قسمات كبيرة وصغيرة

عقول البشر لها دور يتجاوز حدود التعرف فقط على أجزاء وقطع من الكون المحيط بنا؛ ذلك أنها تبحث عن أنماط تتعرفها، وتعرف من خلالها الموجودات. وهكذا تبذل جهدها لفهم كيف يكون الكون، وكيف يعمل؟ ونظرًا لأن الكون شديد التعقد، فإن العقول تبسطه توخيًا لفهمه. وأيسر طريقة لفهم شيء هي إدراكه ككل شامل. ويستلزم هذا الإدراك نوعًا من التبسيط أو لنقل المعلومات والبيانات المضغوطة أو المدمجة؛ ولهذا فإن المخ ينظم مدركاته عن العالم في مقطعات أو أجزاء نسميها «هيئات أو قسمات». وهذه قدرة لها تاريخها التطوري الذي يجري في تلازم مع السياق البيئي، علاوة على البيئة الباطنية للمخ.

إن المخ لا يصور العالم الخارجي كما هو في الواقع، بل في صورة نموذج من «المقطعات» التي تبرز فيها أنماط معينة من المنبهات التي تستثير الانتباه ثم يجري تفسيرها بأنها هي الشيء ذاته. وتبرز هذه المقطعات منفصلة أو متمايزة عن بقية ما حولها؛ لأن المخ الذي يدركها طور أجهزة استبيان لمثل هذه المنبهات أو ما نسميه القسمات؛ ومن ثم فإن القسمات المميزة ليست مجرد تصنيفات لمدخلات حسية مرتبطة بها؛ وإنما هي «نتوءات» شديدة البروز والوضوح في جغرافية العقل. مثال ذلك حين نبصر طائرًا معلقًا في السماء، يكون هو الأكثر وضوحًا والذي يشد انتباهنا دون كل ما حوله. وهكذا يعمل المخ كجهاز تسجيل واستبيان للقسمات المميزة.

ويمثل تطور اللغة عند البشر ذروة عملية بناء العالم على أساس قسماته المميزة؛ حيث تصور كل كلمة إحدى هذه القسمات. إن العالم الواقعي وجود متصل. ولكن عالمنا الباطن مؤلف من قسمات متمايزة غير مترابطة؛ نظرًا لأن هذه القسمات رهن استجابة ثنائية بين نعم ولا. وهذا هو سبب ما نعانيه من مشكلة كبيرة مع المتغيرات مثل حي أم ميت التي تظل ثنائية مستمرة على الرغم من مظاهرها؛ ذلك أن عقولنا استقطبت أو مايزت بين هذه المتغيرات على أساس وجود قطبين متقابلين أو قسمتين متعارضتين. ولكننا إذا ما تأملنا الوضع عن كثب نكتشف التواصلية، ويتعذر وضع خط فاصل. وهكذا نبني عالمنا في عقولنا على أساس التقسيم الثنائي بين متقابلين ذكر/أنثى، أو صلب/لين أو شعور/لاشعور.

ويستجيب أطفال البشر على مدى مراحل نموهم للمزيد من قسمات بيئتهم، ويشير الكبار، والأطفال من حولهم، إلى الكثير من هذه القسمات بواسطة مفردات اللغة؛ فالكلمة هنا إشارة أو رمز دالٌّ على قسمة من القسمات أو عملية شاملة عددًا من القسمات. مثال ذلك كلمة طقس إشارة دالة على عدد من القسمات: المطر، الشمس المشرقة، الضباب، السحاب، الثلج … إلخ. ويصوغ الطفل عبر مراحل النمو قائمة من القسمات، ويتعلم كيف يجمع بينها أو كيف يقبل البدائل معًا. وهكذا تتهيأ له خريطة عقلية عن العالم من حوله يبحر على هديها في الحياة.

وتتكون هذه الخريطة على أساس تصنيف العالم في ضوء مفهوم التماثل الرياضي. ولكن لماذا تعمل عقول البشر وفقًا لخطوط رياضية؟ السبب هو أنها نشأت وتطورت في عالم مليء بأنماط يمكن إدراكها على أساس من الشروط شبه الرياضية ونستخدمها لتحسين احتمالات البقاء، والصور الحسية في رءوسنا ليست هي نفس ما هو قائم في عالم الواقع؛ ولهذا نصفها بأنها محاكاة أو صور متوهمة.

ولكن المادة التي يتألف منها المخ، وهي النبضات الكهربية التي تسري عبر الطرق العصبية هي واقعية تمامًا شأن أي شيء آخر. إن عقولنا صور أو خريطة دالة على الواقع، تطورت لتصوِّر قسمات مهمة في العالم الخارجي، وإن كانت تصورها على نحو قاصر وعلى أساس الرمز إليها. وتنشأ عملية التعبير الرمزي هذه لأن النبضات الكهربية لها تفسيران متمايزان. إنها عمليات فيزيائية في عالم الواقع: ولكنها بالنسبة لصاحب المخ فإنها تحمل تفسيرًا بمثابة نماذج لعالم الواقع؛ فالنماذج ناقصة ولكن فيزيائيتها التي تسري فيها تخضع لجميع القوانين العادية. ويسمح هذا التفسير الثنائي بنوع من التغذية العكسية بين عملية صوغ الأنماط الدالة على العالم الفيزيائي، وصوغ المخ للأنماط التي يدركها، وهذه التغذية العكسية مسئولة عن فعالية الرياضيات، وعن وجودها داخل الثقافة البشرية. وهكذا تتعامل عقولنا مع وجود اثنيني. ولكن ديكارت أخطأ إذ نظر إلى هذه الخاصية كدالة على اثنينية لمادتين، إنها اثنينية في التفسير، لا اثنينية وجود … خريطة تصور العالم. إن قسمات العالم الخارجي هي على مستوى المخ معالجات عادية لعالم الواقع متضمنة كيمياويات وإلكترونات … إلخ. ولكنها في الوقت ذاته على مستوى العقل هي خرائط ذهنية لمرتبة مغايرة تمامًا من مراتب الواقع الذي تمثله نمور وبقر ووجوه بشر … إلخ.

ويفضي هذا إلى مفارقة؛ فالواقع المدرك بحواسنا (مقابل الحقيقة الواقعة) يبدو لحواسنا وجودًا نابضًا بالحياة، لا لأنه واقعي ولكن لأنه مفترض أو متوهم. فاللون الأحمر بناء افتراضي حي تصوغه عقولنا ونلصقه بمدركاتنا عن طريق إسقاطها ثانية على العالم الخارجي بأنه أحمر؛ إنه يعكس ضوءًا له موجة متميزة الطول. وهكذا فنحن من خلال عقولنا نعيش مع عالم افتراضي أو متوهم لبناته صور عن الواقع يصوغها المخ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤