عامان من الكارثة

١٩٦٧–١٩٦٩م

انتظمَت الحياة مرة أخرى في القاهرة، ولكن بشكلٍ مختلف عما كان سائدًا من قبل؛ فقد ساد الجميع شُعورٌ بسقوط المشروع القومي، وبالهَوَان من وجود العدو على بُعدٍ قليل من العاصمة، ولكن ساد الجميع أيضًا الشعور بوجود البلاد في حالة حرب. وتم بناءُ سواترَ من الطوب أمام مدخل كل عمارة، وانتشَرت أكياس الرمال في الأماكن الحساسة، وران اللون الأزرق على كل نوافذ العاصمة. بيد أنه قابَل هذا موجةٌ من الأفلام الإباحية انتشَرَت في سينمات القاهرة العامة، فلفَت ذلك الأنظارَ كمحاولةٍ لإلهاء الناس عن التفكير بما حدث.

وفي مقَر عملنا، كان علينا التناوُب في السهر طَوال الليل في مبنى الوزارة، كنوعٍ من الحراسة المدنية. وكنتُ أرى نفسي بعيدًا عن كل هذه الإجراءات المظهرية، وأسخَر من هذه الأعمال الشكلية، ولكنها كانت تُطبَّق بجدية بمنطق المساهمة بشكلٍ ما في إزالة آثار العدوان.

وعُدتُ أتابع قراءاتي وكتاباتي مرةً أخرى على نحوٍ طبيعي. وفي يوليو ٦٧ ظهر عددٌ مزدوج من مجلة الآداب اللبنانية وبه مقالي عن «أولاد حارتنا ومشكلة الشر»، وهو مقالٌ طويل أوردتُ فيه مقارناتٍ عديدة بين أعمالٍ أدبيةٍ مختلفة وبين أولاد حارتنا، ولكن العدد صُودر في مصر، للأسف، بسبب احتوائه على قصيدة نزار قباني الشهيرة «هوامش على دفتَر النكسة». ولحُسن الحظ، تحصَّلتُ على نسخةٍ من المجلة ما زلتُ أحتفظ بها إلى الآن. وقد أعجِبتُ جدًّا بقصيدة نزار، وكِدتُ أحفظها عن ظهر قلب، وردَّدتُ مقاطع منها على مسامعِ نشوى حتى كادت تمَلُّ منها. وفي أغسطس ظهَرَت ترجمتي لعددٍ من قصائد لوركا في مجلة الهلال القاهرية، ومنها قصيدتُه المشهورة في مَرثيَّة مُصارع الثيران. وكان نجاحي في النشر في الهلال يُمثِّل لي اختراقًا هائلًا، وترك في نفسي أثرًا عميقًا؛ فقد كنا نقرأ الهلال منذ صبانا، ولم أكن أحلُم أن أكون يومًا مِن بين مَن يكتبون فيه، فكانت خطوةً واسعة وإنجازًا كبيرًا.

وتلا ذلك صدور ترجمَتي لكتاب «بابا همنجواي»، تأليف صديقه هوتشنر، ووصلَت الترجمة إلى مكتبة مدبولي بالقاهرة، في أغسطس ٦٧ أيضًا. واشتريتُ أربع نُسَخ؛ نسخة لي، ونسخة لنشوى، ونسخة لأستاذي عبد الكريم أحمد، ونسخة لفتاةٍ كنتُ أعطيها دروسًا في اللغة الإنجليزية آنذاك. وكان همنجواي قد أصبح الآن مركز اهتمامي وقراءاتي، حتى كنتُ أحاول معرفة كل دقائقِ أدبه وحياته.

إرنست همنجواي

وُلد إرنست ميلر همنجواي في ٢١ يوليو ١٨٩٩م، في مدينة «أوك بارك» من ضواحي شيكاغو، لأمٍّ متديِّنة ووالدٍ طبيب يهوى صيد البَر والبَحر، نقل هوايته إلى ابنه، وعلَّمه فنون الرماية منذ صباه. وترك إرنست المدرسة بعد حصوله على الثانوية، وتطوع في الجيش وسط الحرب العالمية الأولى؛ حيث عمل كسائقٍ لعربة إسعاف. وأصيب بشظايا قنبلة في رأسه وساقه، فدخل إلى مستشفى إيطالي في «ميلانو» وتعرَّف فيه إلى ممرضةٍ إنجليزية ألهمَته فيما بعدُ حبكة روايته «وداعًا للسلاح». وبعد الحرب تزوَّج همنجواي من الأمريكية «هادلي ريتشاردسون»، وسافر معها إلى باريس؛ حيث تعرَّف على نجوم الأدب والفن الذين عاشوا هناك في فترة ما بين الحربَين. وأوفدَته الصحيفة التي كان يُراسِلها إلى القسطنطينية كي يُغطِّي أحداث الحرب التركية اليونانية، وبعدها إلى ألمانيا ليكتب عن عودة القوات الألمانية إلى إقليم «الروهر». وبدأ همنجواي كتاباتِه القصصية والروائية في باريس، فأخرج كتابه الأول بعنوان «ثلاث قصصٍ قصيرة وعشر قصائد». وبعدها تفرَّغ للكتابة وتعرَّف على جيمس جويس وجرترود شتاين وسيلفيا بيتش ومكتبتها الشهيرة «شكسبير وشركاه». وتتابعَت أعمال همنجواي: «في أيامنا»، «وتشرق الشمس ثانية»، «سيول الربيع».

ويتخذ همنجواي زوجةً جديدة هي «بولين بفيفر» ويعود معَها إلى الولايات المتحدة لتَلِد هناك ابنهما «باتريك» بعمليةٍ قيصرية. وينشُر همنجواي «وداعًا للسلاح» و«موت في الأصيل»، علاوةً على الكثير من القِصص القصيرة. ويقوم المؤلف بأولى رحلاته إلى أفريقيا عام ١٩٣٣م، كتب عنها في «تلال أفريقيا الخضراء». وحين تتفجر الحرب الأهلية الإسبانية بين الجمهوريين والملكيين، يبذل همنجواي جهودَه لنُصْرة الجمهوريين، وسافر إلى مدريد ليُغطِّي أنباء الحرب، وليكون إلى جوار أصدقائه هناك، ومن نيران تلك الحرب، خرج همنجواي برائعته «لمن تدق الأجراس؟»، وبزوجةٍ جديدة التقاها في أثناء الحرب هي المراسلة الصحفية «مارتا جلهورن». وبعد انتهاء الحرب الأهلية بانتصار الملكيين بقيادة الجنرال فرانكو، ثم نشوب الحرب العالمية الثانية في سبتمبر ۱۹۳۹م، يطير همنجواي مع زوجته الجديدة كي يُغطِّيا معًا أنباء الحرب اليابانية الصينية. وبعد أربعة أشهر في الصين يعود الزوجان إلى كوبا؛ حيث كان همنجواي قد اشترى هناك ضيعةً بالقرب من العاصمة، هافانا، أطلق عليها اسم «فينكا فيخيا»، ويختًا كبيرًا أسماه «البيلار.»

وكالعادة، طار همنجواي إلى أوروبا ليوافي مجلة «كوليير» بتطوُّرات الحرب، وكالعادة أيضًا تعرَّف على مراسلةٍ أخرى هي «ماري ولش» أصبحَت زوجته الجديدة. وأصدر همنجواي بعد الحرب كتابه «عَبْر النهر وبين الأشجار»، الذي هاجمه النقاد بعنف، بيد أنهم رحَّبوا بكتابه التالي وهو «العجوز والبحر». وقام المؤلف كذلك برحلته الثانية إلى أفريقيا مع زوجته ماري، ولكن الطائرة سقطَت بهما مرتَين، ساد الاعتقاد بعد أولاهما بأن همنجواي قد لقي حتفه، بيد أن الكاتب وزوجته عادا إلى ضيعة كوبا للاستجمام؛ حيث تلقى نبأ حصوله على جائزة نوبل للآداب لعام ١٩٥٥م. وعاد همنجواي لزيارة إسبانيا عام ١٩٥٩م، لأول مرة بعد هزيمة الجمهوريين، ليشهد مباريات مصارعة الثيران، وليُصدِر بعدها كتاب الصيف الخطير عن تلك المباريات. وفي أواخر عام ١٩٦٠م يُصاب همنجواي باكتئابٍ حاد يفشَل معه العلاج، فيُقدِم على الانتحار بطلقة بندقية في منزله بولاية إيداهو في يوليو ١٩٦١م. وقد صدر له بعد وفاته عددٌ من الكتب أشهرها «عيدٌ متنقل» و«جنة عدن». كما صدَر عن أدبه وحياته مئات الكتب في أنحاء العالم.

وقد حظي همنجواي بشهرةٍ واسعة لكتبه وحياته، وكان له أثَره الكبير في أفراد الجيل الرائع، وفي كُتَّاب العالم أجمع. وقد ابتكر همنجواي أسلوبًا فريدًا في الكتابة يعتمد على التخلُّص من المحسِّنات البديعية والتزويقات اللفظية والإطناب، ويتجه إلى الاقتصاد في التعبيرunderstatement والأسلوب البَرْقي الذي يحاول إيصال التجربة إلى القارئ عن طريق التركيز على الفعل والحدث. وبالإضافة إلى طريقة همنجواي هذه في بناء لغته وبناء رواياته، فإن له رؤيةً خاصة في الحياة والفن، اجتهَد أن ينقلَها إلى القارئ من خلال قصصه ورواياته.

•••

وكان صدور ترجمتي لكتاب «بابا همنجواي» حدثًا كبيرًا؛ فهو أول كتابٍ لي، صادرٍ باسمي كمترجمه. وقد تأثَّرَت نشوى كثيرًا حين رأت الكتاب واسمي عليه، بالإضافة إلى إهداءٍ كتبتُه لها بقلمي. وبعد فترة، أوعزتُ إلى علي كمال أن يسأل مدبولي عن حال مبيعات الكتاب، فأجابه «ماشي زي الحلاوة». وفي سبتمبر، نشَرَت لي تراث الإنسانية مقالي عن العجوز والبحر. وفي حديث مع «الدكتور» عبادة كحيلة، الذي كان يعمل في هيئة التأليف والنشر، ذكَر لي أن مكافأة المقال في تلك المجلة يصل إلى أربعين جنيهًا؛ ذلك أن عباس العقاد هو الذي أشرف على إنشائها، وأراد لها أن تكون على مستوًى رفيع، وفوجئتُ بذلك؛ فقد كانت مكافأة المجلات الأخرى لا تزيد على خمسة إلى سبعة جنيهات. ولما قلتُ ذلك لعبد الفتاح العدوي، نصحَني بنصب سرير في مقر الهيئة، وعدم مغادرتها إلى أن يدفعوا لي المكافأة المقرَّرة!

وعبادة كحيلة أحد نجوم الجيل الرائع، وقد أصدر كتابه الرائد «صقر قريش» في سلسلة أعلام العرب عام ١٩٦٨م، وحصل على الدكتوراه في التاريخ، وعمل أستاذًا بآداب القاهرة. وقد أصدَر عبادة كثيرًا من الكتب، وهو نشط في الدفاع عن آرائه وقضاياه. وكان هو الذي يسَّر لي حضور مجلس «الأستاذ» (أي نجيب محفوظ)، في شقة الدكتور الرخاوي بالمقطم، وهو مجلسٌ يقتصر على القليل من الزوار.

وهكذا كان النشر بالنسبة لي في ذلك العام المشئوم مزدهرًا، بعكس حالة الوطن التي كنا نشعُر بألَمِها ومرارتها حتى النخاع. ومضى كل واحدٍ يلتمس خلاصه في أشيائه الخاصة وطموحاته الشخصية، بعد أن رأينا كل الآمال والأحلام تتحطَّم على فجيعة الواقع. وشَهِدنا كل ما تلا ذلك، من حرب الاستنزاف، وتعرُّض مدن القناة للقصف والتدمير وتهجير سكانها. وكان ذلك بدايةَ تغييرٍ هائل لبنية المجتمع المصري ونفسيته وأخلاقياته، وما زال يُلقي بظلاله حتى اليوم.

وفي بداية عام ٦٨، بدأ الشعب المصري يتساءل عن المسئولية عما حدث في الحرب، وانطلقت المظاهرات تندِّد بالعقوبات الخفيفة التي تلقاها عددٌ من المسئولين العسكريين، التي لا تتناسب مع ضياع وطن بكامله. وعمَد النظام إلى أساليبه المعتادة؛ فكما صدر الميثاق بعد مأساة الانفصال السوري، أصدَروا ما سموه «بيان مارس»، مع قرار إعادة محاكمة من اختاروهم كبشَ فداءٍ للهزيمة. وغنيٌّ عن الذكر أن كل تلك المواثيق والبيانات لم تلقَ في النهاية سوى النسيان.

وشَهدَت هذه الفترة تطورًا خطيرًا في علاقتي بنشوى، أدَّى في نهاية الأمر إلى فراقنا. كنتُ قد طلبتُ منها ألا ترتدي فستانًا معيَّنًا في العمل، وهو رداءٌ أبيض، جابونيز، ميني جيب، يُبديها في شكلٍ مُغرٍ جدًّا. وقبلَت هي ذلك بعد أن شدَّدتُ عليها بأني لا يُمكِن أن أسمح لها بارتداء مثل هذا الفستان في العمل. وفي يومٍ لم نكن سنلتقي فيه لأنني كنتُ مشغولًا بشراء بعض الكتب لمكتبة الوزارة، أنهيتُ مهمتي مبكرًا، ففكَّرتُ أن أذهب للقاء نشوى عند خروجها من العمل. وانتظرتُها بعيدًا أمام مبنى التليفزيون، ولكني صُدمتُ إذ رأيتُها ترتدي الرداء الأبيض الذي اتفقنا ألا ترتديه أبدًا في العمل. ومن فَرْط ذهولي، واتقاءً لمُشادَّةٍ رهيبة يمكن أن تقع أمام زملائها، وإدراكًا مني أن شيئًا كهذا الذي فعلَته لا يمكن تعويضه، آثرتُ أن أنصرف قبل أن تلحظ هي وجودي. وحادثتُها في التليفون في اليوم التالي مبكرًا، وصارحتُها بأني قد رأيتُها بالأمس وهي ترتدي الرداء العاري. وكان ردُّ فعلها على ذلك هو الشيء الذي فصم العلاقة بلا أمل في عودة؛ فقد حاولَت أن تقنعني أنها لم تكن ترتدي ذلك الرداء بالأمس، وأن التي رأيتُها لا بد وأن تكون فتاةً أخرى غيرها! وكان ذلك استخفافًا بي وبعقلي، وضربًا من اللامعقول؛ فلم يكن عندي أدنى شك أن من رأيتها هي نشوى، وأنا الذي يُمكِنني أن أميِّزها من أقل لمحةٍ من جسدها. ثم سطع في فكري أنها إذا كانت تحاول خداعي الآن بهذه الطريقة الملتوية الغريبة، فلا بد أن كل ما كانت تقُصه عليَّ من تحفُّظها في الحديث مع زملائها وعن عدم وجود صلاتٍ بينها وبين أحد، كل ذلك يمكن أن يصُب في خانة الكذب، تمامًا مثلما هي تحاوِل الآن أن تُقنِعني أنني لم أرَها بالأمس. وعندها أيقنتُ أنني لن أستطيع الاستمرار في هذه العلاقة بعد هذا الخداع الغريب. وقلتُ لنشوى إنني أشعُر أنني لستُ على ما يُرام؛ ولذلك فسوف أستأذن من العمل وأعود إلى المنزل. وفي اليوم التالي، اتصلَت هي بي، وأوعزتُ إلى أحد زملائي في العمل أن يرُدَّ عليها ويخبرها أنني لم أحضُر اليوم نتيجة مرضي. وبعد ذلك، انتظرَت هي أن أتصل بها عند عودتي للعمل، ولكني لم أفعل. كنتُ قد وصلتُ لقناعة عدم وجود أي قاعدةٍ لإعادة الثقة بيننا، وعدم استطاعتي أن أصدِّق أي كلمةٍ تقولها لي بعد ذلك. ويبدو أنها لم تَقْوَ على أن تتصل بي ثانيةً إذا لم أتصل أنا بها. وهكذا تزعزعَت العلاقة، وكان لا بد لها من أن تنهار.

وتَبِع ذلك شهورٌ قاسية، أحاوِل فيها اقتلاع نشوى من كياني كله؛ حيث تغلغَلَت في كل جزءٍ منه، فكان ذلك أشبه باقتلاع القلب النابض من بين الضلوع. وشغلتُ نفسي بكثير من الأشياء، وحتى البدء في علاقاتٍ جديدة. ولم يكن ذلك مفيدًا في شيءٍ سوى زيادة الألَم والشجَن. وتركتُ الأمر للزمن.

وأعلنَت الوزارة في ذلك الوقت عن عقد اختبار لموظفيها الذين يرغبون في العمل بالمكاتب والمراكز الثقافية بالخارج. وكان ذلك مبعث دهشةٍ للجميع؛ فلم يحدث أن قامت الوزارة بذلك من قبلُ، بل كان الأمر يتم عن طريق الاختيار ممن يزكِّيهم أهل الثقة والمراكز العليا، ثم علمتُ بعد ذلك بسر ذلك الإجراء الجديد. كانت الوزارة قد أرسلَت قائمة ترشيحاتها لملء المناصب الشاغرة بالخارج إلى رئاسة الجمهورية لاعتمادها. وقد عَلِم زميلُنا المخضرم محسن نبيل بذلك، وأنه ليس ضمن المرشَّحين رغم سعيه الدءوب لدى الكبار من أجل ترشيحه، فكان أن أرسل خطابًا إلى رئاسة الجمهورية يشكو فيه من أسلوب اختيار الموظَّفين المنتدَبين للعمل بالمراكز والمكاتب الثقافية بالخارج. ومن الغريب أن الرئاسة قد تجاوبَت مع هذه الشكوى، وأعادت قائمة المرشَّحين إلى وزارة التعليم العالي، طالبةً إجراء اختبارٍ لاختيار أفضل العناصر بالوزارة للترشيح لتلك الوظائف، وبذلك لم يعُد أمام الوزارة من مفَر إلا إجراء هذا الاختبار. ورغم أن السفر لم يكن من ضمن خطَطي للمستقبل أو طموحي في ذلك الوقت، فإن وجود امتحانٍ كهذا كان إغراءً كافيًا للتقدُّم له، من باب التجربة، والانغماس فيما يُلهيني عن نشوى. وهكذا تقدَّمتُ بأوراقي، وحثَثتُ زملائي على التقديم، فكانوا يؤكِّدون أنه لا فائدة من ذلك؛ لأن الأماكن محفوظة مسبقًا لأهل الثقة، فكنتُ أردُّ بأنه حتى لو أن الأمر كذلك فلن نخسر شيئًا من التقديم واختبار قدراتنا. وكانت مواد الاختبار مألوفة؛ تاريخ مصر، اللغة الإنجليزية، الميثاق، الأعمال الإدارية والمالية. وقد تطوَّع أحد الزملاء العاملين في الحسابات والميزانية بأن يشرح لي كل ما يتصل بميزانية المراكز الثقافية وموازناتها وأساسيات أعمالها المالية.

ودخلتُ الامتحان مع عددٍ كبير من الموظفين، وكان سهلًا فمضى في سلام، وبقينا ننتظر ما سيحدُث بعد ذلك.

وانضم إلى القسم الذي أشرِف عليه موظَّفان جديدان من تعيينات القوى العاملة. وكانت إضافةً موفقة. كان كلاهما من خرِّيجي كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وكانا يحملان من الذكاء والطموح والنشاط قَدْرًا كبيرًا. كان «حسن» من النوع العملي، يأخذ من الحياة ما تقدِّمه له من فُرص، وطموحاته وظيفيةٌ ومادية أكثر منها ثقافيةً وعلمية. أما «عبد الله» فقد كان فلتةً من فلتات الحياة. كان شابًّا ريفيًّا بسيطًا، لا يعرف من الحياة إلا جوانبها الأساسية، ولكنه كان ذا ذكاءٍ حاد، ويتمتع بذاكرةٍ خارقة للعادة؛ إذ يمكنه حفظ صفحاتٍ كاملة من قراءةٍ واحدة لها. وكان محبًّا للقراءة والكتب والمعرفة بصفةٍ عامة؛ ولهذا كان من الطبيعي أن نتقارب معًا، وأصبحنا نتناقش دومًا في أمور الثقافة والتاريخ. وكنتُ مهتمًّا أيامها بالثورة المكسيكية، فإذا بعبد الله يعرف كل شيء عنها. واكتشفنا أيضًا حُبنا المشترك لقراءة القرآن الكريم وتعلُّمه، فكنا نُطالِع معًا فيه ونُناقِش ما نقرؤه. كان ذلك في وقتٍ كان التديُّن العلني فيه مثار شكوك؛ فلم يطل الوقت حتى جاءتني زميلة تُزجي لي النصح بتجنُّب المطالعات القرآنية والمناقشات الدينية في العلَن. وكانت النتيجة طبعًا أن ضحكتُ في سري، وواصلتُ ما أقوم به دون أدنى تغيير. وكنتُ معتادًا على ذلك؛ فقد نصحوني من قبلُ بضرورة الانضمام إلى منظمة الشباب، فحملتُ عليها، ووصفتُها بأنها لا نفع فيها، وأنني لا أقبل المُضي مع القطيع لمجرد النفعية والانتهازية، كما أن من طبعي عدم الانضمام لأيٍّ من التنظيمات الجماعية. وواصلتُ صداقتي مع عبد الله إلى أن تقدَّم لامتحان الدبلوماسيين بوزارة الخارجية، وتم تعيينُه ملحقًا دبلوماسيًّا. وقد تدرَّج في الوظائف حتى وصل إلى منصب مساعد وزير الخارجية. ولمَّا كان من مُحبي الحق والعدل، فقد انتهى به الأمل إلى تقديم استقالته قبل أن يصل إلى سن التقاعُد.

ونشَرتُ في يوليو ٦٨ مقالًا عن هنري ميلر، من تأليف فيليب راف، في مجلة الآداب البيروتية. وكانت مجلة جيلي، «جاليري ٦٨» قد صدَرَت وأحدثَت دويًّا كبيرًا في الأوساط الثقافية. وكنتُ أعرف من يُصدِرونها من جلوسي معهم في مقهى ريش. بيد أنني — بطبعي المُنعزِل — لم أكن متداخلًا مع أيٍّ منهم تقريبًا. وذات يومٍ قابلت توفيق عبد الرحمن، وكان صديقًا وزميلًا لكل جماعة الجاليري، وأخبرَني أنه حدَّثَهم عني وأنهم يُرحِّبون بكتابتي في المجلة، وطلب مني عملًا لنشره بها. ولم يكن عندي جاهزًا سوى ترجمة عن الفرنسية لمسرحيةٍ طليعية للكاتبة مرجريت ديراس، عنوانها «الأنهار والغابات»، فأعطيتُها له. وقد نُشرَت المسرحية بالفعل في عدد جاليري لفبراير ٦٩، واحتلَّت مساحةً كبيرة من المجلة. وبهذا دخلتُ إلى زُمرة مجلة جاليري ٦٨، بعد وجودي وسطهم كل يومٍ في مقهى ريش.

وفي سبتمبر ٦٨، بدأتُ مشروعًا كنت أفكِّر فيه من زمن؛ فرغم معرفتي العامة باللغة الفرنسية، فإنني رغبتُ في دراستها دراسةً منهجيةً منتظمة، فالتحقتُ بالمركز الثقافي الفرنسي بالمنيرة، وطلبتُ أن أبدأ في أول مرحلةٍ بدلًا من دخولي اختبار الإلحاق الذي كان يمكن أن يوفِّر لي عدةَ مراحلَ من الدراسة. وكان محمد، صديق علي كمال، قد ألهب خيالاتِنا بحديثه عن باريس ومفاتن باريس، بعد أن ذهب هناك للعمل في اليونسكو بصورةٍ مؤقتة. وصرنا نحلُم بزيارة باريس ورؤية متاحفها وآثارها الغنية.

وفي صيف ٦٨، كنتُ ألتقي كثيرًا بعلي كمال، وكنا نذهب كثيرًا لزيارة محمد، الذي كان يستأجر غرفة في بنسيون بشارع الأنتيكخانة القريب من ميدان سليمان؛ حيث نتحادث ونأكل ونشرب. وكنتُ معجبًا بطريقة محمد المستقلة في المعيشة وحريته في إقامته بوسط البلد. وكان كثيرًا ما يستقبل هو وأصدقاؤه زائراتٍ أجنبياتٍ ممن عرَفَهن في رحلاته، فكان بهذا يعيش كأنه أوروبي في مصر.

وعُرض في مصر آنذاك فيلم Blow Up ونال شهرةً واسعة بسبب ما تناقلَه الناسُ عن وجود مناظرَ عاريةٍ فيه، وقد ظلمَت هذه الإشاعة هذا الفيلم الجميل؛ فكل ما فيه من إثارة فتاةٌ تخلع بلوزتها، والبطل وهو يلاعب فتاتَين ترغبان في العمل معه كموديل. وكل هذا ليس فيه من إثارةٍ إلا لمن استحوذ عليه الكبت، فأصبح يرى في أقل القليل أكثر الكثير. وأنا لا أبرِّئ نفسي، ولكني وجدتُ في الفيلم نواحيه الجمالية والفنية، خاصة المشهد الأخير الذي يختلط فيه الواقع بالخيال، وهو ما أوحى لي — في لحظاتٍ خاطفة بعد ذلك — بهيكل الرواية التي كنتُ أفكِّر في كتابتها. وقد كتبتُ هيكل الرواية بالفعل في الحال قبل أن يغيب عن ذهني، وبدأتُ في كتابة الرواية في كازينو على شاطئ النيل، ولكني لم أتمَّها إلا بعد ذلك بسنواتٍ طويلة.

وأعلن أحمد الحضري عن إنشاء نادٍ للسينما، لعرض الأفلام الطليعية غير التجارية للمهتمين بالفن السابع، وكنت من أول المشتركين في النادي مع بعض الأصدقاء، وشاهدنا أفلامًا جميلة في النادي، بدأَت بفيلم «القناع» السويدي. وكانت الأفلام تُعرض كاملةً دون حذف؛ لذلك شاهدنا الكثير من المَشاهد الإيروسية العارية، مما أثلج صدورنا وصدر صديقي العزيز الذي كان يُطارِد مثل هذه المَشاهد! بيد أن استمتاعنا بالنوعية العالية للصنعة السينمائية لتلك الأفلام كان عظيمًا. وأذكُر في هذه المناسبة كيف تدافع الشبان لمشاهدة الفيلم التشيكي «قطارات مخفورة جيدًا» بالمركز الثقافي التشيكوسلوفاكي بالقاهرة، وهو فيلمٌ رائع حاز أوسكار الأفلام الأجنبية سَنةَ عَرْضه؛ ولكن ما أغرى الناس بالذهاب لمشاهدته مشهدٌ إيروسي يطبع فيه البطل الشاب خاتمَ عملِه في مكتب البريد على أرداف صبيةٍ يُحبها!

وبدأَت الدراسة في المركز الثقافي الفرنسي في أواخر سبتمبر، وكان مقرُّه بديعًا حسَن التنسيق، ويوحي بالجمال والنظافة في كل شيء. وبدأتُ من ألف باء اللغة، فكان طبيعيًّا أن أكون من بين المتفوِّقين في الفصل. وكان كثيرٌ من الدارسين من طلبة الثانوية الذين أرسلهم أهلوهم للتقوية في اللغة، وعدد من الموظفين مثلي ممن يريدون معرفة اللغة تدعيمًا لوظائفهم، وبضعة طلبةٍ أفريقيين يجيدون الحديث الدارج بالفرنسية ولكنهم لا يعرفون قواعدها ولا كتابتها. ولم تكن هناك فتياتٌ يجذبن الاهتمام، إلى أن كنتُ داخلًا يومًا إلى المركز، وفي وسط حديقته الأمامية، إذا بفتاةٍ تصيح بي وأنا أمُر إلى جوارها «وعليكم السلام» وهي تضحك، ووجدتُ أنها الصغيرة «امتثال» تقف مع بعض زملاء الفصل، فالتحقتُ بهم وسلَّمتُ عليهم. وقالت امتثال: «لماذا تُصِر على أن تكون وحدك دائمًا؟ نحن هنا.» فضحكتُ وقلتُ إني مسرورٌ بمعرفتها. ووقفنا نتحادث وهي ترمقُني بنظراتٍ فاحصة وتسألني عن عملي ودراساتي. كانت في حوالي السادسة عشرة، جميلة، يشع الذكاء والنشاط من عينَيها. وبعد الدرس، سارت معي خارج المركز نتحدث. وبعد ذلك، أصبحَت امتثال لا تفارقني ونحن في المركز، وكان الجميع يلاحظون تعلقها بي. ويبدو أن ما لفت نظرها فيَّ هو اسمي، فقد كان اسمها امتثال ماهر وكانت تُحب والدها حبًّا شديدًا رغم انفصاله عن أمها التي تعيش معها. وكانت لديها بعض المشاكل مع أمها، وهو شيءٌ طبيعي في تلك السن، فكنتُ أسدي لها النصح وأخفِّف عنها. وأعطيتُها رقم تليفوني إذا ما احتاجت شيئًا، وحادثَتني أحيانًا. وفي يوم عيد ميلادي، دعوتُها قبل الدرس هي وصديقتها نجلاء لتناول مشروب المانجو، وخرجنا سويًّا إلى شارع القصر العيني، واحتفلنا بشرب العصير، ثم عُدنا إلى المركز بعد أن كان الدرس قد بدأ. وأرَتْني امتثال بعض الشعر الذي تكتُبه، وأعجبَني جدًّا بخلاف بعض الأخطاء النحوية. وكانت هي تريد مساعدتي في أن أكتب للإذاعة؛ إذ كانت تعرف الناس هناك عن طريق والدها.

كانت امتثال تعيش مع والدتها الطبيبة، وعلاقتهما تتراوح بين الشد والجذب، ولكنها كانت شديدة الإعجاب بها. وذات مساء، اتصلَت بي وكانت مكتئبة، وطلبَت أن أقابلَها. وتقابلنا في وسط البلد، واصطحبتُها إلى شرفة سميراميس حيث فضفضَت لي بهمومها ومشاكلها. وفي يومٍ آخر، ذهبنا إلى سينما ريفولي، وكانت سعيدة وهي تحتضنُني هناك. ومع انتهاء التيرم الأول في الدروس الفرنسية، لم تُسجِّل للتيرم التالي، وبذلك لم نعُد نتقابل في المركز. وقابلتُها بالخارج بعد ذلك مرةً واحدة، ثم اختفت تمامًا من حياتي. كانت كالطيف الوردي الجميل الذي عبَر حياتي وترك وراءه أثَرًا طيبًا شجيًّا ما زالت ذكراه في خاطري.

وفي نوفمبر ٦٨، بدأَت الأنباء تَتْرى عن نجاح عددٍ ضئيل جدًّا في اختبار الموفَدين إلى الخارج. ولم أكن أفكِّر في أن أكون ضمن الناجحين، لمعرفتي بالإجراءات التي تُصاحِب التصحيح وإعلان الأسماء الناجحة في مثل تلك الاختبارات الداخلية. وقلت لمديرتنا مرةً إنني لا أعتقد أنني من بين الناجحين، فضحكَت وبرِقَت عيناها. وجاءت الأنباء بعد ذلك بما أثلج صدري وجعلني معروفًا في الوزارة؛ فقد ثبت أنني قد نجحتُ في الاختبار وترتيبي الثاني. وبدأتُ أتلقى التهاني من الزملاء مع احتجاجي بأن لا شيء رسميًّا قد أعلِن بعدُ. وكانت المفاجأة أن الأول في الاختبار هو محسن، الذي كان قد أرسل الشكوى أصلًا إلى رئاسة الجمهورية. وكانت المشكلة أمام الوزارة هي قلة عدد الناجحين، ولكن ذلك أيضًا كان الثغرة التي فتحَت الباب لضم أصحاب الثقة إلى الناجحين؛ إذ تفتَّق ذهن المسئولين إلى خفض النسبة المطلوبة للنجاح — وهي التي قرَّرها الأساتذة الجامعيون الذين أشرفوا على التصحيح — من ٧٥٪ إلى ٥٥٪، وهو ما قفز بعدد الناجحين إلى ۸٢، شملوا فيما يبدو كل من كانوا يريدون ترشيحه.

واستُدعينا للاختبار الشفوي في فبراير ٦٩. وتأكد ترتيبنا بأن كنتُ ومحسن من بين أول المستدعَين للمثول أمام اللجنة التي تشكَّلَت من ثلاثة من وكلاء الوزارة. وكان الثالث هو جلال الذي عمل في إدارة العلاقات الثقافية في أول عهدها. وأجلسَتنا اللجنة في ترتيبٍ خاص بأولوياتنا. وكان السؤال العام هو عن الدولة التي يرغب الشخص في الذهاب إليها. وبدَءوا بمحسن الذي اختار دولةً أفريقية بحكم تخصُّصِه، وعملِه سابقًا في دولة غانا، وله باعٌ طويل في الدراسات الأفريقية. ثم سألَتني اللجنة السؤال نفسه فاخترتُ إسبانيا. وفتح ذلك شهية السادة الوكلاء، فأمطروني بالأسئلة عن تاريخ العرب في إسبانيا، والكلمات العربية في اللغة الإسبانية وما إلى ذلك. إلى أن وقعَت الواقعة! سألني الوكيل للشئون المالية عن نظام الحكم في إسبانيا، ووجدتُني أندفع بلا تفكيرٍ قائلًا: نظام فاشستي طبعًا. وكأنما حط الطير على رءوس الجميع؛ فقد ساد صمتٌ عميق للحظات، قال لي بعده الدكتور طلبة: لا يا ماهر، السيد الوكيل يقصد هل إسبانيا مع الغرب أم مع الاتحاد السوفييتي. وعندها طفقتُ أشرح مركز إسبانيا الفريد؛ فقد ثار الجنرال فرانكو لإرجاع الملكية، ولكنه الآن رئيس الدولة، ومن المفروض أن تعود الملكية من بعده. وبعد أسئلة عن بعض الجُزُر التابعة لإسبانيا، توجَّهَت اللجنة بأسئلتها إلى جلال، الثالث في الترتيب، الذي اختار أيضًا دولة أفريقية.

وخرجنا ونحن سعداءُ بعد تأكُّدنا من ترتيبنا في المقدمة، ولكني كنتُ أشع قلقًا من تعرُّضي لموضوع الفاشستية، للإيحاءات التي يمكن أن تُلقيَها تلك الكلمة. وزاد من قلقي ذلك الصمتُ المريبُ الذي أعقب حديثي عنها، ولكن، ما قيل قد قيل، ولا يمكن العودة إلى الوراء. ولم أصارح أحدًا بمخاوفي بل احتفظتُ بها لنفسي. وبعد ذلك الامتحان الشفوي، ازدادت الشائعات بمن سوف يُرشَّح والأماكن الخالية للترشيح. وظلِلتُ محتفظًا بعدم اكتراثي بتلك الصراعات الوظيفية، وبدأتُ في مشروعٍ ضخم لقراءة الملاحم العربية القديمة؛ فقد وجدتُ في فترينة إحدى مكتبات شارع القصر العيني طبعاتٍ شعبية لمجلَّدات سيف بن ذي يزن، فدخلتُ واشتريتُها. وفي الداخل وجدتُ مجموعاتٍ أخرى منها الأميرة ذات الهمة، في مجلَّداتٍ عديدة، فعقَدتُ العزم على شرائها في الشهر التالي. وكان مشروع دراسة تلك الملاحم يُلِح عليَّ منذ قراءتي للغصن الذهبي والأساطير القديمة، مع ما يمكن أن يكون لها من أثَر في الأدب المقارن؛ أي بالملاحم القديمة الأخرى. وبدأتُ أقرأ في سيف بن ذي يزن، وكنتُ قد شرعتُ في كتابة روايتي «عزلة النسر»، فوجدَت بعضُ أبياتٍ من الملحمة طريقَها إلى الرواية.

وفي إحدى الأمسيات زارني محسن نبيل وهو في حالة هياجٍ عصبي، ولما تحادثنا أبلغَني أنه قد علم أن هناك محاولاتٍ لإقصائه من الترشيح للعمل بالخارج، فقلتُ له إن ذلك مستحيل لأن ترتيبه الأول في الاختبار التحريري الذي أجرته الوزارة ذاتها، وهذا شيءٌ لا يمكن لهم أن يتجاهلوه، فذكَر لي أنهم قد عَرفوا أنه هو الذي تقدَّم بالشكوى إلى رئاسة الجمهورية، كما أن كل أصحاب النفوذ في الوزارة يقفون ضده. وقد حاولتُ تهدئته، ونصحتُه أن يتصل بمن يعرف من كبار المسئولين كيما يتدخَّلوا لصالحه.

وقد أغضبَني موقف المسئولين من محسن؛ فهو قد أثبت كفاءته، وهم يُحاوِلون الآن حرمانه من حقه وإعطاء ذلك الحق لأحد معارفهم. وبدأتُ أثرثر بغضبي هذا في الوزارة، وتلميحي بالتلاعب في نتيجة الاختبار كي يُرشِّحوا للسفر من أرادوه منذ البداية. وكنتُ أعتمد في كلامي هذا على حالة محسن وحالة أسماءٍ مقرَّبة من المسئولين بدأَت تظهر مرشَّحةً لأفضل الأماكن. ويبدو أن تلك الثرثرة قد وصلَت إلى مسامع من يهمُّهم الدس لدى المسئولين، وأحسستُ بذلك بوضوح. وحتى أريح نفسي، وطَّنتُ النفس على أني لن أرشَّح ضمن المنتدَبين إلى الخارج، وواسيتُ نفسي بأني أصلًا لم أكن أرغب في السفر، بل كنتُ أفضِّل البقاء في مصر وأواصل القراءة والكتابة والنشر. وكنتُ أواظب على متابعة كل جديد يُنشر، خاصة في السلاسل القيِّمة، مثل كتاب الهلال والمكتبة الثقافية واقرأ، فقرأتُ منها ابن الرومي للعقاد، وشخصية مصر لجمال حمدان، ورامبو لصدقي إسماعيل، ودراسات في النظم والمذاهب والبحث عن شكسبير للويس عوض — وقد صدَرَت في كتاب الهلال — ومن المكتبة الثقافية كتب قصة الورق لأنور عبد الواحد، ونافذة على الكون لإمام أحمد، والقاهرة القديمة وأحياؤها لسعاد ماهر، واللغة العربية عَبْر القرون لمحمود حجازي. وهذا مجرَّد غَيضٍ من فَيضٍ مما أسعدَني قراءتُه من السلاسل القيِّمة في تلك الفترة.

وكان حسن زميلي الذي يعمل في مكتب وكيل الوزارة يزوِّدني أولًا بأول بأنباء حركة الترشيحات. وعرفتُ أن هناك مرشَّحين لمكاتب لندن وباريس وواشنطن، وشعَرت بالغُبن؛ فلم أكن أعرف أن هناك أماكنَ شاغرة هناك وإلا كنتُ قد اخترتُ دولةً لغتُها الإنجليزية؛ حيث إن تخصُّصي الأساسي هو في تلك اللغة، وهناك حيث يُمكِن — كما تصوَّرتُ قبل أن أعرف ظروف العمل هناك — أن أكمِل دراساتي العليا للحصول على الدكتوراه، وهو الهدف الذي كان يسعى إليه كل مثقَّف في ذلك الوقت.

وتعطَّل إعلان النتيجة عدة مرات، إلى أن جاء أوائل الصيف. وأخيرًا ظهَرَت «الحركة» ووجدتُ اسمي بحمد الله مُنتدَبًا للعمل في المعهد المصري بمدريد. وشملَت الحركة أماكنَ في لندن وواشنطن، ولكني قنعتُ بما جاءني بعد أن علمتُ أن اسمي كان مستبعدًا من الحركة، ولكن تدخُّل عبد الكريم أحمد غيَّر الموقف. وقد حاولوا إقناعه بأني سأرشَّح في الدفعة القادمة إلى مكتبٍ في أوروبا، ولكنه ضغَط حتى أدرجوا اسمي إلى إسبانيا، وقال لي إنهم بعَثوا له بمنشور الحركة، واطمأن على وجودي فيها. وقد أعدُّوا للمنتدَبين دورةً تدريبية، حاضرَنا فيها عددٌ من المسئولين، كما شملَت زياراتٍ لمشروعاتٍ صناعية وسياحية بالقاهرة. وبالفعل، لم تشمل الحركة زميلَنا محسن، رغم كل ما بذله من مساعٍ في ذلك الشأن.

وأعقب ذلك الاستعداد للسفر. وقضيتُ أوقاتًا طويلة مع الدكتور شعراوي في جروبي سليمان، أمطِره بالأسئلة عن مدريد وأحوال المعيشة فيها، واطمأننتُ إلى أنها تحوز الركائز الأساسية للمدن الأوروبية الحديثة، بعكس ما كان يُشاع عنها أنها «ريف أوروبا». وأصبحتُ متحمسًا للذهاب هناك، وإتقان اللغة الإسبانية، ودراسة الحضارة الأندلسية، وفَتْح نافذةٍ عريضة أطِل منها على الآداب الثرية لإسبانيا وأمريكا اللاتينية.

واختلف ردُّ فعل أصدقائي تجاه تلك السفرة؛ نبيل شعَر بالحزن من تفرُّق الأصدقاء، بعد أن ذهب وهيب من قبلُ للعمل مدرسًا بالسودان؛ وصديقٌ آخر رأى أنني بهذه السفرة قد حلَلتُ المشكلة الجنسية من أساسها، ولكن البقية كانوا يرَونَ أنها الحل الأمثل للخروج من الأوضاع المغلَقة في مصر. وكان أحد هؤلاء الأصدقاء يقول إنه مُستعِد للعمل في أي شيءٍ بالخارج حتى لو كانت وظيفةَ من يتلقى النقود على باب المراحيض العمومية!

واشتريتُ بعد لَأيٍ حقيبتَين كبيرتَين من القماش الأزرق، اخترتهُما كذلك حتى لا يكون وزنهما كبيرًا، بالنظر إلى أن معظم ما سوف أحمله معي هو الكتب والكرَّاسات والمجلات والقواميس. وكان شهرا يونيو ويوليو محمَّلَين بالآمال الكبار؛ إذ كنتُ أمنِّي نفسي بسفرةٍ طويلة أتشرَّب فيها ما يُمكِّنني من الاستمرار في الإنتاج الأدبي براحة وثقة. ويُذكِّرني هذان الشهران بالفترة التي كان ستيفن ديدالوس يستعدُّ فيها — في رواية صورة للفنان في شبابه — لمغادرة دبلن إلى باريس.

وكنت أسعى للتعرُّف قبل سفري على أحدث الإصدارات كي أحمل منها زادًا للقراءة هناك. وقد حدَّثني علي كمال — وهو المطلع على كل جديد — عن قصةٍ أعجبَته عنوانُها أوراق شابٍّ عاش من ألف عام، فأعجبَني مما ذكَره طريقةُ السرد فيها. وقد أهداني علي تلك القصة، وكذلك رباعية المركيز دي ساد التي وجدها في مكتبة شادي. ووضعتُ كل هذا في الحقيبتَين، تأهُّبًا لشد الرحال إلى الأندلس الجديدة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤