الذكاء والثقافة واللغة

يمثل الذكاء القسمة الباطنية الأساسية للمخ/العقل البشري؛ إذ هو الذي يجعلنا نعالج مظاهر التعقد في التفاعل البشري ونبني فوقها. وثمة قسمة خارجية هي المقابل الثقافي للذكاء الباطني الفردي. وهذه القسمة هي ما نسميه الذكاء الجمعي الخارجي Extelligence. وهذا الذكاء الخارجي الجمعي هو رأس المال الثقافي المتاح لنا في صورة أساطير قبلية، وتراث شعبي (فولكلور) وحواديت وكتب وشرائط فيديو … إلخ، ولكنه ليس مجرد سجل للاحتفاظ بهذه الموضوعات؛ ذلك أن الذكاء الباطني الفردي Intelligence يسمح لهذه الموضوعات بالاندماج في مجموع عناصر الذكاء الخارجي الجمعي، بل يضيف إليها ويغيِّرها. وناقش عديد من الفلاسفة هذا التواطؤ أو التضافر والتفاعل بين العاملين: الذكاء الباطني الفردي والذكاء الخارجي الجمعي. ونذكر من هؤلاء الفلاسفة كارل بوبر في كتابه «العالم الثالث»، وتلهارد دو شاردان Teilhard de Chardin في دراسته عن المحيط العقلي Noosphere، وغيرهما. بيد أننا نختلف عنهم في نظرتنا إلى الكلمة العامة «الثقافة»؛ ذلك لأننا ننظر إلى التأثير الخارجي من وجهة نظر كل فرد متورط في عملية التفاعل.

ولكن الذكاء الخارجي الموجود في كل العالم لا فائدة منه دون الذكاء الباطني الفردي لكي يستعمله؛ أعني أننا دون الذكاء الخارجي الجمعي سنرتد نحن البشر إلى إنسان الكهف، وإننا على ما نحن عليه بفضل التضافر أو التواطؤ والتفاعل الواضحَين بين الذكاءين؛ فالذكاء الباطني الفردي يبتكر، ولكنه عاجز عن أن يتذكر ما ابتكره على نحوٍ موثوق ومعتدٍّ به. والذكاء الخارجي الجمعي يمكنه أن يتذكر، ولكنه إجمالًا لا يبتكر. أو بعبارة أخرى الذكاء الخارجي الجمعي يختص بمعالجة المعلومات، أما الذكاء الباطني الفردي فيختص بالفهم. إن الذكاء الخارجي الجمعي هو ابتكار أفضى إلى أن تحول البشر أنفسهم من خلاله إلى ما هم عليه. وجعل أيضًا من العسير عليهم تجنب إحداث هذا التغيير. وهكذا ابتكر البشر الذكاء الخارجي الجمعي وأيضًا هم من ابتكاره. ويتجلى هذا الذكاء الخارجي الجمعي في خاصيتين تميزان الإنسان: أولاهما رعاية وتربية الطفل الوليد لمدًى هو الأطول بين سائر الحيوانات، وثانيتهما اللغة.

ويدور حوار بشأن الإجابة عن سؤال: هل اللغة أسبق من الإنسان عند الإنسان أم العكس؟ والملاحظ أن حيوانات أخرى غير الإنسان تكشف عن وجود ذكاء لديها دون لغة، وأن اللغة لا فائدة فيها دون ذكاء يساعد على تعلُّمها واستخدامها. ولكن هذا لا يعني بالضرورة أن الذكاء هو الأسبق. ونجد رأيًا آخر يرى أن ابتكار الأشكال الأولى من اللغة حفز عملية الزيادة المطردة في الذكاء. ونعتقد أن النظرتين صحيحتان حيث كل من الذكاء واللغة يحفز الآخر في عملية متضافرة من التطور التفاعلي المشترك.

وتكشف عملية التضافر أو التواطؤ هذه عن قسمات كلية شاملة تتمثل في ظهور أنماط جديدة، وقواعد جديدة، وعمليات جديدة حتى ولو في شكل بدائي. وهذا هو ما حدث بالنسبة للغة والذكاء. وتسمح اللغة باختزان الخبرة في الذكريات لدى البالغين والكبار لينقلوها بلغتهم إلى الصغار. وهكذا تصبح الخبرات الجمعية للقبيلة معجمًا ثقافيًّا مختزنًا لدى الناس المحيطين بالطفل. ويمكن لهذا السياق الثقافي أن ينمو ويزداد عند الطفل؛ حيث يضيف كل جيل معارف جديدة واكتشافات جديدة خاصة به تنتقل إلى الجيل التالي وتضاعف من قدراته. ويؤكد ستيفن بينكر Steven Pinker في كتابه «غريزة اللغة» أن البشر لديهم نزوع فطري للغة؛ أي لديهم قدرة فطرية على معالجة الدلالات والتراكيب اللغوية، علاوة على نمط لغوي فطري يشبه «النحو العميق» الذي حدثنا عنه نعوم شومسكي.
ونحن نعتقد أن هذه القدرات الفطرية ظهرت لدى البشر، ولكن لا بد وأنها تطورت عن وضع أكثر بساطة ونطرح هنا فكرة أن الحيل والاستجابات من الأم إلى وليدها ظهرت كخاصية مميزة لدى بعض الجماعات البشرية البدائية. ويدعونا إلى هذا الظن فيما كشفت عنه سجلات الحفريات؛ إذ تشير إلى أن الإنسان منتصب القيامة Hormo-erectus تطور إلى إنسان عاقل Homo Sapiens بصورة مستقلة في أنحاء كثيرة متباعدة. ومن هنا انتشرت الحيل الاجتماعية في علاقة الأم مع وليدها بين جماعات مختلفة، قبل أن تبدأ غريزة اللغة في التطور.

ونزعم أن المخ طور قدرات رفيعة المستوى مثل الوعي بهدف معالجة مشكلة استبيان القسمات المميزة، واستطاع من خلال ذلك اكتساب العمليات المتشابكة المتداخلة في بنية واحدة، والتي نسميها العقل، والملاحظ أن الحيوانات الأخرى تعتبر من أهم القسمات المميزة لبيئة الإنسان البدائي. ولهذا يكشف المخ البشري عن قدرة على الانحياز تجاه إدراك الحيوانات وكأنها صور وقسمات مميزة. ولهذا أيضًا تسود صور الحيوانات في ثقافة الشعوب فيما تحكيه من قصص وخرافات.

إن كل عقل من عقولنا، أو كل معجم داخلي، إنما تأسس على نحو مختلف عن الآخر داخل المخ ومن خلال ارتباطات عصبية مغايرة. «إنني أعرف ما أقول، ولكنني لا أعرف ماذا تسمع». وهذا الاختلاف أو التغاير هو الأساس الذي قام عليه مجتمعنا وانبنت عليه حضارتنا. ولعل من مظاهر المفارقات أن الطبيعة غير الدقيقة للنزعة الرمزية اللغوية إنما تعزز بالفعل قدرتنا على خلق ذكاء خارجي جمعي جديد، تمامًا مثل التحولات العشوائية أو محاكاة الأخطاء التي تجعل الأنماط الوراثية الظاهرية مهيأة لإمكانات تطور جديدة. كذلك فإن استنساخ الأخطاء الذهنية يمكن أن يوحي بأفكار جديدة. معنى هذا أن الذكاء الخارجي الجمعي يمكن أن يوحي بأفكار جديدة؛ إذ إنه ليس مجرد وعاء حافظ أو أرشيف، بل إنه يعمل في الاتجاهين الحفظ والمساعدة على الابتكار. إنه قابل للمعارف البشرية، وقوة حافزة مؤثرة على سلوكنا.

والذكاء الخارجي الجمعي أكثر من اللغة ذاتها. ولكن اللغة هي أهم ابتكار حفز إلى ظهور وانطلاق الذكاء الخارجي الجمعي. وتمثل الطقوس الثقافية الاجتماعية عنصرًا آخر من مكوناته، بحيث يمكن القول إننا نتحكم في تطورنا الخاص عن طريق تحكمنا في ثقافتنا. وتشكل جميع المؤثرات الخارجية التي ترمز إليها اللغة والطقوس القالب الذي يصب فيه المجتمع الطفل، ويتكون منها الذكاء الخارجي الجمعي بحيث يصبح الطفل عضوًا اجتماعيًّا فاعلًا مع كل مرحلة من مراحل نموه. وهكذا يتأكد التطور المشترك المتضافر بين ما هو موروث وما هو سياق بيئي محيط بالكائن الحي والتفاعل الثقافي في المجتمع.

إن عقولنا تطورت لزومًا في إطار حلقة لا انفصام لها تربطها بالثقافة واللغة. والعقل ليس مجرد استجابة من المخ الذي نعرفه في صورته المتطورة، ويحاول التعامل مع بيئة مركبة، بل هو عملية تطور مشتركة. وهذا ما يجعلنا نسأل هل الكون من حولنا صورة من نسج خيالنا؟ أم أن عقولنا صور من واقع حقيقي ومطابقة له؟ ويبين لنا أخيرًا أن الإنسان — عقلًا وثقافة وتكوينًا وراثيًّا — هو عملية في تغير مطرد. ونعود لنقول إن الإنسان لا ينزل الغدير مرتين لأنه متغير أبدًا وليس الماء، ثم يبقى سؤال: وماذا عن المستقبل؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤