البداية

تعود بداية الحياة إلى الغبار النجمي؛ إذ تكونت الجسيمات في صورة ذرات، والذرات في صورة جزيئات.

ولكن كيف تولدت هذه المرونة الخصبة للحياة عن المادة غير العضوية وغير الحية؟ خرجت الحياة من الموات تدريجيًّا؛ فمنذ بلايين السنين كانت الأرض مكانًا مختلفًا تمامًا عما هي الآن. كانت أرضًا جرداء تغطيها الرمال، وتتصاعد منها غازات الكبريت، والمحيطات غشاء مائي وقد تحللت بداخلها مواد كيميائية مذابة من الصخور. إذ كانت جميع المواد الكيميائية التي نعرفها اليوم موجودة آنذاك. معنى هذا أن الذرات التي يتألف منها عالم اليوم هي ذات الذرات التي كانت موجودة في البدء. هذا علاوة على ما يتساقط على الأرض من بقايا الشهب أو ما يصل إلى سطحها من تسربات غازية. والفارق بين أرض الماضي وأرض اليوم ليس في الذرات، بل في الجزيئات. إنها أكثر تنوعًا وأعقد تنظيمًا.

والجزيء منظومة من ذرات مترابطة بفعل قوًى مشتركة بين الذرات Interatomic Forces والتي تسمى روابط. ولكن يضاف إلى هذا أن الجزيئات تختلف عن الذرات من حيث إن بإمكانها أن تصبح أكثر تركيبًا؛ ذلك أن الذرات وحدها لا تنتج أنماطًا جديدة من ذرات غير مسبوقة حتى وإن كان بعضها يمكن أن تطرأ عليه تغيرات عن طريق التفاعلات النووية حيث تتحول ذرة اليورانيوم إلى ذرة رصاص على سبيل المثال. ولكن يمكن للذرات أن تنتج أنماطًا جديدة تمامًا من الجزيئات عن طريق الجمع بينها بوسائل جديدة. وتستطيع هذه الجزيئات أن تستمر في إنتاج جزيئات جديدة. وهذه عملية مطردة حتى الآن. ولهذا نرى أن مجموع الجزيئات المعاصرة مختلفة تمامًا عن جزيئات الماضي السحيق. مثال ذلك أننا اليوم لدينا جزيئات ضخمة مثل جزيئات البروتين وجزيئات الدنا DNA التي لم تكن موجودة منذ بلايين السنين. وتتسم هذه الجزيئات بالتعقد والتنظيم معًا. إذ إنها بمثابة آلات؛ بمعنى أن لها خاصية أساسية هي القدرة على أداء وظائف عن طريق التفاعلات فيما بين بعضها البعض؛ أي تؤثر وتغير.

وليس معنى هذا أن لها هدفًا؛ فأداء الوظيفة غير التحرك نحو غرض مقصود. وإنما هي تؤدي وظيفة لأن هذه طبيعة تكوينها ولا تكف عنها. ومعنى هذا أيضًا أنه منذ بلايين السنين كانت هناك الذرات نفسها، ولكن لم تكن هناك التركيبات والتآلفات المنظمة نفسها على نحو ما هي عليه الآن في صورة جزيئات. ونصف عادة الجزيئات المركبة التي تتشكل داخل الأجسام الحية الأولية وغيرها مثل الفيروسات بأنها «جزيئات عضوية». ونعرف الآن أن الكربون هو الذرة التي هيأت إمكانية تكون جزيئات عضوية، ذلك أن ذرات الكربون لها قدرة على التلاحم مع بعضها لتكوِّن هياكل ضخمة مستقرة بحيث يمكن أن تلتصق أو تلتحق بها ذرات أخرى. معنى هذا أن الكربون ضروري لنوع الحياة على الأرض، وليس بالضرورة لأي شكل آخر من أشكال الحياة. ومعنى هذا أيضًا أن ما نسميها الحياة هي نوع من التنظيم الذي يمكن نظريًّا أن يتنوع.

وتبدو الحياة مختلفة تمامًا عن المادة غير العضوية من حيث إمكانية الحركة الإرادية والتوالد أو التكاثر واستهلاك مواد أخرى، والاستجابة للبيئة. إننا نحن البشر تكوَّنَّا من الذرات نفسها التي تكونت منها الصخور والماء والهواء، ولكن الفارق هو كيف انتظمت في البدء.

ويمثل جزيء الدنا DNA، أو على الأصح عائلة من الجزيئات المتماثلة للغاية، الأساس لكل الحياة على الأرض. ويشكل جزيء الدنا المادة الجينية لجميع الكائنات العضوية تقريبًا، وحري بنا أن نمايز هنا بين الاستنساخ المتطابق Replication أي إنتاج نسخ متطابقة وبين التناسل أو التكاثر Reproduction أي إنتاج نسخ متشابهة؛ أعني متشابهة على نحو يمكنها من أن تتناسل. والمعروف أن الدنا تتناسخ أي تنتج نسخًا متطابقة، ولكن عند حدوث خطأ عارض في الاستنساخ يحدث تحول أو طفرة، وبهذا لا يكون الوضع استنساخًا بل تكاثرًا.
والمعروف أن الدنا جزيء لا يكرر ذاته إلا بمساعدة جزيئات أخرى كثيرة غيره نسميها الرنا RNA الناقل والرسول والإنزيمات. معنى هذا أن الدنا بحاجة إلى فريق داعم أو معاون لكي تتضاعف. علاوة على هذا فإن جميع الجزيئات تحتوي على معلومات — مثال ذلك أوضاع ذراتها. والمعلومات المتضمنة في الرنا ترجع إلى أنها معلومات مختزنة في صورة تسمح بأن تعالجها وتؤثر فيها الآلات الكيميائية الأخرى.
والعملية التي تسمح للرنا بان تتضاعف أو تتكرر هي دورة أخرى ارتدادية ذاتية الحفز Autocatalytic. إذ هنا فقط مجموعة من الجزيئات التي تحفز ذاتها. وتحتوي الرنا على المعلومات المحددة للجزيئات الداعمة للفريق الذي يساعد الرنا على تكرار نفسها، كما تساعد الرنا في تكرار فريقها الداعم. وعلى الرغم من أن الحلقة التي تشكلها الرنا وفريقها الداعم هي في مبدئها تكرارية، إلا أنها في التطبيق العملي تكاثرية أو تناسلية. ويتم هذا من خلال عملية شديدة التعقيد مما يهيئ فرصة لوقوع أخطاء كثيرة. وتتميز المنظومات التكاثرية بقابليتها للتغير على عكس المنظومات التكرارية. ولهذا نجد أن التكاثر ينطوي على عامل المرونة؛ مما يسمح بإنتاج الفروج من بيضة غير بيضة الدجاجة.
وتؤدي هذه الإمكانية إلى التطور، ولكن كيف بدأت الانطلاقة الأولى لعملية تكرار الرنا؟ هناك إشارات إلى وجود سوالف محتملة بهذه العملية. وظهرت اقتراحات مختلفة في محاولة تفسير ذلك؛ مما يشير إلى عديد من الحلول المعقولة لهذه المشكلة المعقدة التي تحاول بيان كيف بدأت الحياة عملها على طريق التكاثر. أحد هذه الاقتراحات يحدثنا عما يسمى عالم الرنا RNA World. والثاني يحدثنا عن الغرين أو الطمي وقال به جراهام كيرنس-سميث Graham Cairns Smith. والثالث مفهوم شبكة من جزيئات ذاتية الحفز، وقال به ستورات كوفمان Stwart Koffman. أما الرأي الخاص بعالم الرنا فيحدثنا عن فترة افتراضية من تاريخ التطور لم تلعب فيه الرنا دورًا تكراريًّا أي في تكرار الأشكال الحية الأولية، وإنما كان جزيء الرنا وهو الأبسط في تكوينه هو محور مسرح التفاعل. وأدت التنوعات في عمليات التفاعل هذه إلى توفر جميع المواد الخام اللازمة للحياة سواء القائمة على أساس الدنا أو الرنا. وظهر هذا الرأي لأول مرة في ثمانينيات القرن العشرين عندما اكتشف توم شيك Tom Cech وسيدني ألتمان Sydney Altman وجود جزيئات خاصة من الرنا نسميها الآن الريبوزمت Ri-bozymes، وتعمل هذه كحافز داخل التفاعلات.
وفي مايو عام ١٩٩٦م اكتشف الكيميائي جيم فيريس Jim Ferris وسيلة يمكن القول إنه تكونت فيها جدائل Straids طويلة من الرنا في البيئة البدائية. إذ تبين أنه إذا أضاف نوعًا من الطين إلى مزيج كيميائي تتكون على السطح سلاسل طويلة من الرنا، ونحن نعرف أن الطمي مركب معقد من الألومنيوم والسليكون والأكسجين والماغنسيوم والكالسيوم والحديد وعناصر أخرى كثيرة. ويمكن أن يتحلل في الماء ويتسرب ثانية. وتؤدي أشكاله البلُّورية بمساعدة عناصر أخرى إلى ظهور تكوينات غريبة الشكل، والتي يمكن أن تكون بمثابة قاعدة لإنتاج أشكال أخرى من النوع نفسه. ولعل الطين أو الصلصال أقرب شيء على الأرض لصور الحياة القائمة على قاعدة من السليكون. وأدرك كيرتز سميث أن مكونات الكربون تلتصق بشكل طبيعي بأسطح بلورات الطين، وتحفز التفاعلات العضوية. وتحفز أساسًا عمليات البلمرة أو تضاعف الأصل Polymerisation وهي العمليات التي تنضاف فيها الجزيئات التي من نوع واحد إلى بعضها لتكون سلاسل طويلة وهياكل أخرى. ويمكن أن تتحول الأحماض الأمينية من خلال هذه العمليات إلى بروتينات، كما يمكن أن ترتبط القواعد البسيطة ببعضها البعض ليتشكل الرنا أو الدنا أو أحماض نووية أخرى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤