الباب الحادي عشر

لويس الرفيق يُلازمني الطريق كصديق

استيقظتُ صباح الإثنين في الساعة التاسعة تقريبًا، وفي تمام العاشرة والنصف التقيتُ مع لويس في بهو الفندق، وكنتُ قد دعوتُه ليتناول معي شرابًا.

لما خرجنا إلى الشارع، سألتُه عما إذا كان لديه ما يمنع من الذهاب معي لزيارة القصر الملكي من الداخل، قال: لا مانع عندي؛ فأنا نفسي لم أشاهد قصر الملك من الداخل. وعلى ذلك سرنا من فورنا، متجهين صوب القصر الملكي، مخترقين عدة شوارعَ فرعية حتى وصلنا إليه. لاحظتُ وأنا أسير في الطريق أن المحلات كلها مقفلة، فاستفسرتُ عن ذلك من لويس، فقال: اليوم عطلةٌ في إسبانيا بمناسبة عيد انتهاء الحرب الأهلية، التي انتهت في سنة ١٩٣٩م، بعد أن كانت دائرة الرحى بين أنصار فرانكو والحزب الشيوعي الإسباني.

القصر الملكي أبيض اللون، يقع في ميدان «أورينتي» أو «الميدان الشرقي»، وهو ميدان فسيح جدًّا، تمتدُّ أمامه على الجانبَين تماثيلُ ضخمة في صفَّين طويلَين متوازيَين؛ كل تمثالٍ منها لملك من قُدامى ملوك إسبانيا.

يتوسط الميدانَ تمثالٌ ضخم من البرونز، يربضُ عند قدميه أسدان غضنفران. وبالميدان مجموعةٌ من الأشجار، عُني برعايتها وصيانتها، خضراء يانعة جميلة الشكل بطريقة تنمُّ عن حُسن التنسيق وسُمو الذوق.

يتكوَّن القصر الملكي الإسباني من ثلاثة طوابق، تقوم أعلاه مجموعةٌ أخرى من التماثيل البيضاء اللون بلون القصر نفسه.

القصر عظيمٌ لا أول له ولا آخر كأنما لا حدود له. وربما بلغ طوله ميلًا كاملًا من المباني وحدها. أما عرضه فلا علم لي به.

ما إن تدخل ذلك القصر حتى تجد نفسك وسط ساحة بالغة الاتساع، خاوية على عروشها تمامًا. يسترعي نظرك أن المبنى عتيقٌ ومُشيَّدٌ على الطراز القديم. يتكلف دخول هذا القصر مبلغًا كبيرًا؛ إذ ثمَن التذكرة الواحدة ٢٠٠ بيزيتا؛ أي ما يُعادل جنيهَين مصريَّين.

أنا الآن داخل القصر المملوء بالزائرين من جميع الأجناس. دخلنا قاعة الانتظار الواسعة الأرجاء، وبعد قليلٍ رُحنا نصعد الدرجات الرخامية العديدة المؤدية إلى الطابق الأول من القصر الذي يحتوي على ٢٨٠٠ حجرة.

دخلنا أولًا حجرة الطنافس التي تضُم أغلى السجاجيد الفاخرة الزخارف والبديعة الألوان.

دخلنا بعد ذلك قاعة أخرى بها ثُريَّاتٌ ضخمة وتحيط بجدرانها العالية تماثيل من البرنز، بعضها ألماني الصنع والبعض الآخر إسباني. وسقف هذه القاعة عبارة عن لوحةٍ ضخمة، مرسومة بالألوان الهادئة الراقية الذوق، تمثِّل مَلِكًا في حفل التتويج، يضعون على رأسه وحول جبينه تاجًا مرصَّعًا بأنفَس الجواهر.

وَلَجنا قاعةً ثالثة كانت حجرة الجلوس الملكية في قديم العصور، بها لوحةٌ ضخمة للملك لويس ملك فرنسا قديمًا. وبوسط القاعة شمعدان هائل ذهبي اللون، يقوم على قاعدة تنتهي من أسفل بما يُشبه أريكةً مستديرة مغطَّاة بالنمارق الوثيرة.

بالقاعة ثلاثُ ثُريَّاتٍ ضخمة جدًّا بكلٍّ منها مئات المصابيح. وتتصل بهذه القاعة قاعةٌ أخرى بها ثُريَّا بالغة الضخامة، تزن حوالي نصف طن. خرجنا من هذه القاعة إلى أخرى للجلوس الملكي أيضًا. لا يمكن للعقل البشري أن يتصور جمال سقف هذه القاعة. جميع الرسومات والنقوش التي على حوائطها بارزةٌ تمثِّل منظر حديقةٍ فيحاء غنَّاء مليئة بالأشجار والزهور والطيور، مُرتَّبة في تناسقٍ بديع رائع.

قادَتْنا المرشدة بعد ذلك إلى قاعةٍ أخرى جدرانها بلونٍ أزرق زاهٍ. أضخم ما في هذه القاعة ثُريَّا تخرج منها مئات الورود بكل وردةٍ منها مصباح. وبسقف هذه القاعة صورة السيد المسيح في السموات بين الملائكة والقديسين.

دخلنا بعد ذلك قاعةً صغيرة الحجم، كل شيء فيها بديعٌ أنيق، ونقوش حوائطها بارزة، وسقفها كله من السيراميك المنقوش.

انتقلنا من هنا إلى حجرة أكبر من هذه بها المكاتب والمقاعد المزركشة بمختلف الألوان.

ظللنا ننتقل من حجرة إلى حجرة حتى وصلنا إلى حجرة المائدة الملكية التي تتوسَّطها مائدةٌ طويلة ضخمة تتسع لجلوس ٦٤٠ شخصًا أو ضيفًا. وعلى هذه المائدة عددٌ كبير من الشمعدانات الفضية البرَّاقة تملؤها من أولها إلى آخرها، وكذلك الزهريات المليئة بالزهور والورود. وبهذه القاعة أكثر من ٢٥ ثريًّا، يتدلَّى بعضها من السقف، وبعضها الآخر مثبَّتٌ على جوانب القاعة بشكل يجعل قاعة الطعام محاطةً كلها بالثريَّات من كل جانب.

انتقلنا بعد ذلك إلى قاعةٍ أخرى لا تحتوي إلَّا على المراوح اليدوية التي كانت تستعملها بعض زوجات الملوك الذين عاشوا، على مرِّ السنين، في هذا القصر الملكي. وهذه مجموعةٌ نادرةٌ بحَق.

نحن الآن في قاعة ساعات الحوائط التي تضُم ما لا يقل عن ١٥٠ ساعةً متوسطة الحجم؛ بعضها من الذهب الخالص، وبعضها الآخر من البرونز الثمين. والغريب أن هذه الساعات جميعها تعمل ولم تتعطل أو تَفسَد أيةُ واحدةٍ منها.

بعد ذلك دخلنا حجرة الأواني الفضية التي كان الملك يستعملها للشرب، والأطباق الذهبية أو الفضية التي كان يأكل فيها.

انتقلنا من هذه الحجرة إلى كنيسة القصر. كانت آيةً في العظمة والفخامة ومظاهر البذخ والثراء؛ ثلاث قبابٍ كلها من الذهب النضار. وقد استعمل الملك الحالي هو وزوجته هذه الكنيسة مرتَين فحسب منذ تولِّيه العرش. وبهذه الكنيسة مُسجًّى جثمانُ أحد ضحايا البركان الذي أصاب مدينة بومبي فدمَّرها عن آخرها. ولم أفهم الفكرة من تحنيطه ووضعه داخل هذه الكنيسة بالذات، لعل وراءها قصة.

القصر مملوءٌ بالشمعدانات من جميع الأشكال والأحجام والطرازات. ويمكن اعتبار هذا القصر متحفًا عظيمًا لكل ما وصل إليه الفن في عالم الشمعدانات الملكية بنوع خاص.

شاهدتُ في قاعةٍ أخرى صورةً ضخمةً لملكة تولَّت عرش إسبانيا وهي في الثالثة من عمرها. تحمل هذه اللوحة صورة هذه الملكة وهي في الثلاثين من عمرها تقريبًا.

أدخلونا حجرة أخرى قالوا لنا إنها حجرة طعام الأسرة الملكية، بوسطها مائدةٌ بسيطة، وتتدلى فوقها مباشرةً ثريَّا ضخمة من الكريستال الفاخر، كما أن بها لوحةً ضخمة للملكة إيزابيلا الثانية.

عرَّجنا بعد ذلك على حجرة الموسيقى، وكان بها بيانو ضخم ومقاعدُ وثيرة متناثرة هنا وهناك في كافة أرجاء القاعة.

وصلنا إلى مكانٍ بالقصر لا يُسمح لأحدٍ بدخوله إلا بعد إبراز تذكرته؛ ذلك لأن هذا القسم مستخدمٌ حاليًّا ومزوَّد بالتليفونات الحديثة. جميع اللوحات المعلقة على الحوائط تُمثِّل كلها صور أبناءٍ وبناتٍ صغار السن من أبناء ملوك إسبانيا وملكاتها. وهي بريشة أشهر رسامي إيطاليا وفرنسا. يحكي هذا القسم طرفًا من تاريخ ملوك إسبانيا في القرون الماضية.

في قاعة المكتبة الخاصة بالملِك مجموعة من الخزانات الزاخرة بالكتب، ولكنها، في نظري، ضيقة ولا تصلح للقراءة والاطلاع. وربما كانت حجرةً ملحقة بمكتبةٍ رئيسية أخرى.

نحن الآن في مكتبة الملكة، قاعةٌ صغيرة بعض الشيء، على الحوائط صورة للملكة وصور لأولادها، وبالقاعة مكتب فخمٌ متوسط الحجم.

دخلنا حجرة النوم الملكية وبها تليفون من الفضة الخالصة. كان أول تليفون دخل إسبانيا أو على الأصح عرفَته إسبانيا.

بعد ذلك دخلنا قاعةً أخرى تُستعمل مكتبة. كانت أوسع حجمًا، وبها مكاتبُ وخزاناتٌ مليئة بالكتب، فبدَت لي مكتبة تليق فعلًا بملك. وهناك حجرةٌ خاصة ملحقة بهذه المكتبة، بها منضدةٌ كبيرة يجلس إليها الملك ليقرأ ويكتب.

قادتنا المرشدة بعد ذلك إلى القاعة الكبيرة التي كان يتم فيها لقاء الملك بالسفراء القادمين من بلادٍ أجنبية يمثلونها.

دخلنا قاعة المرايا التي تضُم اثنتَي عشرة مرآةً كبيرة الحجم تصل من السقف إلى الأرض، وربما كانت هذه حجرة العرش؛ إذ كان بداخلها مقعدان مُذهَّبان يقف إلى جانب كل مقعدٍ منهما أسدٌ هصور فاغرًا فاهُ … هذه الحجرة قاعةٌ فاخرة قلَّما يُوجد لها مثيلٌ في كثير من البلاد الأخرى.

اتجهنا بعد ذلك إلى جانبٍ آخر من القصر يشبه المتحف. كل حوائط قاعاته مزدانة باللوحات الفنية النادرة. وقد وُضعَت لوحات الفنان الإسباني جويا في قاعةٍ خاصة بها؛ نظرًا لأهميته البالغة في عالم الفن الإسباني.

طفقنا ننتقل من قاعة إلى أخرى، كل قاعة منها مخصَّصةٌ للوحات فنانٍ شهير.

ذهبنا بعد ذلك إلى حجرة الملابس الملكية وكلها موشَّاة بالذهب، ثم انتقلنا إلى حجرة الأواني والأطباق الملكية المصنوعة من السيفر والكريستال والصيني النفيس القيِّم، وبعض هذه الآنية موشًّى بالذهب الخالص.

انتقلنا إلى جناحٍ آخر به عرضٌ رائع للطنافس والسجاجيد الفاخرة المزيَّنة بالرسوم الجميلة تصوِّر أشخاصًا بالحجم الطبيعي، وكلها تمُتُّ إلى القرنَين السادس عشر والسابع عشر. تبدو هذه الطنافس جديدةً كأنها صُنعَت الآن، بعضها يصوِّر مواقفَ ملكيةً حدثَت في التاريخ الإسباني.

القاعات لا تنتهي. وقد شاهدتُ حتى الآن أكثر من مائتَي قاعة دون مبالغة، كلها تنطق بالثراء الملكي الفاحش المتمثِّل في الرسومات والفن المبذول لتزيين الحوائط السامقة والسقوف التي تكاد تبلغ عَنان السماء، هناك حجراتٌ وقاعاتٌ كثيرة لم أذكُر لك شيئًا عنها لضيق الوقت، وتحاشيًا للتكرار في الوصف.

وحتى صور السيد المسيح، سواء أكان مصلوبًا أو غير مصلوب، لم تَغِب عن بالهم، فصوروَّها فوق الطنافس الكبيرة الحجم في غاية الدقة والإتقان. يُوجد بالقصر قاعاتٌ كاملة ليس بها سوى مناظر صلب المسيح وتفاصيل إنزاله من فوق الصليب.

تُطلُّ علينا من سقف القاعة التي نحن بها الآن ثريَّا ضخمة على هيئة سفينة بكل أدواتها ومُعَدَّاتها من أشرعة وساريات ومجاذيف وغير ذلك، وكلها من البلور الكريستال النقي الفاخر. كما شاهدتُ في قاعة أخرى، التاج الملكي المصنوع من الذهب الخالص والصولجان الفضي. وفي قاعةٍ أخرى تُحفٌ عديدة من الذهب والفضة الخالصَين، بعضها تماثيلُ جميلة للسيدة العذراء.

وأخيرًا دخلنا حجرة حُليِّ الملكات … كان بها عددٌ قليل من العقود الذهبية، كما كان بها تاجٌ من الماس المتألق البرَّاق، ووردةٌ كبيرة جميلة الشكل من الذهب الإبريز.

إلى هنا تركتنا المرشدة لنقوم بزيارة المكتبة الملكية الموجودة في جناحٍ كبير منفصل، بيد أنني كنتُ مرهقًا والتعب قد أخذ منِّي كل مأخذ؛ إذ مضى علينا الآن ساعتان ونصف الساعة ما بين السير والوقوف المتواصلَين.

حدث في أثناء التجوال داخل القصر أن تقدَّمَت منِّي سيدةٌ أمريكية تسألني إن كنتُ من إسرائيل، قُلت: وما الذي أوحى إليكِ بهذه الفكرة الخبيثة؟ قالت: ظننتُك تكتب بالخط العبري. قُلت: لا، بل أنا من مصر. فقدَّمَتني إلى زوجها وابنتها التي تعمل مُدرِّسة ببرلين. ومن سياق كلامي مع ثلاثتهم فهمتُ أنهم من يهود أمريكا، وقد راعهم أن يرَوْا مصريًّا يشاهد ما يشاهدون، ويتجول في أنحاء العالم كما يتجوَّلون. ومع ذلك أشهد أنهم كانوا يخاطبونني بمنتهى الرقة والسماحة والاحترام والتقدير.

خرجتُ مع لويس من القصر ولم يكن لدينا أي تعليقٍ سوى أن لويس أفهمَني أن الملك كارلوس لا يقيم في ذلك القصر بالمرَّة، وإنما آثَر الإقامة في قصر أصغر منه، تاركًا القصر الكبير للزائرين من ملوك ورؤساء دول العالم.

قادني لويس بعد ذلك إلى كافيتيريا كي نشرب ما يطيب لنا. وفعلًا، أخذني إلى مكانٍ هادئ يُقدِّم إلى جانب المشروبات كثيرًا من المأكولات. ولفت نظري أنه يقدِّم «المدفقات» المصرية وهي عبارة عن لحم مفري مخلوط بمسحوق الأرز. وإذ كنتُ آلف هذا النوع من «الكفتة» في بلدنا، فقد تاقت نفسي إلى تناول بعضٍ منه، وزاد في رغبتي هذه أنني رأيتُ الناس يُقبلون على هذه الكفتة إقبالًا شديدًا. وإذ خشيتُ أن ينتهي هذا الصنف من الكافيتيريا، أطلعتُ لويس على رغبتي هذه، فجاءني بطبقٍ منها ومعه قدَحان من النبيذ الأحمر. كانت الكفتة ساخنةً والنبيذ باردًا والجو شاعريًّا غريبًا.

كنا نجلس وكأننا داخل كهفٍ إذ عُلقَت على جدران الكافيتيريا مجموعة من الآلات الزراعية التي يستعملها الفلاح الإسباني. أعجبني هذا المكان إلى حدٍّ ما، وكانت جميع الموائد داخل هذا القبو مشغولةً بالأمريكيين الذين لم يأكلوا شيئًا غير الكفتة. لم تكن باهظة الثمن، وإنما كان سعر الطبق المحتوي على أربع قطع منها، كما فهمتُ من لويس، هو ٩٠ بيزيتا، وهذا بالطبع سعرٌ معقول لطبق من اللحم. شربنا قدَحَين آخرَين من النبيذ وقمنا غير أن لويس منعني من دفع ثمَن الشراب والمأكل؛ لأنني سبق أن دفعتُ له ثمَن تذكرة دخول القصر الملكي، وهكذا انقلبت الآية، كأنني أنا الذي دعوتُه لزيارة القصر وهو الذي دعاني إلى تناول الشراب، في حين أنني، كما سبق أن ذكَرتُ، قد دعوتُه إلى الشراب. أما زيارة القصر فلم تدخل في الاتفاق.

ودَّعني لويس وداعًا حارًّا بعد أن وعد بأن يُكاتبني، وبأنه قد يفكِّر جديًّا في زيارة القاهرة؛ لأنه يعتبر أن له بها صديقًا عزيزًا.

حقيقة، اللغة كالعصا السحرية، لولاها لما عرفتُ شيئًا عن طبيعة الشعب الإسباني، ولكن بفضل لويس ومعرفته للإنجليزية، فهمتُ أن الشعب الإسباني شعبٌ بالغ الطيبة ومهذبٌ جدًّا ومُرهَف الإحساس ويحترم الغير احترامًا واضحًا.

لم أنسَ، قبل أن نفترق، أن أُقدِّم له سلسلةً يتدَلى منها مفتاح الحياة عند قدماء المصريين، يتوسَّطه جعران أخضر نُقِش عليه رأس نفرتيتي المشهور، سُرَّ بها سرورًا عظيمًا، ووعدني بأن يقدِّم هذه السلسلة لأخته قائلًا إنها ستسعد كثيرًا بهذه الهدية الغريبة عليها. أما هو فقدَّمتُ له طبقًا من أطباق الحائط مصنوعًا من البلاستيك المفضَّض المكتوب عليه هذه الآية: اللهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ. فطلب منِّي أن أُترجمَها إلى الإنجليزية، فكتبها على ورقة كانت في جيبه حتى لا ينساها أبدًا، كما وعدَني بأنه سيُعلِّق هذا الطبق في حجرة نومه طالما أن به كلماتٍ من كلام الله جل وعلا.

افترقنا، كلٌّ إلى حال سبيله؛ فأنا سأسافر غدًا إلى نيس مرةً أخرى، بعد أن انتهت مدة إقامتي بإسبانيا، كما أن دَور لويس بالفندق لم يأتِ بعدُ؛ فلكل موظفٍ نوبة عمله المحدَّدة.

عُدتُ إلى الفندق لأحظى ببعض الراحة بعد ذلك الإجهاد الذي تعرَّضتُ له بسبب السَّير كل تلك الساعات الطوال في أروقة القصر وقاعاته.

حاولتُ أن أنام فلم أستطع، ففتحتُ الراديو فإذا به يأتي بأخبار تُذيعها أمريكا. كانت هذه أول مرة أسمع فيها شيئًا عن بلدي. قال صوت أمريكا: السادات يصدر قرارًا يسمح لليهود الذين خرجوا من مصر مطرودين، بأن يعودوا إليها مرةً أخرى ليعيشوا فيها حياةً آمنة سالمة هانئة. حقًّا، أعظِم بالسادات من قائدِ دولةٍ يَسهَر على صالح بنيها، وعلى بُنيانها، وقيامها بمجدها القديم وأكثر. يريد السادات أن يُثبت للعالم أجمع أن مصر رائدة السلام في العالم، وأنها أرض الأديان جميعًا، لا فرق فيها بين مسلم أو مسيحي أو يهودي، وهذا صحيح تمامًا؛ فإن جميع المعابد اليهودية في مصر سليمةٌ كما هي، لم تمتد إليها يدٌ بعبث أو أذًى أو ضرر.

استعصى عليَّ النوم فرأيت أن أستحم بالماء الساخن، غير أنني فُوجئتُ بعدم وجود ماءٍ ساخن في حمَّام حُجرتي، فاغتسلتُ بالماء البارد؛ إذ كنتُ في مسيس الحاجة إلى ذلك الحمام لينعشني ويزيل عنِّي كل أثَرٍ للتعب. وفعلًا خرجتُ من الحمَّام نشيطًا.

نزلتُ إلى الطريق فإذا بحرارة الشمس لاسعةٌ تُلهِب البشرة بشدة. كِدتُ ألا أطيق ذلك السعير، فدخلتُ أول كافيتيريا صادفَتني في الطريق. وما إن جلستُ حتى انسابت في أرجاء المكان موسيقى رتيبة أعجبَتْني وأوحت إليَّ بهذه الكلمات التي أخذَت تنساب مع دقات الموسيقى، كأن اللحن الموسيقي ينشُد كلمات هذه الأم وهي تقول لوليدها الحبيب:

«حاسب لحْسَن تجرح إيدك يا بُنَي
د انت الحبيب الغالِ اللي بتشوفه عِنَي
تعال أمرجحك، تعال أزغزك يا لُؤَي
رايدة اسقيك من روحي الحب والحنية
دَنَا مامتك وحبيبتك وروحك يا بُنَي
وانت وحدك الغالي يا حبيبي ونُور عِنَي.»

بعد أن فرغتُ من كتابة هذه السطور البسيطة الركيكة، أخذتُ أعتبرها سطورًا صالحة من حيث المعنى والمضمون للتعبير عن الحُب الأمومي الذي لا يُدانيه أو يقاربه أي حب. هذا، وإن الغناء العربي فقيرٌ جدًّا في تغذية الشعب والنشء بهذا اللون الحيوي من الغناء الخفيف الصادر عن العاطفة الصادقة، باستثناء الأغنية المضحكة المشهورة: «السح الدح امبوه، الواد طالع لابوه»، وهي في بلدنا أكثر ذيوعًا وانتشارًا. وهناك كثيرون أثْرَوا من وراء هذه الأغنية البدائية الساذجة الركيكة.

بعد فترة جلسَت أمامي فتاةٌ إسبانية عرفتُ فيما بعدُ أن اسمها «دوري»؛ جلست قُبالي إلى المائدة التي كنتُ أكتب عليها. كانت رقيقةً ودمثة وفي حالها. سألتُها عمَّا إذا كانت إسبانية من أهل البلد أم هي سائحةٌ مثلي، فقالت إنها إسبانية. ومع ذلك دخلتُ معها في طوفان من الإشارات والحركات ومحاولات التفاهم اليائسة؛ إذ لا تعرف سوى الإسبانية، فخرجتُ من محاولاتي معها بأنها واحدة من عشرة إخوة وأخوات، سبعٌ منهم إناث وثلاثة ذكور. كما فهمتُ أيضًا أنها في الثامنة عشرة من عمرها، وأنها الثالثة في الترتيب بحسب الأعمار، تكبرها أختان، وباقي الإخوة والأخوات أصغر منها سنًّا.

علمتُ منها، بعد جهدٍ جهيدٍ أنها مُدرِّسة بإحدى مدارس رياض الأطفال، وأن أباها لا يكسب كثيرًا، ولكنها تساعده هي وأختاها الكبيرتان اللتان تعملان أيضًا. ولما سألتُها عما إذا كانت تعيش في قصة حب، نفت نفيًا باتًّا، وقالت: ليس بقلبي أي رجل على الإطلاق. فسألتُها: هل يرجع هذا الحرمان إلى الوالدَين اللذَين يمنعانك الاختلاط بالجنس الآخر؟ قالت: لا دخل لوالديَّ في هذا الموضوع، ولكن الأمر ينبعث من داخلي أنا نفسي. وحاولتُ بعد ذلك أن أسألها عن رأيها في الزواج، ولكني فشِلتُ الفشل كله في توصيل معنى كلمة الزواج إليها؛ لذلك لم أحظَ منها بجواب لهذا السؤال. ولما كانت، حسب كلامها، مرتبطة بموعد أو نحوه، فقد استأذنَت وانصرفَت بعد أن سلَّمَت عليَّ باليد في رقةٍ ودماثة وهدوءٍ نفسي عجيب.

قمت بدوري أبحث عن مطعمٍ جديد أتناول فيه عَشائي. كان عليَّ أن أتعشَّى مبكرًا قليلًا لأنني مرتبطٌ مع مكتب خوليا لزيارة كباريه ليلي تُمارَس فيه رقصة الفلامنكو المشهورة. لا بد أن أكون أمام المكتب في الساعة العاشرة تمامًا. خشيتُ أن أفقد الميعاد كما حدث لي في مرة سابقة وأنا «لي في كل خرابة عفريت»، فتضيع عليَّ اﻟ «١١٠٠» بيزيتا التي دفعتُها مقابل القيام بهذه الزيارة التي رأيتُ ألا تفوتني؛ إذ ليس من المعقول أن أزور إسبانيا ولا أشاهد رقصتها الذائعة الصيت في العالم كله، ألا وهي رقصة الفلامنكو. تصوَّر معي سائحًا جاء من آخر الدنيا ليزور القاهرة ويفوتُه أن يرى الرقص البلدي الذي تُشتهَر به مصر دون سائر بلاد العالم. عندئذٍ يكون كمن خرج من المولد بلا حمص. ولمَّا كنتُ أحسُّ بأنني لن أزور هذه البلاد مرةً أخرى في حياتي، فقد رأيتُ من الضروري، بل من الواجب، أن أرى هذه الرقصة الجميلة تؤدِّيها أشهر راقصاتها؛ فقد علمتُ من مكتب خوليا أننا سنزور واحدًا من أشهر الكباريهات المعروفة في مدريد، وهو كباريه من الدرجة الأولى. وإذ كنت سأسافر غدً، فإن الفرصة أمامي محصورةٌ في هذه الليلة بالذات، وهي الليلة الأخيرة لي في مدريد عاصمة إسبانيا.

دخلت مطعمًا تنبعث منه رائحة الشواء لذيذة، وتنطلق معها أنغام الموسيقى الإسبانية عالية في قوةٍ وحيوية. كان ذلك المطعم غاصًّا بالروَّاد، وكانت الموسيقى تُوحي إلى من يدخل هذا المطعم بأنه يدخل ملهًى وليس مطعمًا.

وكذلك الأنوار في داخل المطعم، كانت خافتةً تُوحي بجو «ألف ليلة وليلة»، جو شاعري ساحر. كان الناس يأكلون كالمسعورين. تُوضع أمامهم الأطباق مملوءة، فسرعان ما تجدها قد صارت خاوية، كما لو كان الناس جميعًا قد ظلوا جياعًا يومَين ثم جاءوا إلى هنا. بيد أنني عندما ذقتُ الطعام التمستُ لهم العذر؛ فقد كان الطعام شهيًّا لذيذًا ذا نكهةٍ طيبةٍ جذابةٍ فضلًا عن إتقان الطهو. أكلت وشربت والحمد لله، ولكنني آثرتُ أن أبقى في مكاني أستمتع بجمال الموسيقى وعذوبتها؛ إذ كانت تملأ الجو وتزيد من شاعريته. حقًّا إن الموسيقى شِعرٌ صوتي جميل، قوافيه وأوزانه من الأنغام والألحان، لا من الألفاظ والعبارات. وكم هي عظيمة لغة الموسيقى! الكل يفهمها، والكل يهضمها، حتى إذا كان لا يعرف شيئًا عن قواعدها وأصولها. الموسيقى لغة القلوب قبل أن تكون لغة العقول؛ لذلك يخفق لها القلب بسرعة، ويتأثَّر بأنغامها، فتنفُذ إلى أعماقه، وتُحرِّك كوامنه الجيَّاشة، ومشاعره السادرة النائمة التائهة. وإنِّي لأعتقد أنه لا يُوجد في العالم كله إنسانٌ ليس بداخله موسيقى عامة وأخرى خاصة. وما من أُذن تتأذَّى بسماع الموسيقى، ولكن هناك موسيقى معينة يشتهيها القلب ويتوق إليها الفؤاد. وهذه تختلف من شخص إلى آخر تبعًا لمداركه وسنِّه وثقافته وبيئته وتذوقه.

أمامي ساعةٌ واحدة قبل موعد الرحلة إلى مرقص الفلامنكو والكباريه الليلي، فقمت بجولة على الأقدام. الناس سعداء لأن اليوم عطلةٌ رسمية، كما كان الأمس عطلة أيضًا. تعبتُ من المشي فجلستُ إلى مائدة في كافيتيريا جديدة لم أدخلها من قبلُ. وبعد قليل أقبل شابٌّ ومعه فتاة، فجلسا. وما أن وقعَت عين الشاب على مذكِّراتي حتى قال من فوره: «هل أنت عربي؟» قالها بالفرنسية، فتنفستُ الصعداء؛ إذ وجدت رجلًا إسبانيًّا يتكلم الفرنسية؛ أي يتكلم لغة أفهمُها، ولكنني اكتشفتُ بعد قليل أنه مكسيكيٌّ جاء مع صديقته جوزفين الإنجليزية من لندن. كان هذا الفتى رقيقًا جدًّا ومهذبًا جدًّا ومتهلل الأسارير يُكلمك ببشاشة والابتسامة لا تفارق شفتَيه. راح يكلمني عن معلوماته عن مصر والأهرامات، ويُبدي أسفه لأنه لم يرَها حتى الآن، وأنه يتمنى أن يأتي ذلك اليوم الذي يجد نفسه فيه واقفًا أمام الأهرام. ثم سألني عما إذا كنتُ سأزور المكسيك في يومٍ ما قُلت: ربما ولكنني لست واثقًا من ذلك؛ فبلادك بعيدة جدًّا وتتطلب تكاليف لا قِبَل لي بها. قال: إذن فخذ عنواني. ربما فكَّرتَ يومًا في زيارتها، وعندئذٍ تجدني صديقًا لك في رحلتك. اشتبكَت جوزفين مع سيدتين فوق الثلاثين من العمر، والتحمنا جميعًا في الحديث. كانت هاتان السيدتان إنجليزيتَين أيضًا، أبدتا إعجابهما بإسبانيا، فسألتُهما عن عملهما. فقالت إحداهما إنها سكرتيرة، وقالت الأخرى إنها ربَّة بيت لا فائدة منها. فقلتُ لها: بل على النقيض أنتِ تُسهِمين في بناء أمة المستقبل بتربية أولادك تربيةً صالحة. قالت: ليس عندي سوى طفلٍ واحد. قُلت: اللبؤة لا تَلِد في حياتها إلا شبلًا واحدًا فحسب، والشبل يصبح أسدًا. قالت ضاحكة: ولكني أم لطفلة. قُلت: وليكن، ربما غدت أحسنَ منكِ حظًّا في إنجاب ذريةٍ صالحة. عندئذٍ أبدت جوزفين رغبتها في أن تكتب لي عنوانها عسى أن أهتم بأن أُرسل لها «كارت» به صورة الأهرام وأبو الهول، فوعدتُها بذلك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤