الذكاء والبيئة

ولكننا نلتمس قصة بديلة عن التطور البشري موازية لا مناقضة لتلك التي أسلفنا الإشارة إليها. والقصة البديلة قصة كائنات عضوية وثيقة الصلة ببيئتها، وليست مجرد خلايا مرتبطة ببعضها. تفترض هذه القصة بإيجاز أن أقدم الخلايا في صورة بيضة تباينت مع بعضها من حيث كمية المادة والطاقة المودعة فيها، شأن خلايا الجسد اليوم. واحتفظت الأنثى بالبيضة داخلها حيث جرى تخصيبها في رحمها حفاظًا عليها من الضياع أو الابتلاع من كائن مفترس. ونجد هذا في عديد من الأسماك والطيور. وتبدأ البيضة تطورها داخل رحم الأم. وتفيد البيضة بوجودها داخل الأم بالجهاز العصبي للأم. كما يفيدها هذا الوضع لحمايتها من تقلبات الجو، ويعفي الأنثى من تكوين كمية كبيرة من المح أو صفار البيض الذي تغتذي عليه البيضة حين تتطور خارج الأنثى. وهذا ما تفعله الحيوانات المولودة التي لا تبيض إذ تحتفظ بالجنين داخلها حتى يحين موعده ويكون مهيئًا للخروج.

وخلق البيض الحاجة إلى الأوكار، وخلقت الأوكار الحاجة إلى التعلم مما أدى إلى ظهور شكل بدائي للثقافة. ونلاحظ في فصائل الكلاب البرية على سبيل المثال أن الأنثى تلد الجراء، ولكن تربيها وترعاها جميع أفراد القطيع. وهنا يصبح من المهم أن يتعرف الكلب الوليد جماعته التي لها نداءاتها وطقوسها السلوكية الخاصة، التي تتعلمها الجراء من خلال علاقاتها أثناء نموها. وهذا شكل لثقافة كلبية، إذا جاز القول، ونوع جديد من الوراثة التي تنتقل عبر أعضاء الحس ليتميز بها المخ. ولكن الثدييات، التي تولد وقد تحقَّق لها قدر من النمو في الرحم لا نجد عندها هذا الضرب من الإرث الثقافي؛ إذ الملاحظ أن الرئيسات حولت ذلك الأسلوب إلى أسلوب حياة؛ ذلك أن حيوان البابون والشمبانزي تحظى بقدر كبير من اهتمام القطيع، مع فترة تعلُّم حتى البلوغ، وهذا هو ما يحدث بشكل أكثر تعقدًا عند الإنسان. ويمثل هذا الانطلاقة الأولى في سياق بيئي.

وتمثل البيئة إطارًا أو قيدًا لا فكاك منه إلا بتغير البيئة ذاتها. وحيث إن البيئة لا تتغير بالنسبة إلى الحيوان في جيله، أو لا يغيرها الحيوان وينتقل إلى غيرها، فإنها تصبح قاعدة أساسية للسلوك ومراحله. وهذا السلوك ومراحله يؤثران على فسيولوجيا الحيوان من حيث هو نوع وعلى جهازه العصبي ويبدو سلوكًا ومراحل مبرمجة. وهكذا يكون المخ بما استودعه وباستجاباته أداة للفوز في إطار بيئي مطرد. وطبيعي أن المخ المهيأ لأداء أعمال عديدة متنوعة هو الأقدر على مواجهة الاحتمالات المختلفة للبيت؛ ومن ثم يشتمل على نطاق واسع من السلوكيات. وتنتقل هذه الإمكانية من جيل إلى جيل عبر عملية تكرارية. معنى هذا أن الخصائص الوراثية وكذا النمو والسلوك لا بد وأن تكون جميعها متلائمة ومتسقة مع بعضها في انتقالها من جيل إلى جيل بطريقة مستقرة قابلة للتكرار.

ويساعد المخ بتكوينه هذا على تيسير عملية الانتقال واطرادها؛ إذ يمكِّن الكائن من أن يعدل ويلائم سلوكه بحيث يتناسب مع التغيرات أو الأخطاء، أو بمعنًى أدق يهيئ للحيوان المرونة اللازمة. ولهذا نقول إن المخ من زاوية تطورية أساس جيد أو ركيزة يعتمد عليها. وكلما كان المخ مهيئًا أكثر لأداء أعمال متنوعة أكثر عددًا، أصبح الحيوان أقدر على أداء سلوكيات عديدة متنوعة.

وتظهر البوادر الأولى للذكاء عندما يتجاوز جنس الحيوان الأسلوب القائم على التحايل إلى أسلوب أصيل في تنوعه وقدرته على أداء أغراض متعددة. ولكن من الأهمية بمكان ملاحظة أن الذكاء لكي يظهر ويتطور، لا بد وأن يكون هناك شيء في البيئة لكي يكون الكائن الحي ذكيًّا بشأنه؛ ومن هنا نرى أن الفضول المعرفي أو حب الاستطلاع وثيق الصلة بالذكاء. ونذكر هنا كمثال حال القط إذ يسعى لاستطلاع ما حوله ولكنه لا يفعل إلا حين يكون إزاء مشكلة أو ما يمثل له مشكلة يريد أن يعرفها. وهنا يتأكد دور السياق البيئي علاوة على الوراثة في تواطؤ وتفاعل مشترك. فليس تطور الذكاء مجرد تكاثر خلايا عصبية حيث يكبر المخ بمعزل واستقلال؛ وبالتالي يتعدد ويتعقد السلوك؛ كأن الأمر لا يتعدى كمبيوتر صغيرًا وآخر كبيرًا، وأن التطور سار تلقائيًّا بيولوجيًّا من الخلية العصبية حتى وصل إلى ألبرت أينشتين؛ إذ إن مثل هذا الرأي، الذي تقول به النظرة الاختزالية البيولوجية إنما تفتقد الدور الحاسم للسياق البيئي. وأهم سياق هو السياق الاجتماعي. وأهم ميزة يقدمها الذكاء هنا أنه يساعد الكائن الفرد على التعامل مع أفراد نوعه وما بين المجموع من تنافس علاوة على القدرات والإمكانات الذاتية التي توفرت لديه.

وإذا كان تطور ذكاء الثدييات رهنًا بالسياق البيئي فإنه يبدأ مع الأوكار أو الأعشاش؛ بمعنى أنه لا يبدأ انطلاقًا من الخلية العصبية بل من المخ أو صفار البيض أول بيئة تحيط به ويغتذي عليها. إن الطريق إلى أينشتين طريق مرسوم بالتفاعل المتضافر بين ميزات التطور المتضافر للذكاء بالنسبة لصغار الثدييات داخل العش أو المأوى حيث يهيئ الوضع الآمن إمكانية التعلم بطريقة المحاولة والخطأ في ضوء تعليمات الأم. ويمثل انتقال المعلومات عن طريق التعلم الأرضية التي تجري عليها عملية تطور النية الاجتماعية، والتي من شأنها أن تجعل العش نوعًا من التزيد. ونجد هنا، وحتى بلوغنا، المجتمع الإنساني خطًّا مستقيمًا؛ إذ يبين لنا الأساس لذكائنا ليس الشبكات العصبية وحدها، وإنما معها المأوى العصبي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤