رحلة فان جوخ عام ١٩٩٥م

أما عام ١٩٩٥م فقد حملَنا إلى جنوب فرنسا، بدفئه وجماله وفنونه، خاصة الرسام الشهير فنسنت فان جوخ (واسمه الأخير يُنطَق جوج بالإنجليزية، وينطق خوخ بالهولندية). ورغم أن فنسنت هولندي الجنسية، فقد كانت سنواتُ إقامته بفرنسا هي التي كرَّس حياته فيها تمامًا للرسم والفن.

وقد عرفتُ فان جوخ منذ أيام الطلَب في الجامعة، حين وقع في يدي تقويمٌ سنوي به لوحاتٌ لفنانين منهم فان جوخ، وتعجَّبتُ من الخطوط الملتوية التي رسَم بها الأشجار، وخلَصتُ إلى أن هذا كان نتيجة جنونه الذي قرأتُ أنه أصِيب به، ولكن لوحته تركَت في نفسي أثرًا بالغًا منذ أيامها. ورأيتُ بعد ذلك عدة لوحاتٍ للفنان في مُتحَف جي دي بوم بباريس، وقرأتُ عن حياته ولوحاته. وحين ذهبتُ إلى نيويورك للعمل هناك، كان من حُسن حظي الفني أن واحدةً من لوحات فان جوخ المفضَّلة عندي — الليلة المرصَّعة بالنجوم — كانت في مُتحَف الفن الحديث هناك، مما أتاح لي الاستمتاع برؤيتها مِرارًا وتَكرارًا.

وفي الرحلة إلى جنوب فرنسا، عام ١٩٩٥م، فضَّلنا أن نبدأَها من هناك — من الجنوب — توفيرًا للوقت والجهد، فحجَزنا عربةً من مرسيليا، وتوجَّهنا إلى مرسيليا من باريس في القطار الفرنسي السريع المسمى T.G.V.. والقطار كان فائق السرعة فعلًا؛ فقد قطع المسافة الطويلة في أربع ساعاتٍ ونصف الساعة فحسب، بيد أنه لم يكن مريحًا تمامًا بسبب ضيق المسافات بين المقاعد، مما جعل الجلسة متعبة والانتقال صعبًا، ولكن ما إن وصلنا حتى استعَدنا نشاطنا، ونزَلنا في فندقٍ مناسب، واستعدَدنا لاستكشاف مارسيليا. وكنتُ قد مرَرتُ على هذه المدينة في طريقي إلى برشلونة، ومكثتُ فيها عدة ساعات كل مرة، ولكن ذلك كان منذ سنواتٍ بعيدة.

ومارسيليا مدينةٌ ساحليةٌ هامة، يقترب سكانها من مليون نسمة، وتُطِل على البحر الأبيض المتوسط، وهي كمعظم المدن الفرنسية تنقسم إلى الحي القديم والأحياء الجديدة، ولكن قلبها النابض هو الميناء، وهناك ميناءان؛ الميناء القديم والميناء الجديد. وقد زُرنا الميناءَين، وأخذنا جولةً بالباص مع مرشد، طافت بنا جميع أنحاء المدينة، وصَعِدَت بنا إلى حيث كنيسة نوتردام دي لا جارد، التي تقوم على قمة جبل. وقد وجدتُ صعوبة في تتبُّع حديث الناس في مرسيليا بسبب اللهجة الخاصة التي يتكلمون بها، وقد أحببتُها لطرافتها وللنطق فيها ببعض الحروف التي لا تُنطق في الفرنسية! وفي يومٍ تالٍ، أخذنا قاربًا كبيرًا من عند الميناء القديم اتجه بنا إلى «شاتو دي إيف»، وهو مكانٌ سياحي اشتُهر بعد أن ورَد في رواية إسكندر ديما «الكونت دي مونت كريستو». وقد تم تشييد القصر أساسًا كحصنٍ يحمي المدينة من غزوات البحر، وبعد ذلك استُخدِم كسجنٍ يضُم الخطِرين على الدولة، وما تزال الزنزانات على حالها، وعلى جدرانها ما كان السجناء يكتبونه بأظافرهم من شكايات.

وقد زُرنا كذلك معظم المتاحف التي تضُمها مرسيليا، ومنها مُتحَف «مارسيل بانيول»، الكاتب والسينمائي الذي أمتعَنا بكتبه وأفلامه ومنها «جان دي فلوريت» و«مانون دي سورس» و«أمجاد أبي» و«قصر والدتي»، وهي كلها من تأليفه وإخراجه. وقد ابتعنا كُتبه تلك من مرسيليا أيضًا.

وبعد أن أخذنا كفايتنا من مرسيليا توجَّهنا إلى «إكس آن بروفانس»، قلب الإقليم النابض. وبعد أن اطمأننَّا إلى الفندق ومكانٍ للعربة، توجَّهنا إلى المدينة، وبها شارعٌ عريض تظلِّله الأشجار الضخمة، وتحُفُّ به المحلات من كل صنفٍ ولون. وابتَعنا التَّذكارات التي نريد، ومنها لعبة من البلاستيك تُمثِّل الزيزران، الحشرة-الطائر التي تزخر بها المدينة والريف وتطنُّ باستمرار من على فروع الأشجار. وقد ذكَرَت بطاقة في الفترينة أنها تُغَني إذا وُضعَت تحت الشمس؛ وحين سأَلْنا البائع في الداخل إذا كان ذلك صحيحًا، فأجاب أنْ نعم، ولكن لا يسمع شَدْوها إلا من كان شفيف القلب محبًّا للطيور والحشرات!

وأهم فنانٍ في المدينة هو بول سيزان، الذي وُلد فيها وتعرَّف إلى الروائي الكبير إميل زولا في المدرسة هناك. وبعد إقامته في باريس، عاد إلى إكس، واستقَر فيها بقية عمره. وهناك جولة سيزان التي تقود الزائر إلى الأماكن التي تتعلق بالرسَّام الشهير، عَبْر لوحاتٍ نحاسية في الأرض تشير بأسهُم إلى الأماكن التي ارتبطَت بسيزان في المدينة. بيد أن مُتحَف الفنون الجميلة في إكس آن بروفنس لا يحتوي إلا على عددٍ قليل من لوحاته التي توزَّعَت على العديد من متاحف العالم.

وبعد ذلك سرنا على درب فان جوخ، فتوجَّهنا أولًا إلى مدينة «آرل»، حيث توجَّه إليها فنسنت سعيًا وراء شمس الجنوب التي يستطيع في ظلالها التعمُّق في دراساته للضوء، وكان يحلُم بإقامة مستعمرة للرسامين هناك؛ حيث يعملون جنبًا إلى جنب، ويتبادلون الخبرات الفنية. وقد حرَصْنا عند وصولنا إلى آرل على اختيار فندقٍ مناسب بالقرب من ميدان لامارتين، الذي كان به منزل فان جوخ، الذي دمَّرَته الغارات الألمانية في الحرب العالمية الثانية. بيد أن المنطقة تزخر بذكريات الفنان عن ذلك المكان، ونهر الرون الذي رسَمَه عدة مرات. وقد أعادت تلك الزيارة إلى أذهاننا تفاصيل حياة فان جوخ فيها، واشتركنا في جولةٍ فنية عن الفنان، مع شرحٍ وافٍ من أحد المتخصِّصين في الموضوع.

فقد وصل فان جوخ إلى آرل بالقطار من باريس في ۲۰ فبراير ۱۸۸۸م؛ حيث خُيِّبَت آمالُه الأولى بالثلج الذي وجده يغَطي كل شيء هناك، وبمشاكله مع صاحب الفندق الذي كان يتشاجر معه بسبب اللوحات والألوان التي كان فنسنت ينثرها في كل مكان، ولكن موقفه يتغير بعد أن تعرَّف على ساعي البريد «جوزيف رولان» الذي ساعده على استئجار منزلٍ صغير بسعرٍ رخيص، اشتُهِر بعد ذلك باسم المنزل الأصفر بعد أن خلَّده الفنان بلوحةٍ تحمل ذلك الاسم. وكان رولان هو صديقه الوحيد في تلك المدينة، فرسَم له فان جوخ أربع لوحاتٍ مختلفة. وقام الفنان بالعمل المستمر في كل الأنحاء، فطَفِق يرسم الحقول والفلاحين والأنهار والكباري والميادين والمقاهي والناس. ولما اشتدَّت عليه وطأة الوحدة، أرسل إلى صديقه الرسام بول جوجان يتعجَّله الذهاب إليه في آرل. وحضر جوجان بالفعل، وأقام معه في المنزل الأصفر، وشرعا يرسمان معًا ويتناقشان في أمور الفن، ولكن حدَّة طباع فان جوخ وبدائية جوجان جعلتاهما في شقاقٍ مستمر، انتهى بالحادثة المشهورة التي قطَع فيها فنسنت جانبًا من أذنه.

ودفعَت تلك الأحداثُ سكانَ آرل إلى كتابة التماسٍ يحتجُّون فيه على وجود ذلك «المجنون» في بلدتهم، ويطلبون إبعاده عنها. وتوفَّر الطبيب «فيلكس ري» بمستشفى آرل على علاج فان جوخ، وأوصى — بموافقة ثيو أخي فنسنت — بإلحاقه بمَصحَّة «سان بول» ببلدة سان ريمي القريبة من آرل. وقد رسَم الفنان صورة الطبيب امتنانًا منه له، ولكن والدة الطبيب لم تُعجِبها اللوحة، فاستخدَمَتها لسد ثغرة في أحد أبواب منزلها! واللوحة موجودةٌ الآن في مُتحَف بوشكين بموسكو.

وقد تعجَّبنا من المعاملة التي لقيها فان جوخ من سكان آرل؛ إذ إن البلدة كلها تعيش الآن سياحيًّا على اسم فنسنت فان جوخ وآثاره هناك، وكل المحلات تبيع تذكاراته وبطاقات لوحاته والكُتب التي ألِّفَت عنه. ورغم ذلك لا يُوجَد في آرل أي لوحةٍ أصلية من لوحات فان جوخ، وإنما هي خُطاه ورُوحه ووجوده يلمسُها الزائر في كل أنحاء المدينة. وقد شَهِدنا الكثير من الأماكن التي خلَّدها الفنان في لوحاته، وقضَينا ساعاتٍ طويلة نتأمل الشمس وغروبها على شاطئ نهر الرون، وبذلك رأينا على الطبيعة نموذجًا للوحته الخالدة «ليلة مرصَّعة بالنجوم فوق نهر الرون»، ورأينا المستشفى الذي خضع فيه للعلاج في آرل، ورسَم فيه حديقته التي وجدناها على ما هي عليه، وزُرنا حدائق المقبرة الأثرية التي رسَمها كلٌّ من فان جوخ وجوجان، كلٌّ بأسلوبه الخاص.

وقبل أن نتوجَّه إلى سان ريمي، وجدنا أنَّ آرل التي كانت جدَّ قاسية على فان جوخ قد قست علينا أيضًا؛ فحين توجَّهنا صباح الترحال إلى السيارة التي كنا نتركها في ميدان لامارتين، وجدنا أن بها شيئًا مختلفًا. وسرعان ما اكتشَفنا سرقة الدوائر النحاسية البرَّاقة من الإطارات! وكانت مفاجأةً سخيفة أضاعت علينا الكثير من الوقت في الإبلاغ عن السرقة، خاصةً أن اليوم كان الأحد والكل في إجازة.

وفي سان ريمي، التي قضى فان جوخ ما يربو على السنة في مَصَحَّة سان بول بها، قمنا بالجولة التي يُعِدُّها مكتب استعلامات المدينة مع إحدى المتخصِّصات في فن فان جوخ. وقد استمتَعنا بشرحها وهي تقودنا إلى المَصحَّة وتبيِّن لنا مستعينةً بنُسخٍ معها من لوحات الفنان طبيعة حالته النفسية حين كان في سان ريمي. وقد أنجز فان جوخ العديد من اللوحات المشهورة إبَّان وجوده في المَصَح، منها «الليلة المرصَّعة بالنجوم»، و«أزهار السوسن»، و«سجناء في فترة الراحة»، وغيرها. وقد شاهدنا المنطقة التي تحيط بالمَصَح، وبها الكثير من أشجار السرو وأشجار الزيتون. ويعود بداية رسم الفنان لأشجار السرو إلى تلك الفترة، وكتب إلى أخيه ثيو أنها تفتِنه بسموقها الذي يشبه المسلات الفرعونية القديمة.

وبعد خروج فان جوخ من مصحة سان بول، يزور أخاه ثيو في باريس، ثم يتوجه إلى بلدة «أوفير سيرواز» جنوب باريس؛ حيث اعتزم البقاء هناك ليرسم تحت رعاية طبيبٍ يدعى «جيشيه». وذهبنا إلى تلك البلدة، بيد أننا لم نجد فيها أي فنادق أو بنسيوناتٍ يُمكِننا البقاء فيها بالليل، فعُدنا إلى مدينة «بونتواز» على مبعدة ربع ساعة بالسيارة من أوفير، ثم بكَّرنا صباحًا إليها؛ حيث قضينا اليوم بكامله نتتبَّع آثار فان جوخ هناك. وأهم تلك الآثار في أوفير هو مقهى فان جوخ الذي يعلوه البيت الصغير الذي تُوفِّي الفنان فيه، بعد أن أطلق الرصاص على نفسه في حقلٍ مجاور بينما كان يرسم هناك. والبيتُ الآن متحف يؤمُّه الزوَّار، وشاهَدنا فيه غرفةَ فان جوخ التي استأجَرها بعد وصوله إلى أوفير، وبالمتحف صالة مبيعاتٍ لكل التَّذكارات التي يُمكِن تخيُّلها عن الفنان ولوحاته. أما المقهى فيتحول في ساعات الطعام إلى مطعمٍ فاخر يقدِّم وجباتٍ غالية الثمن. وفي مواجهة المقهى يُوجَد مبنى البلدية، الذي رسَمه فان جوخ في لوحةٍ مشهورة.

وبعد الغداء، صَعِدنا في الطريق الذي يقع خلف المقهى، ورأينا الفيلات على الجانبَين، ومنها منزل الدكتور جاشيه، ثم في النهاية نصل إلى كنيسة أوفير التي خلَّدها الفنان في لوحةٍ جميلة هي الآن في مُتحَف دورسي بباريس. وعند زيارتنا وجدنا عروسَين يحتفلان بزواجهما في الكنيسة، مما خفَّف من وقع ما رأيناه من أواخر أيام فان جوخ المأساوية. وفيما وراء الكنيسة، هناك طريقٌ طويل يشُق حقول القمح المترامية الأطراف، التي طالما رسَمها الفنان في كثير من لوحاته، فعاد إلى ذهنَينا لوحتُه الأخيرة «غربان فوق حقل قمح»، وهي نذيرٌ بالنهاية الأليمة التي لاقاها فان جوخ في أوفير؛ إذ أطلق النار على نفسه وسط أحد هذه الحقول، ومات بعدها بأيامٍ قليلة في حجرته بأعلى المقهى المذكور. ويقودُنا الطريق كذلك إلى مقبرة البلدة؛ حيث دُفن فان جوخ في ٣٠ يوليو ١٨٩٠م. وهو يرقُد هناك إلى جوار أخيه ثيو، الذي مات بعده بستة شهور في هولندا، ونقلَت زوجتُه جثمانه ليرقد إلى جوار أخيه في أوفير … وقد قمتُ أنا وآن ماري — بعد أن أكملنا طوافَنا بأماكن فان جوخ الفرنسية — بوضع زهرتَين من تلك الزهور — التي هام بها الفنان، ورسَمها في كثيرٍ من لوحاته — على مثواه هو وأخيه، تذكارًا لزيارتنا، وتقديرًا لهذا الرسَّام الذي أمتعَتنا لوحاتُه، وما تزال تُمتِعنا في كل حين.

فيما وراء فان جوخ

وقد زُرنا مواقعَ أخرى في جنوب فرنسا، غير مرسيليا وفان جوخ؛ فقد توجَّهنا حين كنا في آرل إلى منطقة «فونفيي» وبها «طاحونة ألفونس دوديه» (١٨٤٠–۱۸۹۷م)؛ حيث كان الشاعر الكبير يُحب أن يزورَها، ليستمع إلى أحاديث الفلاحين وهم يأتون إليها لطحن غِلالهم. وهي الآن بمثابة مُتحَفٍ صغير يضُم آثارَ الكاتب ومخطوطاتٍ له، بالإضافة إلى كتاب «رسائل من طاحونتي» بكل اللغات التي صدَر بها، ورأينا النسخة العربية التي صدَرَت للكتاب في بيروت.

وذهبنا كذلك إلى بلدة «بوكير»؛ حيث يُقام احتفالٌ ليس له نظير عند مشارف قلعتها؛ فهناك يقوم شبابٌ متدرِّبون يرتدون ملابس العصور الوسطى بإطلاق نسور وصقورٍ جارحة في الهواء، ويقودونها بإشاراتهم وكلامهم وصفيرهم إلى القيام بما يريدون من حركات وطيران وعودة إلى أماكنها. ويتجمَّع السيَّاح من كل المناطق القريبة لمشاهدة ذلك العرض الجميل في كل مرة يُقام فيه.

وبعد ذلك، اتجهنا إلى مدينة مونبلييه، وهي التي كانت في ذهني حين كنا نفكِّر في الاستقرار في فرنسا بعد التقاعُد من عملي في الأمم المتحدة، شجَّعني على ذلك ما سمعتُه من مُناخها المعتدل، ومن الحياة الهادئة التي تسودُها بالقياس إلى المدن والعواصم الكبيرة. وبالفعل شاهدنا بعض إعلانات المنازل في واجهات مكاتب العقارات هناك، بيد أننا لم نتخذ قرارًا بشأن ذلك. وقلب المدينة النابض هو ميدان «كوميدي» الفسيح، الذي يمتلئ بالمطاعم والمحلات، وتتفرَّع منه الشوارع الرئيسية التي تؤدي إلى قوس النصر بالمدينة. وقد قمنا بالجولة التي يُعِدُّها المكتب السياحي مع مرشد، وشاهدنا الأبنية القديمة بالمدينة، وصَعِدنا داخل قوس النصر وشاهدنا المدينة كلها من أعلاه. وكنتُ حريصًا على زيارة مباني جامعة مونبلييه؛ حيث درَس طه حسين في كلية الآداب بها. وعلمنا أيضًا أن الروائي الفرنسي المشهور «فرانسوا رابليه» قد درس أيضًا في الجامعة، وإنما في كلية الطب التي اشتُهرَت بها مونبلييه منذ العصور الوسطى.

وبعد كل هذا، أخذنا وِجهَتنا إلى أثرٍ آخرَ عظيم؛ حصن كاركاسون، الذي أطلَق عليه العرب اسم «قرقشونة». والمدينة كلها تتركَّز داخل الحصن الفسيح، الذي يضُم بين جنباته المحلات والمطاعم وأماكن الاحتفالات والمهرجانات. وقد وصلنا إلى قرقشونة في ظهر يومٍ شديد الحرارة، وقد بلغ بنا الجوع والعطش مبلغًا كبيرًا، فنزلنا في أول فندق وجدناه خارج الحصن، وكان فندقًا من الدرجة الأولى، وجدنا به الميني بار الذي أطفأ منا الجوع والعطش إلى حين! وبعد قليلٍ من الراحة انطلَقنا فعبَرنا قنطرة تؤدي إلى الحصن-المدينة، ووجدنا أنفسنا في شيءٍ أشبه بما وجدناه سابقًا داخل «مون سان ميشيل». وطفنا بالمحلات من كل نوع وصنف، واشترينا تذكارات عليها صور الحصن، ومطبوعاتٍ عن فرقة الكاثار، التي انتشرت في تلك المنطقة في القرن العاشر، وهدَّدَت العقيدة الكاثوليكية، التي اعتبَرَتها فرقةً مُهرطِقة؛ إذ كانت تنادي بعدم وجود وسيط بين الإنسان والله، ولا يعترفون بسلطة البابا المُطلَقة ولا بعصمته. وحين ازداد نفوذ الكاثار وتكاثَر أتباعهم، شنت عليهم الكنيسة حملةً كبيرة، وكانوا هم السبب في إنشاء أول محكمةٍ للتفتيش لتتبُّع الكاثار وإحراقهم وإبادتهم. وترتبط محاكم التفتيش بإسبانيا أساسًا، ولا يعرف الكثيرون أن أصلها فرنسي، وأنها أنشِئَت كي تستأصل شأفة الهراطقة الكاثار، ويُسمَّون أحيانًا «الألبيِيِّين» نسبةً إلى مدينة «ألبي»، التي انتشروا فيها أيضًا.

وأخذنا قطارًا صغيرًا طاف بنا في أنحاء حصن قرقشونة، ونحن نسمع تسجيلًا يشرح تاريخ الحصن، ويصف الأماكن التي نعبُر بها. وبعد ذلك اتخذنا أماكننا لمشاهدة عرض فروسية، مما كان يجري في القرون الوسطى بين الفرسان في مبارزاتهم، بملابس ذلك العصر التقليدية. وكان المساء قد حَل، وإذا بالحصن كله يكتسب روعةً وبهاءً تحت الأنوار، التي توزَّعَت بين أنحائه بطريقةٍ فنيةٍ رائعة.

ولاستكمال نصيب فن التصوير في هذه الرحلة، ذهبنا إلى مدينة «ألبي» مقر الرسام «تولوز لوتريك» وبها مُتحَفه الذي زُرناه، واشترينا منه نُسخًا من أشهر لوحاته، كما شاهدنا القصر الذي وُلد فيه، والذي شهد مأساة سقوطه من سُلمه، وإصابته بضمور النمو. واستعَدنا الفيلم الجميل الذي شاهدناه عن حياته بعنوان «المولان روج»، والذي كنتُ قد شاهدتُه قبل ذلك في سينما كايرو بالقاهرة.

ويبقى من تلك الرحلة زيارتنا لمدينتَين كبيرتَين من مدن فرنسا، هما تولوز وبوردو. وقد طُفنا بكل ما في المدينتَين في رحلاتٍ منظَّمة بالأوتوبيس، فرأينا معالم المدينتَين، ثم تجوَّلنا فيهما بعد ذلك على مَهل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤