ما معنى أن أكون إنسانًا؟

التمييز بين الذاتي والموضوعي مسألة شغلت فكر الفلاسفة منذ قديم الزمان. ولكن نسأل ما معنى أن نقول إن ثمة «عقل»؟ ولماذا يكون على هذا النحو الذي نتصوره؟ ولكن حري ألا ننسى أننا نفكر أساسًا وفي ذهننا العقل الحديث ونراه نوع العقل الذي يتحلى به الإنسان. ولكن هل كان القدماء في العصر الحجري مثلًا لهم عقول مثل عقولنا الآن؟

نسبغ على العقل صفات كثيرة، ولكن ينبغي أن نمايز بين الذكاء والإدراك والوعي وحرية الإرادة. كان العلماء في السابق يعتقدون أن البشر وحدهم هم الذين يدركون عن وعي رغباتهم وقراراتهم: أما الحيوانات فإنها تسوقها «الدوافع». وهكذا فإن القط حين يبصر وعاء طعامه فارغًا يمشي ناحية خزانة الطعام ويتطلع إليك بعينيه ويموء. وهذا كله تعبير عن دافع الطعام لديه وليس أنه يشعر بالجوع أو «يريد» طعامًا. ولكن خلال السنوات الأخيرة بدأ العلماء يمحون هذا الخط الفاصل بين العمليات العقلية عند الحيوانات والبشر. وأسباب ذلك تنطوي على السلوك حيث الحيوانات، وبخاصة الثدييات الراقية، تعطي انطباعًا قويًّا بأن لديها فكرة عما تريد. ثم هنا يبين مدلول وواقع التطور، حيث إن قدرتنا على إدراك مشاعر ذاتية نشأت وتطورت مع المخ الذي يعالج ويوجه العمليات الفيزيائية التي تنطوي عليها هذه العمليات. علاوة على هذا فإن المخ البشري نشأ عن تكوينات مماثلة لتكوينات مخ الحيوان.

ومشكلة الوعي مشكلة كبيرة وعميقة، بيد أننا نعرف ما معنى أن أكون واعيًا بكذا. وهناك مدارس عدة في دراسة وتحديد معنى الوعي، ولكن أيًّا كان المقصود به فإننا جميعًا على يقين به في عقولنا: تعرف القصة التي تجري بداخلنا عنه، وقليلون جدًّا قد ينكرون الوعي بهذا المعنى لدى القردة العليا — الغوريلا والأورانج أوتان — وكلاهما من نوع الشمبانزي. وربما يصدق بعضنا هذا بالنسبة لكثير من الرئيسات الاجتماعية الأخرى. بل إن البعض يوسع من نطاق الإنكار ليشمل الوعي الكلاب والقطط وأيضًا الببغاوات. غير أن هذه السلسلة الطويلة من الحيوانات لا تنقض ما أكدناه من عدم وجود متواليات متصلة بين الوعي واللاوعي، وإنما ما نفترضه من وجود تواصلية نابع من تقييمنا للكيفية، التي يحتمل أن تكون بها هذه الحيوانات واعية، وليس كيف يكون وعيها.

ونحن لا نستطيع أن تعرف معنى وعي الحيوان ولا كيف يكون. فإذا كان السائل يريد أن يعرف شيئًا عن وعي الخفاش فلا سبيل أمامه إلا أن يكون خفاشًا وليس عقلًا بشريًّا. ونحن نعرف أننا أذكياء، ونحن نستطيع بناءً على استدلالات سلوكية أن نعرف أن الأخطبوط ذكي كذلك. ونعرف أننا واعون أو لدينا وعي، ولكن الاستدلالات السلوكية لا تشير إلى أن الأخطبوط لديه وعي. لماذا هذا الفارق؟

نحن البشر تفاعلنا مع أبناء نوعنا وغيَّرنا من أنفسنا: تغير إحساسنا بالذاتية تكرارًا نظرًا لأن كل تفاعل ينبني على نتائج التفاعلات السابقة، هذا بينما الأخطبوط كائن وحيد أو متوحد بحيث لا يدخل في مثل هذا النوع من التفاعلات الاجتماعية. والملاحظ أن كل فرد من أفراد جنس الأخطبوط يتعلم، ولكنه لا ينقل ما تعلمه إلى ذريته؛ فكلٌّ يعيد سيرته الأولى ويبدأ التعلم من جديد. ويحدث بعض هذا بالنسبة للببغاء والكلب والقط والقردة العليا والإنسان؛ إذ يعيد تدبير أحداث حياته ويتعلمها من جديد. ولكن نجد أنفسنا هنا إزاء مفارقة عجيبة: كائن يبدو بالنسبة إلى نفسه وللآخرين أن له ذاتية متواصلة. وأن «الأنا» داخل هذا تظل هي الأنا نفسها مع مرور الوقت؛ ولكنها في الوقت نفسه تغير ذاتها.

إن التمييز بين الأنا والهو غير العاقل يشبه ما قال به فرويد؛ إذ ابتكر فرويد فكرة منطقة ما تحت الشعور في عقولنا، والأنا الذي يمثل المراقب وسط بحر هائج مضطرب لنشاط المخ اللاشعوري. ولكن توهمنا بأن هناك عقلًا، إنما هو أمر ضروري لربط أفكارنا الفرادى ببعضها البعض داخل تصور واحد عن عالمنا، ويتشكل داخلنا ما يمكن أن نسميه مدير حلبة السيرك وهو المرشِّد أو الذي يصوغ الإدراك الرشيد أو العقلي مع إجابة عن كل ما يعرض لنا. ويقوم مدير الحلبة هنا بالترشيد أو بالإدراك العقلي للقسمات المميزة والتوفيق بينها، وهي التي تصله من الخارج عبر الحواس. وهكذا يعمل جهاز الإبصار حين يتوجه الإنسان ببصره إلى بقرة أو إلى عدد من النقاط المصفوفة عشوائيًّا. وتتولى عمليات المخ عن طريق ما سميناه مدير الحلبة تحديد معنى الشيء الذي نبصره في إطار ما سبق إيداعه من معلومات في المخ. وهنا فقط نقول إننا ندرك أننا نبصر «بقرة». وتتوالى عمليات الترشيد أو الإدراك العقلي للأحداث المتتابعة أمام نظرنا.

ولكن كيف نشأ وتطور ما اصطلحنا على تسميته مدير حلبة السيرك المسئول عن تنسيق مدركات حواسنا وترشيدها، بدأت نشأته على الأرجح في الثدييات بعد انقراض الديناصورات، وهذا ما يقول به هاري جيريسون Harry Jerison؛ إذ يرى أن الثدييات في الأصل كانت نشطة وقت النهار وتبصر في ضوئه، ولكنها أصبحت كائنات ليلية تنشط وترى في عتمة الليل. وجاء تحولها هذا لكي تحمي نفسها وقتما كانت الديناصورات لها الهيمنة. ولهذا كانت الثدييات في البدء تتمتع بحواس بصرية قوية، أو كان البصر أقوى حواسها، وتطور المخ وأصبح أكثر فعالية في تسجيل القسمات المميزة في صورة أصوات.

ولكن بعد أن اضطرت الثدييات إلى التحول إلى كائنات ليلية، أصبحت الأصوات هي المصدر الرئيسي لتلقي المعلومات عن كل ما يحيط بها. وهكذا ارتقى الجهاز الحسي السمعي سريعًا كأداة لتلقي المعلومات واستخلاص المعاني. ويؤكد جيريسون أن هذه العملية ذاتها تكررت مرارًا على نحوٍ أدى إلى نشوء طريقة، استطاع بها المخ أن يطور من قدراته ويرتقي بها بحيث يمكنه التقاط القسمات المشتركة من مصادر كثيرة ومختلفة للمدخلات الحسية. وهذه هي على الأرجح الطريقة التي يقوم بها ما سميناه مدير حلبة السيرك داخل العقل؛ حيث يقوم بتجميع القسمات أو المدخلات وتنسيقها وتفسيرها.

ولكن ماذا يحدث حين يتجه هذا المدير المنسق بقدراته الترشيدية نحو ذاته؟ إنه يصبح مدركًا لما يسمى «الأنا» في داخله. وهكذا نشأ لدى المرء إدراكه بذاته. إنها حالة خاصة للإدراك — أو لاستبيان القسمات — وليس معنى هذا أن ما سميناه مدير الحلبة المنسق هو «النفس». إنه قدرة عقلية تخلق وهمًا بوجود نفس؛ أي إن النفس شيء سائد ومنتشر في كل أنحاء العمليات التي يتألف منها العقل على نحو يشبه انتشار عملية إدارة البرنامج، الذي ينسق بين جميع عناصر النشاط داخل الكمبيوتر.

ولنتذكر هنا ما سبق أن قاله هيرقليطس: «إنك لا تنزل النهر مرتين لأن الماء يجري من حولك أبدًا.» وقد أعدنا صياغتها قائلين: «إنك لا تنزل الغدير مرتين.» لأن النفس أو أنت تتغير دائمًا وأبدًا. وهكذا نقول إن النفس ليست شيئًا أو كينونة بل هي عملية تحتفظ بحس ظاهر بالهوية، حتى مع تغيرها في تواطؤ أو تضافر مع كل شيء حولها سواء داخل العقل أم خارجه.

وهذا هو معنى أن يكون الكائن إنسانًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤