مدخل

كيف ولماذا تطور ذكاء الإنسان وثقافته؟ كيف نشأ وتطور عند الإنسان العقل والفلسفة والثقافة؟ والآن وقد توافرت هذه الملكات والقدرات للبشرية ماذا عساها أن تفعل بنا وإلى أين تقودنا؟

الإجابة التقليدية عن هذه الأسئلة تحاول سبر أغوار المخ لتكتشف حقيقة ﻣﺑﺎدئه وسر تكوينه، ويقودنا هذا إلى تحليل كيميائي حيوي للمادة التي يتكون منها المخ، وإلى اكتشاف تطور الخلايا العصبية التي تعمل كمسارات وطرق لنقل المعلومات الحسية، وتنظيمها في شبكات معقدة — نسميها المخ — ويبدو العقل هنا وكأنه خاصية مميزة لمخ غير عادي؛ معقد بدرجة تؤهله لاستحداث وتطوير الثقافة. ولكن بعد هذا تتعثر خطوات التفسير، وينظر الناس إلى العقل وكأنه كيان مستقل مفارق للمادة العادية.

ولكن كتاب «وهم الحقيقة» يكتشف نظرية مغايرة لذلك الرأي تمامًا وإن كانت مكملة له. توضح هذه النظرية أن العقول والثقافة تطوَّرا معًا وعلى نحو مشترك داخل سياق بيئي واسع. ذلك أن كل خطوة نخطوها على مسار التطور تتأثر بكل ما هو محيط بالإنسان والكائن الحي بعامة. وتمتد عقولنا بجذورها إلى المادة العادية، إنها عمليات مركبة — أو لنقل إﻧﻬﺎ مركبات من عمليات عدة — تجري داخل المخ المادي. ويرتبط المخ من خلال جزيئاته ارتباطًا وثيقًا بالحقيقة الواقعة، ولكنه مرتبط كذلك بهذه الحقيقة الواقعة على مستوًى آخر؛ ألا وهو قدرة المخ على أن يصوغ داخله نموذجًا لها.

وأثرت هذه الروابط تأثيرًا مهمًّا على تطور الملح والعقل. إن حواسنا على مدى النشأة والنمو تتلاءم وتتكيف لتسجل قسمات بذاتها مميزة للبيئة المحيطة بنا. فالعقل ليس وجودًا لا ماديًّا مفارقًا: إنه استجابة مخ متطور وفقًا لحاجة الكائن إلى البقاء على قيد الحياة داخل بيئة معقدة. ومع نشوء وتطور الثقافة، تصبح البيئة وجودًا يتكيف تلقائيًّا، ويعدل ذاته بذاته، وتكون مرجعًا لذاتها. ويفعل العقل البشري الشيء نفسه حيث التكيف الذاتي والمرجعية الذاتية. وهكذا وكأن العقل والبيئة المحيطة في حوار وتجارب معًا يفضي إلى نشوء وتطور الكائن وخصائصه وقدراته.

وأدى التطور وكذا الحواس القابلة للتعديل والملاءمة إلى إنتاج العقل القادر على التشابك مع الواقع عن طريق التأثير في الصور والقسمات المميزة لهذا الواقع، عمليات وتكوينات رفيعة المستوى داخل المخ تتجاوب مع مظاهر الانتظام الواسعة النطق في العالم المحيط بنا. مثال ذلك أن تأكل العنزة أوراق الشجر لأنها تشبه أوراق الشجر، وليس لأن خلاياها العصبية تربطها صلة كيميائية وثيقة لتعرُّف الكلوروفيل. ولو افترضنا أن النباتات تطورت على نحو مغاير بحيث تجري في داخل أوراﻗﻬﺎ ﻋﻣﻟﻳﺎت تمثيل ضوئي تعطي لونًا أرجوانيًّا فإن العنزة سوف تبحث عن أوراق شجر أرجوانية. معني هذا أن هناك علاقة بين عقل الكائن الفرد والثقافة البشرية التي ينشأ العقل ويترعرع داخلها.

وتختلف وجهة النظر هذه عن نظرة علم الفيزياء الذي يرى، على سبيل المثال، المنضدة «مساحة فضاء»، تأسيسًا على النظرية الذرية والقول بأن الأجسام تتألف من ذرات. وهنا ينصرف انتباهنا إلى قسمات بشرية مهمة مثل أنها من خشب وصلبة وصفراء ومفيدة في استعمالات الحياة. ولكن هذه القسمات الشائعة «مهمة لعملية التطور ولفهم كثير من مجالات العلم». مثال ذلك أن تطور العنزة ﻛﺣﻳﻮان ﻋﺎشب اعتمد على قدرتها على إدراك شكل أوراق الشجر، وليس على فهم الكيمياء الحيوية.

كيف نشأ وتطور العقل المتصف بالذكاء والوعي؟ لن نبحث عن الإجابة داخل البنية الداخلية الدقيقة والمعقدة، بل سنحاول إلقاء نظرة خارجية اعتمادًا على السياق المشترك الجامع بين البيئة والعضو الحي في وحدة واحدة متفاعلة. إننا ننظر إلى المعارف المتراكمة عبر أجيال الكائنات العاقلة الذكية باعتبارها وجودًا أو عملية شاملة تجمع بين بنيتها الخاصة المميزة وسلوكها أيضًا: ونُسمي هذا: الذكاء الظاهر أو الخارجي الجمعي Extelligence . وهذا الذكاء الخارجي في حالة تعديل دائم ومطرد لذاته، وينظم نفسه من خلال عمليات التفاعل المستمرة مع أفراد لا حصر لهم. والنتيجة أن أصبح الذكاء الخارجي الجمعي أعظم وأقدر من أي ذكاء باطني فردي intelligence وأكثر منه دوامًا. ولكن الذكاء الخارجي الجمعي لا معنى له دون الذكاء الباطني للتفاعل معه: فالذكاءان متورطان أو متضافران معًا في نشاطهما. إن عقل الطفل في مراحل نموه يتفاعل من خلال اللغة مع الذكاء الخارجي الجمعي؛ ومن ثم هناك مساران في اتجاهين متبادلين بين الأفراد وبين التحولات الثقافية المحيطة بهم مما يغير من الاثنين معًا. الذكاء الباطني مغروس وأصيل في الطفل، والذكاء الخارجي الجمعي مغروس وأصيل في الثقافة. وهكذا يستحيل فصل تطور وبنية المخ عن تطور وبنية المجتمع الإنساني وبيئته والكون المحيط به.

إن عقولنا تتطور بالاشتراك مع كل ما يؤثر فيها؛ ومن ثم فإن عقولنا هي اختلاق أو توهم للواقع أو هي صيغ مختلفة من الواقع، أي عمليات تجري داخل بنًى مصنوعة من مادة عادية تطور سلوكها من أجل أن تحاكي وتصوغ نموذجًا للعمليات الطبيعية وتتفاعل معها. ويفسر لنا هذا السبب في أنها تكون فاعلة ومؤثرة على نحوٍ غير معقول عند إدراك بيئتها وإعادة تنظيمها؛ ومن ثم يغادر الوضع أو الشرط الوجودي الإنساني تفاعلًا مندمجًا بين الثقافة وعقول الأفراد بحيث يصوغ كل طرف الآخر.

وتعتمد الثقافة على الاتصال الذي يتحقق عن طريق اللغة. واللغة هي الخطوة الأولى على طريق الذكاء الخارجي الجمعي. وتطورت اللغة بالاشتراك مع المخ ليصنعا العقل في تضافر مع اليدين والتقانة واكتشاف الأنماط والقوانين. ولا يستطيع العقل أن يفكر في العقل إلا حين تجهزه اللغة بنظام اكتشاف قسمة المرجعية الذاتية أو العودة إلى الذات. وما إن تتوافر له هذه القسمة حتى يغدو الوعي بالذات خاصية مباشرة وإن بدت خاصية عادية نظرًا لأن «الذات» هي قسمة مميزة بدورها. ويصبح بالإمكان، مع وجود القسمات المتصورة، استخدام خريطة ذهنية بدلًا من أرض الواقع.

وإن أهم وأعظم خطوة منفردة على مدى تاريخ التطور العضوي هي تكوين كتلة واحدة من أنواع مختلفة من البكتريا لتشكل معًا الخلية النواة. ونجد بالمثل أن أعظم خطوة حتى في تطورنا الثقافي تمثلت في تكتل ثقافات مختلفة لتصنع تكوينات أو بنى متنوعة الثقافات. وثمة أنواع كثيرة من البني المتنوعة الثقافات ابتداء من الشركات المتعددة القوميات وحتى المدن الكبرى مثل نيويورك. غير أن التعقد الذاتي Self-Complication للثقافة البشرية لن يتوقف عن هذا الحد. ذلك لأن الثقافة البشرية عملية ذاتية الدفع. وتشبه التكوينات المتعددة الثقافة اليوم الكائنات الموجودة داخل مستعمرة وتتعايش وكأنها بدرجة أو بأخرى مقيمة داخل أحياء اعتزالية «جيتو». ولكن من المتوقع غدًا أن تصبح التكوينات المتعددة الثقافات أشبه بالكائنات العضوية المتعددة الخلايا، والتي يكون الذكاء الجمعي الخارجي فيها ذكاء متخصصًا شان الأنسجة المختلفة في بنية الحيوان المركب. وبدأت بالفعل تقانات الاتصال الحديثة في صوغ نسيج جديد يضم جميع التكوينات المتعددة الثقافات على اختلاف أشكالها لتصبح كيانًا جديدًا وثقافة أرقى: أي إنسانية ذات ثقافة أرقى.

وهذه هي قصة الكتاب. وتبدأ القصة منذ خمسة عشر ألف مليون سنة، وقتما كان الكون صغيرًا لا يزيد عن حجم النقطة التي تضعها عند آخر الجملة.

لم يكن هناك زمان قبل أن يبدأ الكون. وحيث لا زمان، لا يوجد قبل ولا بعد، ولا شمال ولا جنوب؛ أي لا زمان ولا مكان، ولا مادة. وبدأ الزمان أول دقاته حين كبر الفضاء المحايق للكون ليصبح في حجم النقطة. وكانت درجة حرارة النقطة شديدة الارتفاع إلى الحد الذي لا يسمح بوجود المادة، ولكن توفرت شروط كثيرة لازمة لنشوء المادة أو الإشعاع؛ ذلك أن النقطة الأولية كانت تزخر بالطاقة الإشعاعية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤