١٩٧١–١٩٧٢م

عُدتُ إلى المعهد والمنزل ودروس الفرنسية والإسبانية وقراءة بروست بالفرنسية. كان لتغيير إدارة المعهد أثَرٌ في زيادة عدد المبعوثين المصريين للدراسة في إسبانيا، ووفَد إلينا ثلاثةٌ من خرِّيجي الفنون الجميلة للدراسة في كلية سان فرناندو بمدريد. وكان منهم «الدكتور» أحمد نوار، الذي نشأَت بيني وبينه صداقةٌ أساسُها حب الفن والنقاش في أموره.

وقد لفَت نظري أنني لم أكتب شيئًا طوال الفترة الماضية. وكان الدكتور سهيل إدريس قد طلب مني كتابة مقدِّمة لرواية «صورة الفنان في شبابه»، وقبل أن أشرُع فيها أخبرني بخطابٍ آخر أنه قرَّر عدم نشر الرواية نظرًا لغرابة بنائها وصعوبتها، مما سيجعل من نشرها خسارةً مادية. ولم أهتَم بذلك حينها؛ فقد كنتُ في عالمٍ آخر في مدريد (وقد نشَر إدريس الرواية بعد ذلك في ١٩٧٣م، ونجحَت بدليل أنه نشَر منها طبعةً ثانية فيما بعدُ!). وواصلتُ الاطلاع الحميم على الأدب الإسباني وأدب أمريكا الإسبانية، فيما وراء لوركا ونيرودا، فتعرَّفتُ — من الشعراء — على أعمال أنطونيو ماتشادو، ليون فيليبي، جوستافو بكِر، لويس ثرنودا، رافاييل ألبرتي، ومن الروائيين بيو باروخا، بدرو ألاركون، جالدوس، وبالطبع «دون كيشوت دي لا مانتشا» التي قرأتُها بالإسبانية القديمة ثم الحديثة، بالاستعانة بترجمة الدكتور بدوي. ولم أهمِل قراءاتي بالإنجليزية؛ فكنتُ أقرأ تاريخ أمريكا اللاتينية في كتاب بليكان، وأستمتع بروايات جورج إليوت التي لم أقرأها بعدُ، فضلًا عن متابعة إنتاج كولن ويلسون صاحب «اللامنتمي»، رغم أن كُتبه اللاحقة لم تكن بجودة كُتبه الأولى.

وقد لفَت نظري الإشارات العربية العديدة في رواية دون كيشوت، وقرأتُ سيرة حياة مؤلفها سرفانتس، ووجدتُ أنه قضى خمس سنواتٍ أسيرًا في الجزائر؛ حيث لا بد أنه أحاط بالكثير من العادات العربية، واستمع إلى القصص والحكايات التي يتناقلها الناس هناك، وقد تعلَّم بعض العربية مقابل تعليمه مَن يحيطون به اللغة الإسبانية. ووجدتُ في هذا وفي غيره مجالًا خصبًا للدراسات المقارنة، فأخذتُ أدوِّن نقاطًا ورءوسَ مواضيع لعلِّي أعود إليها حين يسمح الوقت.

وقد وجدتُ في مكتبة المعهد وفي المكتبة القومية بمدريد ما أحتاج إليه لتكملة قراءاتي في التراث العربي. وكنتُ قد اشتريتُ وأنا في القاهرة الطبعاتِ الرخيصةَ التي صدَرَت لكُتب الأغاني للأصفهاني ونهاية الأرَب للنويري وصُبح الأعشى للقلقشندي وطالعتُها. وفي مدريد، أتيحت لي مطالعة نَفْح الطيب للمقَّري والإحاطة في أخبار غرناطة، ورحلة ابن بطوطة ورحلة ابن جبير ورسالة الغفران ورسالة التوابع والزوابع لابن شهيد الأندلسي، والعديد من الدواوين الشعرية التي كان من الصعب الحصول عليها في القاهرة. وكانت أيضًا فرصةً لقراءة عدد من كتب التراث الدينية وتفاسير القرآن الكريم.

وفي أثناء النصف الأول من عام ٧٠، تعرَّفتُ في المركز الفرنسي على فتاةٍ تدرس معنا اسمها خوليا، وهي غير الأندلسية التي رغبتُ في صداقتها. وقد داومَت على التقرُّب مني، فكنا نجلس بعضنا إلى جوار بعض ونتحادث في شتى الأمور. وما إن لاحظَت الفتيات الأخريات أن خوليا أصبحَت صديقتي، حتى تَركْن لها الطريق وابتعَدنَ عني، ويبدو أن هذا من التقاليد التي كانت الفتيات الإسبانيات يتقيَّدن بها حتى تلك الآونة؛ ذلك أنني بدأتُ ألاحظ تغييرًا تدريجيًّا في الحياة الإسبانية بدءًا من عام ٧٠، آخذةً في الاتجاه نحو الصبغة الأمريكية شيئًا فشيئًا، بما في ذلك معدَّلات الجريمة وعدم الأمن، ولكن ذلك لم يأخذ أبعاده الشاملة إلا بعد زوال حكم فرانكو. وتطوَّرَت علاقتي بخوليا تدريجيًّا؛ فبينما كنا نتناقش حول العروض الغنائية، والمغَنين الإسبان الذين كنتُ أعرفهم بالكاد، ذكَرَت لي أن أفضلهم هو «خوان مانويل سيرات». لم أكن أعرفه، ولكني قلتُ لها إني أودُّ سماعه، وخرجنا ذات أصيلٍ بعد الدروس الفرنسية لحجز تذكرتَين لسماعه شخصيًّا. ووجدنا أن كل التذاكر قد بيعَت. وعرفتُ من خوليا أن هناك أمكنةً للحصول على التذاكر بمبالغَ أكبر، ولكنها نصحَتني بعدم اللجوء إلى ذلك؛ فهي كانت ذات ميولٍ اشتراكية وتكره الغنى والأغنياء، ولكني كنتُ أريد أن أكسب ودَّ خوليا، فابتعتُ تذكرتَين في أفضل مكانٍ في قاعة الريسيتال.

وأحسستُ بالأثَر الذي تركَه ذلك على خوليا، رغم احتجاجها، وقد كنتُ أنا الداعي على كل حال. وفي الحفل، غنَّى سيرات قصائد أنطونيو ماتشادو بتلحينه، وكنتُ أعرف بعضها، فجعله ذلك يدخل إلى قلبي مرةً واحدة، وشكَرتُ خوليا على أنها عرَّفَتني على هذا المغَني الرائع، واشتريتُ الأسطوانة وعليها كلمات القصائد والأغاني التي سمعناها. واشتريتُ أيضًا شرائط كاسيت لأغنياته السابقة. وأعانَتْني خوليا على فهم بعض معاني الأغاني؛ ففيها الكثير من التعابير الشعبية المُتداوَلة، وأحببتُ أغانيه الغرامية، وكان يكتبها بنفسه، وفيها دائمًا شيءٌ جديد يبعث على التفكير.

بدأنا نخرُج معًا، وندخُل السينما، ونحضُر الدروس معًا. كنا نتبادل القبلات والأحضان، وأدعوها إلى منزلي فتقول فيما بعدُ. وذهبتُ معها في رحلةٍ نظَّمَتها الشركة التي تعمل فيها كسكرتيرةٍ تنفيذية، إلى منطقة جليقية في الشمال الغربي. كانت رحلة أسطورية؛ فجمال تلك المنطقة الطبيعي جمالٌ فائق، وتعرَّفتُ على مدنٍ رائعة الجمال؛ بلد الوليد، ليون، صوريا، وغطَّيتُ بذلك تلك المنطقة من إسبانيا؛ فقد كان مطمعي أن أزور كل منطقة ومدينة في إسبانيا. وكانت نقطة الأساس في الرحلة مدينة سنتياجو دي كومبوستيلا التي كانت مقصد الحُجَّاج الكاثوليك من كل بلاد أوروبا سيرًا على الأقدام؛ حيث هناك قبر القديس سنتياجو (يعقوب)، وهي مدينةٌ رائعة الجمال بمبانيها القوطية المتناسقة والكاتدرائية السامقة ومبنى سان ماركوس الذي تحوَّل إلى فندقٍ ممتاز تناولنا فيه أنا وخوليا طعام الغَداء تذكارًا للمناسبة.

وكانت العودة من هذه الرحلة بداية العلاقة الجادَّة مع خوليا؛ فقد رافقَتْني إلى شقتي الصغيرة؛ حيث استرحنا وشاهدنا التليفزيون، ثم بدأتُ التودُّد إليها. وصُعِقتُ حين خلَعتُ عنها ملابسها وهي في سريري الصغير، لأجد حوريةً ناصعة البياض كما أشتهي، ومتناسقة، فبدَت كأنها فينوس ميلو، كاملة الأعضاء. وكنتُ أنظر إليها غير مصدِّق: ها هي فاتنةٌ إسبانية في العشرين من عمرها تعطيك كل شيء. وتذكَّرتُ الفتيات المصريات اللاتي كان من الصعب حتى بعد شهور أن تُعطيَك إحداهن يدها لتُمسِك بها. ولماذا يستمتع الناس هنا بحياتهم ونحن لا؟ إن الفتيان في مصر يحصُلون على ما يريدون — برغم الشعور الديني القوي — ولكن بعد مناوراتٍ وأخاديعَ هم في غنًى عنها. أما ما حدث مع خوليا فأحسنُ ما يعبِّر عنه قصيدة لوركا التي يقول فيها عن أحد فتيان الغجر مع حبيبته:

عند المنعطفات الأخيرة،
لمستُ نهدَيها النائمَين،
فانفتحا لي على الفور،
كأنهما عيدانُ السنابل.
ورنَّت في مسامعي
ثنياتُ قميصها المنشَّى الناصع،
كأنه قطعة حرير،
تحكُّها عشرات السكاكين.
وفيما وراء شُجيرات التوت البري،
وخلف الحشائش والأشواك،
افترشتُ لها مكانًا على الأرض،
تحت خصلات شعرها.
وخلعتُ رباط عنقي،
وخلعَت هي رداءها،
وطرحتُ حزامي ومسدَّسي،
وخلعَت هي صداراتها الأربعة.
كانت بشرتُها
أرقَّ من الياسمين ومن العبير.
ولم تكن للمرايا البلورية
سطوعُ طلعتها البهية.
وأفلت فخذها مني،
كالسمكة المذعورة؛
نصفها يضطرم بالنيران،
ونصفها الآخر بالبرودة.
في تلك الليلة
سِرتُ في أفضل الدروب،
وامتطيتُ أجمل الأمهار،
دونما لجام أو سروج.
وأنا رجُل.
ولن أقص عليكم
ما أسمعَتنيه من كلمات.
لقد غمَرني نورُ العرفان،
فأحالني رجلًا وديعًا.
وحملتُها بعيدًا عن النهر،
وقد غطَّتها الرمال والقُبلات.

وكانت استجابة خوليا أكثر من ذلك، وعرفتُ دروب السعادة الحسية والروحية معًا معها؛ فقد منحَتني كل ما أحلُم به، وعرفتُ كيف تكون المرأة الحقة مع من تُحبه، بعكس ما رأيتُه حتى الآن؛ فالمرأة الإسبانية تقدِّس حبيبها، وتفعل كل ما يريد ويشتهي، وتكون ملك طوعه ويمينه، كالجارية التي يتخيَّلها الشاب المصري. وهي بهذا تفعل معه ما لم يكن يحلُم به، حتى إنها لتُقبِّل يدَيه وقدمَيه في سَورة حُبها له.

وقد منحَتني خوليا كل هذا وأكثر، وتعلمتُ منها الكثير من أسرار اللغة والحياة الإسبانية، ومنحَتني حياتي التي استمرَّت معها ما يقرب العام ونصف العام، إجادتي للغة الإسبانية في صورتها المنطوقة؛ فلا يمكن للمرء أن يُتقِن الكلام بلغةٍ ما، ما لم يَعِش بين أهليها عيشةً كاملةً مستمرة. وكانت علاقتي بخوليا جميلةً ومثمرة … ولكن … آه من ولكن هذه، كما يقول توفيق الحكيم. كانت الإسبانيات يقدِّمن لحبيبهن كل ما يحلُم به، ولكنهن يُرِدن أيضًا أن يكرِّس الشاب كل نفسه لهن! لم تكن خوليا تُطيق مني أن أنظر لفتاةٍ أخرى وأنا معها، مجرَّد نظر. وكانت تقاليد الفروسية ما زالت مطبَّقة في إسبانيا؛ فعلى الحبيب أن يُرافِق حبيبتَه بعد نهاية السهرة حتى منزلها، وإن كانت تسكُن في أقصى بقاع مدريد. وكان ذلك في البداية محتملًا، ولكن مع مرور الأيام لم يعُد كذلك.

ومع علاقتي بخوليا، أصبحتُ أكثر تركيزًا على قراءاتي ودراساتي. كنتُ أريد أن أعادل شهادتي كي أحضِّر الماجستير والدكتوراه خلال سنواتي هنا. واتَّبعتُ خطوات الدارسين المصريين الذين بدَءوا يتوافدون على مدريد مع تغيير إدارة المعهد؛ فقد عملنا على الحصول على أكبر عدد من المنح من وزارة الخارجية الإسبانية، وجاء عليها العديد من الدارسين، من كل التخصُّصات؛ خرِّيجو الألسن، خرِّيجو الفنون الجميلة، والفنون التطبيقية، خرِّيجو دار العلوم وقسم اللغة العربية بكليات الآداب، بل وجاءنا أحد المتخصصين في اللغة العبرية، ولكن تم تحويله بعد ذلك للدراسة في إنجلترا. وفكَّرتُ في الموضوع الذي يمكن أن أدرُسه للدكتوراه؛ فالماجستير كان عبارةً عن أبحاثٍ قصيرة يتم الامتحان فيها. وقد ناقشتُ ذلك مرةٍ مع الدكتور الفلسطيني الأصل محمود صبح — وكان يعرف خلفياتي الأدبية — فقال إن بإمكاني إجراءَ دراسةٍ مقارنة بين لوركا وجويس وهمنجواي. وأثار اقتراحُه دهشتي الشديدة؛ فلم أكن أعرف كيف يمكن المقارنة بين هؤلاء الثلاثة، وأعتقد أن معرفة الدكتور صبح باهتمامي بهم من مقالاتي بمجلة الآداب هو ما جعلَه يخرج بمثل هذا الاقتراح الغريب، ولكني كنتُ أفكِّر في موضوع الأثر الذي تركَه جويس في الروائيين الذين جاءوا من بعده. وقد فتَر حماسي شيئًا ما حين علمتُ أن اللوائح الإسبانية تحتِّم أن يكون نص الرسائل الجامعية باللغة الإسبانية، حتى في موضوعات الأدب الإنجليزي الذي أزمِع الكتابة فيه، وأدركتُ أننا في مصر أحسنُ حالًا (أو أسوأ!)؛ لأننا نتقدَّم برسائلنا في قسم اللغة الإنجليزية بالإنجليزية وليس العربية. بيد أن ما صرَفَني نهائيًّا عن الدكتوراه وبريقها كان شيئًا آخر مختلفًا تمامًا.

كان هناك مدرسٌ مصري للتاريخ يعمل في المغرب، وكان طموحًا يريد أن يُكمِل دراساته، فانتهز فرصة قربه من إسبانيا لعمل دراساته العليا في جامعة غرناطة، القريبة من العُدْوة المغربية. وطبعًا، لاقى صعوباتٍ جمَّة، وتكبَّد تكاليفَ كثيرة في مسعاه ذاك، ولكنه كان صبورًا مثابرًا، وأنفق كثيرًا من الجهد والمال متنقلًا من المغرب إلى غرناطة لاستكمال رسالته. وبعد أن حصل على الدكتوراه وعاد إلى مصر، بدأ رحلةً شاقة للتعيين في الجامعة؛ فقد كان معروفًا أن الكليات تفضِّل من يتعيَّن بها معيدًا منذ البداية، ولا ترحِّب بمن يأتي من الخارج. ولكن إصرار ذلك الزميل وجهاده في سبيل الحصول على حقوقه أثمَرَت — بعد سنوات وقضايا كثيرة — في أن يحصُل على وظيفة المدرس بآداب عين شمس. وبعد شهرَين فحَسْب من هذا الانتصار، تُوفِّي ذلك الزميل بنوبةٍ قلبية.

أثَّرَت فيَّ تلك الواقعة تأثيرًا لا حدَّ له، وباتت في فكري ليلَ نهار، وانتهى بي الأمر إلى ترك الدراسات العليا، ولو إلى حين. وساعدَني في اتخاذ ذلك القرار أن المُضيَّ في دراسات الماجستير والدكتوراه كان سيأخذ كل وقتي — إلى جانب العمل الذي كثُرَت مشاكله مع تزايد عدد المبعوثين — وأنا كنتُ أحب القراءة الحرة، خاصة الآن وأمامي أربعُ لغاتٍ أقرأ بهن. وهكذا عدتُ إلى كتبي وقراءاتي بعد أن كِدتُ أن أتقيد بموضوعات الماجستير والدكتوراه!

وبعد أن انفسح المجال أمامي للقراءات الحرة، طفِقتُ أقرأ قراءةً منتظمة في الأدب الإسباني بجميع مراحله. وقرأتُ الأعمال التي تأثَّرَت بالثقافة العربية، مثل «الكونت لوكانور» الذي يحتوي على أمثولاتٍ وقصصٍ أشبه بقصص كليلة ودمنة. وبدأتُ قراءة السِّفر الكبير «كتاب الحب المحمود» لخوان رويث، كبير أساقفة بلدة «هيتا»، الذي تأثَّر فيه بابن حزم وقصص الحب العربية، ولكني لم أكمِلْه إلا بعد ذلك.

وذات ليلة، دخلتُ إلى شقَّتي وفتحتُ الراديو كعادتي، وكانت الأخبار، وأولها أن جمال عبد الناصر رئيس الجمهورية العربية المتحدة … قد تُوفِّي إثر نوبةٍ قلبيةٍ مفاجئة. ودارت بي الأرض. لم أدرِ ما أفعل. وخرجتُ مرة ثانية، واتصلتُ من الطريق بزميلي في المعهد وكان قد عَلِم بالخبر، واتفقنا أن نتوجَّه للسفارة المصرية لنرى ما يمكن أن نفعل، وكانت السفارة على قدمٍ وساق، وأعدَّت بهوًا لاستقبال المعزِّين، ودفترًا لمن يرغب في تسجيل عزائه. وأشهد أني رأيت أفرادًا عاديين من الإسبان يدخلون ويكتبون في الدفتر عبارات الحزن. وعُدنا في صباح اليوم التالي، ورأينا وزير خارجية إسبانيا آنذاك، السنيور لوبيث برافو، يحضُر إلى السفارة ليقدِّم عزاءه إلى سفيرنا، الذي كان زميلًا لعبد الناصر. وكان لوبيث برافو قد أثار الإعجاب بناصر حين التقاه قبلًا في القاهرة، وعاد ليقول إن الزعيم المصري له هَيبةٌ كاريزمية ونظراتُ عينَيه عميقةٌ مؤثِّرة تنفُذ إلى أعماق محدِّثه. وهذا صحيحٌ يشهد عليه كاتب هذه السطور كما ورَدَ سابقًا، ولكن لا أحد ينسى أيضًا أن السياسة الناصرية انتهت بوصول إسرائيل إلى قناة السويس.

وشَهِدنا بعد ذلك في التليفزيون والصحف ظروفَ تشييع جنازة الزعيم، وما صاحبها من حزنٍ مهول دفَع صحيفةً إسبانية بالخروج بمانشيت يقول «هستيريا جماعية». وكان كل ذلك يَعصِر قلوبنا بالألم على مصير بلادنا المجروحة من كل جانب، ولكن الحياة تمضي في مسارها، ومضى أنور السادات يُكافِح في سبيل استعادة ما فقدناه من أرض الوطن وكرامته. ومضت الأمور بنا أيضًا في مدريد لتسير إلى مجراها السابق في تسيير أمور العمل والحياة.

وفي كريسماس ۷۰، قرَّرتُ الخروج إلى أولى زياراتي خارج إسبانيا، وأن أقضيَ العطلات في زيارة باريس. وتطلَّب الأمر مشقةً كبرى لإقناع خوليا بعدم إمكان أن تُرافقَني هناك، متعللًا بأني سأقوم بالاتصال بالمركز الثقافي المصري في باريس، لإنجاز بعض أعمال التعاون بيننا وبينهم فيما يخص الزيارات الطلابية.

ولما كانت هذه أول زيارةٍ لي لباريس — وسأزورها كثيرًا فيما بعدُ — فقد كان من الأفضل أن أذهب في رحلةٍ منظَّمة، فحجزتُ مع «بولمان تور» للذهاب والإياب بالأوتوكار، لما في ذلك من متعة زيارة المدن التي نمُر عليها، والاستمتاع بمشاهد الطبيعة في الطريق. وهكذا خرجنا بالباص من مدريد في الساعة السابعة صباحًا، ومعنا مرشدةٌ سياحيةٌ شابةٌ جميلة تتحدث الفرنسية جيدًا، وسائقٌ ماهر أوصلَنا إلى مدينة بوردو الفرنسية في الواحدة صباحًا من اليوم التالي. واستمتعتُ بالطريق وبالمدن والقرى التي مرَرنا عليها في الطريق، وهذه ميزة السفر بالسيارة حين لا يكون المرء متعجلًا. زرنا مدينة «بورجوس» (برغش) وكاتدرائيتها الفخيمة، وهي المدينة التي يُقال إنها تتحدث أصفى لغةٍ قشتالية. وزرنا «فيتوريا»، ثم الثغر المشهور «سان سباستيان» التي تجوَّلتُ فيها ليلًا وأعجبَتني. وقد بقيتُ ساهرًا كيما أرقُب دخولنا إلى الحدود الفرنسية، وقد استوقفَتهم جنسيتي المصرية، وأرادوا أن يعرفوا ماذا أفعل في فرنسا، فقلتُ لهم إنها زيارةٌ سياحية ليس إلا. ولاحظتُ أنهم يخاطبونني بلقب السيد البروفيسور، وأرجعتُ ذلك لعملي المذكور في جواز السفر أنه في المعهد المصري في مدريد. وعلى الجانب الآخر من الحدود، على الأرض الفرنسية، دخلتُ صيدليةً هناك وابتعتُ بعض الأوبتاليدون للصُّداع، ولكي أتحدَّث الفرنسية كذلك!

وفي الصباح، قمنا بزيارةٍ سريعة في بوردو، ثم انطلقنا نحو عاصمة النور. وبدا لي كل شيء مختلفًا ونحن في طُرق فرنسا. ومرَرْنا بمدنٍ مهمة مثل أورليان ثم شارتر؛ حيث زرنا كاتدرائيتَيهما الفخيمتَين. وحين انطلقنا إلى باريس أعلنَت المرشدة أن أول من يلمَح برج إيفل على البُعد له جائزة، مما جعل الجميع وأوَّلهم أنا نشتعل حماسًا لرؤية هذا الرمز الباريسي. وبعد فترةٍ صاحت إحدى الراكبات: ها هو! ودقَّقنا النظر، فرأينا فعلًا السارية العليا للبرج، وهلَّل الجميع، وأعطت المرشدةُ الجائزةَ للفتاة، وكانت عبارةً عن سلسلة مفاتيحَ فضية على شكل برج إيفل. وبدأ الأوتوكار ينساب في مداخل باريس، في طرقٍ واسعة ملتفَّة تجري فيها السيارات من كل جانب، وكل شيءٍ منظَّم ولامع. واقترب منظر البرج، وحين رأيتُه كاملًا كانت لحظةً لا تُنسى؛ إذ أحسَستُ بقلبي ينبِض عاليًا ويخفق بشدَّة وأنا يكاد يُغمى عليَّ؛ فها أنا في باريس وأمام برج إيفل، وهو ما كان حُلمًا من أحلام الصِّبا والشباب.

وهدأتُ تدريجيًّا، مع مرور الباص إلى جوار علاماتٍ باريسيةٍ بارزة؛ متحف اللوفر، شارع ريفولي، تمثال جان دارك، ميدان الكونكورد، المسلَّة المصرية، شارع الشانزليزيه، ثم دلَف الباص إلى الفندق الذي سننزل فيه، وكان فندقًا متواضعًا، يديره شبابٌ عرب من شمال أفريقيا. وما إن أعطَوني غرفتي الصغيرة جدًّا، حتى اغتسلتُ — فقد كنتُ دائمًا أطلب غرفةً مستقلة بحمَّام — وغيَّرتُ ملابسي، وانطلقتُ أكتشف عاصمة النور، وأنا أردِّد مع علي محمود طه: كان حُلمًا أن نرى اللوفر وأن نشهد صوَرَه (سطر طه يقول: كان حُلمًا أن نرى الراين وأن نشربَ خمرَه).

وقضيتُ ذلك الأسبوع الباريسي في نشوةٍ وانطلاقٍ لا يعرفان حدودًا. وكانت الرحلة تشمل الإفطار في الفندق، وهو إفطارٌ أوروبيٌّ شهي برغم تواضُع الفندق، فكنتُ أتناوَله مبكرًا جدًّا، ثم أخرج ولا أعود للفندق إلا مع منتصف الليل. وكنتُ أقضي اليوم مبهور الأنفاس، أتنقَّل من مكانٍ إلى آخر كأنما اليوم سيطير، ممسكًا بخريطةٍ مفصَّلة لباريس ولخطوط المترو الأرضي، الذي وجدتُه أسهل وسيلة للتنقُّل بسرعة في العاصمة. وخصَّصتُ الصباحات للمتاحف والآثار والمقاهي الشهيرة، والليل للمسرح والسينما وبيجال والإيروسيات التي لا تُوجَد في إسبانيا. وهكذا بدأتُ بزيارة مُتحف «جي دي بوم» وهو متحف الفن الحديث في ناصية ميدان الكونكورد؛ حيث طالعتُ لوحاتِ فان جوج ومونيه وسيزان ومانيه وجوجان وتولوز لوتريك وغيرهم من المحدَثين نسبيًّا. وكان الزحام شديدًا والقاعات ضيقة، وهذا ما حدا بأولي الأمر نقل هذا المُتحَف إلى مُتحَف «دورساي» الضخم بعد ذلك بسنوات. ومن هناك انطلقتُ إلى برج إيفل، وتجوَّلتُ حوله، وصبَرتُ في الصف الطويل للصعود داخله؛ حيث وصلتُ إلى طابق الكافيتيريا، وفيها تناولتُ الغَداء، ثم هبطتُ على قدمي، وذهبتُ إلى ساحة التروكاديرو لأخذ بعض الصور لي وورائي البرج الشهير، عن طريق «التريبود» التي تحمل آلة التصوير، التي بدَورها تلتقط الصورة آليًّا بعد عدة لحظات. وهكذا، من البرج إلى حي بيجال الشهير في المساء، ومحلات الجنس التي أراها لأول مرة، فأذهلَتني بما فيها من مجلات وصور وأدوات. وهناك وجدتُ مسرحًا به العرض الشهير «أوه كلكوتا» فدخلتُ أشاهده، وكان كل ممثليه وممثلاته عُراةً تمامًا، يقدِّمون استعراضاتٍ فكاهية، ولم يُعجِبني وإن كنتُ سُرِرتُ بمشاهدته لكثرة ما كُتب عنه. وفي أغوار الليل وجدتُ فتياتِ المتعة رائحاتٍ غاديات، يبتسمن للزبائن المُحتمَلين، ولكني خشيتُ مما كنتُ أسمع من خداع وسرقة، فتغافلتُ عنهن إلى حين؛ ذلك أنَّ الرغبة الحسية في تلك السن تدعو إلى التنفيس عنها وإلا غطَّت على أي استمتاعٍ فني وروحي بسحائبها الدكناء الرهيبة. وقد تمثَّلَت لي تلك المشكلة في كل رحلةٍ طويلة أقوم بها.

وعلى هذا المنوال قضيتُ رحلتي الباريسية الأولى (ذلك أن باريس قد قُيض لها أن تكون أكثر ما زرتُ من المدن الأجنبية، كما سيبين)، فزُرتُ قوس النصر، وصَعِدتُ إلى سطحه، وأخذتُ صورًا من هناك، وقبر نابليون في الإنفاليد، ومُتحَف اللوفر الذي أخذ مني يومًا بحاله، وحدث لي عند مرأى «الموناليزا» لدافنشي ما شعَرتُ به عند مرأى برج إيفل لأول مرة. ورأيتُ في المتحف القاعة المصرية، وتعجَّبتُ كيف أمكنَهم نقل بعض هذه الآثار الهائلة الحجم، وفيه آثارٌ من كل الحضارات. لقد كانت الزيارة وجبةً ثقافية، وإن كان المُتحَف يحتاج إلى زياراتٍ عديدة وأيامٍ أكثر.

ثم كانت زياراتٌ للأوبرا ومونمارتر ومونبارناس، مع ذكريات الفنانين الذين عاشوا في تلك الأحياء، والحي اللاتيني حيث اشتريتُ الكثير من الكتب والأسطوانات، وزرتُ المركز الثقافي المصري لمقابلة صديقي وزميلي حسن عبد الحليم، الذي قدَّمَني إلى زميله (الوزير الفنان) فاروق حسني.

وجاءت ليلة رأس السنة، ويُسمُّونها هناك «سان سلفستر»، وكانت ليلةً لا تُنسى، قضيتُها في أنحاءٍ متفرقةٍ في باريس لأرى كيف يحتفلون بها. وطبعًا كان الكل يرقص ويُغني ويشرب، وحين جاءت لحظة العام الجديد، أخذ الناس يُقبِّلون بعضهم بعضًا، فظَفِرتُ بقُبلاتٍ من الفتيات الفاتنات! بيد أن الشيء المزعج في عادات الفرنسيين في تلك الليلة هو قذفُ المارَّة بالزجاجات من البيوت، وإطلاقُ الصواريخ النارية بين أرجل المارَّة.

ولم تنقَضِ الرحلة حتى كنتُ قد زرتُ ما رغبتُ في مشاهدته في العاصمة الفرنسية. وحين ذكَرتُ لمدرس اللغة الفرنسية أني رأيتُ باريس كلها، ضحك صائحًا: أنت رأيتَها في أسبوع، وأنا الذي عشتُ فيها عشر سنواتٍ لم أرَ كل ما فيها!

وفكَّرتُ في جمع دروسي للغة العربية التي ألقيها في المعهد في كتاب، أستفيد فيه من كُتب تعليم الفرنسية والإسبانية للأجانب. وكان مدير المعهد السابق قد أعدَّ كتابًا في هذا الموضوع، ورغب أن تصُفَّه مطبعة المعهد له بالأجر، وكتَب لي في ذلك، ولكن المدير الحالي رفض، وطلب مني عدم بحث ذلك الموضوع مع المدير السابق، مما وضعَني في موقفٍ محرج معه. وقد زاد في الحرج أن ذلك المدير السابق طلب مني أن أشتري سيارة ابنه المُستعمَلة لأنه سيعود إلى القاهرة. وكيف لي ذلك وأنا لا أسوق أصلًا؟! وقد قابلتُ الابن سابقًا ووجدتُه مثالًا للشاب المثقف، وسهَّلتُ له ما يطلب من أوراق من المعهد وكُتب، غير أنني لم أستطِع إجابة رغبة الأب أن أشتري السيارة. ويبدو أن كل ذلك قد تجمَّع في صدر الأستاذ الكبير، وظهَر بعد ذلك حين عاد إلى القاهرة، في الغمز واللمز، مستخدمًا لقبي في مقالاته الفكاهية. ويبدو أن ذلك دأبه؛ فبعد أن تنعَّم في خيرات عهد عبد الناصر وصداقته لرئيس تحرير الأهرام، عاد وكتب أبشع هجومٍ على عهد عبد الناصر، واختَص بهجومه من ساعده من قبلُ وهو رئيس تحرير الأهرام السابق؛ حيث أطلق عليه صفة «الصحفي الأوحد». ولم أرَ من قبلُ أستاذًا بلغ الذرى في البحث العلمي له مثل هذا الوجه المختلف في التعامل مع الناس.

أما عن المدير الجديد، وهو أصلًا أستاذ في كلية الفنون الجميلة بالقاهرة، فكان أيضًا له أطواره الغريبة كفنَّان، وإن كان معتزًّا بنفسه وبفنه. وتكرَّر صدامه بالسفير، حتى وصل إلى حد القطيعة في ربيع عام ٧١، فكان أن ذهب السفير لمقابلة وزير التعليم العالي، وطلب إعادة مدير المعهد إلى القاهرة. وبالفعل، جرى إنهاء انتداب المدير، ولم تُفلِح جهودُه في البقاء إلا لمدة ثلاثة أشهر فقط. وتم انتداب مديرٍ جديد هو الأستاذ الدكتور مختار العبادي، أستاذ التاريخ بجامعة الإسكندرية، ولكنه لم يتسلَّم عمله إلا حوالي شهر سبتمبر، بعد أن عُدتُ أنا من إجازة للوطن.

وكانت إجازتي للوطن في شهر يوليو ۷۱، واضطُرِرتُ إلى تحمُّل نفقات السفر نظرًا لضغط الميزانية لمواجهة ظروف الحرب، فحجَزتُ تذكرة ذهاب وعودة في الدرجة السياحية على الباخرة التركية، وهي الوحيدة التي تصل ما بين برشلونة والإسكندرية. وقد أكَّد لي زميلي في المعهد أنها مريحة، ولكنها للأسف لم تكن كذلك بالمرة. وسافرتُ إلى برشلونة قبل الموعد بأيام لزيارة المدينة، وقد أعجبَتني كثيرًا؛ فهي تجمع ما بين مدريد وباريس بطرقاتها الواسعة الفخمة، وآثارها الجميلة، وحديقة الحيوان ذات الشهرة العالمية، ومرتفعات «مونتويج» التي يُطِل المرء منها على المدينة كلها. ويوم السفر كان أشبه بسفَر من مصر؛ فالكل يتسابق على دخول الباخرة، وطاقم السفينة يؤدون عملهم بروتينيةٍ شديدة، ولا يكادون يردُّون على أسئلة المسافرين، وتندلع شجاراتٌ بين مسافرين والحمَّالين الذين يريدون أتعابًا أكبر.

ولما كنتُ في الدرجة السياحية، كانت قمرتي بها أربعة أسِرَّة، ولكنها لم تُشغَل بالكامل إلا في مرسيليا، وكانت معاملة الموظفين الأتراك للركاب سيئةً على وجه العموم. وتشاجرتُ مع ضابط الباخرة حين رست في مرسيليا، ورفَض أن يغادر السفينة لزيارة المدينة إلا مَن قد تطعَّموا ضد الكوليرا. وبعد أن غادر الجميع البوابة، هبطتُ إلى المدينة خلسةً وقضيتُ بها عدة ساعات ثم عُدتُ للباخرة بسلام! وأعجبَني ما رأيتُه من مرسيليا، وتفكَّرتُ في أن الإسكندرية كان يمكن أن تكون مثلها أو أفضل لو سارت الأمور كما ينبغي أن تسير عليه، ثم توقَّفَت الباخرة في جنوة ثم نابولي، وزرتُ المدينتَين وابتعتُ منهما بعض التَّذكارات السياحية، ثم قضَينا يومَين في عرض البحر الأبيض، تعرَّضنا فيهما لدُوار البحر والغثيان، إلى أن لاحت أخيرًا أمام الأعين ملامحُ مدينة الإسكندرية. وطبعًا، حدَث الهَرْج والمَرْج المعهودان وقت الخروج، ووجدتُ والدتي في انتظاري، وابن خالتي الضابط بالبحرية يُسهِّل لي إجراءات الخروج. وبعد زيارة بعض الأقارب بالإسكندرية نزولًا على رغبة والدتي، سافرنا أخيرًا إلى القاهرة، ووجدتُ غرفتي كما عهِدتُها، والتقَيتُ ثانيةً بحاجياتي وكتبي فيها.

وقضيتُ شهرًا جميلًا في القاهرة، بصحبة أصدقائي، وكنا نلتقي كل يوم تقريبًا، فأحدِّثهم عن حياتي في الخارج، وإسبانيا وباريس، ويحدِّثونني عما استجد في الساحة الثقافية التي غبتُ عنها سنتَين. وتردَّدنا على مقهى ريش؛ حيث عادتي الإنصات إلى الجميع دون مشاركة، وكان الحديث الآن أكثر صراحةً بعد حركة السادات «التصحيحية» وما راوَد الكل من تطلُّعات الديمقراطية وحرية الرأي والتعبير. وتردَّدتُ على المكتبات أبتاعُ ما يهمُّني من الكتب التي صدرَت في خلال العامَين، كما حصَلتُ على معلوماتٍ عن الجديد في المجال الثقافي من أصدقائي. وكانت زيارةً مثمرةً جميلة، زادها جمالًا إحساسي بالعودة إلى ربوع الأندلس، وإصراري على الاستفادة من وجودي بإسبانيا بكل الطرق الممكنة، فإذا كنت قد سافرتُ نتيجة نجاحي في الاختبار دون رغبةٍ مسبقة في السفر، فالآن وضَح أمامي أن الوجود في الخارج ضرورةٌ مُلِحة من أجل الحياة بشكلٍ واعٍ حُر. وحين عدتُ إلى مدريد أصبحتُ واعيًا بالميزة التي عندي بالإقامة في هذه المدينة الجميلة، والتمتُّع بكل ما فيها من فن وأدب وآثار ولغة وجمال.

وقد قابلتُ معظم أصدقائي في تلك الإجازة، علي كمال وأحمد السودة ونبيل ووهيب ومصطفى وحلمي وإبراهيم، وسَعِدتُ بصحبتهم.

وفي رحلة العودة، كنتُ قد استعدَدتُ للمعاملة الرديئة في المركب التركي، وصرفتُ انتباهي للتمتُّع بالبحر والمدن التي نمُر عليها. وقد شاهدتُ في الطريق إلى نابولي أفخَم منظرٍ جغرافي في حياتي، وهو عبور مضيق ماسينا، الذي بَقِي في ذاكرتي حتى الآن. وفي نابولي ومرسيليا ابتعتُ بعضَ الكتب والمجلات التي لا نجدها في إسبانيا، وتجوَّلتُ في المدينتَين، وزرتُ ما لم أزُرْه في رحلة الذهاب. والغريب أنه ما إن رسَت الباخرة في برشلونة حتى أحسَستُ أنني عدتُ إلى منزلي، أتحدث لغتي، وأسحب نقودًا من حسابي بالبنك!

وكانت خوليا في انتظاري بمحطة القطار في مدريد، فتعانقنا طويلًا وتحادثنا في طريقنا إلى شقتي في شارع رافاييلا بونيَّا، التي اشتقتُ إليها اشتياقي إلى خوليا. وقضينا وقتًا ممتعًا استمعنا خلاله لدقات الساعة المجاورة تدُق ثلاث مرات. وكانت خوليا قد أعدَّت لانجيري جديدًا من الألوان التي أحبها، فردَدتُ لها الجميل مراتٍ عديدة. وتبادلنا الهدايا، فأعطيتُها بعض الحُلي الفرعونية، وأعطتني ديوان نيرودا «الإقامة الثالثة»، الذي كنتُ أبحث عنه، والذي يحتوي على قصيدته الشهيرة «إسبانيا في القلب» التي يصف فيها مأساة الحرب الأهلية الإسبانية، ويُهيل الشتائم البذيئة على الجنرال فرانكو ورفاقه من الجنرالات. وتعجَّبتُ من سماح نظام فرانكو بتداول هذا الكتاب وغيره في إسبانيا، وبدا كأن هناك انفتاحًا فكريًّا إلى حدٍّ ما في البلاد.

وبعد أن التحقتُ بعملي بالمعهد ثانية، وصل ظافر، موظَّف جديد، وبعدها بمدة عاد مدير المعهد إلى مصر، وبقينا في انتظار المدير الجديد، الدكتور مختار العبادي، الذي وصل مع أسرته بالباخرة إلى برشلونة، ووصل إلى المعهد بمدريد بعدها بأيام.

وكانت ولاية الدكتور العبادي كمديرٍ للمعهد ومستشارٍ ثقافي فترةً مثمرة، عاد العمل فيها متناسقًا بين المعهد والسفارة. وانتظَم العمل في مجلة المعهد وفصوله العربية، التي تقاسمتُ تدريسها مع الدكتور العبادي، بينما تولَّى ظافر الشئون الإدارية والمالية للمعهد. وكانت علاقتي بالدكتور العبادي علاقة ودٍّ وتعاون بين أستاذٍ كبير وبيني الذي أريد أن أتعلم منه؛ فقد كان حُجَّة في التاريخ الأندلسي، كما كان مثالًا للتواضع ودماثة الخلق، فجمع بين العلم والأخلاق. وقد أوكَل لي المدير السفر إلى بعض المدن الإسبانية للتعرُّف على أحوال الطلاب والدراسة هناك، أو لزيارة معرضٍ للرسوم اشترك فيه رسَّامونا المصريون، وبهذا زرتُ مدن بلنسية وسرقسطة وبلباو. كما أنني واصلتُ زيارة المدن الأخرى في الإجازات، ومنها مدن الأندلس؛ إشبيلية وقرطبة وغرناطة (مرةً أخرى) وقادس ومالقة، وكنتُ على وشك عبور العُدوة من مالقة إلى المغرب لولا أنني وجدتُ العبَّارات شديدةَ الازدحام بالعمال المغاربة المتجهين لزيارة بلدهم.

وكان محور زيارة إشبيلية هو برج الخيرالدا العربي، إلى جوار كاتدرائية إشبيلية الضخمة، ومتحف المدينة الذي يضم بعضًا من مشاهير اللوحات، وقد زرتُه مع أحد الأصدقاء الفنانين، وابتسمتُ حين قال لي إن الكثير من اللوحات هنا من رسم «أنونيمو»، ويبدو أنه فنانٌ مشهور عندهم، ولكني أوضحتُ له معنى الكلمة، وهي أن اللوحة لرسَّامٍ مجهول الاسم.

وفي قرطبة، رأيتُ أشجار البرتقال في كل مكان، وطفتُ بأرجاء جامع قرطبة الذي تحوَّل إلى كنيسة (هدية السيد للسيد)، وظلِلتُ أتجوَّل فيه حتى خفَّت الحركة، فانزويتُ وراء بعض الأعمدة، وأدَّيتُ الصلاة فيه، وكانت تجربةً ومشاعرَ لا تُنسى!

وأعَدتُ زيارة قصر الحمراء وجنة العريف في غرناطة، واشتريتُ في هذه المرة الأعمالَ الكاملةَ للوركا من مكتبةٍ غرناطية، باعتبارها مدينة الشاعر والمسرحي والرسَّام الذي راح ضحية الحسَد والانتقام غداة الحرب الأهلية.

وأعجبَتني المدن الأخرى التي زرتُها، وتعرَّفتُ على أهم ملامحها، وهي قادس ومالقة وتوريمولينوس. وكنتُ على مرمى حجَر من جبل طارق، ولكن السياسة الإسبانية آنذاك كانت تمنع الانتقال من إسبانيا إليه احتجاجًا على استمرار سيطرة بريطانيا عليه، فكان يجب الذهاب إلى المغرب ومنه إلى جبل طارق والعودة إلى المغرب، وهو ما لم يتيسَّر لي في تلك الرحلة.

وحين بدأت الدراسة مرةً أخرى في مدرسة اللغات، وكنتُ في السنة الثالثة النهائية، وفي بدايتها تعرَّفتُ على فتاةٍ ألمانية ليس لها من الألمانية إلا الجنسية؛ فقد كانت سمراءَ صغيرة الحجم، قدَّمَتني بعد ذلك إلى زميلةٍ لنا فرنسيةٍ شقراء، أصبحنا بعد ذلك نشكِّل ثلاثيًّا حين نلتقي في المدرسة، وأحيانًا نخرج سويًّا فأدعوهما إلى شرابٍ في كافيتيريا قريبة تُسمَّى «منشن»؛ أي ميونخ. وكانت مارجريتا الألمانية هي التي تذهب معي أكثر؛ لأن آن ماري الفرنسية ترتبط بمواعيد العشاء مع الأسرة الإسبانية التي تعيش معها. وكان معنا في الفصل عددٌ من الشبان الذين أخذوا يحومون حول الفتاتَين، ولكن دون نتيجةٍ واضحة. وكنتُ أذهب إلى مدرسة اللغات مبكرًا بعد درس اللغة الفرنسية، فأجد آن ماري، فأدعوها إلى كافيتيريا المدرسة على قهوة وإحدى الفطائر. ورغم أني كنتُ أركِّز صلتي بمارجريتا، فقد كنتُ أفكِّر في آن ماري كفتاةٍ أصطحبها إلى السينما والمسرح والمطاعم كي أباهيَ الناس بوجودها معي، وكي أريَها جانبًا من الحياة ربما لا تسمح لها إمكاناتها برؤيته.

واكتشفتُ في تلك الفترة تسجيلاتٍ لأشعار لوركا ونيرودا وبكِر، بعضها مغنَّاة، والأخرى تلاوة، ولكن الأهم منها ما يُتلى بصوت الشاعر أو الشاعرة. واقتنيتُ أسطوانة نيرودا التي يتلو فيها بصوته «عشرون قصيدة حب وأغنية يأس»، ولأول مرة أسمع صوت الشاعر الكبير فأستغرب نبرتَه في البداية، ثم أعتاده وأشتاق إلى سماعه. ووجدتُ هذه القصائد نفسها يتلوها تلاوةً جميلة «خوليان ماتيوس» بصوتٍ رائع، فاقتنيتُ أيضًا تلاوتَه لبعض قصائد أدولفو بكِر. وذهبتُ مع خوليا لسماع خوان مانويل سيرات في حفلٍ غنَّى فيه قصائد الشاعر ميجيل إرناندث، فأبدع في الغناء والإنشاد، وكان من بين الحضور ابن الشاعر. وابتعتُ أسطوانتَه مع غيرها من القصائد. واشتريتُ أدوات الفن السماعي، من جهازٍ لسماع الأسطوانات، وجهازٍ آخر للتسجيل بطريقة الشرائط الكبيرة الحجم. واستعَرتُ من المعهد أسطوانات المصحَف المرتَّل بقراءة الشيخ الحصري، وسجَّلتُها على عدة شرائط، وكان أول مصحفٍ مرتَّل يظهر في الأسواق. والحقُّ أن سماع القرآن الكريم منطوقًا قد صحَّح لي كثيرًا من الكلمات التي كنتُ أنطِقُها بطريقةٍ خاطئة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤