الإسكندرية

١٩٥٤-١٩٥٥م

كان الانتقال إلى الإسكندرية عاملًا مثيرًا بالنسبة إلى الجميع؛ فوالدي متوجه إلى سجنٍ أكبر ومدينةٍ مهمة، رغم أنه لن يكون مأمور السجن بل وكيلًا له؛ إذ إن المأمور لا بد أن يكون في درجة الأميرالاي. وكنا نحن الأولاد الثلاثة توَّاقين إلى التغيير والخروج من ربقة الحياة في «الأقاليم» إلى ثاني مدن الدولة، خاصةً أننا نعرفها جيدًا، ولنا فيها أقاربُ كثيرون وأصدقاءُ لهم أولادٌ وبنات في مثل عمرنا. وكانت الشغَّالة التي عملَت لدينا سنواتٍ طويلة سعيدةً هي الأخرى بهذا الانتقال؛ فقد كانت — كما عرفتُ بعد ذلك — تأمل أن تجد زوجًا بسهولة هناك، بعد أن فشلَت في ذلك في شبين الكوم. كذلك نجح والدي في نقل جندي المراسلة — سعيد — الذي عمل معنا منذُ إقامتنا في دمنهور.

وكان انتقالنا تلك المرة في الصيف، فلم نصادف مشكلة قطع الدراسة في منتصفها، كما حدث في شبين الكوم، فألحقنا والدي أنا وأخي الأكبر بمدرسة العباسية الثانوية بمحرم بك، واختار لي القسم الأدبي ولأخي القسم العلمي. وكان اختيارًا عشوائيًّا موفقًا؛ فقد كنتُ أكره الرياضيات والعلوم، وأفضِّل الدراسات الأدبية والتاريخية. والتحق أخي الأصغر بمدرسةٍ إعداديةٍ قريبة. واستأجر والدي شقةً متوسطةً في حي الإبراهيمية في عمارة يمتلكها أحد معارفه. ولأول مرة نجد أنفسنا في وسط مبانٍ سكنية، في شقة لها شرفتان تُطِلان على المباني المجاورة في شارعَين متقاطعَين. وانتقلنا نقلةً كبيرة من الأقاليم والمسكن الخاص ذي الحديقة إلى تلك الشقة. وكانت الإبراهيمية في ذلك الوقت مليئة بالأجانب المهاجرين في مصر من اليونانيين والإيطاليين أساسًا؛ فمصر كانت لا تزال بلدًا جاذبًا للهجرة قبل أن ينعكس الحال وتصبح بلدًا يهاجر منه كل من استطاع إلى ذلك سبيلًا.

وعاينتُ الشقة ومكاني فيها، وغمرَتْني الإثارة؛ إذ رأيتُ كثيرًا من الفتيات الحسناوات في الشرفات المقابلة لشرفتَينا، ومن هنا بدأَت صلتي بواحدةٍ منهن، هي مارينا الإيطالية، التي كانت في مثل سني.

وشَهدَتْ إقامتُنا في الإبراهيمية نوعًا من الحرية النسبية لنا، فأخذتُ في التجوال والتعرُّف على كل أنحاء الإسكندرية، وأحببتُ وسط البلد الأنيق بمحلاته الجميلة البرَّاقة، ودور السينما، وشارع فؤاد، ومحطة الرمل. وأذكُر أن أول سُلَّمٍ كهربائي متحرك في مصر كان في نفق محطة الرمل، وكان حدثًا جديدًا أيامها. كانت الإسكندرية قد بدأَت تتخذ صفة المدن الساحلية في أوروبا، من تناسُقٍ عمراني وجمال في التخطيط والتنظيم. كان ممكنًا أن تصبح مثل مرسيليا، وبرشلونة، ونابولي، إن لم تتفوَّق عليها. وبها دور سينما فاخرة: أمير، وريالتو، ومترو، ورويال، وستراند. وهناك أيضًا سينمات الدرجة الثالثة للتلاميذ: بلازا، وفؤاد، وكونكورديا، والشرق. وتميَّزَت تلك الفترة بهُيامنا بالسينما والأفلام الأجنبية، فشاهدتُ منها كميةً كبيرةً في تلك السينمات، وكانت تصُب ما تزال في أفلام المغامرات ورعاة البقر والأفلام التاريخية. ورأيتُ أول أفلام السينماسكوب هناك، وأظنه كان فيلم الرداء، الذي كان بارع الإخراج والتمثيل، وأبطاله ريتشارد بيرتون، وجين سيمونز، وفكتور ماتيور. وهؤلاء الممثلون — إلى جانب روبرت تايلور، وجون وين، وكلارك جيبل، وروبرت ريان، وتيرون باور، وجين تيرني، وبربارا ستانويك، وجنيفر جونز، وسوزان هيوارد — كانوا ممثلي زماننا، ولهم صفاتٌ مميزة تختلف عن أبطال اليوم مثل توم كروز، وبراد بت، وأنجلينا جولي، وكاميرون دياز.

وسرعان ما تعرَّفتُ على الأماكن التي أحب ارتيادها في الإسكندرية، والمكتبات التي يمكنني أن أرى فيها أحدث المطبوعات العربية، وأرتِّب لشراء ما أريده منها حسب مصروفي. واستمرَّت قراءاتي في محيط السلاسل الشهرية وأدباء القصة المعروفين. وصدَرَت مجلة «الثقافة الجديدة»، وبدأَت تنشر رواية نجيب محفوظ «بين القصرَين» على حلقات، فتابعتها وأنا مبهور بسردها وشخصياتها ولغتها، ودفعني ذلك إلى إعادة قراءة روايات محفوظ السابقة: خان الخليلي، بداية ونهاية، زقاق المدق، السراب. وقد بهرَتْني بين القصرَين منذ بدايتها، حتى إنني بدأتُ أنسخ بعض حلقاتها بخطي كما هي حتى أزيد من درجة استيعابي لها. وواصلتُ جمعي لكُتب يوسف السباعي الفاخرة. وأذكُر أنني كنتُ في ميدان المنشية، ورأيت كتابًا حديثًا للسباعي ثمنه خمسون قرشًا. ولم يكن في جيبي إلا هذا المبلغ، فابتَعتُه ثم اضطُرِرتُ إلى العودة للمنزل سائرًا على قدمي مسافةً طويلة؛ حيث لم يكن معي ثمن تذكرة الترام أيامها، وهي مجرد «تعريفة»؛ أي خمسة ملاليم!

وقد عرَفْنا الإسكندرية قبل انتقالنا إليها، ولكنَّ بقاءنا الدائم فيها جعلني أرتاد أحياءها المختلفة، وأتذوَّقها على مهل، فأعجبَني حي فكتوريا بمبانيه الكلاسيكية الأنيقة وسكانه الأجانب. وزرتُ حدائق الشلالات وطُفتُ في أرجائها. وزرتُ المقبرة اليونانية التي كنتُ أراها دائمًا عند مرور ترام الرمل، وأتعجَّب من وجود التماثيل الرخامية بها. وأحببتُ مقاهي الإسكندرية، وكان يصحبني إليها ابن عمي الموظف في شركة بترول أجنبية. وأحببتُ أكثر ما أحببتُ مقهى «إيليت» الجميل الذي يُشعِرني أنني في جوٍّ أوروبي خالص.

وحين كنا في شقة الإبراهيمية، وقعَت أحداث ميدان المنشية حين تعرَّض جمال عبد الناصر لإطلاق الرصاص، وكان والدي بحكم عمله موجودًا في ذلك الاحتفال. وسمعنا الحادث في الراديو ولم نهدأ بالًا إلَّا بعد عودة والدي بعد ذلك، وطمأننا أن الجميع بخير. وتلا ذلك الحادث إجراءاتٌ خطيرة في البلاد، ما زلتُ أذكُرها عن طريق عناوين الصحف الكبيرة الحمراء، عن الاعتقالات والمحاكمات، ثم اتهام اللواء محمد نجيب بالضلوع في المؤامرة، واختفائه من مسرح الأحداث. وأدَّت تلك التطورات إلى إخراج المزيد من ضباط الجيش والبوليس من العمل، مما دفع إلى ترقية والدي إلى رتبة أميرالاي وتعيينه مأمورًا للسجن. وتَبِع ذلك انتقالنا من مسكن الإبراهيمية إلى فيلا المأمور في سجن الحدراء. وكانت لها حديقةٌ مربَّعة ساحرة، تتوسَّطها نافورةٌ أندلسية صغيرة جوانبها مغطَّاة بالزليج الأزرق الجميل. وذكرياتي في ذلك المسكن قليلة وغير مؤثِّرة؛ لأننا لم نمكث فيه سوى شهورٍ قليلة جرى بعدها نقل والدي إلى القاهرة وكيلًا لمصلحة السجون، ولكننا بقينا بالإسكندرية إلى حين انتهاء العام الدراسي.

وقد استمتعتُ في تلك الفترة بشوارع الإسكندرية الظليلة في حي الرصافة خلال الخريف. وفي الشتاء، أذكُر يومًا هطل فيه بردٌ كبير الحجم علينا ونحن في طريق العودة من المدرسة، وهو ما لم أرَه من قبلُ.

وساعدَت الموادُّ المقرَّرة علينا في السنة الثانية الثانوية في استكشافي المزيد من الموضوعات التي أحبُّها، وزادت من قراءاتي التاريخية والأدبية، فواصلتُ قراءة روايات التاريخ الإسلامي لجورجي زيدان، وأحببتُ منها في تلك الفترة روايات فتح الأندلس والانقلاب العثماني والمملوك الشارد. كما استمرَّت سلسلة كتابي ومطبوعاتها في تعريفنا بالكتب والروايات التي تستحق القراءة. ورغم أننا قد بدأنا ندرُس مادة الفلسفة والاجتماع، فيبدو أنني لم أكن أستذكرها جيدًا؛ إذ حصلتُ في التيرم الأول على درجة ٤ من ٢٠ في الفلسفة، مما أثار غضب والدي. أما في التيرم الثاني، فقد نلتُ ۲۰ من ٢٠. ما سبب هذه الطفرة الفجائية يا تُرى؟ لقد قام مدرس الفلسفة والاجتماع بزيارةٍ ميدانيةٍ مع مجموعة من طلبة الثانوية إلى سجن الحدراء العمومي؛ حيث استقبلهم والدي بحفاوةٍ بالغة. وفي أول حصة فلسفة لنا بعد تلك الزيارة، توجَّه لي المدرس قائلًا: «إنت ليه ضعيف في الفلسفة كده رغم إن والدك فيلسوف عظيم!» وكان ذلك بداية اتجاهٍ أخذ ينمو ويتزايد مع رسوخ أقدام سادة البلاد الجدد من الضباط. وقد كان إلى جواري في مدرسة العباسية تلك حسين عبد الناصر، الأخ غير الشقيق لجمال عبد الناصر. وحدَث أن تشاجَر مع أحد زملائنا الطلبة في نفس الفصل شجارًا عاديًّا، مما يحدُث مثله مئات المرات في أي مدرسة، ولكن فوجئنا بغياب الطالب الآخر أسبوعًا، علمنا بعد عودته أنه تم عقابه بالفصل تلك المدة بسبب شجاره مع حسين. وأذكُر أن الطالب المفصول بدا عند عودته ثائرًا يتساءل: هل أصبح ذلك الشخص كعبةً لا يمكن أن يمسَّها أحد؟ ولكني أشهد أن حسينًا كان عاديًّا في تصرفاته وهادئًا، ولا يبدي أي زهو أو تميُّز بسبب صلة القربى تلك، وإن كان يفعل ما يفعل بنفس الصمت والهدوء اللذَين تميَّز بهما أخوه الرئيس.

وفي فيلا سجن الحدراء، لم تكن هناك مبانٍ مجاورة أستمتع فيها برؤية الغيد الحسان كما في شقة الإبراهيمية؛ لذلك فقد فاضت عواطفي إلى خارج منطقة السكن. وأصبحتُ أتتبَّع تلميذة أراها كل صباح قبل الدخول إلى مدرستي، بعد أن يتركنا المراسلة سعيد ويعود إلى المنزل. كان يجذبني إليها — كالعادة — الوجه الملائكي الجميل المُشرَب بالحمرة، وأنفٌ روماني أحبُّه تأسِّيًا بأنف الممثلة سوزان هيوارد، التي كانت أثيرةً لديَّ آنذاك.

وفي أحد الأيام، وكان يوم جمعة، كنتُ عائدًا من وسط البلد بعد حضور الحفلة الصباحية بإحدى دور السينما، إذ بي أُفاجأ بوجود جنود يضربون حصارًا حول السجن وما يُجاوره، ويمنعون المرور إليه. وأخبرتُ أحدَ الجنود أنني ابن مدير السجن فسمح لي بالمرور. وسمعتُ زميله يؤنِّبه على السماح ﻟ «كل من هب ودب» بالمرور، ولكني أسرعتُ إلى المنزل لأعلم ما حدث. لقد قام عدد من السجناء السياسيين بشغب. وكان والدي قد انتقل قبل ذلك إلى القاهرة؛ ولهذا كان بعيدًا عن التحقيقات التي تلت ذلك الحدث. وصَعِدنا إلى سطح المنزل نرقب ما يحدث. وقد قمع الضباط والجنود الشغب، وأمكن السيطرة على الموقف بسهولة، وعاد الهدوء إلى السجن.

وقد أدَّى ذلك إلى ضرورة انتقال المأمور الجديد إلى فيلا السجن، مما دعانا إلى استئجار شقةٍ جديدة كيما نكمل في الإسكندرية العام الدراسي؛ وعليه فقد تركنا مبنى السجن، وانتقلنا إلى شقةٍ متوسطة في حي محرم بك بالقرب من المدرسة. وفي شقة شارع القاهر هذه عرَفتُ أولى محاولاتي في الترجمة؛ فقد شُغفتُ بقصة الرجل الخفي تأليف ﻫ. ج. ولز في طبعة لونجمان المبسَّطة. وشعَرتُ ببهجة الترجمة ونقل المعاني من لغة إلى أخرى في تلك المحاولة المبكِّرة. وكنا في المدرسة نطالع مختاراتٍ بالإنجليزية من عديدٍ من المؤلَّفات، بالإضافة إلى رواية مذكرات بكويك لتشارلز ديكنز في طبعةٍ مختصرة. وقد شجَّعني ذلك على البحث عن مزيد من الكتب الإنجليزية المبسَّطة ومطالعتها.

وفي ذلك العام الذي قضيناه في الإسكندرية، فاق اهتمامي بالسينما والأفلام اهتمامي بالكتب إلى حدٍّ ما، فأخذتُ أرتاد دور السينما أكثر من مرة في الأسبوع، ورأيتُ بدايات السينما الإيطالية التي تخصَّصَت سينما ريو في عرضها، والأفلام الكلاسيكية في سينما محمد علي، وتعرَّفتُ لأول مرة على قصة أوليس في الفيلم الرائع الذي مثَّله كيرك دوجلاس. وتحدَّد ما يعجبني من ممثلين وممثلات في ريتشارد ويدمارك، جريجوري بك، سوزان هيوارد، آفا جاردنر، روبرت ريان، روبرت ميتشوم، جنيفر جونز، وكثير غيرهم. وعمدتُ إلى إعلانات الأفلام التي تُنشَر بالجرائد فأقصُّها وألصقُها في مفكِّراتٍ صغيرة جمعتُ منها العشرات.

كذلك استمرَّت اهتماماتي بالأغاني، وبهرَتْني أغنية النهر الخالد لعبد الوهاب، وبدأتُ أشعُر بأحاسيس العاطفة الرومانسية مع أوائل أغاني عبد الحليم حافظ. ولم تجذبني كثيرًا الأغاني الوطنية التي ظهرَت في ذلك العام، مثل يا جمال يا مثال الوطنية لأم كلثوم، وكانت ما تزال بعبارات بنجاتك يوم المنشية قبل أن يُستبدَل بها ألفاظ برياستك للجمهورية عام ١٩٥٦م! وظلِلتُ أَهيم بأغاني أم كلثوم وعبد الوهاب العاطفية، وسيطرَت عليَّ منها همسةٌ حائرة، ومِن أد إيه كنا هنا.

وشهدَت آخر أيامي بالإسكندرية، أول خطابٍ أكتبه ويُنشر في صحيفةٍ كبيرة باسمي، في جريدة الجمهورية؛ فقد قرأتُ فيها رأيًا للكاتب محمد صبيح، في عموده الصحفي «من النافذة»، عن عدم اهتمام الشعراء بالتغني بنهر النيل العظيم في قصائدهم، فعارَضتُ هذا الرأي واستَشهدتُ بقصيدة النهر الخالد لمحمود حسن إسماعيل، وذكَرتُ البيتَ الذي يقول: «يا واهبَ الخُلد للزمانِ … يا سَاقِيَ الحُب والأغاني.» وقد نشر الأستاذ صبيح رسالتي كاملةً وعلَّق عليها. وقد صدَر ذلك العدد من الجمهورية يوم سفرنا إلى القاهرة، وكان أول شيءٍ بحثتُ عنه لدى وصولنا إلى العاصمة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤