق التي نثرها سلفًا في لحظة ذهول.

وقال مبتسمًا: «هل لي أن ألفت انتباهك إلى مواد إعداد كتاب «سيرة الراحل جون راجلي ورسائله» الذي سيُنشَر قريبًا؟ أو بالأحرى إلى كلماته التي نطقها بلسانه؟ لقد قال في هذه الحانة إنَّه سيكشف فضيحةً بشأن إدارة الفنادق، وقد كانت هذه هي الفضيحة الشائعة جدًّا التي تكشف اتفاقًا فاسدًا بين أصحاب الفنادق ومندوبٍ تجاري كان يأخذ عمولاتٍ سرية لنفسه ويوزِّع عمولاتٍ سرية على الآخرين، فاحتكرت شركته كلَّ المشروبات التي تُباع في هذه الأماكن، لكنَّ ذلك لم يكن علاقةً استعبادية عَلَنية، كالحانات المُلزَمة قانونًا ببيع مشروباتٍ من صُنع شركة معينة، بل كان غشًّا على حساب كلِّ زبون كان من المفترض أن يخدمه المدير. لقد كان مخالفةً قانونية؛ لذا بادَر جوكس الحاذق قبل أيِّ شخصٍ آخر إلى الحانة حين كانت فارغة، كما هي حالها في أغلب الأحيان، وتسلَّل إلى وراء النَّضَد وبدَّل الزجاجتين، ولكن لسوء حظِّه، دخل في اللحظة نفسها رجلٌ اسكتلنديٌّ مرتديًا معطفًا فضفاضًا بلا أكمام بفظاظةٍ، وطلب كأس ويسكي. ورأى جوكس أنَّ فرصته الوحيدة هي التظاهر بأنَّه ساقي الحانة وتلبية طلب الزبون. وشعر بارتياحٍ بالغ لأنَّ الزبون كان «سريعًا».»

قال جرينوود: «أظنُّ أنَّك أنت «السريع»؛ لأنَّك تقول إنَّك شممت شيئًا مُريبًا من البداية في مُجرَّد هواء غرفةٍ فارغة. هل راودك أيُّ شكٍّ حيال جوكس في البداية؟»

أجاب الأب براون بغموض: «حسنًا، لقد بدا ثريًّا بعض الشيء؛ فالمرءُ يستطيعُ تمييزَ النبرة الثرية في المتكلم. وقد سألتُ نفسي لماذا يتحدث بهذه النبرة الثرية المثيرة للاشمئزاز في حين أنَّ كلَّ زملائه الشرفاء كانوا فقراء جدًّا، لكنِّي أظنني عرفتُ أنَّ ثراءه كان مصطنعًا زائفًا حين رأيت ذلك الدبوس الكبير اللامع في ربطة عنقه.»

سأله جرينوود بارتياب: «أتقصدُ لأنَّ الدبوس كان زائفًا؟»

قال الأب براون: «أوه، لا، بل لأنَّه كان أصليًّا.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤