وسائل ناجحة

لتبدأ رحلتنا الآن من الجزيئات إلى العقول. إنها رحلة تنطوي في كل مرحلة من مراحلها على مفهوم التطور. والتطور آلية عامة تتحول خلالها النظم «تلقائيًّا» إلى تنظم أكثر تعقدًا، وأكثر تعضيًا وتنظيمًا، وأكثر إثارة من حيث قدراتها. ويمكن النظر إلى عملية التطور نظرتنا إلى لعبة تتناول أشكال وسلوكيات الكائنات العضوية، وتؤثر أيضًا على القدرات الحسية والإدراكية البشرية.

ثمة صورتان عن التطور: صورة تعرضها الكتب الدراسية والتي تركز على الجينات. وصورة بيئية تركز على السياق البيئي وما ينطوي عليه من ديناميات طارئة … وتذهب الكتب الدراسية إلى أن جميع الحيوانات تنسل؛ أي تنتج ذرية كثيرة العدد جدًّا أكثر مما تستطيع تربيتها. وإن الذرية التي تجد الفرصة للتربية هي التي تهيئ المجال للجيل التالي لها. وهناك عدد من الصفات المحيطة مثلما يكمن الفأر ساكنًا حين يقترب منه القط. وطبيعي أن توارث الصفات الناجحة يهيئ للذرية فرصة النجاح في الحياة وإن كان ليس بالضرورة أن تنجح. وتترسخ هذه الخصال مع مرور الأجيال التي يكثر عددها وتكون لها الغلبة لما تتحلى به من صفات تميزها. وهذا هو الانتخاب الطبيعي الذي يكفل للأجيال الباقية جينات جيدة نافعة.

ولكن الصورة والدينامية الطارئة، تؤكد على الكائنات العضوية أكثر مما تؤكد على الجينات. وترى في العملية التي تعرضها الكتب الدراسية أسلوبًا معقدًا في وصف شيء أكثر بساطة: دينامية الفضاء المرحلي Dynamics of phase space. وترى هذه النظرة أن الكائنات العضوية تتغير لأن جغرافية الفضاء المحيط بالاحتمالات الممكنة يفرض التغير حتمًا. وأن الدينامية طارئة في نشأتها؛ أي نشوء طارئ وليست جاهزة مكتملة وإلى الأبد، كما وأن الفضاء المرحلي يتغير في تضافر معها.
وتركز هذه النظرة على أمور كثيرة مختلفة. إذ بدلًا من التركيز على تنافس الكائنات العضوية على أكبر عدد من الجينات التي تنقلها إلى ذرياتها، تركز هذه النظرية البديلة على الكيفية التي يوفر بها الوالدان لذريتهما البداية الأولى التي يبدآن بها، علاوة على كيفية تنافس الأشقاء في سبيل الحصول على ميزة النمو والنضج … وسبق أن أشار داروين إلى حدة التنافس بين الأشقاء. والملاحظ أن هذه المنافسة — سواء فيما بين الأنواع أم بين أفراد النوع الواحد — تؤثر على أجيال المستقبل. معنى هذا أن ثمة عاملًا وراثيًّا ينتقل من جيل إلى الجيل الذي يليه. ويتوفر لهذا النظام بالضرورة «تنوع من الذاكرة» بشأن ما يفعله. وتحدث داروين عن هذا العامل المورث ولكنه لم يعرف ما هو. ولكننا الآن نعرف أنه المادة الجينية الأساسية الدنا. ونحن نقول عامل التنشئة، وأن الحيوانات التي تبقى على قيد الحياة لتلد الجيل التالي هي «الأكثر ملاءمة من الناحية الجينية». ونحن نطلق على الإمكانات البديلة للجينات أو الفوارق الجينية Genetic differences اسم الأليلات alleles؛ أي الصبغات الوراثية المتضادة الصفات. وهنا نجد أن الانتخاب الطبيعي يفضل بعضها على غيرها، ويمكن أن تُثبت هذه الأليلات أفضليتها في التلاؤم إذا هيأت للكائنات العضوية الحاملة لها قدرة أكبر على إبراز نفسها في الأجيال التالية.
ويرى بعض البيولوجيين، ومن أشهرهم ريتشارد داوکينز Richard Dawkins أن الدنا هي القاعدة الدافعة للتطور. وتُعرف هذه النظرة باسم الدارونية الجديدة، ويذهب أصحاب هذا الرأي إلى أن الدنا الخاصة بالكائن ليست هي تمامًا التي تحسِّن فرض البقاء عن طريق جعل الكائن في وضع أفضل. ويمكن أن تزيد الأليلات من فرص ظهورها في الجيل التالي عن طريق تعزيز القدرة على البقاء بالنسبة إلى أنسبائها دون المنتجين الفعليين لها. وخير مثال على ذلك الشغالة في مملكة النحل التي لا تبيض. ولهذا فإننا حين نحسب مدى ملاءمة الأليلات، لا بد وأن نضع في الاعتبار جميع النسخ ذات الصلة بها، وليس فقط ما يتعلق بها داخل كائن عضوي بذاته.

وتمثل الخميرة كائنًا عضويًّا ذا دلالة مهمة؛ ذلك أن الخميرة خلية ذات نواة حقيقية، وتتكاثر جنسيًّا؛ لذلك فهي خير ما يمثل بقية الأنواع من الخلايا ذوات النوايا الحقيقية بما فيها البشر. ويفضلها علماء الوراثة لأنها تتكاثر سريعًا، ويمكن عمل مزارع منها بسهولة. والمعروف أن الخميرة بها حوالي ستة آلاف جين، من بينها ٤٠ بالمائة غير معروف وظيفتها، ولا تشبه في شيء أي جين نعرفه. ويعكف الباحثون على دراستها واستكشاف دورها.

وتبين، على عكس ما كان سائدًا من قبل، أن قطعان الأنواع تشتمل على نطاق واسع جدًّا من الأليلات المختلفة؛ ومن ثم لا يوجد «مخطط أساس» للحمامة أو للطاووس مثلًا بحيث لا يسمح إلا بقدر ضئيل من التباينات؛ بل إن كل طائر له مخطط مختلف موضوعيًّا عن أقرانه. ويهيئ هذا فرصًا كبيرة للتغيرات المحتملة، خاصة بالنسبة للكائنات التي تتكاثر جنسيًّا وأولها البشر. وبات واضحًا أن جميع هذه الجينات لا يكشف عن فارق واضح بالنسبة لشكل الطائر أو حتى سلوكه في ظروف الحياة العادية. ولكن الأحداث غير العادية والشاقة والمجهدة هي التي تفضي إلى ظهور نتائج دقيقة لهذه الفوارق؛ مثل الأمراض الفيروسية التي يتعرض لها الحيوان؛ أو سلوك الحيوان مع اختلاف درجة الحرارة، أو قدرة الزرافة على العدْو عند محاولة افتراسها. ولا يزال أثر الأليلات هنا خافيًا: إذ لا يتضح لها أثر أو نتيجة في أغلب الأحيان، ولكن عندما تتغير الظروف يظهر أثرها. وجدير بالملاحظة في هذا الصدد أن النمط الظاهري Fhenotype (هيئة الجسم والسلوك) يتوقف على النمط الوراثي Genotype (الرنا). وإن إحدى النتائج المترتبة على ذلك نعرفها باسم التمثيل «التمثيل الجيني» Genetic as-similation. وكان الرأي التقليدي أن الجينات تؤثر على النمط الظاهري وليس العكس. ولكن نعرف الآن أن هيئة وسلوك الكائن العضوي يؤثران على قدرات الكائن على البقاء؛ ومن ثم يؤثران على الجينات التي تنتقل إلى نسله. ويؤدي هذا إلى نشوء علاقة تغذية عكسية feedback من النمط الظاهري إلى النمط الوراثي. ولكن هذا لا يظهر في الفرد بل في الذرية على المدى الطويل. وهكذا يمكن للزرافة التي تجري بأقصى سرعة لها بساقيها الطويلتين، يمكن أن تفضي حياتها وحياة أجيالها إلى تطور قطيع أقدر على مواجهة هذا الجهد.
ومن المناسب أن نحكي هنا قصة واضحة الدلالة هي قصة التطور وحكاية حواء «الأنثى الأولى» الميتكوندرية Mitochondria نسبة إلى أجسام مجهرية شبه صلبة موجودة في سيتوبلازم خلايا أغلب الكائنات العضوية الحية ومؤلفة من بروتين ودهن وتحتوي على إنزيمات مسئولة عن إنتاج الطاقة القابلة للاستعمال. ونذكر هنا بإيجاز فكرة عن شجرة عائلة تطور الإنسان العاقل Homo Sapiens؛ أي نحن الإنسان الفرد ذو الامتياز. ومعروف أن جميع الآثار الشاهدة على أن الكائنات الأولى الشبيهة بالإنسان Homonids كانت موجودة في أفريقيا والصين وجاوة، وأن أقدمها كان في أفريقيا.
وتفيد النظرية السائدة بأن البشر تطوروا في أراضي السافانا حيث الحاجة إلى البقاء، على الرغم من أن الوحوش المفترسة ساعدت على سرعة نمو الحواس والمخ … ولكن تواجه هذه النظرية مشكلة ألا وهي افتقار منطقة السافانا للمواد الكيميائية اللازمة ليتكون منها المخ، وهي الأحماض الدهنية الأساسية essential Fatty acids. لذلك ظهرت نظرية بديلة هي «الإنسان القرد المائي» Aquatic ape التي قال بها أليستر هاردي Alister Hardy وإلين مورجان Elaine Morgan ثم طورها غيرهما. وتفيد هذه النظرية أن البشرية نشأت وتطورت على شاطئ البحر. إذ هنا تتوفر الأحماض الدهنية الأساسية في الأطعمة البحرية. ولكن يعيب هذه النظرية أن شواطئ البحار ليست أماكن ملائمة للاحتفاظ بالحفريات. وهكذا لا توجد شواهد حاسمة.
ولكن أيًّا كان المكان الأول؛ فالذي لا شك فيه أننا من جنس الشمبانزي، وأن أقرب أقربائنا هي الشمبانزي العادية المعروفة باسم بان تروجلودايت Pan Troglodyte وكذلك الشمبانزي المعروفة باسم بان بانيسكوس Pan Paniscus.
ونحن وراثيًّا؛ أي من الناحية الجينية، قريبو الشبه جدًّا من الشمبانزي؛ فالطاقم الوراثي أو الجينوم genome عند البشر والشمبانزي يشتمل على ٩٨ بالمائة من المكونات الأساسية المشتركة بينهما. وثمة اتفاق عام بأن نسل البشر انفصل عن نسل الشمبانزي منذ حوالي خمسة ملايين سنة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤