في العالم الجديد

كانت فكرة السفر إلى نيويورك والإقامة فيها مزعجةً بالنسبة لي؛ ففكرتي عن أمريكا ونيويورك بالذات غير مشجِّعة، كما أنها أول مرة أقضي بالطائرة سبعَ ساعاتٍ أو أكثر متواصلة. وقد تسلَّحتُ بكتابَين مشوِّقَين أستعين بهما على طول المسافة، ولكن الخدمات المتعددة التي وفَّرها طاقم الطائرة ساعدَت على تحمُّل الوقت؛ فمن أطعمة ومشروبات، إلى فيلمٍ كاملٍ طويل، إلى فتح باب المشتروات، كل هذا ساعد على إلهاء المسافرين إلى أن أعلن قائد الطائرة أننا على وشك الهبوط في مطار جون كيندي الدولي بنيويورك. وكانت الساعة الثالثة بعد الظهر؛ ذلك أن هناك فرقًا في التوقيت مع أوروبا التي تسبق أمريكا بسبعِ ساعاتٍ كاملة، تتغيَّر حسب التوقيت الصيفي.

وحين خرجتُ من الطائرة حملَنا الباص إلى المطار، وسِرتُ في أروقةٍ طويلة حاملًا حقيبةَ يدٍ ثقيلة حتى وصلتُ إلى طابور الجوازات. وختَمَت الضابطة جوازي، وكان يحمل فيزا G-4 المخصَّصة للعاملين الدوليين، ثم توجَّهتُ إلى محطة وصول الحقائب، وأخذتُ حقيبتيَّ، وتأشَّر لي من موظَّف الجمارك بالخروج بعد أن رأى أوراقي. وفي صالة الوصول، بحثتُ عن أي شخصٍ ينتظرني كما كنتُ آمل، ولكن لم يكن هناك من أحد. وتحيَّرتُ ماذا أفعل. ها أنا في بوابة المدينة الماموث، أرقُبها من وراء زجاج الصالة متوجسًا، كأني أتوقع عالمًا سحريًّا وراءها. وسألتُ عن وجود مكتب للأمم المتحدة في المطار فكان الردُّ بالنفي. وتوجَّهتُ إلى دفاتر التليفون محاولًا العثور على رقم للأمم المتحدة، ولكن البحث كان صعبًا. وأخيرًا، توكَّلتُ على الله، وأشرتُ إلى أحد الحمَّالين ليأخذ حقيبتيَّ إلى أحد التاكسيات. وأعطيتُه دولارين تلقَّاهما بقوله Thank you sir. وكانت اللغة الإنجليزية لها وقعٌ على أذني، وأنا المتعوِّد على اللغة الإسبانية، وزادت اللهجة الأمريكية من غرابة اللغة، رغم أنها تخصُّصي الأساسي قبل الإسبانية أو الفرنسية. وفي التاكسي، تذَكَّرتُ اسم فندقٍ كان مكتوبًا في الأوراق التي تلقَّيتُها من الأمم المتحدة، فذكَرتُه للسائق الذي تعرَّف على الاسم بعد أن نطقَه بالإسبانية: تودور وليس تيودور. وانطلَقنا.

وحين بدأنا الدخول إلى المدينة، لاحظتُ المباني القديمة الغبراء، ثم أكياس القمامة أمام البيوت على طريقة إنجلترا، مما يُعطي منظرًا غير لطيفٍ للزائر. ولم تكُن الطرق في نظافة طرق أوروبا. ووصلنا إلى الفندق وأنا أرجو أن يكون اسمي عندهم. ولما لم أجده طلبتُ غرفة لمدة أسبوع فأكثر، فإذا بموظف الاستقبال يدفع تحت بصري وأنا أملأ الأوراق بمنشورٍ مطبوع يطلب من الزبائن دَفْع أَجْر أسبوعٍ مقدمًا، وتعجَّبتُ من ذلك الطلب الذي لم أرَه من قبلُ في أي فندق، ولكني دفعتُ بالطبع. ووجَدتُ غرفتي متناهية الصغر، غير أن بها تليفزيونًا صغير الحجم. وبعد أن استحممتُ واسترحتُ، قرَّرتُ الخروج لأخذ أول نظرة على «عاصمة العالم». كان الفندق في شارع ٤٢، فمشَيتُ فيه مُصعِّدًا على غير هُدًى، وطالعتُ أسماء الأفنيوز، الجادَّة الثانية، الجادَّة الثالثة، لكسنجتون أفنيو، بارك أفنيو، ماديسون أفنيو، الجادَّة الخامسة، الجادَّة السادسة، ثم برودواي؛ حيث الأنوار البرَّاقة ودُور المسرح والسينما ومحلَّات الجنس من كل شكلٍ ونوع. اكتفيتُ بالنظر، وقفَلتُ راجعًا من نفس الطريق. وتلمَّستُ طريقة ترقيم الجادَّات والشوارع في نيويورك؛ فقد كان معظمها بالأرقام، وهي طريقةٌ جافَّة، بيد أنها عملية، ككل شيء في عاصمة المال والتجارة؛ فهي تُمكِّن المرء من الاستدلال على الطريق الذي يبغي الوصول إليه بسهولة.

وفي غرفتي الفندقية ثانية، داعبَني النوم أخيرًا، وكنتُ قد قرأتُ عن اﻟ jet lag الناتج عن فرق التوقيت، والذي يغيِّر من مواعيد النوم، فوجدتُها فرصةً لنَيل بعض الراحة، ولكني استيقَظتُ في الساعة الثالثة والنصف صباحًا بتوقيت نيويورك. ولمَّا وجدتُ أنني في حالةِ صحوة، جلَستُ إلى المائدة، وكتبتُ بعض الخطابات إلى والدتي والأصدقاء. وكنتُ أسمع بين آونةٍ وأخرى نفير «السرينة» لعربات البوليس والإسعاف، التي ستُصبِح من العلائم الدائمة في المدينة. ولفَت نظري أمرٌ غريب؛ إذ كنتُ أحيانًا أشعُر بتيارٍ كهربائي في يدي حين ألمسُ بعض مقابض الأبواب في الغرفة، فحسبتُ أن ذلك راجعٌ إلى خطأ في أسلاك التليفزيون الموجود بالغرفة، مما جعلَني قلقًا ومحاذرًا، إلى أن علمتُ بعد ذلك أن ذلك الأمر لا علاقة له بالكهرباء، وإنما هو ناتجٌ عن جفاف الجو بالغرفة نتيجة التدفئة المركزية.
وحين طلَع النهار، تجهَّزتُ، وارتديتُ ملابسي، وحملتُ معي أوراق التعيين التي وصلَتني من الأمم المتحدة، وخرجتُ سائرًا في الاتجاه المعاكس لليلة أمسِ لأصل إلى الجادَّة الأولى، وما هي إلا خطواتٌ ورأيتُ مبنى الأمم المتحدة قائمًا أمامي. تأمَّلتُه طويلًا. ولمَّا كانت الساعة لا تزال مبكِّرة فقد توجَّهتُ إلى الجادة الثالثة؛ حيث كانت هناك كافيتيريا خدمةٍ ذاتية اعتزَمتُ أن أتناول إفطاري بها. ووقَفتُ في الطابور لأطلب، واستفدتُ من طلبات السابقين لي، فطلَبتُ بيضًا وقهوة. ولما سألَتني النادلة كيف أريد البيض لم أحِر جوابًا، ولكنها ساعدَتني بذكر شيء فقلتُ بسرعة أن نعم. وظهَر أنها قالت sunshine، وهي تعني البيض المقلي، وهو ما كنتُ أريد بالفعل. وتعلَّمتُ طقوس الطلب والدفع التي تختلف باختلاف البلدان. وسمعتُ طريقة الأمريكان في التخاطُب والتحية والرد على الشكر؛ فهم يقولون Have a Nice Day أي يومك سعيد، ويردُّون على كلمة الشكر فيقولون You Are Welcome وليس For Nothing التي تعلَّمناها في الكلية، والتي كنتُ أردُّ بها على شُكر شريفة لي. وبعد ذلك، عرفتُ ودرَستُ اختلافاتٍ كثيرة بين الإنجليزية البريطانية والإنجليزية الأمريكية.

وبعدَها توجَّهتُ إلى مبنى الأمم المتحدة، وأطلَعتُ الحُرَّاس على خطاب التعيين، فوجَّهوني إلى إدارة شئون الأفراد، في الطابق ٢٧ على ما أذكُر. وهناك، أخذتُ أملأ أوراقًا وأوراقًا والعرق يتصبَّب مني من شدة التدفئة، ومنها عقد العمل الذي يُبيِّن شروطَ الوظيفة ونوعَها ومدتَها وأجرَها، ثم كتبَت لي الموظَّفة المسئولة الخطوات التي يتعيَّن أن أقوم بها بالتدريج. ذهبتُ إلى ما يُسمَّى «المكتب التنفيذي» للإدارة، التي تتبعُها دائرة الترجمة العربية؛ حيث ملأتُ مزيدًا من الاستمارات الخاصة بما سوف يُصرَف لي كبدل استعدادٍ وغيره. وأخيرًا، أشاروا لي بالتوجُّه إلى الدور الحادي عشر، وتقديم نفسي لمدير دائرة الترجمة العربية، لبدء عملي كمترجم بالدائرة. وذهبتُ إلى هناك، فأدخلوني إلى غرفة المدير — الأستاذ عدنان يوسف — الذي رحَّب بي، وذكَر أن الدائرة في مرحلةٍ انتقالية بسبب انتقال الكثير من موظَّفيها إلى دائرة جنيف، وسألَني إن كنتُ أعرف أحدًا هنا فذكَرتُ محمد العليمي، فقال إنه ممن انتقلوا مؤخرًا إلى جنيف. ثم استَدعى الأستاذ محمود السوقي، وطلَب إليه أن يُعرِّفني على أحوال الدائرة وموظَّفيها. وطفتُ معه على المكاتب، وكان المترجمون والمترجمات من دولٍ عربيةٍ مختلفة، ثم دخلنا إلى غرفة مدام سهير، فإذا هي التي كانت في لجنة اختبار الشفوي لمصحِّحي التجارب الطباعية، وتعرَّفَت عليَّ ورحَّبَت بي.

وكان موعد الغَداء قد حان، فانتهزَها الأستاذ محمود فرصةً لتعريفي بمكان الكافيتيريا، وعزمَني على الغَداء. وبعدها أراني الحجرة التي سأعمل فيها، وكان بها ثلاثةُ مكاتبَ خالية، ذكَر لي أن أحدها مشغولٌ بزميل في مؤتمر بالخارج، فاخترتُ مكتبًا إلى جوار النافذة التي تُطِل على نهر الهدسون. وقال لي محمود السوقي — وكان هو المشرف على البرمجة وتوزيع العمل — إنني لن أبدأ في الترجمة الفعلية قبل أن أقرأ العديد من التقارير والمذكِّرات المترجَمة، حتى أتعرَّف على الأسلوب المتَّبَع في الدائرة، والذي قد يختلف عن الطريقة المتَّبَعة في كل بلدٍ عربي على حدة. وذهبتُ إلى غرفة الوثائق، وتعرَّفتُ على محمد عبد العزيز، الذي رحَّب بي وسألني عن مصر، ثم قدَّم لي بعض الوثائق الإضافية بالعربية والإنجليزية، فطلبتُ أيضًا نفس الوثائق بالفرنسية والإسبانية، فبحث عنها وأعطاها لي.

وحين بدأتُ أقرأ الترجمات وقارنتها بالنصوص الأصلية، وجدتُ فعلًا أنها تسير على نمطٍ خاص ولها مصطلحاتٌ معيَّنة. وأخرجتُ ورقةً أخذتُ أدوِّن فيها بعض استنتاجاتي؛ فمثلًا، كانت الشهور تُذكر بطريقتَين، مثل: تموز/يوليه، مما يجمع بين ما يُستخدم في البلدان العربية. وكذلك عدم استخدام الجيم المصرية؛ فهي تنقلب غينًا، فنقول أوروغواي وغواتيمالا وغرينلاند، وهكذا. ويبدو أنهم كانوا يعتمدون الغالب الأعم بين الأقطار العربية. والحقُّ أني في نهاية الأمر وجدتُ أن مجموعة المترجمين والمراجعين في الترجمة التحريرية يقومون بعمل مجمعِ لغةٍ عربيةٍ نشيط؛ فلم يكن هناك مصطلحٌ يستعصي على ترجمته إلى العربية، ولا موضوع إلا ويُترجَم على نحوٍ واضح. وكان القائمون على الدائرة، عند إدخال اللغة العربية كلغةٍ رسمية إلى الأمم المتحدة عام ١٩٧٤م، قد صمَّموا على إثبات القدرة على القيام بكل ما تقوم به دوائر اللغات الرسمية الأخرى، وقد نجحوا في ذلك نجاحًا باهرًا. وكان ممن أشرف على تثبيت دعائم اللغة في بداياتها الأستاذ عدنان يوسف، وهو أكاديميٌّ لغويٌّ موسوعي المعرفة، وساعده في ذلك فريق القدامى في الدائرة، مثل محمود السوقي وأماني فهمي وعبد المجيد حسن، وغيرهم كثيرون.

وجاءني بعض الزملاء من دفعتي المعيَّنين معي يرحِّبون بي، ومنهم إسماعيل وميشيل، وقد انعقدَت صداقةٌ بيني وبين ميشيل، فكنا نخرج معًا كثيرًا. وكان هناك زميلٌ ذكَر لي أنه ذهب إلى لندن تلبيةً لطلب جريدة العرب، ولكن تجربته معها كانت غير موفَّقة، فحَمِدتُ الله أنني لم أذهب إليهم. ولما سألني ذلك الزميل كيف تمكَّنت من الذهاب منتدبًا إلى إسبانيا، أجبتُ بعد تفكيرٍ قصير: بالواسطة؛ فقد كنتُ أعرف تمامًا عقليتَه التي لا تُصدِّق حدوث شيء إلا عن طريق الواسطة، ولم يكن ليُصدِّق حكاية الامتحان أبدًا. وبالفعل، أبدى ذلك الزميل إعجابه بصراحتي، وقال إن الجميع يُخفون السبب الحقيقي لنجاحاتهم، ويَعْزونها إلى قدراتهم، بينما هي جاءت عن طريق معارفهم ووسائطهم.

ومع حضور زميل حجرتي الذي كان في مهمة؛ نبيل، تقاربنا بسرعة؛ إذ كانت له ميولٌ أدبية أيضًا. وشغَلَت المكتب الثالث في الغرفة زميلةٌ جديدة من دفعتي في الأمم المتحدة، أميمة. وبدأتُ أتعرَّف على بقية الزملاء. وجاءني فواز العظم يسألني هل أنا مترجم صورة الفنان، وذكَر لي أن أخاه قرأها بالعربية في ترجمتي وأعجِب جدًّا بها، ثم أحضَر لي عبد الجبار نسخةً من آفاق عربية، المجلة العراقية، وبها مقالي عن أنطونيو ماتشادو، وقد تفضَّل فترك لي النسخة؛ إذ لم أكن أعرف بنشر المقال. وفيما بعدُ، ذكَرَت لي أماني أن لي روايةً مترجمة تُنشر على حلقات في الملحق الأدبي لجريدة الراية القطرية، وقد رآها زوجها أحمد مرسي. ولما أبدَيتُ دهشتي لذلك أحضَرَت لي عددًا به إحدى الحلقات. وعندها عرفتُ أنها رواية ماركيز التي أعطيتُها لرجاء النقاش، وهو ينشُرها في الملحق الأدبي. وقد عزَّز هذا من ثبات قدمي في الدائرة إلى حين.

وسرعان ما بدأ تردُّدي على المكتبات. ووجدتُ ثروةً من الكتب التي لم أكن أحلُم بها، ولكني تمهَّلتُ في الاقتناء إلى أن أستقر في السكن أولًا. وكان هناك فرعٌ إداري لمساعدة الموظفين على العثور على سكنٍ مناسب، وبه إعلاناتٌ بحسب السعر، فوجدت استوديو معروضًا بإيجار ٢٥٠ دولارًا في الشهر، على بُعد خطواتٍ من مقر الأمم المتحدة. واتصلتُ بالمعلن الذي اتضح أنه موظفٌ هندي في المنظمة، منقول إلى فيِنَّا ويرغب في تأجير شقته من الباطن. ولم أكن أدري مغبَّة ذلك إلى أن تعرَّضتُ لمضايقاتٍ لإخراجي؛ ولكني صمَدتُ حتى يونيو، ولم أترك الاستوديو إلا لأنَّ آن ماري كانت على وشك الحضور. وكنتُ على صلةٍ دائمة بآن سواء بالخطابات أو التليفون، وكانت تجهِّز لحضورها، بينما أنا أرتِّب أمور زواجنا الرسمي. ولمَّا كنتُ أعتزم عقد الزواج في القنصلية المصرية، فقد ذهبتُ للاستفسار عن الشروط، وكانت المفاجأة أنهم يطلبون لذلك خطابًا من قنصلية الزوجة يفيد بموافقة دولتها على زواجها من مصري. وكان هذا من الأمور السيريالية التي بدت في بعض القرارات التي شَهدَتها تلك الفترة. ولكن، لمَّا كان لا بد مما ليس منه بد، فقد توجَّهتُ ذات ظهيرة إلى القنصلية الفرنسية، وطلبتُ مقابلة القنصل. وانتظرتُ دوري. وكان هناك شابٌّ وفتاة ينتظران بعدي. وحين خرج الموظف من مكتبه أشار لهما، ولكن السكرتيرة نبَّهَته إلى أنني قبلَهما، فذهبتُ إليه. وكان الخطأ أنني لم أدخل مكتبه وأقدِّم له نفسي، بل ذكرتُ له ونحن على عتبة الباب ما أريد. وطبعًا أدرك أنني عربي، فأجاب أنني أستطيع الزواج بمن أشاء، ولكنه لا يمكنه أن يعطيني شهادةً بأن القنصلية توافق على الزواج، فطلبتُ منه عنوان سفارة فرنسا في الولايات المتحدة، فأجابني أن السفارة لا شأن لها بذاك الأمر. وعليه، تركتُه وذهبتُ خارجًا. وعدتُ إلى مكتبي وأنا أشعُر بمهانةٍ وأسًى لا يُوصفان. ولما كنتُ لا أترك حقًّا لي، فقد عمَدتُ في اليوم التالي إلى كتابة خطابٍ طويل بالإنجليزية إلى سفير فرنسا في واشنطن، شرحتُ له فيه الموضوع، والمعاملة التي تلقَّيتُها في القنصلية، والتي لا تليق بالجمهورية التي تتبنَّى شعار الحرية والإخاء والمساواة.

ولكني تصرَّفتُ في نفس الوقت، فعرفتُ إجراءات الزواج المدني في بلدية نيويورك، والزواج الديني في مسجد نيويورك. وقد ذهبتُ مع بعض الأصدقاء إلى المسجد لحضور إشهار فتاةٍ فيليبينية إسلامَها بعد زواجها من زميلٍ مسلم، وخاطبت الإمام الشيخ جابر في أمر عقد زواجي بالمسجد فرحب بذلك. وتحدَّثتُ مع السيدة بالإسبانية، فشرحَت لي أنها أسلمَت لإسعاد زوجها، ولكنها للأسف لا تعرف شيئًا عن الإسلام، فذكَرتُ لها وجود كتبٍ كثيرة يمكنها أن تقرأ فيها بالإنجليزية والإسبانية. وعند ذلك عاهدتُ نفسي ألا أطلب من آن ماري أن تتحول إلى الإسلام إلا عن اقتناع، بعد مناقشاتنا الكثيرة في الدين. وعرفتُ أن كتابة شهادةٍ بتحوُّل امرئٍ إلى الإسلام أو أي دينٍ آخر لا معنى له دون أن يكون الشخص مقتنعًا بما يفعلُه، عارفًا به.

واقترب موعد حضور آن، فبحثتُ عن شقةٍ أخرى؛ حيث ازدادت مضايقات حارس العمارة لي، فوجدتُ استوديو آخر في شارع ٢٤ بين الجادَّتَين الثانية والثالثة، مفروشًا، فانتقلتُ إليه تاركًا مشاكل الشقة الأخرى. واستقبلتُ آن في المطار، وذهبنا إلى الاستوديو الجديد، ونعمنا باللقاء المتجدد. وكنتُ قد كتبتُ إلى الليسيه فرانسيه في نيويورك بمؤهِّلات آن ماري فطلبوا لقاءها، وذهبَت إليهم فقَبِلوها للعمل بها.

وفي يومٍ تلقَّيتُ مكالمةً هاتفية من القنصل العام الفرنسي، يذكُر لي أنه سيُرسِل لي الشهادة التي طلبتُها بالموافقة على زواجي من فرنسية، ولكني ذكَرتُ له أنني لا أحتاجها الآن، وطلب أن يعرف من أساء مقابلتي المرة السابقة في القنصلية فقلتُ إني لا أعرف اسمه. وقال إن القنصلية ستُسهِّل إجراءات الزواج على أي حال، وإنه يُمكِننا التوجُّه إلى الطبيب المعتمَد من القنصلية لأخذ شهادات الكشف الطبي المطلوبة للزواج المدني. وسُرِرتُ جدًّا بالمكالمة التي أعادت الأمور إلى نصابها، وكنتُ أكلِّم القنصل بتعالٍ ردًّا على المعاملة التي تلقَّيتُها من معاونه؛ فقد أدركتُ أن السفير الفرنسي قد تلقَّى رسالتي، ووجَّه القنصل إلى إجابة طلبي ومعاقبة من عاملَني بذلك الجفاء. وحين ذهبَت آن ماري بعد ذلك إلى القنصلية، قابلَت ذلك الموظَّف، وعرفنا أن اسمه ريمون.

وفي يوم ٧ يوليو ۷۸، توجَّهتُ مع آن ماري إلى الجامع الإسلامي؛ حيث قام الشيخ جابر بعقد زواجنا على النحو الإسلامي المتَّبع، وشهد على العقد زوج زميلتنا أميمة، الذي كان موجودًا هناك لصلاة الجمعة. وبما أني كنتُ ما أزال مؤمنًا بعدم التقليدية، فلم نقُم بأي احتفالٍ خاص أو ملابسِ عُرس لهذه المناسبة، بل إني عُدتُ لأواصل العمل بعد انتهاء المراسم، ولكني الآن آسف على ذلك؛ فقد كان من الواجب عمل ولو حدًّا أدنى من تلك الأمور التقليدية. بيد أننا كنا في غاية الفرح والنشوة من إتمام زواجنا الذي بدأناه في برشلونة. وكنا قبل عقد الزواج الإسلامي قد عقَدنا الزواج المدني في بلدية نيويورك، بعد استيفاء الشروط المطلوبة، ومنها الكشف الطبي، الذي أجريناه لدى الطبيب المعتمَد لدى القنصلية الفرنسية.

ورغم أن عقدي مع الأمم المتحدة كان محدَّد المدة لعامَين، فقد شرحَت لي السيدة سهير أني لم أعطَ عقدًا دائمًا؛ لأني ما زلتُ موظفًا في مصر، وقالت لي لو أنني قدَّمتُ استقالتي من وزارة التعليم العالي بمصر فسيُعطونني عقدًا دائمًا بعد فترة من الاختبار. وجعلتُ أفكِّر في الأمر، واعتمدتُ على الله، وأرسلتُ استقالتي إلى مدير إدارتنا، مع نسخةٍ إلى مديرتي السابقة، التي أصبحَت وكيلة الوزارة. ومضى الموضوع في طريقه، ومُنِحتُ عقدًا اختباريًّا أفضى في نهاية الأمر إلى عقدٍ دائم.

وفي أغسطس، فوجئتُ بمدير الدائرة يستدعيني، ويخبرني باختياري للسفر في مؤتمر سيُعقد بالأرجنتين، وكانت رئيسة بعثة المترجمين والمراجعين العرب السيدة سهير. وطبعًا لم أستطِع الاعتذار، رغم قلقي على ترك آن ماري وحدها بعد هذه الفترة القصيرة. وكنتُ لجهلي أحسب أن شعوري تجاه السفر إلى مؤتمراتٍ خارجية هو نفس شعور زملائي، إلا أنني رأيتُ العكس هو الصحيح؛ فقد كان الجميع يتُوقون إلى السفر في مثل تلك المؤتمرات. وتبيَّن أنهم وضعوني في الوفد محل أحد الزملاء، ولمَّا لقيتُه وذكَرتُ له أنني ذاهب لأنه قد اعتذر عن عدم الذهاب، قال لي إنه لم يعتذر، مما أصابني بذهولٍ لم أحِر معه منطقًا. وأدركتُ بعد ذلك أنهم وضعوني في بعثة المترجمين العرب لمعرفتي بالإسبانية، مما يُسهِّل الكثير من الأمور على أعضاء البعثة وعملها في بلدٍ يتحدَّث الإسبانية. وكان زملاء البعثة ممن أعرفهم جميعًا؛ عبد المجيد، وزميل الغرفة نبيل، وأحمد، وكرم السوري، الذي اصطحَب معه زوجتَه على نفقته الخاصة.

وأتمَمنا الإجراءات، واتفَقنا مع سهير على مسار السفر، الذي شمل البرازيل والأرجنتين حيث المؤتمر، ورحلة إلى أوروجواي، ثم بيرو، فنيويورك. وكانت فرصةً لا أحلُم بها لزيارة تلك الدول، خاصة بيرو وبها مرتفعات ماتشو بيتشو التي تغنَّى بها بابلو نيرودا. وكانت هذه السفرية هي التي أزالَت من رُوعي أيَّ خوف من الطائرة؛ فقد ركبنا عددًا كبيرًا من الطائرات لمسافاتٍ كبيرة وصغيرة، وبتنا نُقلِع ونهبط حتى أصبح ذلك الأمر شيئًا طبيعيًّا بالنسبة لي. وسافرنا من مطار جون كيندي إلى ريو دي جينيرو؛ حيث أمضينا يومَين زُرنا فيهما معالم المدينة الجميلة نهارًا، وفي الليل شاهدنا عرضًا لرقصات السامبا التي تُشتهَر بها البرازيل. وكنتُ أنا الذي يتعامل لغويًّا مع مَن نقابلهم رغم أنهم يتحدَّثون البرتغالية وليس الإسبانية، ولكن التقارب بين اللغتَين يسَّر لي مهمَّتي في أغلب الأحوال. ومن أدلة الصعوبات في التواصل ما حدث في الفندق الذي نزلنا فيه، حين اتصل بي نبيل شاكيًا أنه يطلب قطعة صابون من العامل دون جدوى أن يفهم ما يريد، رغم قوله له الاسمَ بكل ما يعرفُ من لغات، ويطلب مني محادثتَه. وكلمتُ العامل طبعًا، وفي لحظةٍ واحدة عرف ما يريد نبيل. وقد دهِشتُ لذلك؛ لأن الكلمة بالإسبانية وهي jabon قريبة جدًّا من معناها بالفرنسية مثلًا، ولكن هكذا الأمر؛ فأحيانًا مجرَّد تغيير النَّبْر في الكلمة يجعل البعض لا يدرك ماذا تعني. وقد أعجبَتني مدينة ريو جدًّا، بشاطئها المشهور «كوبا كابانا» وتمثال السيد المسيح الذي يُطِل عاليًا فوق المدينة.

ومن ريو أخذنا الطائرة إلى بوينوس آيرس، عاصمة الأرجنتين. وهناك، بما أنها مقَر المؤتمر، استقبلونا بحفاوة، وصَحِبونا حتى التاكسي الذي يُقِلُّنا إلى الفندق الذي سبق لنا الحجز فيه. وكان فندقًا كبيرًا مريحًا، يشمل وجبة الإفطار. ونزلتُ أستطلع العاصمة الأرجنتينية، التي يدعونها باريس أمريكا اللاتينية، ومعي خريطةٌ لها. كان أكثر ما لفَت نظري كثرة المكتبات، وكثرة المشترين فيها. وبالطبع، بدأتُ في شراء بعض الكُتب التي لم أسمع بها، ومنها كتابٌ مُهِم عن ألف ليلة وليلة. وكانت الأرجنتين قد فازت لتوِّها في كأس العالم لكرة القدم، فكانت الاحتفالات بذلك في كل مكان.

وبدأنا العمل في ترجمة الوثائق للمؤتمر، وكنا أحيانًا نسهَر طَوال الليل، ولكن العمل كان شائقًا مع مَن معنا مِن الزملاء. وقد افتتح المؤتمر رئيس «الخونتا» الحاكمة أيامها في البلاد، كما شاهدنا العديد من رؤساء الدول الذين حضروا المؤتمر. وكنا نخرج في أوقات الراحة معًا نتسوَّق في المحلات؛ فقد اشتُهرَت الأرجنتين بصناعة الجلود والفِراء والصوف، فأقبل البعض على شراء تلك المصنوعات، واشتريتُ بعض السويترات الصوفية الجيدة. وكانت الأكلة المشهورة في تلك البلاد هي لحم الماعز، والبيفتيك بصفةٍ عامة، ولكني انتهزتُ الفرصة ورحتُ أطلب ما كنتُ أحبُّه في إسبانيا ولا يُوجَد في مطاعم نيويورك عادة؛ الكبد، والكلاوي، والمخ، حتى إن نبيل قال ضاحكًا إنني لم أترك شيئًا من البقرة إلا وأكلتُه!

وانتهَزنا فرصة ثلاثة أيامٍ من الإجازات، وقمنا بزيارة إلى أوروجواي، عن طريق ركوب «الهيدروفيل»، وهو مركبٌ يسير طائرًا على الماء، أوصلنا إلى شواطئ أوروجواي، ومنها أخذنا باصًا إلى العاصمة مونتفيديو. وطَوال الرحلة البحرية، كنتُ أتمثل بابلو نيرودا الذي قام بنفس هذه الرحلة وهو مطارَد من حكومة شيلي، وقد عبَر جبال الأنديز إلى الأرجنتين، ثم «استعار» جواز سفر صديقه ميجيل آنخل أستورياس للعبور إلى أوروجواي؛ فقد كان وجهاهما متشابهَين جدًّا. وقد ذهب من هناك إلى باريس بجواز السفر ذاته!

وكانت زيارتنا لمونتفيديو موفَّقة، عمَدتُ فيها إلى الطواف بالمدينة وحدي، والحديث مع أهلها كلما تمكَّنتُ من ذلك. ومونتفيديو عاصمةٌ أنيقة تزخر بالشوارع النظيفة والمحلات الجميلة.

وكنتُ طَوال هذه الفترة على اتصالٍ مستمر بآن ماري تليفونيًّا وعن طريق الخطابات، وعرفتُ أنهم خصَّصوا لها فصلًا معينًا في الليسيه فرانسيه بنيويورك، وهي قد تعرَّفَت على إحدى المدرِّسات هناك كي تُعطيَها فكرةً عن التدريس بالليسيه. وكنتُ أتعجَّل الأيام حتى أعود إلى نيويورك قلقًا عليها وهي وحدَها؛ فقد استمر العمل في المؤتمر قرابة الأسابيع الثلاثة، وقرَّرنا بعدها العودة عن طريق البيرو. وحين خرجنا من مطار ليما الدولي، كان المشهد شبيهًا بمطارات العالم الثالث، من الحمَّالين وأصحاب التاكسيات والصبية الذين يتسوَّلون من المسافرين. وكنتُ قد قرأتُ عن العاصمة، وعرفتُ أنها تنقسم إلى الأحياء القديمة، وهي الفقيرة، والحي الجديد، وهو عبارة عن فيلاتٍ أنيقة بعضُها يُطِل على البحر. وليما عاصمة بيرو مدينةٌ ممثِّلة للعالم الثالث؛ حيث الفقر المُدقِع والغنى الفاحش، والسكان يغلب عليهم الطابع الهندي الأمريكي، الذي يميل عامةً إلى القِصَر ورَبْعة القامة وبُروز الخدَّين. وفي نفس الوقت تُوجَد بها المحلات الغالية والمطاعم الفاخرة، وقد دعَتنا سهير على أحدها للعشاء. وحين تغيَّبَت عن الحضور، أحجم بعض الزملاء عن طلب الأطباق الغالية، ثم بدَّلوا طلباتهم حين ظهَرَت أخيرًا.

ومن ليما ذهب بعضُنا إلى مدينة «كوثكو» لزيارة مرتفعات ماتشو بيتشو، وهي بعضُ بقايا بناءاتٍ منخفضة من آثار الحضارة الهندية الأمريكية السابقة على الإسبان هناك، ولكن ارتفاع المكان وقلة الهواء هناك لم يجعلانا نُطيل المكوث.

وقبل أن نطير عائدين إلى نيويورك، قدَّمَت لي سهير عدة تذكاراتٍ مع بطاقة شكرٍ من جميع أفراد الفريق، على معاونتي لهم في أمور اللغة الإسبانية. وفي نيويورك، حصلَت لنا سهير على إجازة لمدة يومَين نستريح فيهما من عناء العمل في المؤتمر. وقد كان لقائي لآن ماري تجديدًا للقائنا في يونيو، وكانت تحضر لدروسها في الليسيه فرانسيه بعد أن حصلَت على عقدٍ سنوي، وإن كان الأجر يكاد يكون رمزيًّا. وقد واصلنا التعرُّف على مناحي نيويورك، خصوصًا الثقافية والفنية منها، فزُرتُ معها من جديدٍ مُتحَف المتروبوليتان، ومُتحَف الفن الحديث الذي يُئوي لوحة «جرنيكا» الشهيرة لبيكاسو، ولوحة فان جوخ «الليلة المرصَّعة بالنجوم»، إضافةً إلى العديد من اللوحات المشهورة الأخرى. وزُرنا مكتبة نيويورك العامة، واطلَعتُ على فهارسها العربية، ووجدتُ أن بها معظم كتب التراث العربي، والأدب الحديث، كما وجدتُ كتبي التي ترجمتُها بها. وذهبنا ذات مساءٍ لحضور عرض «كارمينا بورانا» رأينا إعلانًا عنه في الصحف، ولكن حين دخلنا القاعة، رأينا الحضور يأخذون عند دخولهم أوراقًا موضوعة على المنضدة، فأخذنا مثلهم. وفوجئنا أن تلك الأوراق بها النوتة الموسيقية لكارمينا بورانا. وعندها اتضح الأمر؛ إذ إن ذلك اللقاء كان لهواة الغناء، وإن الحضور هم من سيُغَنون المقطوعات. وضحكنا ما شاء لنا الضحك من هذا المقلب، بيد أننا استمتَعنا بسماع الغناء، وإن لم نُشارِك فيه بالطبع إلا بحركات شفاهنا.

ومع الاستقرار النسبي الذي تبع الرحلة في أمريكا اللاتينية، بدأتُ في القراءة المنتظِمة وتكوينِ مكتبةٍ لي في هذا العالم الجديد، والعمل على إحضار ما أحتاجه من الكتب التي تركتُها في مكتبتي بالقاهرة. وكانتْ آن ماري قد شحنَت حاجياتها من مدريد، ووصلَت إلينا، فكان منها نواة المكتبة الإسبانية، كما كنا نتردَّد على مكتبة إسبانية – فرنسية في الجادَّة الخامسة لنشتريَ منها ما نحتاجه رغم الأسعار الغالية التي تبيع بها الكتب. أما الكنز المفتوح أمامي فكان كتب اللغة الإنجليزية، بأرخص الأسعار، فرحتُ أنهَل منها كل ما هو أساسيٌّ وجديد، وأغرق في قراءته. وكما في مدريد حين وجدتُ كل الكتب المشهورة بالإسبانية في متناول اليد، وجدتُ في نيويورك كل ما كنتُ أريد من الكتب المعروفة بالإنجليزية. وأخذتُ أتردَّد على كل المكتبات واحدةً واحدة، وكان من أشهرها مكتبة «ستراند» في شارع ۱۲، وهي التي تُعلِن عن نفسها بأنها تحتوي على قَدْر ما يوازي أربعة عشر ميلًا من الكتب الجديدة والقديمة. واكتشفتُ مكتباتٍ إسلامية في طرَف مانهاتن، جلَبتُ منها مؤلفاتٍ قيِّمة لكُتَّاب من تركيا وباكستان، وفيها نظراتٌ مستنيرة في فهم الفقه الإسلامي. كذلك تعرَّفتُ على مكتبة رشيد العربية في بروكلين، وتردَّدتُ عليها مع آن ماري حيث الحي العربي، كي نأكل الأطباق العربية التي نحبُّها.

وركَّزتُ أيضًا على جمع مكتبةٍ كاملة من القواميس كي تُساعدَني في عملي، وأرسلتُ إلى لندن في طلب نسخةٍ من القاموس الإنجليزي العربي، وإلى مدريد لطلب القاموس الإسباني العربي، رغم أن الاثنَين عندي في القاهرة. ولمَّا امتلأَت الرفوف التي عندي بحجرة العمل، ابتعتُ رفوفًا جديدة كي تحمل كتب اللغة والقواميس. ولم يمضِ وقتٌ طويل حتى كان الزملاء يحضُرون عندي للكشف عن كلماتٍ في القواميس التي جمعتُها. وابتعتُ من بروكلين كل ما وجدتُ أن من الصعب جَلْبَه من مصر، ومنه: دائرة معارف الشعب، الوحيدة التي صدَرَت في مصر عام ١٩٥٥م، وتفسير ابن كثير، وفي ظلال القرآن لسيد قطب، والفتوحات المكية لابن عربي، وألف ليلة وليلة من أربعة مجلَّدات طبعة بيروت. ووجدتُ الكثير من شرائط فيروز وأم كلثوم. بل كان هناك محلٌّ ضخم في مانهاتن للأسطوانات والشرائط وجدتُ به أسطواناتٍ لم أرَها من قبلُ، مثل حديث الروح والسودان لأم كلثوم، وإنده على الأحرار وفلسطين لعبد الوهاب. ووجدتُ في أغنية فلسطين بيتًا ليس موجودًا في الأغنية المذاعة، وهذا شيءٌ غريب. وكنا طبعًا قد اشترينا بيك أب صغيرًا لتشغيل الأسطوانات حين تسلَّمنا حاجياتِ آن ماري وبها أسطواناتٌ كثيرة. وكان عندي جهاز الكاسيت الصغير لسماع الشرائط. وبدأنا نُتابِع محطَّات التليفزيون، خاصة المحطتَين الإسبانيتَين اللتَين تنطلقان من فلوريدا ونُطقُهما بالطبع النطق الأمريكي اللاتيني.

وسرعان ما ضاق بنا الاستوديو الصغير، وأصبحنا نخطو بصعوبةٍ داخله، ولم يكن هناك رفوفٌ كافية للكتب. وعلى هذا، انتهزتُ فرصة طلَب صاحب الشقة زيادة الإيجار فرفضتُ ورحتُ أبحث عن شقةٍ أكبر. وكان البحث صعبًا؛ فالأسعار غالية. وأخيرًا وجدتُ شقةً مكوَّنة من غرفة نوم وصالونٍ كبير بمنافعها، ولكن خالية غير مفروشة. واتفَقتُ مع صاحبها وهو لبنانيٌّ كريم الخلُق، وبدأنا في نقل حاجياتنا إليها، في الشارع ٣١ بين الجادة الثالثة ولكسنجتون. واشترينا مائدةً وأربعة كراسي، وسريرًا كبيرًا، مؤقتًا. وكان موقعُها مناسبًا لكلينا، فكنتُ أذهب وأعود من وإلى الأمم المتحدة ماشيًا، بينما تأخذ آن ماري الباص من الجادة الثالثة حتى شارع ۷۲ مقَر الليسيه فرانسيه.

وغِرقتُ في قراءة تفاسير القرآن الجديدة التي اشتريتُها، ودفعَني ذلك إلى جمع الترجمات الإنجليزية والفرنسية والإسبانية التي أجدها لمعاني القرآن الكريم، ولكني لم أكن راضيًا عن أي ترجمةٍ وجدتُها حتى ذلك الوقت. وابتعتُ الكثير من المراجع والكتُب عن تاريخ المسيحية واليهودية، وبدأتُ أتناقش مع آن ماري في الدين عمومًا، وقرأَت عن الإسلام والقرآن بالفرنسية. وكانت عقيدتي تنحو إلى وحدة الدين في أساسياته، وأن كل الاختلافات هي اختلافاتٌ فلسفيةٌ ناتجة عن تفاسير وآراء، وأن ديانات التوحيد كلها واحدةٌ من الله الواحد، وإنما تختلف الشرائع والمناهج، وكنت أفضِّل ترجمة الإسلام بعبارة submission to God، وما دمنا كلنا منقادين لله الواحد الخالق القهَّار، فكلنا على دينٍ واحد في الأصل. وقد قال جوته بعد أن درَس الإسلام: «لو أن الإسلام هو لله القنوت، فكلنا على الإسلام نحيا ونموت». وقد تقاربَت رؤية آن ماري الدينية مع هذه الرؤية الأساسية.

وأصبحتُ متعودًا على سماع آيات القرآن المرتَّل، التي كنتُ قد نقلتُها من أسطوانات معهد مدريد، كل صباح، وقد أتاح لي سماع القرآن الكريم منطوقًا أن أصحِّح نطق الكثير من الكلمات التي كنتُ أخطئ في نطقها، ويُخطِئ كثيرون أيضًا في نُطقها لأنها غير المعهودة في الكلام الآن. ومن تلك الكلمات: ربَما؛ فهي تُنطَق بفتح الباء وليس تشديدها، بمعنًى مختلف هو: كثيرًا ومرارًا، كلمة «يا أسفَى» فهي تُنطق بالألف بدل الياء؛ «سَيناء» بسكون الياء، «المصطفَيْن» بسكون الياء وفتح الفاء، «ذَنوبًا» بفتح الذال بمعنى عقاب، «يمسِّكون» بتشديد السين وكسرها، «أمن لا يَهِدِّي» بكسر الهاء وتشديد الدال في يهدي. وكثير غيرها.

ومع زيادة مساحة الشقَّة التي نعيش فيها، زادت الكتب؛ فقد اشتريتُ مجموعة «قصة الحضارة» لويل ديورانت بالإنجليزية في ۱۱ مجلدًا ضخمًا، وكنتُ قد بدأتُ في قراءتها بالعربية في مصر. وكان لا بُد لنا أن نذهَب إلى المكتبة حاملين عربة التسوُّق ذات العَجَلات حتى نأتي بتلك المجلَّدات من مكتبة «ستراند» في الشارع ۱۲ إلى شقَّتنا. واستخدمنا العربة أيضًا حين اشتريتُ دائرة المعارف البريطانية من المكتبة نفسها، وقد فضَّلتُ شراء النسخة القديمة المطوَّلة وليس الجديدة التي اختصَروا فيها الشرح والكلام. واضطرَّنا هذا التوسُّع إلى شراء رفوفٍ من البلاستيك القوي لحفظ الكتب. والحقيقة أن موسوعة تاريخ الحضارة مهمَّة جدًّا لأيِّ مثقَّف، وقد قرأتُها على مهَل بالإنجليزية ثم جلَبتُها عند زياراتي لمصر بالعربية من مكتبة النهضة المصرية. والمجلَّدات في مجموعها تُشكِّل مهادًا مهمًّا لكل من يبغي فهم التاريخ والحضارات العالمية. والغريب أن المجموعة لم تتعرَّض لتاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، وهي خسارةٌ فادحة لم أجد كتبًا أخرى تعوِّض عنها فيما كُتب عن تاريخ أمريكا؛ فويل ديورانت يمزُج الوقائع التاريخية بإطارها الاجتماعي والثقافي والاقتصادي على نحوٍ فريد، مما يجعل القارئ يعيش ما يقرؤه ويفهمُه بسهولة، ويجمع بين العناصر التي تشكِّل تاريخ دولة أو شعب أو حضارةٍ معيَّنة. وهو يبدأ بمقدمةٍ طويلة يشرح فيها معنى الحضارة في مناحيها المختلفة؛ شروط قيامها – عناصرها السياسية – عناصرها الأخلاقية – عناصرها العقلية – بدايات الحضارة فيما قبل التاريخ. ثم فصول عن سومر، مصر القديمة، بابل، آشور، اليهودية، الفرس، ثم ينحو إلى الهند وجيرانها؛ الصين، اليابان. وهو في تناوله تلك الحضارات يُحيط بها إحاطةً شاملة لكل شيء؛ التطور السياسي، الدين، الشعب، الفن، التجارة والاقتصاد، الحياة العقلية. وفي الترجمة العربية، صدَر كل قسمٍ من هذه الأقسام في أجزاءٍ منفصلة.

والمجلد الثاني في الأصل الإنجليزي مخصَّص للحضارة اليونانية، التي تُفضي في المجلد الثالث للحضارة الرومانية منذ نشأتها وصدامها مع هانيبال حتى عصر الإمبراطورية وظهور المسيحية وانتشارها في عهد قسطنطين، ثم انحدار روما وسقوطها. وفي مجلدٍ رابعٍ ضخم يجمع فيه ديورانت «عصر الإيمان»، ويشمل الإمبراطورية البيزنطية، وظهور الإسلام وانتشاره مقيمًا حضارةً باذخة، ثم يصف الديانة اليهودية في العصور الوسطى، وينتقل منها إلى عصور الظلام التي خيَّمَت على الغرب حين كانت المدن الإسلامية في ذروة نهضتها العلمية والفنية والحضارية. ويصف تطوُّر المسيحية وسطوة الكنيسة ومحاكم التفتيش والحروب الصليبية. والمجلَّد الخامس مخصَّص لعصر النهضة ويركِّز على الفنون والآداب، بدءًا ببترارك وبوكاتشيو، ثم آل ميديتشي وازدهار فينيسيا، إلى عصر الاضطرابات السياسية في القرن السادس عشر. ويتناول المجلد السادس عصر الإصلاح، ويقصد به المؤلف الإصلاح الديني المسيحي أساسًا، ويتناول الدولة العثمانية وفتوحاتها، ولوثر والبروتستانتية، والإصلاحات الدينية في إنجلترا وفرنسا، وردَّة فعل الكنيسة الكاثوليكية لدعاوى الإصلاح. كل ذلك في روافدَ من الأحداث السياسية والكتابات الأدبية والفنية في كل هذه الدول. ويسرد المجلد السابع بذور عصر العقل، فيصف إنجلترا في عهد الملكة إليزابث الأولى، والنهضة الثقافية فيها، وأعلامها، وعلى رأسهم وليام شكسبير، ثم ثورة كرومويل وما تَبعَها من اضطرابات، وينتقل إلى إيطاليا، وإسبانيا في عهدها الذهبي الأدبي والفني، أيام سرفانتس ولوبي دي فيجا وكالديرون دي لا باركا وجويا وإلجريكو وفيلاسكث. ويُعرِّج على الأراضي المنخفضة ودول الشمال الأوروبي، ويقدِّم لمحةً عن معركة ليبانتو التي انهزم فيها الأتراك، ثم الدولة الصفوية في إيران. وعناوين المجلَّدات الأربعة التالية كلها تتعلق بأمورٍ فرنسية، مما يدُل على مدى تأثير فرنسا في أحوال الحضارة في تلك الفترات؛ فالمجلَّدان الثامن والتاسع على التوالي؛ عصر لويس الرابع عشر، وعصر فولتير، يرويان كل أحداث الدول الغربية على نفس منهج المؤلف الشامل، ويشرح الأوضاع في مقاطعات ألمانيا وسويسرا بالتفصيل، ويُبيِّن تقدُّم النظرة الإنسانية الهيومانية على الدينية، وانتصار حركة الفلاسفة في فرنسا بما هيأ الأوضاع للتغيير الثوري هناك. ويوثِّق المجلد العاشر وعنوانه «روسو والثورة» كل الشئون الأوروبية حتى الهجوم الفرنسي على الباستيل. ويختص المجلد الحادي عشر والأخير بعصر نابليون، ولكنه يؤرِّخ بالتفصيل للثورة الفرنسية وأثَرها في أوروبا، ثم صعود نابليون وحروبه. وينتقل إلى إنجلترا إبَّان الشعراء الرومانسيين، ثم إسبانيا وإيطاليا والنمسا وألمانيا، وينتهي بأفول نَجم نابليون وهزيمته مرتَين، ثم نفيه إلى جزيرة سانت هيلانة؛ حيث تُوفي هناك.

وقد قرأتُ المجلَّدات كلها بالإنجليزية، وأحسستُ بعد إتمامها بأنني عشتُ كل ذلك التاريخ، وأني أحمل كل تلك الأحداث على ظهري فتحنيه من هول ما وقع على مَر التاريخ، ثم عدتُ فقرأتها بعد سنواتٍ بالعربية، من ترجمة أساتذتنا الكبار؛ زكي نجيب محمود، ومحمد بدران، وفؤاد أندراوس، وعلي أدهم، وعبد الحميد يونس. وقد توقَّف نشر الترجمة في مصر عند نهاية المجلد العاشر، بينما صدَرَت ترجمة المجلد الحادي عشر عن مجمع أبو ظبي. وهذه المجلَّدات — في أي لغة — يجب ألا تخلو مكتبة المثقَّف منها؛ فهي تُحيط بأشياءَ مُهمَّة لا غنى عنها.

وأصبحنا معروفين في المنطقة التي نسكن فيها بعودتنا محمَّلين بالكتب في عربة التسوق. وبدأتُ أفكِّر في العودة إلى الكتابة والنشر، ولكن إيقاع الترجمة في العمل لم يكن يترك مجالًا كبيرًا لذلك. كان على المترجم أن يُغطِّي كميةً معيَّنة كل يوم، بالإضافة إلى المهام الخاصة مثل ترجمة وثائقَ مطلوبةٍ على الفور للتوزيع المبدئي على أعضاء الوفود. وكنتُ أدخل في الكثير من نوبات العمل الليلية، رغم كُرهي لها، وكانوا يُعلِّلون ذلك بأني الوحيد الذي يترجم عن الإسبانية مباشرةً (أيامها). وحين انعقَد مؤتمر في هافانا بكوبا كنتُ بالطبع من المختارين للعمل فيه. وتوجَّهتُ أنا وعبد المجيد قبل فريق العمل للإعدادات الأولية. ولم تكُن هناك علاقاتٌ بين الولايات المتحدة وكوبا؛ لذلك طرنا إلى فلوريدا، ثم أقلَّتنا طائرةُ محركاتٍ صغيرة أشبه بالأوتوبيسات إلى هافانا. وكانت تجربة زيارة كوبا فريدةً في نوعها.

قضينا وقتًا طويلًا للخروج من مطار هافانا؛ حيث إننا قادمان من أمريكا، ورغم وجود مَن كانوا بانتظارنا. واصطحبونا خارج المطار، ووجَدنا الأهالي ينتظرون خارجًا على نفس وضع المصريين في الستينيات والسبعينيات. وشاهدنا الطقس الاستوائي في المطر الغزير. وأخذونا إلى الفندق المخصَّص للعاملين في المؤتمر، وكان قريبًا من قصر المؤتمرات. وكان الفندق الحكومي فاخرًا، تتوافر فيه كل وسائل الراحة بما فيها حمَّام للسباحة، ويُطِل على المحيط. وكنا في أواخر شهر ديسمبر ۷۹، ولكن الجو هناك كان صيفًا فاستمتعنا بالبحر، وكان عبد المجيد يسبح كثيرًا في حمَّام السباحة. وكان الطعام الذي يُقدَّم لنا فاخرًا، بعكس حالة البلد وأهلها؛ فقد خرجنا في زيارة للعاصمة وهالنا ما وجدناه؛ المحلات خالية من البضائع، والمقاهي لا تُقدِّم إلا قليلًا من المشروبات، وحتى المكتبات لا يُوجَد بها إلا كُتب عن الشيوعية. وكان يبدو على الأهالي مظاهر الفاقة والبؤس والاستسلام لقدَرهم. ولم يكن هناك الكثير من الآثار لزيارتها، ومعظمها خاص بالثورة الكوبية وشي جيفارا، ولكني كنتُ مُصرًّا على زيارة متحف همنجواي القريب من العاصمة. ورتَّبوا لنا زيارة لمصنع السيجار الهافاني الفاخر الذي يُقبِل الجميع على شرائه؛ لأنه غير موجود في أمريكا. وكان كل مَن رأينا مِن السياح هناك وفي الأماكن الأخرى من روسيا ودول أوروبا الشرقية.

وحين ذهبنا إلى مقَر المؤتمر، وجدتُ الأمر مشابهًا لما كان في مصر أيام عبد الناصر؛ فقد كان لكل مجموعةٍ مُرافقٌ كوبي، شابًّا كان أو فتاة، يتناقش معهم، ويُراقب ما يقولون ويفعلون، ولا بد أنهم كانوا يقدِّمون تقارير بعد ذلك عما سمعوا أو رأَوا. وافتتَح المؤتمرَ الرئيسُ فيدل كاسترو، ورأينا كيف يخطب ويجذب الناس بسحر كلامه وحركاته؛ فقد كان ذا كاريزما واضحة. وكان العمل كثيفًا، فكنا نُترجِم ليلًا ونهارًا. وحين سنحَت فرصةُ راحة، طلبتُ تاكسيًا للذهاب بي إلى بلدة سان فرنثسكو دي باولا حيث مُتحَف همنجواي. وكنتُ قد قرأتُ الكثير عن هذه الضاحية والبيت الذي اشتراه همنجواي هناك، والذي أحالته حكومة الثورة إلى مُتحَف. وعشتُ كثيرًا في أجواء تلك البلدة وذلك البيت عند ترجمتي لكتاب «بابا همنجواي» لهوتشنر، والذي نشرَتْه دار الآداب، كما ذكرتُ من قبلُ. وكنتُ قد قرأتُ أن كاسترو قابل همنجواي عدة مرات، وأنه كان معجبًا برواياته، لدرجة أنه كان يصطحب واحدةً منها في كل رحلةٍ من رحلاته.

وجاء التاكسي بعد فترة. لا بُد أنهم قد أخذوا تصريحًا بذلك قبل أن يأتي. ورافقَني في الرحلة نبيل وحسن، لكني كنتُ أنا الداعي؛ فقد دفعتُ أجر السائق مُقدَّمًا. وحين وصلنا انتابَتْني حالةٌ من الإشراق الروحي؛ فها أنا في وسط الضيعة التي طالما قرأتُ عنها. وطفتُ بها كأني أعرف نواحيها، وأطلَلتُ من نوافذ البيت على مكتبة همنجواي؛ فلم يكن مسموحًا بدخول الزوار إلى داخل المنزل، ورأيتُ الكتب المعروفة فيها، ورءوس حيواناتٍ معلَّقة على الحائط، ونظَّارة همنجواي على مكتبه توحي بأنه سيعود لتوِّه ويستأنف قراءته أو كتابته. وأثار عجَبي وجود بعض «البافات» الفرعونية التي نبتاعها من خان الخليلي في بعض الغرف، وعلمتُ بعد ذلك أن ماري ولش قد اشترتها فعلًا من القاهرة، إبَّان زيارةٍ خاطفة، حين كانت الباخرة التي تستقلها مع همنجواي راسيةً في بورسعيد؛ حيث بقي الكاتب في الباخرة ولم يذهب معها. وطفتُ بأنحاء الضيعة، فشاهدتُ البرج الذي بنَته زوجة همنجواي فيها، والأشجار الكثيفة التي تغَطي مساحةً كبيرة من الضيعة. وقد التقطتُ الكثير من الصور بالكاميرا التي معي. وكم كان حزني بعد ذلك حين وجدتُ أن فيلم الكاميرا لم يكن يدور، وكان كل ما التقطتُ من صور «على الفاضي»!

وقبل العودة من كوبا، اشتريتُ بعض التذكارات من بطاقاتٍ مصورة وميداليات وصور. وعُدنا في الوقت المناسب لقضاء عطلة الكريسماس مع آن ماري. وأمضَينا ليلة رأس السنة لأول مرة وآخرها في تايمز سكوير؛ حيث حضَرنا تغيير التفاحة المضيئة من عام ١٩٧٩م إلى ١٩٨٠م. وكان العام مهمًّا بالنسبة لنا؛ لأني كنت أستحق الإجازة المدفوعة إلى الوطن — وكانت كل سنتَين. وقد ادَّخرتُ إجازاتي كلها كي آخذها آنذاك؛ إذ كنا سنزور فرنسا عند أسرة آن ماري — ولم يكونوا رأَوني بعدُ أو رأيتُهم — وأهلي كذلك في مصر. وكنتُ أشعر بهدوء وسعادة بأني سأعود إلى مصر وأنا أعرف أني في وظيفةٍ جيدة وسأعود إليها إن شاء الله. وكان علينا الاستعداد كعادتنا في كل شيء، بشراء حقائب وهدايا لكل شخص، وتنظيم الوقت لزيارة «لي هافر»؛ حيث تقيم أسرة آن. وقبل ذلك استدعاني رئيس الدائرة ليقول لي: «أجاهزةٌ حقيبتك؟» وإذا به يخبرني أن عليَّ الذهاب في مهمة للترجمة بفرع الأمم المتحدة في بغداد مدتُها ثلاثة أشهر، وأضاف في حب: إنها بلدي، العراق. ووقعتُ في حرجٍ شديد؛ فلم أكن مستعدًّا أن أترك آن وحدها طوال هذه الفترة، كما أن إجازتي تحلُّ بعد تلك الشهور مباشرة، فذكَرتُ كل هذه الأسباب للمدير، فقال إنه يمكنني أن أصطحب زوجتي معي ثم نتوجه للقاهرة مباشرةً للإجازة، فشرحتُ له في تردُّد صعوبة ذلك؛ لأن آن تعمل، ولا تستطيع ترك عملها، وإذا به يقول لي: إذن أنت ترفض العمل؟ فهالَني ما ذكَره، ونفيتُ ذلك؛ فقد كنتُ ما أزال في فترة الاختبار، ولكني كنتُ مضطرًّا إلى الاعتذار؛ لأن مثل تلك المهمة ستعصف باستقراري وخطَطي. وذكَرتُ للمدير أنه إذا لم يُمكِن العثور على بديلٍ لي للذهاب إلى بغداد، فلا مناصَ لي من القبول، فأجاب بأنه سيرى، ولكن عليَّ أن أحضِّر نفسي للسفر على أي حال.

وقضيتُ أيامًا قلقةً غير مستقرة، ومضى أسبوع، فعشرة أيام، دون أن أسمع من المدير، ثم انقشَعَت الغمة حين سمعتُ أن أحمد سيسافر في مهمةٍ إلى بغداد، فاطمأنَنتُ إلى أني لن أسافر في تلك المهمَّة. وعلمتُ أنه عادةً ما يتم اختيار غير المتزوجين وغير الآباء للسفر في تلك المهام الطويلة. وواصلنا الاستعداد لسفرة الوطن من جديد. وقبلها كان لا بد من وضع تقرير الأداء لي ومنحي عقدًا دائمًا، فقابلتُ المدير الذي استعرض أدائي، وامتدحَني، وركَّز على حسن استعدادي، وأعطاني تقدير جيد جدًّا، بما ضَمِن لي الحصول على العقد. وحين جاء وقت التقدُّم بطلب الإجازة، فوجئ المدير بالمدة التي طلبتُها وهي شهران، وقال إنه عادةً لا يُحب منح إجازاتٍ طويلة هكذا؛ ولذلك طلَب مني أن آخذ إجازاتٍ ولا أدخرها لرحلة الوطن. واعتذرتُ له بأني لا بد أن أذهب إلى «وطنَين»؛ حيث إن زوجتي فرنسية، فقال إنه سيوافق هذه المرة فقط، ولكن عليَّ بعد ذلك أن أتصرَّف. وبدأنا في وضع برنامج السفر، وذهبتُ لحجز التذاكر من وحدة السفر في الطابق العشرين من المبنى. ولمَّا كنتُ لا أحب ركوب الطائرة لمدةٍ طويلة، فقد تجنَّبتُ السفر المتواصل إلى القاهرة، بل رتَّبتُ للمكوث وقتًا ما في فرنسا قبل التوجُّه إلى القاهرة، وكذلك في العودة، مع ما في هذا من مشقةٍ وحلٍّ وترحال.

وبدأنا الرحلة في وسط يونيو، وحلَلْنا في مطار شارل دي جول؛ حيث تركنا إحدى الحقائب الكبيرة في الأمانات لحين العودة، ثم أخذنا تاكسيًا إلى محطة سان لازار. وحين دخلنا إلى باريس، استمتعتُ من جديدٍ بمشاهدها الفريدة التي لا تُوجَد في عاصمةٍ أخرى، من جمال المباني وهندستها وتنوُّع الألوان فيها والأنساق. وتعرَّفتُ أكثر على محطة سان لازار بمقاهيها ومحلاتها. ثم ركبنا القطار المتجه إلى الهافر بمقاطعة نورماندي، ويصلها في مدى ساعتَين من باريس. ومرَرنا على بقاعٍ خضراء ومراعٍ بها الأبقار النورماندية المشهورة وأشجار التفاح، وآن ماري تشرح لي ما نمُر به من مدنٍ وقرًى، خاصةً مدينة روان التي أحرِقَت فيها جان دارك. وحين وصلنا إلى الهافر أخذنا عربة أجرة إلى حيث تقطن أسرة آن، في منطقةٍ تُدعى «كلو كاريو»، في فيلا محاطةٍ بحديقةٍ مقدَّمة من المصنع الذي يعمل فيه والدها. وكان الجميع في استقبالنا، ورحَّبوا بنا على أفضل وجه. وقد اعتذرتُ للأبوَين عن عدم اتصالي بهما طَوال ذلك الوقت، وكانت أول مرة أراهما أو هما يرونَني. وقابلتُ الأخ الأصغر لآن وكان ما يزال يعيش مع الأبوَين ويدرُس. وبعد ذلك جاءت جوزيت الأخت الكبرى مع زوجها ميشيل، ورحَّبا بنا. وقد دعتنا جوزيت إلى رحلة بالعَربة إلى المدينة القريبة «إترتا» بعد أيام، واستمتَعنا هناك بالبحر والصخور والمناظر الطبيعية الخلابة.

وحين ذهبنا إلى غرفتنا في الطابق الأعلى، استغرقتُ في النوم من شدة تعبي وفرق التوقيت. وبعد ذلك خرجتُ مع آن أستكشف المدينة وما بها، واشترينا بعض العطور والإشاربات الفرنسية كهدايا في مصر. والهافر مدينةٌ صغيرةٌ هادئة، دُمرَت في الحرب العالمية الثانية؛ ولذلك فمبانيها معظمُها جديدة. وهي ميناءٌ مهمٌّ يُطِل على بحر المانش، ويستقبل ويرسل العبَّارات التي تصلُه بإنجلترا، وبها ساحلٌ جميل زرناه مرتَين، وشاهدتُ فيه الحِسَان الفرنسيات في لهوهن واسترخائهن، وبعضُهن عاريات الصدور. وبعد أن قضَينا أسبوعًا مع العائلة الفرنسية، عُدنا إلى باريس فالمطار في طريقنا إلى القاهرة. وهناك استقبلَنا أخواي في المطار وسهَّلا دخولنا وذهابنا إلى شقة محمد شكري؛ حيث رأيتُ والدتي، ورحَّبَت بنا بعد غياب سنتَين. وكان لقاءً حميمًا مع الجميع، وتبادلنا الهدايا، وذهبتُ إلى غرفتي الحبيبة وقد وضعوا فيها مروحةً كهربائية وجهازًا لمنع الناموس، خوفًا على آن ماري. وكانت صباح ما تزال مع والدتي، فقامت على راحتنا خير قيام.

واصطحبتُ آن كالعادة لزيارة الآثار القاهرية، وتغدَّينا في البرج وهو يدور بنا، وذهبنا إلى القلعة وجامع محمد علي. وأخرجتُ لها كارنيهًا في نادي الجزيرة باعتبارها زوجتي، وأصبحنا نذهب هناك لمقابلة أحمد. وكنا قد خطَّطنا أن تسافر آن وحدها إلى فرنسا قبلي حتى تقضيَ مع أسرتها أكثر وقتٍ ممكن، على أن نتقابل بعد ذلك في باريس، فنسيح فيها وقتًا إلى حين عودتنا إلى نيويورك. وبعد سفَرها قضيتُ معظم وقتي في المكتبات، أشتري كل جديدٍ أحتاجه، خاصةً كتب اللغة العربية والنحو والقواميس، حتى القديم منها، فاشتريتُ قاموس النهضة، وقاموس سعادة، وقاموس إلياس، وكتاب النحو الواضح بأجزائه المتعدِّدة. كذلك جمعتُ ما أصدَر نجيب محفوظ من رواياتٍ جديدة، وما أصدره الروائيون الجُدُد. ووجدتُ قريبًا من بيتنا فرعًا لمكتبة دار الفكر العربي، فقضيتُ فيها أوقاتًا كثيرة، ووجدتُ بها الكثير من الكتب التي أحتاجها. وزرتُ مقَر عملي في وزارة التعليم العالي، وقابلتُ زملائي، ورحَّبوا بي، وسَعِدتُ كثيرًا برؤيتهم.

كان الأصدقاء قد بلَغوا مرحلة النضج، ومن المناسب أن أذكُر هنا شأن بعض أفراد المجموعة. كان أحمد السودة قد أصبح مستشارًا بالنيابة الإدارية، وقد تزوَّج أستاذةً جامعية، وواصل قراءاته المتعدِّدة، واستمَر في أنشطته الرياضية التي يمارسها في نادي الجزيرة حتى اليوم. وكان أحمد السودة وعبد الفتاح العدوي أكثر من أقابل من الأصدقاء، إلى أن ذهب عبد الفتاح للعمل في السعودية.

أما علي كمال فقد ذهب منتدبًا للعمل في إذاعة طوكيو باليابان، ثم مكَث هناك بعد انتهاء إعارته وتزوَّج يابانية. وقد توفَّر عليٌّ على القراءة الجادة والترجمة العملية، وتخصَّص في السينما والأفلام حتى أصبح مرجعَنا جميعًا في شئونها. وهو يُقسِّم الآن وقته ما بين القاهرة وطوكيو، فنال أفضل الحسنيَين.

وقد تنقَّل محمد إبراهيم كثيرًا بين وظيفة التدريس ووظائفَ أخرى في شركات وهيئات، حتى استقَر أخيرًا رئيسًا للترجمة في مجلس الشعب؛ حيث وصل إلى درجة وكيل أول وزارة. وقد أصدَر عدةَ معاجمَ قيمة، توَّجَها بمعجم ألفاظ القرآن الكريم، وقد عمل فيه لمدة عشرين عامًا، فصدر في أفضل الصور الممكنة. وله أيضًا رواية لسيرة القرية التي نشأ فيها، وهو كتابٌ شيِّق يذكِّر برواية الأيام لطه حسين.

أما نبيل راغب فقد عاش حياةً حافلةً مليئة بالنشاط والعمل؛ فقد ثابر حتى حصل على الماجستير فالدكتوراه، وعمل في أكاديمية الفنون وعميدًا لمعهد التذوُّق الفني. وكان حين زيارتي القاهرة سكرتيرًا للرئيس أنور السادات، وأصدر كتبًا عديدة.

وفي تلك الإجازة، اشتريتُ عددًا كبيرًا من الكتب والقواميس؛ لذلك فقد ذهبتُ إلى مكتب توماس كوك لشحنها إلى نيويورك، فطلبوا مني تصريحًا من هيئة الكتاب بشحن الكتب، فكتبتُ قائمةً بها، وذهبتُ إلى مقَر الهيئة، وطلبتُ مقابلة رئيسها الشاعر صلاح عبد الصبور. وقابلَني الأستاذ صلاح رغم أنه كان مع زائرٍ أجنبي، ووافق على إرسال الكتب. وقدَّمتُ التصريح للشركة، ووضعتُ الكتب في حقيبةٍ كبيرة، وذهبتُ في يوم الشحن إلى المطار كطلب مندوب توماس كوك؛ حيث تطلَّب الأمر دفع بعض الإكراميات حتى جرى شحنُ الحقيبة. ورغم ذلك كان معي حين سافرتُ إلى باريس للقاء آن ماري حقيبتان معظمهما مليءٌ بالكتب. ووجدتُ آن في استقبالي في المطار، وكانت قد حجَزَت في فندق بوسط باريس، فاتجهنا إليه بالتاكسي. وكان فندقًا مريحًا، فطرَحنا حاجياتنا، وخرجنا نستكشف باريس الجميلة. وكانت قد مضت سنواتٌ طويلة على آخر زيارةٍ لي لباريس؛ ولذلك عزَمتُ على مطالعة باريس على مهلٍ لأتذوَّق جمالها كما يجب، خاصةً وأنا قد انتسبتُ إليها الآن.

وكنا نطلب الإفطار في الغرفة كل صباح؛ فأنا لا أستطيع الخروج دون إفطار. وأحببتُ الكرواسان الساخن مع القهوة باللبن والخبز الفرنسي ذا الشهرة مع المربَّى. وخرجنا إلى جوٍّ صيفيٍّ بديع، فأردتُ أن أرى أجمل ميدان في العالم في تلك الصباحية المشرقة، فتوجَّهنا إلى ميدان الكونكورد؛ حيث تأمَّلتُ المسلة المصرية البديعة، والمنظور الجميل عَبْر شارع الشانزليزيه ويبدو في آخره قوسُ النصر حتى ليحسب الرائي أن المسافة إليه قريبة، ولكنها في الواقع مسافةٌ بعيدة جدًّا. وبدأنا السير في الشانزليزيه وتأمُّل فترينات المحلات والبوتيكات الأنيقة، وكنا نستريح في المتنزَّهات الخضراء للتويلري، وميدان القصر الصغير المليء بالأزاهير من كل نوع ولون. وكان الطريق طويلًا حتى إننا ملنا في طريقنا إلى مطعمٍ مغربي في شارعٍ جانبي لتناول الغداء. وطلبنا الطاجن المغربي الشهير مع النبيذ الأحمر، ثم حلَّينا بالبقلاوة التي أحبَّتها آن ماري.

ولن أطيل في وصف الأيام العشرة التي قضيناها في باريس، ولكنها كانت أيامًا لتتبُّع الجمال في كل مغانيه، والفن والتاريخ. ورغم أنني زرتُ باريس قبل ذلك كثيرًا، فقد طال غيابي عنها، فكنتُ أتنقل من مكانٍ إلى مكانٍ لاهثَ الأنفاس، حتى إن آن ماري لم تكُن قادرةً على تتبُّعي، فصَعِدنا إلى أعلى قوس النصر، وأكلنا في مطعم برج إيفل الشهير، وعبَرنا شارع ريفولي، وقضَينا ساعات وساعات في اللوفر وجي دي بوم ومُتحَف التاريخ الطبيعي. وتمشَّينا على نهر السين، وردَّدنا قصيدة أبولينير حين عبَرنا جسر ميرابو — وكانت مسجَّلةً عندنا يتلوها بصوته — واشترينا عشرات الكتب من على ضفاف السين ومن المكتبات، خاصة «الفناك». وقد عُدتُ بترجمتَين لمعاني القرآن الكريم إلى الفرنسية، لكازيمرسكي وجروسان، ومن هنا عزمتُ على جمع تراجمَ القرآن للمقارنة بينها باللغات التي أعرفها.

وعُدنا إلى شقَّتنا في نيويورك محمَّلين بذكرياتٍ جميلة وحصيلةٍ كبيرة من الكتب الجديدة تكفي السنتَين قبل استحقاق الإجازة المدفوعة ثانية. وسرعان ما اندمجنا في حياتنا النيويوركية ثانيةً من عملي في الترجمة وعمل آن في التدريس. وفكَّرتُ في ضرورة العودة إلى الكتابة والنشر، فاخترتُ مسرحية لوركا «الآنسة روزيتا العانس» لترجمتها من الإسبانية إلى العربية. وبرغم انشغالي في العمل والنَّوبات المسائية التي أكرهُها لأني لا أستطيع النوم في النهار، بدأتُ الترجمة تدريجيًّا. وهذه المسرحية شاعريةٌ حزينة، تذكِّر القارئ أو المُشاهد بمسرحيات تشيكوف، وتحكي قصة روزيتا، التي تعيش في غرناطة مع عمها وعمتها، والتي اضطُر خطيبها إلى السفر إلى أمريكا الجنوبية ليُساعِد والدَه في عمله هناك، مع وعدٍ بالعودة سريعًا للزواج من روزيتا، ولكن تمُر سنواتٌ كثيرة ولا يعود الخطيب، فيُضطَر بعد مرور خمسة عشر عامًا إلى أن يُرسِل لخطيبته رسالةً يأسف فيها لعدم عودته حتى الآن، ويذكُر أنه لذلك قد عقد العزم على أن يتزوَّج من خطيبته روزيتا بالتوكيل، ولكن بعد مرور عشرة أعوامٍ أخرى، لم يكن الزواج قد تم، ودخلَت روزيتا إلى مرحلة الشيخوخة، وكان العم قد مات، وتعرف العمة ومدبِّرة المنزل أن الخطيب قد تزوَّج من ثماني سنوات من امرأةٍ ثرية في أمريكا الجنوبية ولكنهما لم تُخبِرا روزيتا بذلك، ثم نعرف أن روزيتا كانت على علمٍ بخيانة خطيبها تلك. وتنتهي المسرحية نهايةً أسيفة؛ إذ تغادر الأسرة المنزل لأن العم كان قد ارتهَنه قبل وفاته فلا بد من بيعه، فيخرجون في جُنح الظلام بينما تعصِف الريح مشاركةً لروزيتا في حزنها وقنوطها.

وحين انتهيتُ من الترجمة، أرسلتُ إلى سلسلة «من المسرح العالمي» الكويتية أعرض عليهم نشر المسرحية. وبعد فترةٍ جاءني ردُّهم بالموافقة، وطلَب كتابة مقدِّمة للمسرحية. وسُرِرتُ جدًّا، وعزَمتُ على كتابة مقدِّمة تُعرِّف بلوركا وفنه المسرحي، بما عندي من مراجعَ كثيرةٍ عنه الآن.

وفي يومٍ أحسَّت آن ماري بإعياء في الصباح قبل ذهابها إلى المدرسة، ثم تكرَّر ذلك. ولمَّا أصابها غثيانٌ وقيء شكَكْنا في الأمر، فاشترت اختبارًا للحمل وتركَته لي كي أشاهد النتيجة صباحًا، بعد نوبةٍ ليليةٍ مضنية، وأفقتُ من غفوةٍ قصيرة، وتذكَّرتُ عُلبة الاختبار، فذهبتُ إليها بين اليقظة والنوم، فوجدتُ النتيجة إيجابية؛ أي إن آن ماري حامل. وعُدتُ إلى غفوتي ولم أفكِّر في الأمر إلا عند الظهر. وامتزجَت فرحتي الطاغية بقلقي الشديد من مسئولية الحمل ورعاية الحامل طوال فترة الشهور التسعة. وتذكَّرتُ عندها بوضوحٍ كامل النطفة التي صَعِدَت على ساق الوردة حتى التقَت بقلبها محقِّقةً أمرًا كان مقضيًّا من قبل أن يبرأ الله الأرض ومن عليها. وحين عادت آن من عمَلها فرحَت بالنبأ، واستراحت من معرفة سبب تلك الأعراض الطارئة، وكان علينا البحث عن طبيب لمتابعة الحمل والولادة. وفضَّلتُ العثور على طبيبٍ يتحدث الفرنسية حتى يُمكِن لآن أن تتفاهم معه بسهولة دون لبسٍ أو إبهام. وعليه فتحتُ كُتيِّبًا كان عندنا عن الخدمات الفرنسية في نيويورك، واخترتُ طبيبًا قريبًا من الليسيه التي تعمل بها آن، واتصلتُ به وشرحتُ له ما أريد، فضرَب لنا موعدًا للكشفِ عليها.

وحين ذهبنا، وبعد كشفٍ دقيق طمأنَنَا الدكتور «دون سلون» أن الحمل على ما يُرام، وأوصاها بأشياءَ تتبعُها لتخفيف الغثيان، وكان عليها أن تُعاوِد الطبيب على فتراتٍ متقاربة. وتَركْنا هذا الأمر يأخذ مجراه بعونٍ من الله، ولم نطلُب من الطبيب معرفة نوع الحمل وهل هو ذكر أم أنثى رغم انتشار ذلك عن طريق «السونوجرام».

ولمَّا كان الحمل في آخر أكتوبر، واصلَت آن عملها حسب مشورة طبيبها، الذي طلب إليها الحركة دونما مشقة. واشترينا الكتب المتعلقة بالحمل وتربية الأطفال. وكان الحمل مدعاة تغييراتٍ كثيرة؛ فلا بد أن ننتقل إلى شقةٍ أوسع، وأن تأخذ آن إجازةً عامًا على الأقل من عملها. ولمَّا كانت الولادة مقدَّرة في يوليو بعون الله، فقد كان أمامنا متَّسَع من الوقت لتدبير كل تلك الأمور. وبعكس ما كان متوقعًا، سُرِرتُ بحمل آن، وتابعتُ كِبَر بطنها باهتمام، وكنتُ أُسمِع المولود في الداخل آيات القرآن الكريم والموسيقى الكلاسيكية.

وفي يناير ٨١، ظهَر إعلانٌ عام في لوحة دائرة الترجمة العربية، بطلب رئيسٍ لوحدة اللغة العربية بقسم تحرير الوثائق الرسمية للأمم المتحدة بدرجة ف-٤، مع بيانٍ توصيفي بالعمل المطلوب منه. وطبعًا، لم يُثِر هذا الإعلان انتباهي على الإطلاق، إلى أن دعاني رئيس الدائرة يومًا للقائه، وقال لي: هيه، ألا تفكِّر في التقديم لشَغل وظيفة المحرِّر العربي؟ وفاجأَني سؤاله، بل آلمني، وأجبتُه بأنْ لا. ولما ذكَر لي أنه يرى أنني الأصلح لشَغل تلك الوظيفة، بادرتُه دون تفكير هل يريدُني أن أترك العمل بالترجمة، فهتف قائلًا بحرارة أنْ كلا على الإطلاق وإن مكاني هنا محفوظٌ في كل وقت، ولكنه يريد أن يشغل تلك الوحدة شخصٌ منضبط، ويعرف الإسبانية والفرنسية؛ لأن هناك وحداتٍ بقسم التحرير لكل اللغات الرسمية، وأنني سوف أقوم بتأسيس الوحدة العربية بالقسم. ولمَّا رآني متردِّدًا طلب مني أن أفكِّر في الموضوع عدة أيام وأتشاوَرَ مع زوجتي، على ألا أخبِر أحدًا بالدائرة بذلك الأمر. وخرجتُ من عنده وأنا مصمِّم على الرفض، وحزينٌ من عدم تمسُّكه بي في دائرته.

وحين أخبرتُ آن ماري بالأمر سألَتني: هل هناك نوباتٌ ليلية في ذلك العمل الجديد؟ ولم أكن أعرف، ولما سألتُ قالوا أنْ لا. وكان ذلك عاملًا قويًّا حملَني على بدء التفكير الجِدي في التقديم لتلك الوظيفة. وأخذتُ أفكِّر بطريقةٍ مختلفة، وأرى أن الترجمة والمراجعة تستهلكان كل طاقتي ورغبتي في الترجمة الأدبية الحرة، وأنني لو توفَّر لي بعض الوقت في الأمسيات في ذلك العمل الجديد فسيكونُ عندي الوقت والجهد للكتابة والترجمة الحرة، كما كنتُ أخطِّط لحياتي على الدوام. وهكذا، جاء اليوم الذي طلبتُ فيه مقابلة المدير، وأخبرتُه بموافقتي على التقدُّم للوظيفة المقترحة. وطلَب مني التوجُّه إلى المكتب التنفيذي، وإدراج اسمي ضمن المتقدِّمين، مضيفًا أنني أحسنتُ الاختيار؛ لأن الوحدة المُقترَحة عملُها هادئ، والوظيفة بدرجة ف-٤ ومن المتوقَّع بعد ذلك رفعُها إلى ف-٥. وكنتُ أنا في ذلك الوقت بدرجة ف-٣. وكان الاختبار للوظيفة مقابلةً شفوية، جرَت لي في أواخر فبراير ٨١ وكانت مع رئيسة قسم التحرير وهي أمريكية، ومعها الرئيس الأعلى للإدارة التي يتبعُها القسم، وكان من جنوب أفريقيا. وسألاني عن مؤهِّلاتي وعملي، ولما علمَت رئيسة القسم بحبي للأدب تكلَّمنا عن جويس وهمنجواي، وقالت لي إنها صديقةٌ لزوجة همنجواي الأخيرة ماري ولش، مما جعلَها جديرةً بالإعجاب في نظري.

وفي مارس، اتصلَت بي رئيسة القسم، واسمها آن هيوز، وهنَّأَتني باختيار اللجنة لي لشغل وظيفة رئيس الوحدة العربية بالقسم، وقالت إن الإجراءات تُتخَذ لنقلي إلى القسم بدءًا من أبريل. وكان القسم في مبنًى مُجاورٍ منفصل عن المبنى الرئيسي للأمم المتحدة. ومكَثتُ فترةً في مكتبي القديم إلى أن تم إخلاء ثلاثِ غُرفٍ في قسم التحرير كان يشغَلها فرع جهاز الأمم المتحدة للبيئة، الذي يرأسه الدكتور مصطفى طلبة. وكانت مهمتي الأولى هي اختيار الموظَّفين للوحدة عن طريق الامتحانات، وكان المفروض أن تتكوَّن الوحدة من رئيس، وثلاثة محرِّرين ومساعدِ تحريرٍ واحد وسكرتيرٍ واحد. وبدأنا باختيار السكرتير عن طريق المقابلة الشفوية. وقُمتُ مع رئيسة القسم باستقبال المتقدمين الذين كانوا من العاملين في قسم الطباعة على الآلة الكاتبة، ووقع الاختيار على خميس نظرًا لنشاطه وتقبُّله للعمل تحت الظروف الضاغطة، وأصبحت الوحدة مكوَّنة من اثنَين الآن. وكنا ننتظر الناجحين في الامتحان التحريري لمساعدي التحرير حتى نختار واحدًا منهم. ومكَثتُ فترةً طويلة مع خميس للتحضير لإنشاء الوحدة الجديدة. ووضعتُ امتحانًا تحريريًّا للمحرِّرين على المستوى الدولي، وحضَرتُ اجتماعاتِ فحصِ أوراق المتقدمين واختيار مَن استَوفى الشروط للتقدُّم إلى الامتحان. وكان كل ذلك تجاربَ جديدةً ومفيدةً لي، وتلقَّيتُ دعمًا كاملًا من رئيسة القسم آن هيوز.

وكنا في تلك الفترة قد انتقَلنا إلى شقةٍ جديدةٍ واسعة في «فلاشنج»، الواقعة في أطراف مقاطعة «كوينز». وهكذا خرجنا لأول مرة من مانهاتن إلى الضواحي. وقد اضطُرِرنا إلى ذلك حتى نسكُن في شقةٍ كبيرة بإيجارٍ مناسب، برغم أنه أصبح علينا استخدام المواصلات للذهاب إلى العمل. وقد سمح لي هدوء العمل أن أطلُب إجازةً في الفترة التي ذكَر لنا الطبيبُ احتمال الولادة فيها. وفي يوم أحد ذهبتُ مع آن للتبضُّع من السوبرماركت القريب من الشقة الجديدة، وبعدها أحسَّت بمقدِّمات الوضع. وفي الحال طلبت تاكسيًا إلى المستشفى الذي يتعامل معه الدكتور دون سلون، وهو مستشفى «لينوكس هيل»، بالشارع ٧٣ بمانهاتن، واتصل به المستشفى؛ فقد كان يوم إجازة. وباشر الطبيب المقيم — وكان من أصلٍ عراقي — الإجراءات المبدئية. وحين وصل الدكتور سلون ونقل آن إلى غرفة الوضع، طلب مني حضور الولادة، وارتدَيتُ السترة المعقَّمة، ودخلتُ معه إلى الغرفة؛ حيث حان خروج المولود. وأمسكتُ بيد آن ماري وهي تعاني آلام المخاض، واضطُرِرتُ إلى تنحية بصري وأنا أدعو في سِرِّي بآيات القرآن، ونظَرتُ حين صاح الطبيب: ماهر، انظر، إنه ولد. ونظَرتُ فإذا هو ممسك بالطفل في وضعٍ مقلوب وهو مغطًّى بالدماء ويصيح باكيًا، فناوَله الطبيب إلى الممرضة كي تقوم بالإجراءات في تلك الحالة، بينما أنا والطبيب نُطمئِن آن ماري بأن الولادة والطفل على خير ما يُرام. وبعد دقائقَ عادت الممرضة تحمل المولود وقد لفَّتْه في قماطٍ وأعطته لي، ووجدتُه يبدأ في فتح عينَيه، وسَعِدتُ جدًّا أن كنتُ أنا أول ما وقع عليه بصَرُه. وعجِبتُ أن كان برأسه شعرٌ خفيف وأصابعه بها أظافر. ولمَّا كنا قد أخبرنا الطبيب بأننا نرغب في إجراء عملية الختان إذا كان المولود ذكرًا، فقد قام الدكتور سلون بذلك بعد الولادة مباشرة، طبقًا لما هو متَّبع بين أطباء أمريكا، برغم إشفاقي على المولود من ذلك في تلك السن الغضَّة. ولمَّا كنتُ قد اتفَقتُ مع آن على اختيار اسم شريف للذكر وشيرين للأنثى، فقد تم تسجيل المولود باسم شريف ماهر البطوطي في شهادة ميلاده، وحرَصتُ على كتابة الاسم الأول هكذا Sharif وليس Sherif كالمعهود في مصر.

وبعد ثلاثة أيام عُدنا بشريف إلى المنزل، وكنا قد اشترينا من قبلُ كل اللوازم المطلوبة للوليد، بما فيها السرير الصغير ذو الحواجز، وعربة المولود، ولوازم النظافة والاستحمام والرضاعة. ووجدنا طبيب أطفالٍ على مقربةٍ منا يتبع التأمين ويتحدَّث الإسبانية، فتسجَّلنا عنده، وأصبحَت آن ماري تحمل شريف إليه كل أسبوعٍ تقريبًا لمتابعة نُمُوه وأخذ التطعيمات اللازمة.

وبمولد شريف، وبدئي العمل في قسم التحرير، فتحتُ صفحةً جديدة في حياتي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤