منابع إيجابية للمرأة العربية

سبقت المرأة العربية المرأة الأوروبية والأمريكية في مُقاومة النظام الطبقي الأبوي، إن المرأة الأمريكية لم تَفطن إلا هذه السنوات الأخيرة من القرن العشرين إلى أن اللغة السائدة هي لغة الرجل، وأنَّ كلمة «رجل» تعني الإنسان أو البشرية جمعاء، وأن صيغة المذكر تشمل الرجال والنساء معًا، وتحاول اليوم بعض حركات تحرير المرأة في أمريكا وأوروبا تغيير اللغة.

أما المرأة العربية فقد فعَلت ذلك منذ أربعة عشر قرنًا؛ فقد كانت صيغة المذكر هي التي تُطلَق على الرجال والنساء في القرآن، فاعترضَت على ذلك النساء العربيات قائلات: «أسلمنا كما أسلمتم، وفعلنا ما فعلتم، فتُذكَرون في القرآن ولا نُذكَر؟» وكان الناس يُسمَّون المسلمين، فأنزل الله القرآن: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ.

وكنتُ أندهش كلما قرأت في تاريخ العرب قبل الإسلام، وفي المراحل الأولى للإسلام، عن تلك الشخصيات النسائية المتعدِّدة اللائي برزن في المجتمع، وعن الأهمية الكبيرة التي نالتْها نساء العرب سواء في الآداب والثقافة والفنون أو الحب والجنس أو في الحياة الاجتماعية والاقتصادية، بل منهنَّ من برزن في السياسة والحروب والقتل، سواء قبل الإسلام أو بعده، وفي حياة محمد رسول المسلمين نفسه.

ويحفل تاريخ العرب بأسماء هؤلاء النساء؛ ومنهن نسيبة بنت كعب التي حاربت جنب محمد بالسيف في معركة «أُحُد»، ولم تكفَّ عن القتال حتى جُرحت ثلاثة عشر جرحًا، وقال عنها محمد إن مقامها خيرٌ من الرجال. ومنهنَّ أيضًا أم سليم بنت ملحان التي حزمت الخنجر على وسطها وهي حامل، وحاربت مع محمد وقومه مِن المسلمين. أما النساء اللائي اشتركن في الحروب ضد محمد والمسلمين فمنهنَّ هند بنت ربيعة، زوجة أبي سفيان، التي ارتدَت الحديد والزرد في معركة «أُحُد» ووضعت قناع الحرب وشهرت السيف تَطعن به الصدور، وكانت هند امرأة عربية تملك حريتها وإرادتها، وقد قالت لأبيها:

«أنا امرأة قد ملكت أمري، فلا تُزوِّجني رجلًا حتى تعرضه عليَّ.» فقال لها أبوها: ذلك لك.

وكانت هند قوية الحجة سريعة الرد، حتى على محمد رسول المسلمين، وحين جاءت إليه مع النساء ليُبايعن الإسلام أخذ النبي يتلو عليها مبادئ الدين الجديد، وحين قال لهن: «ولا تقتلن أولادكن»، ردَّت عليه هند قائلةً: أنت قتلتهم. وكانت تعني هند بذلك أن «محمد» ورجاله قتلوا الكثيرين في غزوة بدر التي انتصر فيها المسلمون على أهل قريش، وقُتل فيها ضمن من قُتل أبو هند عتبة بن ربيعة وأخوه شيبة وابنه الوليد بن عتبة أخو هند. وكانت هند قد أقسمت منذ مقتلهم على أن تثأر لهم، وقد أقسمت ألا تتعطَّر وألا تقرب زوجها أو تُمارس معه الجنس حتى يأخذ بثأر أبيها وأخيها، وفعلًا نفَّذت هند قسمها، ثم اشتركت في حروب أُحُد التي انتصرت فيها قومها على المسلمين.

ومن أبرز النساء العربيات السيدة خديجة زوجة النبي محمد الأولى، وهي امرأة عربية كانت لها شخصيتها واستقلالها الاقتصادي والاجتماعي وحريتها في اختيار الرجل الذي تريده، وهي التي أرادت أن تتزوَّج «محمد» وهي تكبره بخمسة عشر عامًا، وأرسلت إليه امرأة اسمها نفيسة تعرض عليه الزواج منها. وجاء في كتاب الطبقات الكبرى لمحمد بن سعد، وهو أول تاريخ قومي للعرب: «قالت نفيسة: فأرسلتني إليه دسيسًا أعرض عليه نكاحها ففعل.» وكانت خديجة قد عرفت «محمد» من خلال تشغيلها له في تجارتها واستثمار أموالها.

وقد كان المجتمع العربي قبل الإسلام يتكون من قبائل مختلفة تعيش ظروفًا اقتصاديةً مختلفةً في الصحراء وفي المدن، وكانت بعض هذه القبائل أموية، يُنسَب الطفل فيها إلى أمهاتهم مثل قبيلة خندف وجديلة، ومن ملوك العرب قبل الإسلام من نُسب لأمه كعمرو بن هند. وكان «محمد» نفسه يفخر بانتسابه إلى نساء قبيلته قائلًا عن نفسه: أنا ابن العواتك من سليم: «عاتكة بنت هلال، وعاتكة بنت مرة، وعاتكة بن الأقصى.»

وكان المجتمع العربي قبل الإسلام يمثل نوعًا من المجتمعات التي شهدت النظامين الأمومي والأبوي معًا، وكيف كان هذا النظام الأمومي يَنقرض بالتدريج بتغير النظم الاقتصادية وسيطرة الرجل المتزايدة على الحياة وعلى الدين. وقد كانت المرأة العربية في البادية أكثر تحرُّرًا من المرأة في المدينة، بسبب مشاركتها الرجل في العمل والسعي وراء الرزق، ولم تعرف المرأة العربية في البداية الحجاب، وكانت تُخالط الرجال.

وكان لعرب الجاهلية قبل الإسلام آلهة من الذكور والإناث، وكانوا يؤمنون بأن إله كل قبيلة يُحارب معها في حربها، ويجهد نفسه في الدفاع عنها لتفوز بالنصر؛ لذلك كانت القبائل تحمل معها صورًا أو تماثيل آلهتها في الحرب، وقد فعل ذلك أبو سفيان، فحمل «اللات» و«العزى» في معركة «أحد» ضد محمد والمسلمين، وكانت «اللات» و«العزى» إلهاتٍ إناثًا، وفي هذه المعركة انتصر أبو سفيان وزوجته هند على المسلمين، مما جعلهم يتمسكون بآلهتهم الإناث ويَثقون في قوتها وقدرتها. وكانت القبيلة المهزومة كثيرًا ما تنبذ إلهها الضعيف الذي انهزم في الحرب، وتختار إلهًا قويًّا هو إله القبيلة المنتصرة أو إله قبيلة مشهود لها بالنصر، وعلى هذا النحو كانت تنتشر عبادة بعض الآلهة دون البعض الآخر.

وكان وجود الإلهات الإناث كاللات والعزى انعكاسًا لارتفاع مكانة المرأة في تلك القبائل العربية، وانعكاسًا للمجتمع الأمومي الذي كان موجودًا عند بعض تلك القبائل في ذلك الوقت.

ولعلَّ هذا هو السبب في أن تاريخ العرب سواء قبل الإسلام أو بعده يَشتمل على نماذج عدة لنساء بارزات الشخصية قويات الحجة، إيجابيات في حياتهن الخاصة والعامة، ومنهنَّ مَن اشتغلن بالاقتصاد والإنتاج.

وكان من جراء اشتراك المرأة مع الرجل في الحياة الاقتصادية في هذه الحالات أن حصلت على شخصية مستقلة في المجتمع وفي البيت، وكان لها حرية اختيار زوجها، وكانت المرأة تتزوج أحيانًا أكثر من رجل؛ أي تمارس تعدد الأزواج قبل الإسلام، وسُمِّيَ هذا الزواج بزواج «المشارك»؛ حيث كانت تتزوج المرأة بعدد من الرجال بشرط ألا يَزيدوا عن عشرة رجال وإلا اعتُبرت من البغايا. وعن حديث للسيدة عائشة عن الجاهلية تقول: «أن يجتمع الرهط دون العشرة، فيدخلون على المرأة فيُصيبونها، فإذا حملت ووضعت ترسل إليهم فلا يستطيع أحد منهم أن يَمتنع، فإذا اجتمعوا عندها تقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم، وقد ولدتُ، فهو ابنك يا فلان — تُسَمِّي من أحبَّت باسمه — فيلحق به ولدها لا يستطيع أن يمتنع عنه الرجل.» ويَكتب الأصفهاني يقول: والبدويات منهنَّ حين يُطلقن أزواجهن يُحولن خيامهن إن كانت إلى الشرق إلى الغرب، أو كانت إلى الجنوب إلى الشمال، وكان الطلاق يتم بمجرد أن تُحوِّل المرأة باب خيمتها.

وكان عند العرب قبل الإسلام نوع من النكاح يُسمَّى نكاح الاستبضاع، وصفته السيدة عائشة في حديثها بأن الرجل كان يقول لامرأته إذا طَهُرت من طمثها: «أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه، ويَعتزلها زوجها ولا يمسها حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه — غالبًا رجل عظيم؛ لأن الزوج يريد ابنًا من نسلٍ ممتاز — فإذا تبيَّن حملها أصابها زوجها إذا أحب.» وكان الطفل المولود يُعتبَر ولدًا للزوج الشرعي وليس للرجل العظيم الذي جاء من صلبه، ونكاح الاستبضاع صورة من نظام تعدُّد الأزواج عند العرب، ولا زال أثره واضحًا في حالات بعض النساء العاقرات حتى يلدن.

كنتُ وأنا طفلة صغيرة أسمع النساء الريفيات في قريتي كفر طحلة يتحدثن عن النساء العاقرات اللائي يذهبن إلى «مشايخ» القرية من أجل ارتداء «حجاب» يَشفيها من العقم، فتحمل، وقد عرفت من بعد أن هذا الحجاب كان أحيانًا قطعة من الصوف تضعها المرأة داخل مهبلها. وبالسؤال عن سر تلك القطعة من الصوف التي تَشفي النساء من العقم عرفت فيما بعد أن بعض «مشايخ» القرى كانوا يُبلِّلون تلك القطعة من الصوف بسائلهم المنوي لتضعها المرأة على الفور في مهبلها. وبسبب أن لقاء «الشيخ» مع المرأة كان يتمُّ دائمًا في حجرة مظلمة تمامًا فلم تكن المرأة تلحظ ما يفعله «الشيخ»، وأحيانًا كانت تلحظ، لكنها كانت تَكتُم الأمر بينها وبين نفسها حرصًا على الحمل والإنجاب بأي ثمن، حتى إن وضع «الشيخ» سائله المنوي مباشرةً في مهبلها دون حاجة إلى قطعة الصوف، وكان بعض المشايخ يلجئون إلى ذلك من أجل شفاء النساء العاقرات من العقم أو من أجل المُمارسة الجنسية لإرضاء رغباتهم أو من أجل الاثنين معًا.

ولا شك أن نكاح الاستبضاع عند العرب أو قطعة الصوف السابق ذكرها ليست إلا نوعًا من اللقاح غير المباشر الذي يُشبه الفكرة الحديثة جِدًّا الخاصة باللقاح الصناعي، بدلًا من أن تحفظ الحيوانات المنوية في أنبوبة معقمة، فإنها توضع في قطعة من الصوف.

وكم تحدَّث الغرب في السنين الأخيرة بفكرة التلقيح الصناعي واعتبروها من أحدث الصيحات في مجال علم الجنس أو التحرُّر، على حين أن الرجال العرب في الجاهلية قبل الإسلام كانوا يعرفون هذه الفكرة بل ويمارسونها في زواج الاستبضاع، أو يتحرَّر الأب من أنانيته وغيرته ويُفضِّل أن يَحصل على نسلٍ أقوى، بصرف النظر عن اتصال زوجته برجل آخر جنسيًّا؛ ذلك أن الرجل الذي حملت منه المرأة لم يكن يؤدي بالنسبة لها أو لزوجها إلا دور المُخصِّب فقط، مما يكاد يتفق مع فكرة ليستروورد بأن وظيفة ذكر الإنسان لم تكن في البداية الأولى للبشرية إلا مُخصِّبًا للأنثى، ويتفق أيضًا مع رسوم كهوف كوجيل في إسبانيا حيث صورت النساء كاملات، أما الذكر فرُسم على شكل عضوِ تناسُل فقط.

وقد عرف العرب قبل الإسلام أنواعًا أخرى من الزواج؛ منها زواج «المتعة»، وهو نوع من الزواج المؤقت من أجل المتعة الجنسية فقط، يتزوَّج الرجل المرأة لمدة ثلاثة أيام أو أقل أو أكثر، ويدفع لها مبلغًا من المال حسب الاتفاق بينهما في هذه الفترة المحدودة، وليس على الرجل أن يَعترف بالطفل الذي قد نتَج من هذا الزواج، وكانت المرأة تَنسِب طفلها إليها.

وكان هناك أيضًا زواج «الهبة»؛ وهو أن تقول المرأة للرجل «وهبتُك نفسي» فيتزوجها دون أن يكون لها أي حقوق الزوجية، وليس للرجل أيضًا أن يَعترف بأطفالها، لكن المرأة تتمتَّع بحق نسب أطفالها إليها كبقايا النظام الأمومي.

وقد أبطل الإسلام هذين النوعين من الزواج.

وقد كان المجتمع العربي كغيره من المجتمعات الإنسانية يتحوَّل تدريجيًّا من النظام الأمومي إلى النظام الأبوي بازدياد سلطة الرجل واحتكاره للأنشطة الاقتصادية، وبانحسار دور المرأة خارج البيت أو في أعمال الإنتاج، وبمسانَدة الدين الإسلامي للنظام الأبوي.

ولم تفقد المرأة العربية إيجابيتها فجأةً، بل ظلت تُقاوم لتحافظ على حقوقها القديمة، وقد انتصرت المرأة أحيانًا وانهزمت أحيانًا، إلى أن تمَّ إخضاعها حين تمَّت سيادة النظام الأبوي بالكامل.

وقد ظلَّت المرأة العربية في الفترات الأولى للإسلام تُعطي نفسها حق اختيار زوجها، بل إنها كانت تذهب إليه وتعرض عليه الزواج، ويَعرف تاريخ العرب من هؤلاء الناس «ليلى بنت الحطيم» التي ذهبت إلى محمد وهو رسول المسلمين وقالت له: أنا ليلى بنت الحطيم، جئتُ لأعرض عليك نفسي، تزوجني، قال محمد: قد فعلتُ. لكنها حين عادت إلى أهلها قالوا لها: بئس ما صنعت، فأنت غيورة ولا صبر لك على الضرائر، وقد أحلَّ الله لرسوله أن ينكح ما شاء، فرجعت ليلى إلى الرسول وقالت له: أنا امرأة طويلة اللسان، ولا صبر لي على الضرائر، أَقِلني، فقال لها: قد أقلتك.

ولا أدري كم من النساء العربيات اليوم من تستطيع أن تفعل ما فعلته «ليلى بنت الحطيم» منذ ثلاثة عشر قرنًا، ولا أدري كم من الرجال العرب من يُعطي المرأة حرية اختياره أو حرية رفضه كما فعَل محمد نبي المسلمين.

وإذا كانت حياة «محمد» هي المثل الأعلى للرجال المسلمين، فمَّما لا شك فيه أن الرجال العرب في عصرنا الحديث لا يَتبعون مثلهم الأعلى في الحرية التي كان يعطيها للنساء، وأنهم قد خالفوا النبي والإسلام حين فرضوا الطاعة على الزوجة أو مما عُرف بيت الطاعة، وكم من زوجات عربيات أمسكهنَّ البوليس بالقوة باسم بيت الطاعة وساقهن قسرًا إلى أزواجهن.

ولم تكن المرأة العربية تَمنح نفسها حرية اختيار زوجها فحسب، ولكنها كانت تستطيع أن تراجعه إذا أخطأ، وتُغاضبه وتَهجره حتى الليل، مهما ارتفع شأنه أو كان هو النبي نفسه، كما يتضح من هذه القصة التي يرويها عمر بن الخطاب بلسانه، قال عمر:

وكنا معشر قريش نَغلب النساء، فلما قدمنا على الأنصار إذا قومٌ تَغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يأخذن من أدب الأنصار، فصِحتُ على امرأتي فراجعَتْني، فأنكرتُ أن تُراجعني، فقالت: ولِمَ تُنكر أن أراجعك؟ فوالله إن أزواج النبي ليراجعنه، وإن إحداهنَّ لتهجره اليوم حتى الليل. فأفزعني ذلك، فقلت: لقد خاب مَن فعَل ذلك منهنَّ، ثم جمعتُ عليَّ ثيابي، فنزلت فدخلتُ على حفصة بنت عمر، فقلت: يا حفصة، أتُغاضب إحداكنَّ رسول الله يومًا إلى الليل؟ قالت: نعم. قلت: خِبتِ وخسرت، أفتأمنين أن يغضب الله لغضب رسوله فيُهلكك؟ لا تستكثري على رسول الله، ولا تُراجعيه في شيء، ولا تهجريه.

ولا شك أنَّ أغلبية الرجال العرب قد نهجوا نهج عمر بن الخطاب في التسلُّط على المرأة، ويتضح من كلام عمر أنه كان يفخر بانتمائه إلى قومٍ يغلبون النساء، ويستنكر على الرجال العرب الآخرين الذين تغلبهم نساؤهم. وهو يُعطي نفسه حق الصياح في وجه زوجته، فلا يصح لها أن تراجعه. بل إنه يُنصِّب نفسه داعيةً وحاميًا لحق الزوج في ألا تراجعه زوجته، وينهي زوجة «محمد» عن ذلك، بل يُهدِّدها بأن الله سيُهلكها.

وكان أجدر الزوج نفسه أن يفعل ذلك، وهو أعلى شأنًا وأكثر مقدرةً من عمر بن الخطاب، بصفته النبي والرسول والمشرِّع، لكن «محمد» كان يُعطي الزوجة حقها في مراجعة زوجها إذا أخطأ وإن كان هذا الزوج هو النبي نفسه.

ومن هنا يتضح كيف ترك عمر بن الخطاب وأمثاله من الرجال العرب من ذوي النزعة الأبوية المتسلِّطة بصماتهم على كثير من الأحكام التي تُفرَض على النساء العربيات اليوم باسم الإسلام، مع أنها ليست من الإسلام كما رآه أو اتبعه «محمد».

وقد قاومت المرأة العربية هذه الضغوط التي كان يفرضها بعض الرجال العرب، أمثال عمر بن الخطاب، ولم تكن المرأة العربية في مقاومتها تَخجل أو تتحرَّج حتى في أشد الأمور حساسية، مثل حقها في المتعة الجنسية، وهذه القصة عن أم سلمة زوجة النبي محمد تُصوِّر لنا كيف بلغت المرأة أحيانًا من الجرأة والإيجابية في حياتها الجنسية.

وهذه القصة يَرويها عمر بن الخطاب عن لسانه ويقول: «فدخلتُ عليه (رسول الله) وهو واضعٌ يده على خدِّه أعرف به الكآبة، فقلتُ: أي نبي الله، بأبي أنت وأمي، ما الذي رابك؟ وما لقيَ الناس بعدك من فقدهم لرؤيتك؟ فقال: يا عمر، يسألنني أولاء ما ليس عندي (يعني نساءه)، فذاك الذي بلَغ مني ما ترى، فقلت: يا نبي الله، قد صككتُ جميلة بنت ثابت صكَّةً ألصقت خدها منها بالأرض لأنها سألتني ما لا أقدر عليه، وأنت يا رسول الله على موعدٍ من ربك، وهو جاعل بعد العسر يسرًا.» ويخرج عمر بن الخطاب من عند النبي ويذهب إلى أبي بكر الصديق، ثم يذهب الاثنان معًا إلى زوجات النبي عائشة وحفصة وأم سلمة، لكن أم سلمة تَرفض أن تدخلهما، وتقول لهما: «ما لكما، ولما ها هنا رسول الله أعلى بأمرنا عينًا، ولو أراد أن ينهانا لنهانا، فمن نسأل إذا لم نسأل رسول الله؟ هل يدخل بينكم وبين أهليكما أحد؟ فما نُكلفكما هذا.» فخرَجا من عندها، فقالت زوجات النبي لأم سلمة: جزاكِ الله خيرًا، فعلتِ ما فعلت، ما قدرنا أن نردَّ عليهما شيئًا.

لقد بلغت «أم سلمة» من الإيجابية والجرأة في حقها في المتعة الجنسية إلى الحد الذي جعلها تَرفض تدخُّل رجال آخرين بينها وبين زوجها، وتتمسَّك بحقها في هذه المتعة وتفرض على زوجها أن يؤدي واجبه نحوها في هذا الشأن، حتى وإن أدى موقفها هذا إلى الطلاق من محمد «النبي» ذاته، وهذه المرأة هي «العامرية» زوجة «محمد» التي طلَّقها النبي لهذا السبب.

ولم يكن «محمد» يُرغم الزوجة أن تعيش مع زوجها إذا رغبت في الانفصال عنه، وقد أعطى «محمد» زوجاته حرية البقاء معه أو الانفصال عنه بعد أن حالت ظروف حياته في فترة من الفترات أن يوفي حاجتهنَّ الجنسية.

ويحكي كتاب الطبقات الكبرى عن أن «مُحَمَّدًا» ذهب إلى زوجاته في ذلك الوقت ليُخيرهنَّ بين الطلاق أو الحياة معه، دون أن يُحقِّق لهن متعة الحياة الدنيا وزينتها.

ويقول الكتاب: ثم قال جابر: فأنزل الله في ذلك الآية القرآنية: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا — يعني الطلاق — وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ فلا تَنكحْن بعده أحدًا، فانطلق رسول الله فبدأ بعائشة فقال: إن الله قد أمرني أن أُخيركنَّ بين أن تخترن الله ورسوله والدار الآخرة وبين أن تخترن الدنيا وزينتها، وقد بدأتُ بكِ، فأنا أُخيِّرك.

وقد اختارت «عائشة» الله ورسوله والدار الآخرة، وكذلك أيضًا فعلت «أم سلمة»، أما العامرية فقد اختارت الدنيا وزينَتها وأرجعها محمد إلى أهلها.

وقد أغضب موقف «العامرية» عددًا من الرجال بطبيعة الحال، فكيف تفقد المرأة عقلها إلى هذا الحد الذي تختار فيه الدنيا ولا تختار رسول الله، ومن هؤلاء ابن مناح الذي قال: «اخترنه — — جميعًا، غير العامرية اختارت قومها، فكانت ذاهبة العقل حتى ماتت.»

وكما ورث كثيرٌ من الرجال العرب عمر بن الخطاب في نزعته المتسلطة على المرأة، وضربه إياها حتى يلتصق خدها بالأرض كما فعل عمر بزوجته، فقد ورث كثيرٌ من الرجال «ابن مناح» في الحكم على النساء بأنهن بغير عقل أو بالجنون أو الهوس أو الهستيريا، إذا ما لاح للواحدة منهنَّ أن تعترف برغبتها الجنسية أو تطلب الطلاق من زوجها أو حتى تُراجعه إذا أخطأ. فالرجل في نظر عمر بن الخطاب وابن مناح وغيرهم من الرجال في عصرهم أو في عصرنا معصوم من الخطأ لمجرد أنه رجل؛ فهو صاحب العقل والحكمة، ومن حقه الوصاية على زوجته، وعلى النساء (الناقصات العقل) الطاعة الواجبة عليهنَّ بالشرع والقانون.

إلا أن مُحَمَّدًا النبي وواضع الشرع الأول لم يكن من هؤلاء الرجال، وهذا أمر يجب أن يُبرزه كل من درس تاريخ العرب والإسلام؛ لأنه يكتشف تحول هذا الخطأ والإثم إلى أحكام أصبحت هي القانون الشرعي الذي تُحكم به النساء المصريات والعربيات اليوم، هذا القانون الذي فرض على المرأة الزواج بالإكراه، وحرَمها من حريات تمتَّعت بها في حياة محمد.

وقد ذهب محمد رسول المسلمين إلى أبعد من الاعتراف بحرية المرأة في الزواج، بل إنه في بعض أحاديثه شرَح للرجال أهمية المداعبات الجنسية في إرضاء المرأة، وأن الرجل العاجز هو الذي يُشبع حاجته إلى الجنس ولا يُشبع حاجة المرأة.

ويَروي الغزالي أن مُحَمَّدًا رسول المسلمين قال عن إحدى صفات العجز هي: «أن يقارب الرجل جاريته أو زوجته فيُصيبها قبل أن يُحدثها ويؤانسها ويضاجعها، فيقضي حاجته منها قبل أن تقضي حاجتها منه.»

وهكذا نرى أن «مُحَمَّدًا» تفوق على أكثرية رجال العصر الحديث في فهمه أمور الجنس، وقدرته على الاعتراف بأشياء لم يَعترف بها أكثر الرجال العرب المثقفين، أو على الأقل تحرَّجوا من الاعتراف بها؛ ومن هذه الأشياء موضوع المُداعَبات الجنسية، ويَروي الإمام الغزالي عن رسول المسلمين هذا الحديث؛ أنَّ النبي قال: «لا يقعنَّ أحدكم على امرأته كما تقع البهيمة، وليكن بينكما رسول.» قيل: وما الرسول يا رسول الله؟ قال: «القُبلة والكلام.»

وقد شرح الغزالي وغيره من الفلاسفة العرب في كتاباتهم أحاديث الرسول وأضافوا عليها، مما أكَّد في الفلسفة الإسلامية أهمية إرضاء الحاجة الجنسية للمرأة والرجل.

ويتَّضح لنا الآن الفارق الكبير بين نظرية الفلسفة الإسلامية للجنس وبين غيرها من الفلسفات الغربية التي ارتكَزت على تأثيم الجنس، وعلى نكران اللذة الجنسية، وبالذات لذة المرأة. وقد كانت شخصية محمد رسول المسلمين وأحاديثه، وهي المنبع الأساسي لهذه الفلسفة، ورغم أن مُحَمَّدًا بحكم نبوَّته وزعامته كقائد أمة ودولة كان من الممكن أن يَتظاهر بالتزمُّت أو عدم الاهتمام بأمور المرأة أو الحب أو الجنس، إلا أنه كان واثقًا في شخصيته كإنسان طبيعي مُتكامل، وبلَغ من ثقته أنه كان يقول عن نفسه أنه بشر يحبُّ الطيب والنساء، بل كان يعلن عن حبه للمرأة على نحو طبيعي.

وقد سأله عمرو بن العاص عن أحب الناس إليه، فقال له الرسول: عائشة، فقال عمرو: إنما أقول الرجال، قال محمد: أبوها.

ومن أهم الأفكار التي تفوَّقت فيها العلوم الإسلامية على العلوم الغربية فيما يخصُّ الجنس تلك الفكرة التي قالت بأن الإشباع الجنسي وليس الكبت الجنسي هو الذي يُساعد على العمل والتفرغ لأعمال الدنيا والدين. ويقول الغزالي إن العمل هو أهم النعم التي أنعم الله بها على الإنسان، وقد وَهَبَ الله للإنسان من أجل المعرفة معرفة أشكال العبادة عند المسلمين المؤمنين، ومن أجل أن يتفرَّغ العقل للمعرفة لا بد أن يَصرف الطاقة الجنسية ويشبعها، حتى لا تثقل الروح وتشغل الذهن عن المعرفة أو عبادة الله. ويُضيف الغزالي أيضًا ويقول عن فوائد الإشباع الجنسي: «ترويح النفس وإيناسها بالمجالسة والنظر والملاعبة، إراحة للقلب وتقوية له على العبادة؛ فإن النفس مَلول، وهي عن الحق نفور؛ لأنه على خلافٍ مع طبعها، فلو كانت المداومة بالإكراه على ما يُخالفها جمحت وثابت، وإذا روحت باللذات في بعض الأوقات قويت ونشطت، وفي الاستئناس بالنساء من الاستراحة ما يُزيل الكرب ويريح القلب.»

ويتفق الغزالي هنا مع بارون والأفكار الجديدة في علم النفس التي تقول إن الإشباع الجنسي ضروري للإنتاج الفكري والثقافي والإبداع، ويَتفوَّق على فرويد وزملائه الذين رأوا أن «التسامي» أو الكبت الجنسي ضروري من أجل تقدُّم الثقافة أو قيام الحضارة.

وقد أوضحت الأفكار الجديدة في علم النفس أن الطاقة الجنسية لا تتحول إلى عمل إنتاجي أو ثقافي أو فكر خلاق، ولكنها تَنحرف عن مسارها الطبيعي لتتخذ أشكالًا متنوعةً من الانحرافات الجنسية والعصاب والمشاكل النفسية.

ولا شك أن اعتراف محمد والفلسفة الإسلامية بحق المرأة في الحياة والجنس لم تكن إلا نتيجة المكانة العالية التي كانت تتمتَّع بها المرأة العربية في ذلك الوقت، ومشاركتها الإيجابية في مجالات الحياة خارج البيت وداخله، وبروز شخصيات نسائية قوية مُتعدِّدة.

ويا ليت النساء العربيات في كل مكان اليوم يقرأن تاريخ العرب والفلسفة الإسلامية من منابعها الحقيقية، وحياة النساء العربيات وحياة نساء النبي، ليُدركْن أن الفلسفة الإسلامية ارتكزت على قوة المرأة وإيجابيتها، وأن المرأة في ذلك الوقت كانت أكثر شجاعة وإيجابية منها اليوم، وأن هذه السلبية التي فُرضت عليهنَّ ليست صفة أصلية فيهن، وهذه الطاعة والخضوع لأزواجهن ليست فضيلة دينية أو أخلاقية، وهذا الخجل أو الخوف من الاعتراف بحقوقهنَّ ليس إلا صفة مُستحدَثة بغير جذور.

ولتقرأ المرأة العربية الحديثة المُتأثِّرة بالثقافة الغربية أو الأدب الفكتوري المُتزمِّت عن هؤلاء النساء اللائي لم يتحرَّجْن من الاعتراف بحقهن في الجنس والمتعة الجنسية.

ولتقرأ المرأة العربية المُقلِّدة في أنوثتها السلبية الضعيفة القالب الذي وضعه فرويد للأنوثة، لتقرأ عن إيجابية وقوة هؤلاء النساء العربيات وقدرتهنَّ على الرفض والاحتجاج إذا ما لاح لهنَّ أن شيئًا مس كرامتهن. وهل سمعت المرأة العربية الحديثة عن «زينب بنت جحش» إحدى زوجات «محمد» التي غضبتْ من زوجها يومًا ورفضت قبول هديته مع أنه النبي، وحينما ضاعَف لها الهدية ثلاث أضعاف رفضتها أيضًا وردتها إليه؟ وعن عائشة التي قالت: «ذبح رسول الله ذبحًا فأمَرني، فقسمته بين أزواجه، فأرسل إلى زينب بنت جحش بنصيبها فردته، فقال: زيدوها ثلاثًا، كل ذلك تردُّه، فقلت له: لقد أقمأت وجهك حين تردُّ عليك الهدية.»

أما عائشة زوجة النبي فلا أظنُّ أن أحدًا يجهل كم كانت هذه المرأة قوية الشخصية قوية الحجة والبيان ذكية قادرة على مراجعة زوجها (وهو نبي) إذا أخطأ، إلى حدِّ أن حفصة كانت ترى أن من حقها أن تُراجع زوجها «محمد» بمثل ما تراجعه عائشة، فاعترض عليها أحد الصحابة قائلًا: «لعلك تُراجعين النبي بمثل ما تراجعه عائشة.»

ولم تكن عائشة تراجع زوجها فقط، ولكنَّها تناقش الرجال، وتُعبِّر عن أفكارها بشجاعة وحرية وفهم وتعقُّل، إلى الحد الذي جعل «محمد» يشير إليها وهو جالس بين الرجال قائلًا لهم: خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء. وقد اشتركت عائشة في الحرب والقتال مع المسلمين، وكان لها نشاط واسع في السياسة والثقافة والأدب، إلى حدِّ أن قال فقيه المسلمين عروة بن الزبير: «ما رأيت أحدًا أعلم بفقه ولا بطبٍّ ولا بشعر من عائشة»، مع أن عائشة لم تصل إلى الثامنة عشر من عمرها إلا بعد وفاة «محمد».

وكانت عائشة قادرةً على مناقشة «محمد» في أي شيء، وكانت تختلف معه وتغضب حين كان يتزوج عليها امرأةً أخرى، وتتمرَّد عليه. بل كانت تُحرِّض زوجاته الأخريات أحيانًا على التمرد عليه؛ وما قصة «العسل» إلا نوعًا من هذا التآمر. بل إن عائشة بلغت من جرأتها في مناقشة «محمد» أنها كانت تُناقشه في الآيات القرآن التي أحلَّ فيها الله لمحمد أن يتزوج ما شاء من النساء، اعترضت عائشة قائلةً: إنَّ الله يُسارع لك فيما تريد.

«عن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب قال: لم يمتْ رسول الله حتى أحلَّ الله له أن يَتزوَّج من النساء ما شاء، وهو قوله: تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ، وعن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: لما نزل تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ قالت عائشة: إن الله يُسارع لك فيما تريد.»

ولا يمكن أن نُنكر أن مجتمعنا العربي فيه من النساء من ورثن عن عائشة ومثيلاتها قوتهن وإيجابيتهنَّ وشجاعتهن، ولا يُمكن أيضًا أن ننكر أن عندنا من النساء من ورثن «جميلة» بنت ثابت زوجة عمر بن الخطاب الذي كان يصكُّها عمر فيلصق خدها بالأرض.

إلا أن الأغلبية الساحقة من النساء العربيات قد تمَّ ترويضهن وإخضاعهن عن طريق الأحكام الأبوية التي فرضت عليهنَّ الحجاب والاحتباس في البيت وعدم المشاركة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤