قاسم

٦٤

لم يكد شيء يتغير في الحارة. الأقدام ما زالت عارية تطبع آثارها الغليظة على التراب. والذباب ما زال يلهو بين الزبالة والأعين. والوجوه ما زالت ذابلة مهزولة، والثياب مرقعة، والشتائم تُتبادل كالتحيات، والنفاق يصمُّ الآذان. والبيت الكبير ما زال قابعًا وراء أسواره غارقًا في الصمت والذكريات، وإلى اليمين بيت الناظر، وإلى اليسار بيت الفتوة، ثم يجيء حي آل جبل، ويليه حي آل رفاعة في وسط الحارة. أما بقية الحارة وهي الناحية المنحدرة إلى الجمالية فكانت مقام من لا صفة لهم ولا نسب، أو الجرابيع كما كانوا يدعونهم، وهم أتعس أهل الحارة وأضيعهم.

وفي هذا العهد ولي النظارة السيد رفعت، وكان كسابقيه من النظار. وكان فتوتها لهيطة وهو رجلٌ قصيرٌ دقيق لا يوحي مظهره بالقوة، لكنه ينقلب عند المعركة لسانًا من نار في سرعته وحدته وتدميره، وقد نال الفتونة بعد سلسلة من المعارك سالت خلالها الدماء في جميع الأحياء. أما فتوة آل جبل فكان يدعي جلطة، وما زال حيُّه معتدًّا بنفسه مباهيًا بقرابته للواقف وبأنه خير حي، وأن رجلهم جبل كان أول وآخر من كلمه الجبلاوي وفضَّله، ولذلك قلَّ أن أحبهم أحد. وكان حجاج فتوة آل رفاعة، لكنه لم يحتذِ مثال علي في نظارته، وإنما سار على درب خنفس وجلطة وغيرهما من المغتصبين. كان يستأثر بالريع ويضرب المتذمرين ويحث آله على اتباع سنة رفاعة في احتقار الجاه والثراء!

وحتى الجرابيع كان لهم فتوتهم، ويدعى سوارس، لكنه لم يكن طبعًا بناظر وقف. على هذا النحو استقرت الأوضاع، وأكد حَملَة النبابيت وشعراء الرباب أنه نظامٌ عادل، جرت به شروط الواقف العشرة وسهر على تنفيذه ورعايته الناظر والفتوات.

وفي حي الجرابيع عرف عم زكريا بياع البطاطة بالطيبة، وامتاز بين الناس بقرابته البعيدة للمعلم سوارس فتوة الحي. كان يطوف بأحياء الحارة سائقًا عربته مناديًا على البطاطة، وفي وسط العربة تقوم الفرن نافثة دخانًا معبقًا برائحةٍ شهية، تجذب غلمان رفاعة وجبل، كما تجذب الغلمان بالجمالية والعطوف والدراسة وكفر الزغاري وبيت القاضي. وكانت فترة غير قصيرة من حياة عم زكريا الزوجية قد مضت دون أن يرزق بمولود، ولكن آنس وحشته في تلك الفترة صغيرٌ يتيم هو قاسم — ابن شقيق زكريا — عقب وفاة والديه ولم يجد الرجل في الصغير عبئًا يئوده؛ إذ إن الحياة وخصوصًا في هذا الحي من الحارة لم تكن تعلو كثيرًا عن حياة الكلاب والقطط والذباب التي تعثر على رزقها في النفايات وأكوام الزبالة. وأحب زكريا قاسم كما كان يحب أباه من قبلُ، ولما حملت زوجته عقب انضمام الصغير للأسرة تفاءل به خيرًا وازداد عليه عطفًا، ولم يقلَّ عطفه عندما رزق بابنه حسن.

ونشأ قاسم شبه وحيد، إذ كان اليوم يمضي وعمه بعيد عن الحارة وزوجة عمه مشغولة بدارها ووليدها. ثم اتسع عالمه بنموه فأخذ يلعب في حوش الربع أو في الحارة، وصادق أقرانه في حيِّه وحيَّيْ رفاعة وجبل، وذهب إلى الخلاء فلعب حول صخرة هند، وشرَّق في الصحراء وغرَّب، ورقي في الجبل. وكان يتطلع مع الصغار إلى البيت الكبير مفاخرًا بجده ومقام جده، ولكنه لم يكن يجد ما يقوله إذا تكلم البعض عن جبل والبعض الآخر عن رفاعة، كما لم يكن يجد ما يفعله إذا انقلب الكلام تشاتمًا وتماسكًا وعراكًا.

وكم نظر إلى بيت الناظر بدهش وإعجاب! وكم رمق الثمار فوق الأشجار برغبة واشتهاء! ويومًا رأى البواب ناعسًا فتسلل إلى الحديقة بخفة، دون أن يرى أحدًا أو يراه أحد، وراح يقطع المماشي في بهجة وسرور، ويلتقط ثمار الجوافة من فوق الحشائش ويأكلها بلذة، حتى وجد نفسه أمام الفسقية، وعلقت عيناه بعمود الماء المتصاعد من النافورة؛ استخفه الفرح فخلع جلبابه ونزل إلى الماء ومضى يخوض فيه ويضرب سطحه بيديه ويدلك به جسده وقد ذهل عما حوله. وما يدري إلا وصوت حادٌّ يصيح بغضب: «يا عثمان يا ابن الكلب، تعال يا أعمى يا ابن الأعمى». التفت رأسه نحو مصدر الصوت فرأى على السلاملك رجلًا متلفعًا بعباءةٍ حمراء، يشير نحوه بأصبعه المرتجف، والغضب يشتعل في وجهه، فاندفع نحو حافة الفسقية وصعد إلى أرض الحديقة مرتكزًا على مرفقيه، وعند ذاك لمح البواب قادمًا مهرولًا، فجرى نحو عريشة الياسمين الملاصقة للسور، ناسيًا جلبابه حيث خلعه، وركض نحو الباب، فمرق إلى الحارة. عدا بكل قواه، ورآه أطفال فتبعوه مهللين، فنبحت كلاب، ثم خرج عثمان البواب إلى الحارة وراح يجري وراءه حتى أدركه في منتصف حيِّه، فقبض على ذراعه وتوقف وهو يلهث، وعلا صراخ قاسم حتى ملأ الحي. وسرعان ما جاءت زوجة عمه حاملة وليدها، وخرج المعلم سوارس من القهوة. دهشت زوجة عمه لمنظره، وأمسكت بيده وهي تقول للبواب: وحِّد الله يا عم عثمان، أرعبت الولد، ماذا فعل؟ وأين جلبابه؟

فصاح البواب في تكبُّر: رآه حضرة الناظر وهو يستحم في الفسقية. هذا العفريت يجب جلده، دخل الملعون وأنا نائم، لماذا لا تريحوننا من عفاريتكم؟!

فقالت المرأة برجاء: السماح يا عم عثمان، الولد يتيم، وحقك عليَّ!

واستنقذته من يده قائلة: سأضربه عنك، ولكن وحياة شيبتك إلا ما أعدت له جلبابه الوحيد!

فلوح البواب بيده متسخطًا وولَّاها ظهره راجعًا وهو يقول: بسبب هذه الحشرة لُعنتُ وسُببتُ، أولاد عفاريت وحارة بنت كلب!

وعادت المرأة إلى الربع، متوركة حسن، جارَّة قاسم من يده وهو يشهق باكيًا.

٦٥

وقال عم زكريا لقاسم وهو يرمقه بإعجاب: لم تعد طفلًا يا قاسم، فأنت تقارب العاشرة وآن لك أن تعمل!

فالتمعت عينا قاسم السوداوان ابتهاجًا وقال: طالما رجوتك أن تأخذني معك يا عمي.

فضحك الرجل قائلًا: كان غرضك اللعب لا العمل، أما اليوم فأنت ولدٌ عاقل وتستطيع أن تعاونني.

فهرع الغلام إلى العربة محاولًا دفعها لكن عم زكريا منعه، وقالت زوجة عمه: حاسب أن تنزلق البطاطة فنموت جوعًا.

وقبض زكريا على يدي العربة وهو يقول له: سر أمام العربة وناد: «بطاطة العمدة .. بطاطة الفرن». وخذ بالك من كل ما أقول أو أعمل، وستصعد بالبطاطة إلى الزبائن بالأدوار العليا، وعلى العموم فتِّح عينيك.

فقال قاسم وهو ينظر إلى العربة بحسرة: لكني قادر على دفعها!

وساق الرجل العربة وهو يقول: افعل كما أمرتك ولا تكن عنيدًا، كان أبوك ألطف الناس.

انحدرت العربة نحو الجمالية وقاسم يصيح بصوتٍ رفيع كالصفير: «بطاطة العمدة، بطاطة الفرن». لم يكن كمثل فرحه شيء، وهو ينطلق إلى الأحياء الغريبة ويعمل كالرجال. ولما بلغت العربة حارة الوطاويط نظر قاسم فيما حوله وقال لعمه: هنا اعترض إدريس سبيل أدهم!

فهزَّ زكريا رأسه بلا اكتراث، فعاد الغلام يقول ضاحكًا: كان أدهم يسوق عربته مثلك يا عمي.

ومضت العربة في تجوالها اليومي، من الحسين إلى بيت القاضي، ومن بيت القاضي إلى الدرَّاسة، وقاسم يتطلع بدهش إلى العابرين والدكاكين والجوامع حتى انتهت إلى ميدان صغير قال العم: إنه سوق المقطم، فتأمله الغلام بإعجاب وقال: أهذا سوق المقطم حقًّا؟! إلى هنا هرب جبل، وهنا ولد رفاعة.

فقال زكريا بلا حماس: نعم، لا لنا في هذا ولا ذاك!

فقال قاسم: لكننا جميعًا أولاد الجبلاوي، فلماذا لا نكون مثلهم؟

ضحك الرجل وقال ساخرًا: على الأقل جميعنا في الفقر سواء!

ووجَّه الرجل عربته نحو أطراف السوق المشرفة على الخلاء، وبخاصة نحو كوخ من الصفائح على هيئة دكان لبيع المسابح والبخور والأحجبة، جلس أمامه على فروة عجوز ذو لحية بيضاء.

أوقف زكريا العربة أمام الكوخ وصافح العجوز بحرارة، فقال الرجل: عندي اليوم كفايتي من البطاطة.

فجلس زكريا إلى جانبه وهو يقول: مجالستك خير عندي من الربح.

ونظر العجوز نحو الغلام مستطلعًا فصاح به زكريا: تعالَ يا قاسم وقبِّل يد المعلم يحيى.

فاقترب الغلام من العجوز وتناول يده المعروقة فلثمها في أدب. وراح يحيى يداعب قُصة قاسم ويتأمل وجهه الوسيم ثم تساءل: مَن الغلام يا زكريا؟

فقال زكريا وهو يمد ساقيه في الشمس: ابن المرحوم أخي.

فأجلسه إلى جانبه على الفروة وهو يسأله: هل تذكر أباك يا بني؟

فهزَّ قاسم رأسه قائلًا: كلا يا عمي.

– كان أبوك صديقًا لي، وكان لطيفًا.

ورفع قاسم عينَيه إلى البضائع يتأمل ألوانها، فمدَّ يحيى يده إلى رف قريب وتناول حجابًا، ثم علقه بعنق الغلام وهو يقول: احتفظ به فيحفظك من كل سوء.

وإذا بعم زكريا يقول لقاسم: المعلم يحيى كان من حارتنا، ومن حي آل رفاعة.

فنظر قاسم إلى يحيى وتساءل: لماذا تركت حارتنا يا عمي؟

فأجاب زكريا قائلًا: غضب عليه فتوة آل رفاعة منذ عهدٍ بعيد فآثر الهجرة.

فقال قاسم بدهش: فعلتَ كما فعل عم شافعي والد رفاعة.

فضحك يحيى عن فمٍ فارغ طويلًا ثم قال: أعرفت ذلك يا غلام؟ ما أعرف أولاد حارتنا بالحكايات، فما بالهم لا يعتبرون!

وجاء صبي قهوة حاملًا صينية شاي فوضعها أمام يحيى ثم رجع وأخرج يحيى من صدره لفافةً صغيرة وجعل يفكها قائلًا برضا: لديَّ شيء ثمين، مفعوله أكيد حتى الصباح.

فقال زكريا باهتمام: دعنا نجرِّبه.

فقال يحيى ضاحكًا: ما سمعتك تقول لا قط.

– كيف أرفض النعمة يا يحيى؟!

وتقاسما القطعة، وراحا يلوكانها، وقاسم يتابعهما بشغف حتى أضحك عمه. وأخذ العجوز يحسو الشاي، ويسأل قاسم: هل تحلم بالفتونة كأهل حارتنا؟

فقال قاسم مبتسمًا: نعم.

فقهقه زكريا وقال كالمعتذر: اعذره يا معلم يحيى فأنت تعلم أنه في حارتنا إما أن يكون الرجل فتوة وإما أن يُعدَّ قفاه للصفع.

فقال يحيى متأوهًا: ليرحمك الله يا رفاعة، كيف نبتَّ في حارتنا الجهنمية؟!

– لذلك كانت نهايته كما تعلم.

فقال يحيى مقطبًا: رفاعة لم يمت يوم مصرعه، ولكنه مات يوم انقلب خليفته فتوة!

فسأله قاسم باهتمام: أين دفن يا عمي؟ أهله يقولون: إن جدنا دفنه في حديقته، ويقول آل جبل: إن جثته ضاعت في الخلاء.

ثم صاح يحيى غاضبًا: الملاعين الأشقياء، ما زالوا يحقدون عليه حتى اليوم!

ثم مستدركًا في تساؤل: خبِّرني يا قاسم هل تحب رفاعة؟

فنظر الغلام نحو عمه في حذر ولكنه قال ببساطة: نعم يا عمي، أحبه كثيرًا.

– أيهما أحب إليك: أأن تكون مثله أم أن تكون فتوة؟

فرفع إليه عينَين تمتزج فيهما الحيرة والابتسام، وتحركت شفتاه للكلام ولكنه لم ينبس، فقال زكريا مقهقهًا: فلتقنع مثلي ببيع البطاطة!

وساد الصمت بينهم على حين قامت ضجة في السوق حول حمار طرح أرضًا فمال بالكارو المربوطة به، وأخذت الراكبات يثبن منها، أما السائق فقد انهال على الحمار ضربًا. ونهض زكريا وهو يقول: أمامنا مشوارٌ طويل، سلام عليكم يا معلم.

فقال يحيى: أحضر الغلام معك كلما جئت.

وصافح قاسم وهو يداعب قُصَّته قائلًا: ما أظرفك!

٦٦

لم يكن في الخلاء من مكان يستظل به من وقدة الشمس الغاضبة إلا صخرة هند. هنالك اقتعد قاسم الأرض ولا أنيس له إلا الغنم. بدا في جلبابٍ أزرقَ نظيف — نظيف بالقدر المتاح لراعٍ — متلفع الرأس بلاسةٍ غليظة وقاية من الشمس، ومنتعلًا مركوبًا قديمًا باليًا تهتكت أطرافه. وكان يخلو إلى نفسه حينًا ويراقب النعاج والخرفان والمعز والجداء حينًا آخر، وعصاه مطروحة إلى جانبه. ولاح المقطم من مجلسه القريب عاليًا ضخمًا متجهمًا، كأنه المخلوق الوحيد تحت القبة الصافية الذي يتحدى غضبة الشمس في عناد وإصرار، كما ترامى الخلاء حتى الآفاق مشمولًا بصمتٍ ثقيل وهواءٍ ساخن. وكان إذا أضنته أفكاره وأحلامه ونوازع شبابه الفائر سرح الطرف في الغنم ملاحظًا لهوها وعبثها، وتخاصمها وتواددها، ونشاطها وكسلها، وبخاصة البهم والحملان منها التي تستدرُّ عطفه ومحبته. وكانت أعينها الكحلاوات تعجبه وتهزُّ فؤاده بنظراتها كأنما تخاطبه، وكان بدوره يخاطبها فيقارن بين ما تلقى في رعايته من عطف وما يلقى أولاد حارته تحت غطرسة الفتوات من هوان. ولم تهمه نظرة الاستعلاء التي يلقيها أهل الحارة على الرعاة؛ إذ آمن من بادئ الأمر بأن الراعي خير من البلطجي والبرمجي والمتسول. وفضلًا عن ذلك فقد أحب الخلاء والهواء النقي وأنس إلى المقطم وصخرة هند وقبة السماء ذات الأطوار العجيبة. إلَّا أن الرعي كان يقوده دائمًا إلى المعلم يحيى! وتساءل المعلم يحيى أول ما رآه راعيًا: من بائع بطاطة إلى راعي غنم؟!

فقال قاسم دون حرج: وَلِمَ لا يا معلم؟! إنه عمل يحسدني عليه مئات من التعساء في حيِّنا!

– ولماذا تركك عمُّك؟

– ابن عمي حسن كبر وهو أحق بمرافقة عمي في تجواله، ورعي الغنم خير من التسول!

ولم يكن يوم يمر دون أن يزور معلمه؛ كان يحبه ويسعد بأحاديثه، ووجد فيه رجلًا محيطًا بأخبار حارته، حاضرها وماضيها، ويعرف ما يتغنى به شعراء الرباب وأكثر، ويعرف أيضًا ما يتجاهلونه أحيانًا. وكان يقول ليحيى: «إني أرعى أغنامًا من كل حي، عندي غنم لجبل وأخرى لرفاعة وثالثة للموسرين من حيِّنا، ومن عجب أنها جميعًا ترعى في إخاء لا ينعم بمثله أصحابها القساة من أولاد حارتنا!» وقال له أيضًا: «كان همام راعيًا. ومَن الذين يحتقرون الرعاة؟! إنهم متسولون وعاطلون وتعساء، وهم في الوقت نفسه يحترمون الفتوات، وما الفتوات إلا لصوصٌ فجرة وسفاكو دماء! سامحكم الله يا أولاد حارتنا!» ومرة قال له في دعابة: إني فقيرٌ قانع، لم تمتد يدي بالأذى لإنسان، حتى غنمي لا تلقى مني إلا المودة، أفلا ترى أنني مثل رفاعة؟

فرمقه الرجل باستنكار وقال: رفاعة؟! أنت مثل رفاعة؟! رفاعة قضى عمره في تخليص إخوانه من العفاريت كي تخلص لهم السعادة!

ثم ضحك العجوز واستدرك قائلًا: وأنت شابٌّ مولع بالنساء، ترصد عند المغيب فتيات الخلاء!

فابتسم قاسم متسائلًا: وهل في ذلك من عيب يا معلمي؟

– أنت وشأنك، ولكن لا تقل إنك مثل رفاعة!

فتأمل قوله مليًّا ثم قال: وجبل ألم يكن كرفاعة من أبناء حارتنا الطيبين؟ كان كذلك يا معلمي، وقد أحب وتزوج واستخلص حق آله في الوقف ووزعه بالعدل.

فقال يحيى بحدَّة: لكنه جعل من الوقف غايته!

فتفكر الشاب قليلًا ثم قال بصراحة: بل حسن المعاشرة والعدل والنظام أيضًا كانت غاياته.

فتساءل يحيى في استياء: إذن فأنت تفضل جبل على رفاعة؟

فامتلأت العينان السوداوان بالحيرة، وتردد طويلًا، ثم قال: كلاهما كان رجلًا طيبًا، وما أقل الطيبين في حارتنا! أدهم وهمام وجبل ورفاعة، أولئك هم كل حظنا من الطيبة، أما الفتوات فما أكثرهم!

فقال يحيى في أسًى: وأدهم مات كمدًا، وهمام قُتل، ورفاعة قُتل!

أولئك هم الطيبون حقًّا من أهل الحارة. سيرةٌ عطرة ونهايةٌ مؤسفة. هكذا كان يناجي نفسه وهو جالس في ظل الصخرة الكبيرة. وانبعثت من صدره رغبة حارة في أن يكون مثلهم. أما الفتوات فما أقبح فعالهم. وداخله حزنٌ غامض وساوره قلق. وقال لنفسه ليهدهد خاطره: كم شهدت هذه الصخرة من أحداث وأناس، كغرام قدري وهند، ومقتل همام، ولقاء جبل والجبلاوي، وحديث رفاعة وجدِّه، ولكن أين الأحداث؟ وأين الأناس؟ إن الذكرى الطيبة تبقى وهي أثمن من قطعان المعز والضأن! وشهدت أيضًا جدنا العظيم وهو يجوب هذه الآفاق وحده، يمتلك ما يشاء ويرهب الأشقياء. ترى كيف حاله في عزلته؟

هل ما زال يعقل أم خرف؟ وهل يذهب ويجيء أم أقعده الكبر؟ وهل يدري بما يقع حوله أم عن كل شيء ذهل؟ وهل يذكر أحفاده أم نسي نفسه؟

وعند الأصيل نهض ثم تمطى متثائبًا. وتناول عصاه وهو يُصفِّر صفيرًا منغمًا، ثم لوح بعصاه ونعق بالغنم فمضت تتجمع وتتحرك قافلتها نحو العمران. وبدأ يشعر بالجوع ولم يكن تناول في نهاره إلا سردينة ورغيفًا، ولكن عشاءً طيبًا ينتظره في بيت عمه. وحث السير حتى بدا له أول ما بدا من بعيد البيت الكبير بأسواره العالية ونوافذه المغلقة ورءوس أشجاره. تُرى ما شكل الحديقة التي يتغنى بها الشعراء والتي مات أدهم حسرة عليها؟ ولدى اقترابه من الحارة ترامت إلى مسامعه الضوضاء. ومضى بحذاء السور الكبير إلى الداخل والمغيب يضفي على الجو سمرته. وشق طريقه بين جماعات من الغلمان يلعبون ويتقاذفون بالطين، وملأت أذنَيه نداءات الباعة وأحاديث النساء وسخريات الساخرين وشتائمهم، واستغاثات المجذوبين وجرس عربة الناظر، على حين أفعم أنفه برائحة المعسل النافذة، والزبالة العطنة، والتقلية المثيرة. وعرج إلى الربوع بحي آل جبل يعيد إليها أغنامها، كذلك فعل بحي آل رفاعة، فلم يبقَ لديه إلا نعجةٌ واحدة، تملكها ست قمر، السيدة الوحيدة التي تملك مالًا في حي الجرابيع. وكانت تقيم في بيتٍ مكوَّن من دورٍ واحد ذي حوشٍ متوسط تتوسطه نخلة وفي ركنه الأقصى شجرة جوافة. ودخل الحوش سائقًا أمامه «نعمة»، فصادف في طريقه الجارية سكينة بشعرها المفلفل الذي وَخَطَه المشيب، فحيَّاها فردت تحيته بابتسامة وسألته بصوت نحاسي: كيف حال نعمة؟

فأعرب لها عن إعجابه بالنعجة، وتركها لها، ومضى في سبيله، وإذا بصاحبة البيت والنعجة تدخل الحوش عائدةً من الحارة. بدت أمامه في ملاءة لف حوت جسمها المليء، وطالعته من برقعها عينان سوداوان ينديان بالحنان. تنحَّى جانبًا وهو يغضُّ بصره فقالت له برقَّةٍ مهذبة: مساء الخير.

– مساء الخير يا ستي.

وتمهلت المرأة في سيرها وهي تتفحص نعمة، ثم نظرت نحوه، وقالت: نعمة تسمن يومًا بعد يوم والفضل لك!

فقال متأثرًا من نظرتها الحنونة قبل كلماتها الطيبة: الفضل للمولى ولرعايتك.

والتفتت ست قمر نحو سكينة وقالت: أحضري له عشاءً!

فرفع يديه بالشكر إلى رأسه وقال: خيرك سابق يا ستي.

وفاز بنظرةٍ أخرى وهو يحييها مودعًا، ثم ذهب. ذهب شديد التأثر برقتها وعطفها، كحاله كلما أسعده الحظ بلقائها. وذلك عطف لم يعرف مثله إلا فيما يسمع أحيانًا عن عطف الأمهات الذي لم يجرِّبه. ولو امتد العمر بأمه لكانت اليوم في مثل عمر هذه السيدة الأربعينية. وكم بدا هذا العطف عجيبًا في حارته التي تتباهى بالقوة والعنف. وليس أعجب منه إلا جمالها المحتشم وما ينفخه في روحه من بهجةٍ غامرة. ليست كذلك مغامرات الخلاء المحرقة، بجوعها الملتهب الأعمى وشبعها الخامد المكتئب.

وهرول نحو دار عمه ملقيًا عصاه على كتفه، لا يكاد يرى ما بين يديه من شدة انفعاله. وجد أسرة عمه مجتمعة في الشرفة المطلة على حوش الربع تنتظره. جلس مع ثلاثتهم حول الطبلية وقد أُعدَّ عليها عشاء من طعمية وكراث وبطيخ. وكان حسن في السادسة عشرة من عمره، طويل القامة، متين البناء حتى حلم عم زكريا بأن يراه يومًا فتوة الجرابيع. ولما انتهى العشاء رفعت المرأة الطبلية وغادر عم زكريا الربع، ولبث الصديقان في الشرفة حتى ترامى إليهما صوت من الحوش ينادي: يا قاسم.

فقام الشابان وقاسم يجيبه: نحن قادمان يا صادق.

وتلقاهما صادق ببشرٍ متألق، وكان مقاربًا لقاسم في سنه وطوله ولكنه أنحل منه عودًا. وكان يعمل مساعدًا لمبيض النحاس في أول دكان بحي الجرابيع فيما يلي الجمالية. مضى الأصدقاء إلى قهوة دنجل، وطالعهم لدى دخولهم الشاعر طازة متربعًا على أريكته في الصدر، على حين جلس سوارس على كثب من مجلس دنجل عند المدخل، فاتجهوا نحو الفتوة وصافحوه في خضوع على رغم ما يعتزُّ به قاسم وحسن من قرابته. واتخذوا مجلسهم على أريكةٍ واحدة وسرعان ما جاء لهم صبي القهوة بطلباتهم المألوفة. وكان قاسم مغرمًا بالجوزة والشاي المنعنع. وإذا بسوارس يتفحص قاسم بنظرة ازدراء وتساءل بغلظة: ما لك يا ولد متأنقًا كالبنت؟

فتورَّد وجه قاسم حياءً وقال في نبرة المعتذر: ليس في النظافة ما يعيب يا معلم!

فقطب في استياء وقال: لكنها في مثل سنك قلة أدب!

وساد الصمت في القهوة كأن روادها وأدواتها وجدرانها تنصت لكلمات الفتوة. ولحظ صادق صاحبه بعطف لما يعلم عن رقة مشاعره. أما حسن فأخفى وجهه في قدح الزنجبيل حتى لا يكتشف فيه الفتوة الغضب. وتناول طازة الرباب، فانبعثت من أوتارها الأنغام، وتتابعت التحيات لرفعت الناظر ولهيطة الفتوة وسوارس سيد الحي، ومضى الشاعر يقول:

«وخيل إلى أدهم أنه يسمع وقع أقدام؛ أقدام بطيئة وثقيلة استثارت ذكرياتٍ غامضة كرائحةٍ زكيةٍ مؤثرة تستعصي على الإدراك والتحديد. حول وجهه نحو مدخل الكوخ فرأى الباب يفتح، ثم رآه يمتلئ بشيءٍ كجسمٍ هائل؛ حملق في دهش، وأحدَّ بصره في أمل يكتنفه يأس، وندَّت عنه آهةٌ عميقة، وغمغم متسائلًا: أبي؟!

وخيل إليه أنه يسمع الصوت القديم وهو يقول: مساء الخير يا أدهم.

فاغرورقت عيناه، وهمَّ بالقيام فلم يستطع ووجد غبطة وبهجة لم يجدهما منذ أكثر من عشرين عامًا.»

٦٧

قالت سكينة الجارية: انتظر يا قاسم، عندي شيء لك.

فوقف قاسم حيث ربط النعجة بجذع النخلة، وقف ينتظر الجارية التي ذهبت إلى الداخل، وكان قلبه يخفق، وحدثته نفسه بأن الخير الذي وعد به صوت الجارية إنما يجيء من خير أنبل في قلب صاحبة الدار. ووجد تشوفًا عميقًا إلى أن يرى نظرتها أو يسمع صوتها؛ ليبرد بالبهجة جسده الذي احترق في الخلاء طيلة النهار. وعادت سكينة بلفافة فأعطته إياها وهي تقول: فطيرة بالهنا والشفا!

فتلقاها بيديه قائلًا: اشكري عني السيدة الكريمة.

فجاءه صوتها من وراء النافذة وهي تقول برقَّة: الشكر للمولى يا ابن الطيبين.

فرفع بالشكر يده من دون بصره ومضى. وردد قولها: «يا ابن الطيبين» في سعادةٍ مخدرة. لم يسمع راعي الغنم قولًا كهذا من قبلُ. ومن قائلته؟ السيدة المحترمة في حيه البائس! وألقى نظرةً ودية على الحارة المسربلة بالمغيب، وقال لنفسه: «على رغم تعاسة حارتنا فهي لا تخلو من أشياء تستطيع إذا شاءت أن تبعث السعادة في القلوب المتعبة!» وانتبه من حلمه منزعجًا على صوت يصرخ: «نقودي .. نقودي سرقت»! رأى رجلًا معممًا يهرول في جلبابٍ أبيضَ فضفاض نحو داخل الحارة قادمًا من أول حيهم. وتحولت الحارة نحو الرجل الصارخ، فجرى نحوه الصغار، واشرأبت أعناق الباعة والجالسين بالأبواب، وأطلَّت الرءوس من النوافذ، وارتفعت أوجه من تحت الأرض خلال كوات البدرومات، وخرج رواد المقاهي، وأحيط بالرجل من كل ناحية. ورأى قاسم رجلًا قريبًا منه، يحك ظهره بعود خشبي من طوق جلبابه، ويتابع المنظر بعينين كليلتين، فسأله عن الرجل قائلًا: من الرجل؟

فأجاب ويده لا تمسك عن الحك: مُنَجِّد كان يعمل في بيت الناظر!

واتجه نحو الرجل سوارس؛ فتوة الجرابيع، وحجاج؛ فتوة آل رفاعة، وجلطة؛ فتوة آل جبل، وسرعان ما أمروا الناس بالابتعاد فتراجعوا خطوات بلا تردد. وقالت امرأة من نافذة ربع في حي آل رفاعة: عين أصابت الرجل!

فقالت امرأةٌ أخرى من نافذة بأول ربوع آل جبل: صدقتِ، ما من أحد إلا وحسده على ربحه المنتظر من تنجيد فرش الناظر، اللهم اكفنا شر العين.

فقالت امرأةٌ ثالثة واقفة أمام باب بيت وهي تفلي رأس غلام: وكان يا عيني يضحك وهو خارج من بيت الناظر، لم يكن يدري أنه سيصرخ ويبكي، قطعت الفلوس وقرفها!

وكان الرجل يصيح بأعلى صوته: سرق كل ما كان معي من نقود، أجرة عمل أسبوع، وأخرى كانت في جيبي، نقود البيت والدكان والأولاد، عشرون جنيهًا وقروش، الله يخرب بيت أولاد الحرام!

وقال جلطة فتوة آل جبل: هُس، الكل يسكت، اسكتوا يا غنم، سمعة الحارة في الميزان، وأي عيب في النهاية سيلبس الفتوات؟!

فقال حجاج فتوة رفاعة: وربك لن يقع عيب، ولكن من أدرانا أنه فقد نقوده في حارتنا؟

فهتف المنجِّد بصوتٍ مبحوح: عليَّ الطلاق ما سُرقت إلا في حارتكم، تسلمتها من بواب حضرة الناظر، وتحسست صدري في آخر الحارة فلم أجد لها أثرًا.

وارتفعت الأصوات فصاح حجاج: اسكتوا يا مواشي! واسمع يا رجل، أين عرفت أن نقودك ضاعت؟

فأشار الرجل إلى آخر حي الجرابيع وقال: أمام دكان مبيض النحاس، لكني والحق يُقال لم يقترب مني أحد هناك.

فقال سوارس: إذن سرق قبل أن يدخل حيَّنا!

فقال حجاج فتوة رفاعة: كنت في القهوة حين مروره فلم أرَ أحدًا في حيِّنا يقترب منه.

فصاح جلطة بحنق: ليس في آل جبل لص، إنهم أسياد هذه الحارة!

فأجابه حجاج غاضبًا: حاسب يا معلم جلطة، عيب قولك أسياد الحارة!

– لا ينكر ذلك إلَّا مكابر!

فصاح حجاج بصوت كالرعد: لا توقظ عفاريتي! ملعون دين قلة الذوق.

فصاح جلطة بنفس القوة: ألف لعنة، ألف لعنة على قلة الذوق التي لا توجد في حيِّنا!

وهنا قال المنجِّد بصوتٍ باكٍ: يا رجال! نقودي فقدت في حارتكم، كلكم أسياد على العين والرأس، لكن أين نقودي؟ يا خراب بيتك يا فنجري!

فقال حجاج بتحدٍّ: عليكم بالتفتيش، فلنفتِّش كل جيب، كل رجل، كل امرأة، كل ولد، كل ركن.

فقال جلطة بازدراء: فتشوا، وستسودُّ وجوه غير وجوهنا!

فقال حجاج: خرج الرجل من بيت الناظر فَمَرَّ أول ما مر بحي آل جبل، فلنبدأ بالتفتيش في حي آل جبل!

فشخر جلطة وقال: لن يكون هذا وجلطة حي، يا حجاج اذكر مَن تكون أنت ومَن أكون أنا؟

– يا جلطة، إن ندوب الطعنات في جسدي أكثر من شعره!

– أما أنا فلا مكان للشعر في جسدي!

– اللهم أبعدك يا شيطان!

– إليَّ يا شياطين الأرض جميعًا!

وعاد فنجري يصيح: يا هوه، نقودي، ألا يسيئكم أن يُقال: إني سرقت في حارتكم؟!

وغضبت امرأة فصاحت به: غور يا وجه البومة، ستهلك الحارة بسببك!

وإذا بصوت يتساءل: ولماذا لا تكون النقود قد سرقت في حي الجرابيع وأكثرهم لصوص وشحاذون؟

فصاح سوارس: لصوصنا لا يسرقون في حارتنا!

– ومَن أدرانا بذلك؟

فقال سوارس بعينين محمرَّتين من الغضب: لا حاجة بنا إلى مزيد من قلة الأدب، سيكشف التفتيش عن اللص، وإلا فقولوا على حارتنا السلام!

ونادى أكثر من صوت: ابدءوا بحي الجرابيع!

فصاح سوارس: أي خروج عن الترتيب الطبيعي للتفتيش سيلقى نبوتي في وجهه.

ورفع سوارس نبوته فانحاز إليه رجاله، وفعل حجاج مثله، وتراجع جلطة إلى حيِّه وفعل مثلهما، فلاذ المنجِّد بباب الربع وهو يبكي، وكان الليل على وشك الهبوط. وتوقع الجميع أن تبدأ معركةٌ دامية. وإذا بقاسم يندفع إلى وسط الحارة، ويصيح بأعلى صوته: انتظروا، لن يكشف الدم عن النقود المفقودة، وسيقال في الجمالية والدرَّاسة والعطوف إن داخل حارة الجبلاوي مسروقًا ولو احتمى بناظرها وفتواتها!

فتساءل أحد رجال جبل: ماذا يريد راعي الغنم؟

فقال قاسم بسماحة: عندي حيلة ترد بها النقود إلى صاحبها دون عراك!

فجرى المنجِّد نحوه هاتفًا: «أنا في عرض دينك!» فقال قاسم يخاطب الجميع: سترد النقود إلى صاحبها دون أن يفتضح أمر السارق.

وساد الصمت، وتركزت الأعين في قاسم باهتمامٍ شديد، فعاد يقول: فلننتظر حتى يستحكم الظلام وهو قريب. لن تُضاء شمعةٌ واحدة في الحارة، ثم نسير جميعًا من أول الحارة إلى آخرها كي لا تنحصر الشبهة في حي دون آخر، وفي أثناء ذلك سيجد حائز النقود فرصة للتخلص منها في الظلام من غير أن يفتضح أمره، فنعثر على النقود وتنجو الحارة من شر العراك.

وشدَّ المنجِّد على ذراع قاسم في ضراعة يائس وهتف: «نعم الحل! اقبلوه جبرًا لخاطري.» وصاح صوت: «حل معقول يا جدعان!» وصاح آخر: «هذه فرصة للسارق كي ينجو وينجي الحارة.» وزغردت امرأة طويلًا. ونقل الناس أعينهم بين الفتوات الثلاثة وهم بين الرجاء والخوف. وأبى أي فتوة أن يكون البادئ بإعلان القبول علوًّا واستكبارًا، فلبث أهل الحارة يتساءلون: هل يغلب العقل أو تتلاطم النبابيت وتسيل الدماء. وإذا بصوت يعرفه الجميع يصيح: هوه!

فانجذبت الرءوس نحو مصدره، حيث وقف لهيطة فتوة الحارة غير بعيد من بيته. وساد الصمت، وقد تعلقت بما سيقول القلوب جميعًا. وقال الرجل بازدراء: اقبلوا الحل يا غجر، لولا غباوتكم ما كان منقذكم راعي غنم.

وسرت في القوم همهمة ارتياح، وتعالت زغاريد؛ فاشتد خفقان قلب قاسم، ولحظ دار قمر وهو موقن بأن عينَيها السوداوين تراقبانه من وراء أحد الشباكَين المطلَّين على الحارة، فداخله زهوٌ سعيد، وشعر بلذة فوزٍ كبير لا عهد له به. وبدا الجميع وهم يترقبون الظلام، فينظرون إلى السماء تارة وينظرون صوب الخلاء تارةً أخرى، وتابعوا هبوطه درجة فدرجة؛ ومضت المعالم تتوارى والوجوه تختفي والناس ينقلبون أشباحًا. أما الممران حول البيت الكبير المفضيان إلى الخلاء فقد أغلقتهما الظلمة. ودبَّت الحركة بين الأشباح فمشوا نحو البيت الكبير ثم قطعوا الحارة مهرولين حتى الجمالية، ثم تفرقوا كلٌّ إلى حيِّه. عند ذاك صاح لهيطة بصوته الآمر: نوروا!

وكان أول ما لاح من نور في دار قمر بحي الجرابيع، ثم أضيئت مصابيح عربات اليد، ثم كلوبات المقاهي، فعادت الحارة إلى الوجود. وراح قوم يتفحصون الأرض على ضوء كلوب، حتى تعالى صوت قائلًا: ها هي ذي المحفظة!

وجري فنجري من فوره نحو الضوء فتناول المحفظة، وعدَّ نقوده، ثم هرول لا يلوي على شيء نحو الجمالية مخلفًا وراءه ضجةً عالية من الضحكات والزغاريد. ووجد قاسم نفسه محط الأنظار، ومركز استقبال للتهاني والمزاح، ومحور تعليقاتٍ شتى تساقطت عليه كالورد. وعندما ذهب قاسم وحسن وصادق إلى قهوة الجرابيع ذلك المساء استقبله سوارس بابتسامة ترحيب وقال: جوزة على الحساب لقاسم.

٦٨

مورَّد الوجه، متألق النظرات، صافي القسمات، مبتهج القلب، دخل حوش قمر ليأخذ النعجة وهو يقول: «يا ساتر.» وراح يفك رباط النعجة في بئر السلم، وإذا بصرير باب الحريم يسمع، وهو يفتح وصوت الست تقول: صباح الخير.

فقال بفؤاده ولسانه: صبحك المولى بالسعادة يا ستي.

– صنعتَ أمس خيرًا كبيرًا لحارتنا.

فقال وروحه ترقص طربًا: الله هو الهادي.

فقالت في نغم وشى بإعجابها: علمتنا أن الحكمة أجلُّ من الفتونة.

وعطفك أجل من الحكمة، هكذا قال لنفسه، ثم قال لها: ربنا يكرمك.

فنمَّ صوتها عن ابتسامة وهي تقول: رأيناك ترعى أولاد الحارة كما ترعى الغنم، صحبتك السلامة.

ذهب بنعمة، وكلما مرَّ بربع انضم إلى قافلته ماعز أو ماعزة أو جدي أو تيس. وكان يُلقى بالترحاب، حتى الفتوات ردوا عليه تحياته وكانوا يتجاهلونها من قبلُ. واخترق الممر الملاصق لسور البيت الكبير وراء طابورٍ طويل من الأغنام في طريقه إلى الخلاء. واستقبل شمسًا لافحة تتربع فوق الجبل، وجوًّا يزفر أنفاسًا حارَّة في الصباح المشرق. وتراءى عند سفح الجبل بعض الرعاة، ومرَّ رجل مهلهل الثياب ينفخ في ناي، وانطلقت في القبة الصافية حدآت مدوِّمة. وفي كل نسمة استنشق صفاءً نقيًّا، وخال الجبل الضخم يحوي كنوزًا من الآمال الواعدة. وسرح الطرف في الخلاء بارتياحٍ عجيب حتى استخفه طرب جواد فراح يغني:

يا حلو يا زين يا صعيدي،
اسمك منجوش على إيدي.

وجالت عيناه بين صخرة قدري وهند وبين البقاع التي جرت بها مصارع همام ورفاعة، ولقاء الجبلاوي وجبل! هنا الشمس والجبل والرمال والمجد والحب والموت، وقلب يبزغ فيه الحب لكنه يتساءل عن معنى هذا كله، ما مضى منه وما هو آت، عن الحارة ذات الأحياء المتخاصمة والفتوات المتنابذين، عن الحكايات التي تروى في كل مقهًى على شكل.

وقبيل الظهيرة ساق أغنامه نحو سوق المقطم ثم مضى إلى كوخ المعلم يحيى وجلس. وهتف به العجوز: ما هذا الذي يقال عما فعلت أمس بحارتنا؟!

ودارى قاسم حياءه باحتساء الشاي، فعاد المعلم يقول: كان الأفضل أن تتركهم يتطاحنون حتى يهلكوا جميعًا.

فقال دون أن يرفع عينَيه: ما تقول هذا إلا بلسانك.

فقال يحيى محذرًا: تجنب المعجبين خشية أن تستفزَّ الفتوات.

– وهل يستفز الفتوات أمثالي؟

فتنهد العجوز قائلًا: ومن كان يتصور أن يغدر غادر برفاعة؟

فقال قاسم بدهشة: وما وجه التشابه بين رفاعة العظيم وبيني أنا؟

وعندما هَمَّ بالعودة ودَّعه العجوز قائلًا: احتفظ دائمًا بحجابي.

وعند العصر كان يجلس في الظل الممدود وراء صخرة هند، وإذا به يسمع صوت سكينة وهي تنادي: «نعمة» فوثب قائمًا ودار حول الصخرة فرأى الجارية واقفة عند رأس النعجة تداعب ذقنها. حيَّاها بابتسامة فقالت بصوتها النحاسي: أنا ذاهبة في مشوار في الدرَّاسة فمررت من هنا اختصارًا للطريق.

فقال قاسم: لكنه طريق شديد الحرارة.

فقالت ضاحكة: لذلك سأستريح قليلًا في ظل الصخرة.

وجلسا متقاربين في الظل حيث ترك عصاه. وقالت سكينة: عندما شهدت صنيعك بالأمس آمنت بأن أمك دعت لك من قلبها قبل وفاتها.

فتساءل مبتسمًا: وأنتِ ألا تدعين لي؟

فقالت وهي تداري نظرةً ماكرة: لمثلك يدعي ببنت الحلال!

فقال ضاحكًا: ومن ذا الذي يرضى براعي غنم؟!

– الحظ يصنع العجائب، وأنت اليوم بمنزلة الفتوات من دون حاجة إلى سفك دماء!

– أُقسم إن لسانك أحلى من الشهد!

فرمقته بنظرة من عينَيها الذابلتَين وقالت: هل أدلك على طريق عجيب؟

فتولاه انفعالٌ طارئ وهو يقول: نعم.

فقالت بصراحة زنجية: جرِّب بختك واخطب سيدة حيِّنا!

وبدا كل شيء غير نفسه. وتساءل: مَن تعنين يا سكينة؟

– لا تتجاهل ما أعني، فليس في حيِّنا إلا سيدةٌ واحدة.

– ست قمر؟!

– من دون غيرها؟

فقال بصوتٍ متهدج: كان زوجها من الأكابر، ولست إلا راعي غنم!

– لكن الحظ إذا ضحك ضحك معه كل شيء حتى الفقر.

وتساءل وكأنما يسائل نفسه: ألا يغضبها طلبي؟

قامت سكينة وهي تقول: لا يدري أحد متى ترضى النساء ومتى تغضب، فتوكل على الله.

ثم وهي تمضي: فُتك بعافية.

رفع رأسه نحو السماء وأغمض عينيه كأنما دهمه نعاس.

٦٩

حملق عم زكريا في وجه قاسم بذهول؛ ومثله فعلت زوجته، ومثلهما فعل حسن، وهم يستريحون في الدهليز أمام شقتهم عقب العشاء. وقال العم: قل كلامًا غير هذا الكلام، عرفتك مثال العقل والكرامة على رغم فقرك، وعلى رغم فقرنا، فماذا انتاب عقلك؟

وتجلَّى في عيني زوجة عمه نَهم الاستطلاع فقال قاسم: لديَّ ما شجعني، فجاريتها هي التي فتحت لي الباب!

– جاريتها؟!

ندت الكلمة عن زوجة عمه وصرخت عيناها بطلب المزيد. أما العم فانطلقت من فيه ضحكةٌ مقتضبة أكدت حيرته، ثم قال في ارتياب: لعلك أسأت فهمها!

فقال قاسم بهدوء يغطي به على انفعاله: كلا يا عمي.

فهتفت زوجة عمه: فهمت! إذا قالت الجارية فقد قالت السيدة!

وقال حسن مدفوعًا بحبه لابن عمه الذي لا يخفى على أحد: وقاسم رجل ولا كل الرجال!

فهزَّ عم زكريا رأسه وغمغم: «بطاطة العمدة .. بطاطة الفرن». ثم قال: لكنك لا تملك مليمًا.

فقالت زوجته: إنه يرعى نعجتها فهي لا تجهل ذلك .. (ثم وهي تضحك) انذر يا قاسم ألا تذبح نعجة في حياتك إكرامًا لنعمة!

وقال حسن في تفكير: عم عويس البقال هو عم ست قمر، أغنى رجل في حيِّنا، سيكون نسيبنا، كما كان سوارس قريبنا، ما أجمل ذلك!

فقالت أمه: ست قمر على قرابة مع أمينة هانم حرم الناظر. كان المرحوم زوجها قريبًا للهانم.

فقال قاسم بقلق: هذا مما يزيد الأمر عسرًا!

وإذا بعم زكريا يقول بحماس طارئ كأنما قدر ما يعود عليه من رفعة بالنسب المرتقب: تكلم كما تكلمتَ يوم واقعة المنجِّد، إنك شجاعٌ حكيم، وسنذهب معًا إلى السيدة؛ لنفاتحها في الأمر ثم نكلم عويس؛ إذ إننا لو بدأنا بعويس لأرسلنا إلى مستشفى المجاذيب!

وجرت الأمور كما رسم عم زكريا؛ لذلك جلس عم عويس في حجرة الاستقبال بدار قمر ينتظر مجيئها وهو يعبث بشاربه الغزير مداراة لاضطراب خاطره. وجاءت قمر في ثوبٍ محتشم مغطاة الرأس بمنديلٍ بني فصافحته بأدب وجلست وفي عينيها نظرة جمعت بين الهدوء والتصميم. قال عويس: حيرتِني يا بنتي! بالأمس رفضتِ يد عم مرسى وكيل أعمالي بحجة أنه غير كفء لك، واليوم ترضين براعي غنم؟!

فأجابت ووجهها يتورَّد حياءً: عمي، إنه رجلٌ فقير حقًّا ولكن ليس من أحد في حيِّنا إلا ويشهد له ولأهله بالطيبة!

فقال عم عويس مقطبًا: نعم ولكن على نحو ما نشهد لخادم بالأمانة أو النظافة، والكفاءة في الزواج شيءٌ آخر.

فقالت قمر بأدب: دلَّني يا عمى على رجلٍ مهذب مثله في حارتنا، دلني ولو على رجلٍ واحد لا يباهي بعمل من أعمال البلطجة أو الخسة أو الوحشية؟!

وكاد الرجل أن ينفجر غاضبًا لولا تذكره بأنه لا يخاطب ابنة أخيه فحسب ولكن المرأة التي تسهم في تجارته بمالٍ غير قليل، لذلك قال برجاء: قمر، لو شئتِ زوجتُك من أي فتوة في الحارة، لهيطة نفسه يودك لو قبلتِ أن تقاسميه مع زوجاته.

– لا أحب هؤلاء الفتوات! ولا هذا النوع من الرجال. كان أبي رجلًا طيبًا مثلك، وكم قاسى من عنتهم حتى أورثني كراهتهم، أما قاسم فهو رجلٌ مهذب، لا ينقصه إلا المال وعندي منه الكفاية.

فتنهد عويس، ثم نظر إليها طويلًا، ثم قال برجاءٍ أخير: إني مبلغك رسالة أمينة هانم حرم حضرة الناظر، قالت لي: قل لقمر أن تعقل، وأنها مقدمة على غلطة ستجعل منا أحدوثة الحارة.

فقالت قمر بحدة: أنا لا تهمني أوامر الهانم، ويبدو للأسف أنها لا تعرف من هُم الذين تجعلهم فِعَالهم أحدوثة في الحارة.

– يا بنت أخي إنها تودُّ لك الكرامة.

– يا عمي لا تصدق أنها تهتم بنا أو حتى تذكرنا، ومنذ وفاة المرحوم من عشرة أعوام لم أجرِ لها على خاطر.

فتردد الرجل مليًّا في حرجٍ ظاهر، ثم قال في تأفف: إنها تقول أيضًا: إنه ليس من العقل أن تتزوج امرأة من رجلٍ غير كفء لها وبخاصة إذا كان لظرفٍ ما يتردد على بيتها!

فانطلقت قمر واقفة بوجهٍ مصفرٍّ من الغضب وهتفت: قطع لسانها، لقد ولدتُ ونشأتُ وتزوجتُ وترملتُ في هذه الحارة، الكل يعرفني، وسيرتي كالعطر على كل لسان.

– طبعًا يا بنتي طبعًا! ليس الأمر إلا أنها تشير إلى ما قد يُقال.

– عمي، دعنا من الهانم فلا يجيء منها إلا وجع الدماغ، إني أخبرك وأنت عمي بأنني قبلت الزواج من قاسم، وسيكون ذلك برضاك وحضورك!

وصمت عويس متفكرًا. لم يكن في الوسع منعها، ولا من الهين إغضابها للحد الذي تسحب عنده أموالها من تجارته. وراح ينظر بين قدمَيه في ارتباك وحزن. وفتح فاه ليقول شيئًا ولكن لم تخرج منه غير غمغمةٍ مبهمة. ولبثت قمر تنظر إليه في ثبات وصبر.

٧٠

وهب عم زكريا ابن أخيه بضعة جنيهات — اقترض أكثرها — ليصلح بها شأنه قبل الزواج. وقال العم: لو كنت قادرًا لغطَّيتك بالمال يا قاسم، كان أبوك أخًا كريمًا، ولا أنسى فضله عليَّ يوم زواجي.

وابتاع قاسم جلبابًا، وثيابًا داخلية، ولاسة مزركشة ومركوبًا فاقع الاصفرار، وعصا خيزران، وحق نشوق. وذهب في أعقاب الفجر إلى الحمام، فاستسلم للبخار، وغاص في المغطس، ثم مضى إلى المدلِّك، ثم استحم، ثم تبخر، ثم تمدد في الخلوة يحتسي الشاي ويحلم بالهناء.

أما قمر فتكفَّلت بالفرح؛ أعدت سطح الدار لاستقبال المدعوات، ودعت عالمة معروفة واستأجرت أمهر طاهٍ في المنطقة. وأقيم في الحوش سرادق للمدعوين والمطرب. وجاء أهل قاسم وأصحابه ورجال الحي وعلى رأسهم المعلم سوارس. ودارت أقداح البوظة وعشرون جوزة حتى غامت الكلوبات بالدخان وسطعت رائحة الحشيش المفتخر. وتجاوبت الأركان بالزغاريد والتهليل والقهقهة. وراح عم زكريا يقول في فخفخة من دارت الخمر برأسه: نحن أسرةٌ كريمة أصلها عريق!

فكتم عم عويس غيظه وهو يجلس بين سوارس وزكريا وقال باقتضاب: حسبكم قرابتكم للمعلم سوارس!

فصاح زكريا بقوة: المعلم سوارس ألف مرة!

فحيَّا التخت سوارس من فوره، حتى جاء الرجل بابتسامة ولوح بيده. وكان الفتوة فيما مضى يضجر من تمسُّح زكريا بقرابته البعيدة منه، ولكنه أخذ يغير من مشاعره منذ علم بزواج قاسم من قمر، بل قرر فيما بينه وبين نفسه ألا يعتق قاسم من الإتاوة. وعاد زكريا يقول: وقاسم شابٌّ محبوب، من في حارتنا لا يحبه؟

وكأنما قرأ شيئًا من الاستياء في نظرة سوارس فأردف يقول: لولا حكمته يوم السرقة ما وجدت رءوس رفاعة وجبل من يدفع عنها نبوت فتوتنا سوارس!

وانبسطت أسارير سوارس وصدَّق عويس على قول زكريا قائلًا: صدقت ورب السموات والأرض.

وغنى المطرب: زمان الوصل قرَّب بالتهاني.

وازداد قاسم اضطرابًا، ففطن صادق إلى حاله كشأنه دائمًا فقدم إليه قدحًا جديدًا من الشراب وما زال به حتى أفرغه في جوفه حتى الثمالة، وكانت الجوزة ما تزال في يده. وأفرط حسن في الشراب حتى تراقصت تهاويل السرادق أمام عينيه. ولاحظ عم عويس ذلك فخاطب عم زكريا قائلًا: حسن يشرب أكثر مما يليق بسنِّه.

فوقف زكريا والقدح بيده وقال لابنه وكأنما ينصحه: يا حسن لا تشرب هكذا!

وترجم «هكذا» بإفراغ القدح في جوفه في ضجة من الضحك والانبساط فتلوى الغيظ في باطن عويس حتى قال لنفسه: «لولا حماقة ابنة أخي لكلفك ما شربت الليلة جميع ما تملك!»

وعند منتصف الليل دُعي قاسم للزفة، فقصد المدعوون قهوة دنجل، وعلى رأسهم سوارس سيد الزفة وحاميها. كان الحي خارج الدار مكتظًّا بالغلمان والمتسولين والقطط التي تجمعت تلبية لرائحة المطبخ. وجلس قاسم بين حسن وصادق فحياهم دنجل قائلًا لصبيه: يا ليلة الهنا، جوزة دنجل يا ولد للجدعان.

ثم إن كل موسر قدم جوزة على حسابه للجميع.

أما صادق فأخرج من صدره بلبوعة في حجم البلية أدارها بين أصبعيه تحت ضوء الكلوب وقال في أذن قاسم: معجونة بالهريسة ولها مفعول يا سلام!

فتناولها قاسم وأودعها فاه باسمًا وقد احمرت عيناه السوداوان من الشراب فعاد صادق يقول:

امضغ ثم استحلب!

وجاء المنشدون يتقدمهم حاملو المزامير والطبول، فوقف سوارس وقال بصوتٍ آمر: لنبدأ الزفة.

تقدم كعبورة الزفة، في جلباب على اللحم، يرقص حافيًا ومركزًا على قمة رأسه نبوتًا. وخلفه سار المنشدون، فسوارس، ثم موكب العريس بين صاحبيه، وأحاط بالجميع حملة المشاعل. وراح المنشد يغني بصوتٍ مليح:

الأولة آه من عيني دي،
والتانية آه من إيدي دي،
والتالتة آه من رجلي دي،
أصل اللي شبكتني مع المحبوب عيني دي،
لما سلمت عليه سلمت بإيدي دي،
وادي اللي ودتني للمحبوب رجلي دي.

وتعالت الآهات من الأفواه المخمورة المخدرة والموكب يشق طريقه إلى الجمالية، فبيت القاضي، فالحسين ثم الدرَّاسة، والليل ينطوي في غفلة من السعداء. وعادت الزفة كما ذهبت في بهجة وانشراح فكانت أول زفة في الحارة تمر بسلام، فلا نبوت ارتفع ولا دم سال. وبلغ الطرب من زكريا منتهاه فتناول عصاه وراح يرقص. لعب بالعصا وتمايل في اختيال، وهزَّ الرأس مرة والصدر أخرى كما هز الوسط. وصور بحركاته المرنة هيئة القتال وهيئة الوصال. ثم دار حول نفسه مؤذنًا بحسن الختام بين التهليل والتصفيق.

عند ذاك انتقل قاسم إلى الحريم. رأى قمر جالسة عند ملتقى صفين من المدعوات، فاتجه نحوها يخوض أمواجًا من الزغاريد. وتناول يدها فقامت، ثم سارا معًا تتقدمهما راقصة كأنما تُلقي عليهما الدرس الأخير، حتى احتوتهما حجرة العرس. وبإغلاق باب الحجرة انفصلا انفصالًا كليًّا عن العالم الخارجي الذي سارع إليه الصمت عدا تهامسٍ خفيف أو وقع أقدام. وفي لمحة عين مرَّ قاسم بالفراش الوردي والأريكة الوثيرة والسجادة المنمنمة، أشياء لم تقع له في خيال، ثم استقر بصره على المرأة التي جلست تنزع الزينة عن رأسها. بدت فخيمةً مليئة بضةً مليحةً ذات بهاء. كانت الجدران تنظر إليه متلألئة بالضياء، وكان يرى كل شيء من خلال اضطراب وجَيَشان وهناء زاد عن حده. اقترب منها بجلبابه الحريري وجسده ينفث حرارةً خمرية ممزوجة بسطول حتى وقف أمامها ينظر من علٍ وهي غاضَّة البصر فيما يشبه الانتظار. وتناول وجهها بين راحتيه ثم همَّ بأن يقول شيئًا لكنه فيما بدا عدل. وانحنى حتى اضطربت خصلات شعرها تحت أنفاسه، ثم لثم الجبين والخدَّين.

وسرت إلى أنفه رائحة بخور تسربت من عقب الباب، وترامى إلى سمعه صوت سكينة وهي تتلو رُقيةً مبهمة.

٧١

أيام وليالٍ مرت في محبة ومودة وراحة بال، فما أعذب السعادة في هذه الدنيا! لم يكن ليغادر الدار إلا استحياءً أن يقال: إنه لا يغادر — منذ تزوج — الدار. ارتوى قلبه من أفانين المسرَّة حتى ثمل، وحظي بكل ما تمناه من الحنو والعطف والرعاية. كان يهوى النظافة فرأى منظرًا مهندمًا، ووجد جوًّا معبَّقًا بالبخور، وامرأة لا تطالعه إلا آخذة زينتها، مشرقة الوجه، بادية الود. وقالت له يومًا وهما جالسان جنبًا إلى جنب في حجرة الجلوس: أراك كالحمل الوديع، لا تطلب ولا تأمر ولا تزجر، وجميع ما في الدار ملك يديك!

فداعب خصلة من شعرها المصبوغ بالحناء وقال: بلغتُ حالًا لا يطلب عندها شيء!

فشدت على يده بقوة وقالت: حدثني قلبي من بادئ الأمر بأنك خير الرجال في حيِّنا لكنك لأدبك تبدو أحيانًا كالغريب في دارك، ألا تدري أن ذلك يؤلمني؟

– إنكِ تخاطبين رجلًا نقله حظه السعيد من الرمال المحرقة إلى جنة هذا البيت السعيد.

فتظاهرت بالجد وإن غلبها الابتسام وقالت: لا تظن أنك ستلقى راحة في بيتي، ستحل اليوم أو غدًا محل عمي في إدارة أملاكي، فهل تستثقل ذلك يا تُرى؟

فضحك قائلًا: إنه اللهو بالقياس إلى رعي الغنم.

وتولى إدارة أملاكها الموزعة بين حي الجرابيع والجمالية. وكانت معاملة السكان الشرسين تتطلب لباقة لكن مرونته عالجت الأمور بخير ما يمكن أن تعالج به. ولم يكن العمل يشغل من وقته إلا أيامًا كل شهر، وفيما عدا ذلك وجد فراغًا لم يألفه من قبلُ. ولعل أكبر نصر أحرزه في حياته الجديدة كان اكتسابه لثقة عويس عم زوجته. أولاه من بادئ الأمر احترامًا وعناية، وتطوع لمعاونته في بعض أعماله، حتى أنس الرجل إليه، وبادله ودًّا بود واحترامًا باحترام. ولم يملك الرجل إلَّا أن قال له يومًا في صراحة: حقًّا إن بعض الظن إثم! ألا تدري أنني كنت أظنك من برمجية حارتنا؟ وأنك ستستغل عاطفة ابنة أخي لتبتزَّ أموالها فتبعثرها في ملذاتك أو تتزوج بها امرأةً أخرى؟! ولكنك أثبتَّ أنك رجلٌ أمينٌ حكيم، وأنها أحسنت الاختيار.

وفي قهوة دنجل كان صادق يضحك في سرور ويقول له: قدم لنا جوزة على الحساب كما ينبغي للأعيان أمثالك!

وكان حسن يقول له: لماذا لا تذهب بنا إلى الحانة؟

لكنه أجابهما جادًّا: لا مال لي إلا ما أستحقه نظير إدارة أملاك زوجتي أو مقابل خدمات أؤديها لعم عويس.

فتعجب صادق ثم قال ناصحًا: المرأة المحبة لعبة في يد الرجل!

فقال قاسم غاضبًا: إلا إذا كان الرجل محبًّا مثلها!

ثم وهو يحدجه بنظرة عتاب: أنت يا صادق كأهل حارتنا لا يرون في الحب إلا وسيلة للاستغلال!

فابتسم صادق في حياء وقال كالمعتذر: هكذا يفكر الضعفاء! لست في قوة حسن، ولا حتى في مثل قوتك أنت، فلا مطمع لي بحال في الفتونة، وفي حارتنا إما أن تكون ضاربًا، وإما أن تكون مضروبًا!

فغير قاسم من حدة نبرته كأنما قبل عذره وقال: يا لها من حارة عجيبة! صدقت يا صادق، إن حال حارتنا يبعث على الأسى!

فقال حسن باسمًا: آه لو كانت كما يشعر الناس نحوها في الخارج!

فقال صادق مصدقًا لقوله: يقولون حارة الجبلاوي! حارة الفتوات المَجْدع!

فلاحت الكآبة في وجه قاسم، واختلس نظرة إلى مجلس سوارس في أول القهوة ليطمئن إلى أنهم بمنجاة من سمعه، وقال: كأنهم لا يسمعون عن تعاستنا!

– الناس يعبدون القوة، حتى ضحاياها!

فتفكر قاسم مليًّا ثم قال: العبرة بالقوة التي تصنع الخير، كقوة جبل وقوة رفاعة، لا قوة البلطجية والمجرمين!

وكان الشاعر طازة يواصل حكايته قائلًا:

«وهتف به أدهم: احمل أخاك!

فقال قدري بصوت كالأنين: لا أستطيع.

– إنك استطعت أن تقتله.

– لا أستطيع يا أبي.

– لا تقل «أبي» قاتل أخيه لا أب له، ولا أم له، ولا أخ له.

– لا أستطيع.

فشد قبضته عليه وقال: على القاتل أن يحمل ضحيته.»

ثم تناول الشاعر الرباب وأخذ في الإنشاد. وعند ذاك قال صادق مخاطبًا قاسم: اليوم أنت تحيا الحياة التي كان بها يحلم أدهم!

فبان الاحتجاج في وجه قاسم وقال: لكن يصادفني عند كل خطوة سبب من أسباب الكدر وتنغيص الصفو، وأدهم لم يحلم بالفراغ والرزق الموفور إلا باعتبارهما طريق السعادة الصافية.

ولاذ ثلاثتهم بالصمت مليًّا حتى قال حسن في براءة: هذه السعادة الصافية لا يمكن أن توجد أبدًا!

– فلاحت في عيني قاسم نظرةٌ حالمة وقال: إلا إذا توافرت أسبابها للجميع!

وفكر في الأمر، في أنه يحظى بالمال والفراغ، ولكن تعاسة الآخرين تُفسد عليه سعادته. وها هو ذا يؤدي الإتاوة لسوارس صاغرًا. لذلك يود أن يشغل بالعمل فراغه، كأنما ليهرب من نفسه، أو يهرب من حارته القاسية. ولعل أدهم لو نال ما تمنى وهو على مثل حاله هذه لضاق بالسعادة ذرعًا، ولتاقت للعمل نفسه.

وفي تلك الأيام طرأت أعراضٌ غريبة على قمر، فقالت سكينة: إنها أعراض الوحم. ولم تكد قمر تُصدق، كان أملها في الحبل حلمًا من الأحلام، لذلك استخفها الفرح، وامتلأ قلب قاسم بالغبطة حتى أذاع الخبر في كل ركن له فيه حبيب، فعلم به بيت عمه ودكان مبيض النحاس وبقالة عم عويس وكوخ المعلم يحيى. وغالت قمر في العناية بنفسها حتى قالت لقاسم بلهجةٍ ذات معنى: ينبغي أن أتجنب أي مشقة.

فقال وهو يبتسم ابتسامة المدرك لما تعني: على سكينة أن تحمل عنك أعباء البيت، وعليَّ أن أتجمل بالصبر!

فقبَّلته قائلة في جذل الأطفال: أود أن أقبِّل الأرض شكرًا!

وانطلق إلى الخلاء ليزور المعلم يحيى لكنه توقف عند صخرة هند، فمضى إلى ظلها وجلس. ورأى على مرمى البصر راعيًا يرعى غنمًا فامتلأ قلبه بالعطف وتمنى لو يقول له: لا يسعد الإنسان بالفتونة وحدها، بل لا يسعد الإنسان بالفتونة إطلاقًا. لكن أليس الأجدر أن يقول ذلك للفتوات من أمثال لهيطة وسوارس؟ ما أعطفه على أولاد حارته الذين يحلمون بالسعادة عبثًا ثم سرعان ما تلقي الأيام بأحلامهم مع النفايات في أكوام الزبالة. لماذا لا ينعم بالسعادة المتاحة ويغمض العين عما حوله؟ لعل هذا التساؤل حيَّر يومًا جبل كما حير يومًا آخر رفاعة. كان في وسعهما أن ينعما بالراحة ويخلدا إلى السكينة والسلام، فما سر هذا العذاب الذي يطاردنا؟ كان يتأمل وهو ينظر إلى السماء فوق الجبل، سماء صافية ما عدا قطعًا صغيرة من السحب متفرقة كأوراق الورد الأبيض. وخفض رأسه فيما يشبه الإعياء فوقع بصره على شيء يتحرك، وضح أنها عقرب تسرع نحو جحر. ورفع عصاه بسرعة وهوى بها عليها فهرسها. وتفرس فيها مليًّا بتقزز، ثم قام ليواصل رحلته.

٧٢

استقبل بيت قاسم حياةً جديدة، شارك في فرحتها فقراء الحي، وسُميت إحسان كأمه التي لم يرها. وبمولدها أَلِفَ البيت ألوانًا جديدة من البكاء والقذارة والأرق، ولكنه ازداد بها غبطة ورضا. لكن لماذا يبدو الأب أحيانًا شارد اللب والنظرة كأن همومًا تتناوبه؟ شدَّ ما ساورها لذلك القلق حتى سألته مرة: أليست الصحة على ما يرام؟

– بلي.

– لكنك لست كعادتك!

فقال وهو يغض البصر: المولى أدرى بحالي.

تساءلت بعد تردد: هل بدا لك منا ما تكره؟

فقال بقوة: ليس هناك أحب إليَّ منك ولا حتى العزيزة الصغيرة!

فتنهدت قائلة: لعلها عين!

فقال باسمًا: لعلها!

فرقته وبخَّرته وهي تدعو له من صميم قلبها. واستيقظت ذات ليلة على بكاء إحسان فلم تجده إلى جانبها. ظنت لأول وهلة أنه لم يرجع بعدُ من سهرته في القهوة، ولكن لما كفَّت الصغيرة عن البكاء تنبهت المرأة إلى أن الحارة غارقة في صمتٍ عميق لا يستحكم بها عادة إلا بعد إغلاق المقاهي بفترة غير قصيرة، فداخلها ارتياب، فقامت إلى النافذة وأطلت منها فرأت ظلامًا شاملًا يلف حارة مستغرقة في النوم. وعادت إلى الصغيرة التي عاودت البكاء فألقمتها ثديها، وراحت تتساءل: عما أخَّره إلى هذا الوقت لأول مرة في حياتهما المشتركة. ونامت إحسان فغادرت الفراش إلى النافذة مرةً أخرى. ولما لم تسمع نأمة، خرجت إلى الصالة فأيقظت سكينة. وجلست الجارية كالمسطولة، ثم هبت واقفة في جزع، فأخبرتها سيدتها بما دفعها إلى الائتناس بها. وقررت الجارية من فورها أن تذهب إلى عم زكريا لتسأل عن سيدها. وساءلت قمر نفسها عما يبقيه في بيت عمه حتى هذا الوقت، فجاء الجواب قاطعًا للأمل، ولكنها مع ذلك لم تمنعها من الذهاب، ربما جريًا وراء غير المنتظر، أو في الأقل استعانة بالعم على حيرتها. ولما ذهبت سكينة جعلت تتساءل مرةً أخرى عما أخَّره: ألذلك سبب بما طرأ على مزاجه من تغير؟ أله علاقة بنزهاته في الخلاء التي يقوم بها في الأصائل والأماسي؟

واستيقظ عم زكريا وحسن منزعجَين على نداء سكينة. وقال حسن: إن قاسم لم يشاركه سهرته الليلة. وسأل عم زكريا متى غادر ابن أخيه بيته؟ فأجابت سكينة بأن ذلك كان قبيل العصر. وغادر ثلاثتهم الربع، ومضى حسن إلى الربع المجاور ثم عاد ومعه صادق الذي قال في نبرة قلقة: الفجر يوشك أن يطلع! تُرى أين ذهب؟

فقال حسن: لعل النوم غلبه عند الصخرة.

وأمر عم زكريا الجارية أن تعود إلى سيدتها؛ لتخبرها بأنهم ذاهبون للبحث عنه في مظانه. ومضى ثلاثتهم صوب الخلاء. واستشعروا رطوبة ليل الخريف فحبكوا اللاسات فوق رءوسهم. وساروا على هدى هلال آخر الشهر وقد تجلَّى في رقعةٍ مرصعة بالنجوم انحسرت عنها سماء متشحة بالسحب. وصاح حسن بصوت شق الفضاء كالشهاب: «قاسم .. يا قاسم!» فارتد إليه الصدى من جانب المقطم مكررًا النداء. وحثُّوا السير حتى بلغوا صخرة هند، فداروا حولها متفحصين المكان ولكنهم لم يعثروا له على أثر. وتساءل عم زكريا بصوتٍ غليظ: أين ذهب؟ لا هو من أهل المجون ولا من ذوي العداوات!

فتمتم حسن في حيرة: ولا من سبب آخر يدعوه للهرب!

وتذكر صادق أن الخلاء لا يخلو من قُطاع طرق فغاص قلبه في صدره دون أن ينبس. وإذا بزكريا يتساءل في فتور: أيكون عند المعلم يحيى؟

وهتف الشابان معًا فيما يشبه استغاثة يائس: المعلم يحيى؟!

لكن زكريا تساءل في نكد: وماذا دعاه للبقاء عنده؟

ومضوا نحو أطراف الخلاء صامتين، تتناوبهم الأفكار السود. وترامى إلى مسامعهم من بعيد صياح الديكة، لكن الظلام لم يخف لتكاثف السحب. وندَّ عن صادق صوت كالزفرة وهو يقول: «أين أنت يا قاسم!» وبدت الرحلة عقيمًا لكنهم واصلوا السير حتى وقفوا أمام كوخ يحيى الغارق في النوم. وتقدم زكريا يدق الباب بقبضته حتى جاءه صوت المعلم وهو يتساءل: مَن بالباب؟

وفتح الباب فبدا شبحه متوكئًا على عصاه، فقال زكريا بأسف: عدم المؤاخذة، جئنا نسأل عن قاسم.

فقال المعلم بهدوء: زيارة متوقعة!

فأحيا قوله نفوسهم لأول وهلة، لكن سرعان ما ارتد إليهم القلق فتساءل زكريا: عندك أخبار عنه؟

– هو نائم في الداخل!

– بخير؟

– إن شاء الله!

ثم مردفًا في بساطةٍ مقصودة: هو الآن بخير، لكن بعض جيراني كانوا قادمين من العطوف فعثروا عليه عند صخرة هند وهو مغمى عليه، فحملوه إليَّ، فرششت على وجهه عطرًا حتى أفاق، لكنه بدا متعبًا فتركته لينام، وما لبث أن استغرق في النوم.

فقال زكريا معاتبًا: ليتك أبلغتنا الخبر!

فقال بالهدوء نفسه: جاءوا به عند منتصف الليل فلم أجد من أرسله إليك!

فقال صادق في قلق: إنه مريض بلا شك.

فقال العجوز: سيصحو على أحسن حال.

فقال حسن: فلنوقظه لنطمئن عليه.

ولكن يحيى قال بحزم: بل علينا أن ننتظر حتى يستيقظ بنفسه.

٧٣

كان جالسًا في الفراش، مُسند الظهر إلى وسادة، ساحبًا الغطاء عليه حتى أعلى الصدر، تعكس عيناه نظرةً متفكرة. وكانت قمر متربعة عند قدمَيه، حاملة على صدرها إحسان، وهذه تحرك يديها الصغيرتين دون توقف، وتصدر أصواتًا رقيقةً غريبة لا يدري أحد عن سرها شيئًا. وتصاعد من مبخرة في وسط الحجرة خيط بخور، يتلوى، ثم ينكسر، ثم ينتشر، نافثًا أريجًا كأنما يبوح بسرٍّ لطيف. ومدَّ الرجل يده إلى خوان قرب الفراش فتناول قدح كراوية، واحتسى منه قليلًا قليلًا، ثم أعاده وليس به إلا ثمالة، والمرأة تناغي الطفلة وتداعبها، ولكن نظراتها القلقة المسترقة إلى زوجها دلت على أن مناغاتها ومداعباتها ليست إلا مداراة لمشاعرها. وأخيرًا سألته: كيف أنت الآن؟

فاتجه رأسه بحركة عفوية نحو باب الحجرة المغلق، ثم أعاده إليها، وقال بهدوء: ليس ما بي مرض!

فتجلَّت في عينيها نظرةٌ حائرة وقالت: يسُرني أن أسمع هذا، ولكن خبِّرني بالله عما بك!

فبدا كالمتردد قليلًا، ثم قال: لا أدري! كلا فليس هذا ما ينبغي أن يقال، إني أدري كل شيء، ولكن .. الحق إني أخشى أن تكون أيام الراحة قد ولَّت.

وبكت إحسان فجأة، فألقمتها ثديها في عجلة، ثم نظرت إليه مستطلعة في قلق، وتساءلت: لماذا؟

تنهد، وأشار إلى صدره قائلًا: لديَّ هنا سرٌّ كبير، أكبر من أن أحمله وحدي!

فازدادت المرأة قلقًا وقالت بلهفة: خبِّرني عنه يا قاسم.

اعتدل في جلسته قليلًا، وعكست عيناه جدًّا وتصميمًا وقال: سأبوح به لأول مرة. أنتِ أول شخص يسمعه، لكن ينبغي أن تصدقيني، فما أقول إلا الحق. ليلة أمس حدث شيء عجيب، هنالك تحت صخرة هند، وأنا وحدي في الليل والخلاء.

وازدرد ريقه وهي تستحثه بنظرةٍ حارة، ثم قال: كنت جالسًا أتابع سير الهلال الذي سرعان ما وارته السحب، وساد الظلام حتى فكرت في القيام، وإذا بصوتٍ قريب يقول بغتة: «مساء الخير يا قاسم.» فارتعدتُ من وقع المفاجأة التي لم يسبقها صوت أو حركة. ورفعت رأسي فرأيت شبح رجل واقفًا على بُعد خطوة من مجلسي، لم أتبيَّن وجهه ولكني ميزت لاسته البيضاء والعباءة التي يتلفع بها، وقلت له وأنا أداري غيظي: «مساء الخير! من أنت؟» فأجابني، ولكن بم تظنينه أجاب؟

فحركت قمر رأسها في جزع وقالت: تكلم فلم يعد لي صبر!

– قال لي: «أنا قنديل!» فعجبت لشأنه وقلت له: «لا تؤاخذني فأنا …» فقاطعني قائلًا: «أنا قنديل خادم الجبلاوي!»

وهتفت المرأة: ماذا قال الرجل؟!

– قال أنا قنديل خادم الجبلاوي.

وكان الثدي قد أفلت من ثغر إحسان في أثناء اضطراب الأم فتقلص وجهها إيذانًا بالبكاء ولكن المرأة أعادته إليها، ثم قالت بوجهٍ شاحب: قنديل خادم الواقف؟! لا يدري أحد عن خدم الواقف شيئًا. حضرة الناظر هو الذي يتولى بنفسه إعداد لوازم البيت الكبير، ثم يحملها خدمه إلى البيت الكبير ليتسلمها بعض خدم الواقف في الحديقة.

– نعم، هذا ما تعرفه حارتنا، لكنه قال لي ذلك!

– وهل صدَّقته؟

– وقفت من فوري، تأدبًا من ناحية واستعدادًا للدفاع عن نفسي إن لزم الأمر من ناحيةٍ أخرى، وقلت له متسائلًا: من أدراني أنك صادق فيما تقول؟ فقال لي بهدوء مطمئن: «اتبعني إذا شئت حتى تراني وأنا أدخل البيت الكبير.» فاطمأن قلبي، وقلت لنفسي فلأصدقه حتى يتبين لي أمره، ولم أخفِ عنه فرحي بلقياه، وسألته عن جدنا، كيف حاله؟ وماذا يفعل؟

فقاطعه صوت قمر قائلًا في ذهول: كل ذلك دار بينك وبينه؟!

– نعم، بالله أنصتي، قال لي: إن جدنا بخير. ولم يزد على ذلك شيئًا. فسألته: هل يدري بما يجري في حارتنا؟ فأجاب بأنه يعلم كل شيء، وبأن المقيم في البيت الكبير يستطيع أن يطلع على كل صغيرة وكبيرة مما يقع في حارتنا، وأنه لذلك أرسله إليَّ.

– إليكَ أنت؟!

فقطب قاسم فيما يشبه الاستياء وقال: هكذا قال. وندَّ عني ما يفصح عن دهشتي ولكنه لم يبالِ بي، وقال: «لعله اختارك لحكمتك يوم السرقة ولأمانتك في بيتك. وهو يبلغك بأن جميع أولاد الحارة أحفاده على السواء، وأن الوقف ميراثهم على قدم المساواة، وأن الفتونة شر يجب أن يذهب، وأن الحارة يجب أن تصير امتدادًا للبيت الكبير.» وساد الصمت، وكأنما فقدت القدرة على النطق، ولمحت عيناي المتطلعتان إلى هامته السحب وهي تنحسر عن الهلال في رقعةٍ صافية، فسألت بأدب: «ولماذا يبلغني ذلك؟» فأجاب: «لكي تحققه بنفسك!»

– أنت؟!

بذلك هتفت قمر، فقال قاسم بصوتٍ متهدج: هكذا قال. وهممت بأن أستوضحه، ولكنه حيَّاني وذهب، فتبعته حتى خُيِل إليَّ أنني رأيته يصعد إلى أعلى السور المشرف على الخلاء على سلم خارق الطول أو شيء شبيه بذلك، فوقفت ذاهلًا. ثم عُدت إلى مكاني السابق وفي نيتي أن أقصد المعلم يحيى، لكني غبت عن الوجود، ولم أعد إلى رشدي إلا في كوخ المعلم.

وعاد الصمت يغشى الحجرة وقمر لا تحول عن وجهه عينَيها الذاهلتَين. وتسلل النوم إلى أجفان إحسان، وهي ترضع فمال رأسها إلى أسفل من فوق ساعد أمها فأرقدتها برفق على الفراش، وعادت تنظر إلى زوجها بعينٍ قلقة ووجهٍ شاحب. وارتفع من الحارة صوت سوارس الأجش وهو يسب رجلًا، وصراخ الرجل وتأوهاته التي وشت بما ينهال عليه من ضرب أو صفع، ثم صوت سوارس مرة أخرى وهو يبتعد منذرًا متوعدًا، وصوت الرجل وهو يرتفع في نبرة حنق ويأس هاتفًا: «يا جبلاوي!» وساءل قاسم نفسه المرهقة بنظرات زوجته: تُرى ماذا تظن بي؟ وحادثت المرأة نفسها: إنه صادق، لم يكذبني قط، فلماذا يختلق هذه الحكاية؟ وهو أمين لم يطمع في مالي مع ما في ذلك من أمان، فكيف يطمع في مال الوقف على ما في ذلك من خطر؟! وترى هل ولَّت أيام الراحة حقًّا؟ وقالت: أنا أول مَن أفضيتَ إليه بسرك؟

فأحنى رأسه بالإيجاب، فعادت تقول: قاسم، حياتنا واحدة، وأنا لا تهمني نفسي بقدر ما تهمني أنت، وسرك هذا شيءٌ خطير، وعواقبه لا تخفى عليك، ولكن أَعْمِلْ ذاكرتَك جيدًا وخبِّرني أكان واقعًا ما رأيت أم لعله كان حلمًا؟

فقال بتصميم وفي شيء من الامتعاض: كان واقعًا ملموسًا ولم يكن حلمًا!

– وجدوك مغمًى عليك؟!

– كان ذلك بعد اللقاء!

فقالت بإشفاق: ربما اختلط الأمر عليك!

فتنهد في عذاب لم تدرِ به وقال: لم يختلط شيء عليَّ، كان اللقاء واضحًا كالنهار المشمس!

فترددت قليلًا ثم تساءلت: مَن يدرينا أنه حقًّا خادم الواقف ورسوله إليك؟ ولماذا لا يكون مسطولًا من مساطيل حارتنا وما أكثرهم؟!

فقال في نبرة عناد: رأيته وهو يصعد إلى سور البيت الكبير.

فتنهدت قائلة: ليس في حارتنا سلم يمكن أن يصل إلى نصف ارتفاع السور!

– لكني رأيته!

بدت كفأر في مصيدة، لكنها أَبَت أن تستسلم.

فتساءلت: ألم تكن تعاطيت الكيف؟

فتجهم وجهه حزنًا وقال: أنت لا تصدقينني يا قمر وأنا لا أطالبك بتصديقي.

فارتاعت المرأة وقالت: ليس بي شيء إلا أنني أخاف عليك، وأنت تعلم ما أعني، أخاف عليك وعلى بيتنا وابنتنا وسعادتنا، وإني أسائل نفسي: لماذا قصدك أنت بالذات؟ ولماذا لا يحقق إرادته بنفسه وهو صاحب الوقف وسيد الجميع؟

فتساءل بدوره: ولماذا قصد جبل ورفاعة؟

اتسعت عيناها، وتقلَّص ركن فمها كالطفل الموشك على البكاء، وغضت بصرها في جفول، فقال: أنتِ لا تصدقينني وأنا لا أطالبك بتصديقي.

فأجهشت في البكاء، واسترسلت فيه كأنما لتهرب من أفكارها. فمال قاسم نحوها، ثم مد يده إلى يدها فجذبها نحوه، وسألها في رقة: لماذا تبكين؟

فنظرت إليه خلال دموعها، وقالت وهي تشهق شهقاتٍ متقطعة: لأنني أصدقك، نعم أصدقك، وأخشى أن تكون أيام الراحة قد ولَّت.

ثم في صوت خافت مشفق: ماذا أنت فاعل؟

٧٤

شُحن جو الحجرة بالقلق والتوتر. بدا عم زكريا مفكرًا مقطبًا، وراح عم عويس يعبث بشاربه، وكأن حسن كان يحادث نفسه، أما صادق فلم يحوِّل ناظرَيه عن وجه صديقه قاسم، على حين انزوت قمر في ركن حجرة الاستقبال وهي تدعو الله أن يهدي الجميع إلى السداد والرشاد. وكانت فناجيل القهوة قد فرغت وأخذت ذبابتان تحومان حولها، فنادت قمر سكينة لتأخذ الصينية، فجاءت الجارية وحملتها ثم ذهبت وأغلقت الباب وراءها كما كان. وقال عويس وهو ينفخ: يا له من سرٍّ يهدُّ الأعصاب هدًّا!

وعوى كلب في الحارة كأنما أصيب بطوبة أو عصًا، وارتفع صوت بياع ينادي مترنمًا بالبلح، وامرأةٌ عجوز هتفت في أسى: «يا رب خلصنا من عيشتنا!» والتفت زكريا إلى عويس قائلًا: يا معلم عويس، إنك أكبرنا مقامًا وجاهًا، فصارحنا برأيك!

فنقل الرجل عينيه بين زكريا وقاسم وقال: أقول الحق إن قاسم رجل ولا كل الرجال، ولكن حديثه أدار رأسي!

فقال صادق بعد توثبٍ طويل للكلام: إنه رجلٌ صادق، أتحدى أي مخلوق أن يُذكرنا بكذبة صدرت عنه، فهو عندي مصدَّق، وأقسم لكم على ذلك بتربة أمي!

وقال حسن بحماس: وأنا كذلك. وسيجدني دائمًا إلى جانبه.

وابتسم قاسم لأول مرة في امتنان، وهو يرمق جسم ابن عمه القوي بإعجاب، لكن زكريا ألقى على ابنه نظرة انتقاد وقال: ليس الأمر لعبًا، فكروا في حياتنا وسلامتنا.

فأمَّن عويس على قوله بإحناءة من رأسه وقال: صدقت، لم يسمع أحد من قبلُ مثل ما سمعنا اليوم.

فقال قاسم: بل سمعوا مثله وأكثر عن جبل ورفاعة!

فدهش عويس وحدجه بإنكار متسائلًا: أتظن أنك مثل جبل ورفاعة؟

وغضَّ قاسم بصره متألمًا وقمر تراقبه بإشفاق، ثم قالت: عمي! مَن يدري كيف تقع هذه الأمور؟!

فعاد الرجل يعبث بشاربه، وقال زكريا: وأي خير في أن يظن نفسه كجبل أو رفاعة؟ قُتل رفاعة شر قتلة، وكاد جبل أن يُقتل لولا انضمام أهله إليه، ومن لك أنت يا قاسم؟ أنسيت أنهم يدعون حيَّنا بحي الجرابيع، وأن أكثره ما بين متسول وتعيس؟

فقال صادق بقوة: لا تنسوا أن الجبلاوي اختاره من دون الجميع بمن فيهم الفتوات، ولا أظنه يتخلى عنه عند الشدة!

فقال زكريا ممتعضًا: هكذا قيل عن رفاعة في أيامه، ولقد قتل رفاعة على بعد أذرع من بيت الجبلاوي!

وقالت قمر محذرة: لا ترفعوا أصواتكم!

واسترق عويس إلى قاسم النظر وهو يفكر. ما أعجب ما يسمع وما يقال. هذا الراعي الذي جعلت منه ابنة أخي سيدًا! أقرَّ له بالصدق والأمانة، ولكن هل يكفي هذا ليجعل منه جبل أو رفاعة؟! وهل يجيء الرجال الكبار بهذه البساطة؟ وماذا يحدث لو صدقت الأحلام! وقال عويس: يبدو أن قاسم لا يتأثر بتحذيراتنا، تُرى ماذا يريد الفتى؟ هل عزَّ عليه أن يبقى حيُّنا وحده الذي لا نصيب له في الوقف؟ أتريد يا قاسم أن تكون فتوة وناظرًا لحيِّنا؟

فبان الاحتداد في وجه قاسم وقال: لم يبلغني بذلك، وإنما قال: إن جميع أولاد الحارة أحفاده، وإن الوقف لهم على قدم المساواة، وإن الفتونة شر!

برق الحماس في عيني صادق وحسن، وذهل عويس، أما زكريا فتساءل: أتعرف ماذا يعني هذا؟

فقال عويس بغضب: قل له!

– أن تتحدى قوة الناظر ونبابيت لهيطة وجلطة وحجاج وسوارس!

فامتقع وجه قمر، أما قاسم فقال بهدوء كالحزن: هو ذلك!

فندَّت عن عويس ضحكة انعكس صداها استياء في وجوه قاسم وصادق وحسن، ولم يحفل زكريا بذلك ومضى يقول: سيُقضى علينا جميعًا بالهلاك، سنوطأ بالأقدام كالنمل، ولن يصدقك أحد. إنهم لم يصدقوا من قابل الواقف ولا من سمع صوته وحاوره، فكيف يصدقون من أرسل إليه خادمًا من خدمه؟

وقال عويس بنبرةٍ جديدة: دعونا مما تقول الحكايات، لم يشهد أحد لقاء الجبلاوي وجبل، ولا الجبلاوي ورفاعة، تلك الأخبار تُروى عادة ولكن لم يشهدها أحد، غير أنها عادت بالخير على أصحابها، فصار لحي آل جبل كيانه المحترم، كذلك حي آل رفاعة، ومن حق حيِّنا أن يكون مثلهما، لِمَ لا؟ كلنا من صلب ذلك الرجل المعتكف في بيته الكبير، ولكن علينا أن نأخذ الأمر بالحكمة والحذر، فاهتمَّ يا قاسم بحيِّك، دعك من الأحفاد والمساواة وما هو خير وما هو شر، ومن اليسير أن نضم سوارس إلينا وهو قريبك، ويمكن الاتفاق معه على أن يترك لنا نصيبًا في الريع.

وقطب قاسم غاضبًا، وقال: يا معلم عويس، أنت في وادٍ ونحن في وادٍ. أنا لا أروم مساومة ولا نصيبًا في الريع ولكني عقدت العزم على تحقيق إرادة جدنا كما أُبلغتُها.

وتأوه زكريا قائلًا: يا ساتر يا رب!

لم يزل قاسم مقطبًا، ذكر أشجانه وخلواته وأحاديث معلمه يحيى، وكيف جاءه الفرج على يد خادم لم يعرفه من قبلُ، وكيف تلوح الخطوب في الأفق، وكيف أن زكريا لا يفكر إلا في السلامة وأن عويس لا يفكر إلا في الريع، وكيف أن الحياة لن تطيب إلا بمواجهة الأفق المليء بالخطوب. وتنهد قائلًا: عمي، كان يجب أن أبدأ بمشاورتكم ولكني لن أطالبكم بشيء!

فشدَّ صادق على يده قائلًا: إني معك.

وكوَّر حسن قبضته قائلًا: وأنا معك، في الخير والشر معك.

فقال زكريا في ضجر: لا تغتر بكلام العيال! عندما ترتفع النبابيت تمتلئ الجحور بأمثالكم، وفي سبيل مَن تُعرِّض نفسك للهلاك؟ ليس في حارتنا إلا حيوان أو حشرة، ولديك من الأسباب ما يضمن لك حياةً رغيدةً طيبة فاعقل وتمتَّع بحياتك.

وساءل قاسم نفسه: ماذا يقول الرجل؟ كأنما يستمع لبعض هواتف نفسه عندما تقول له، ابنتك، زوجتك، بيتك، نفسك. لكنك اخْتِرتَ كما اخْتِير جبل ورفاعة، فليكن جوابك كما كان جوابهما. قال: فكرت يا عمي طويلًا ثم اخترت سبيلي.

فضرب عويس كفًّا بكف وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله!

وقال عويس محذرًا: سيقتلك الأقوياء ويهزأ بك الضعفاء!

وقلبت قمر عينيها بين عمها وبين عم زوجها في حيرة، مشفقة من خذلان زوجها، وفي الوقت نفسه خائفة عليه عواقب التمادي في رأيه. وقالت مخاطبة عمها: عمي، أنت سيد الأعيان، وبوسعك أن تؤيده بنفوذك!

فسألها عويس مستهجنًا: فيم تطمعين يا قمر؟ لك مال وابنة وزوج فماذا يعنيكِ وُزع الوقف على الجميع أم استأثر به الفتوات؟ إننا نعدُّ الطامح إلى الفتونة مجنونًا، فما بالك بمَن يطمح إلى نظارة الحارة جميعًا؟!

فهبَّ قاسم واقفًا في تألمٍ شديد وقال: لست طامحًا إلى شيء من هذا، إنما أريد الخير الذي أراده جدنا.

فاسترضاه عويس بابتسامةٍ متكلفة وقال: أين هو جدنا؟ فليخرج إلى الحارة ولو محمولًا على أعناق خدمه، ثم فليحقق شروط وقفه كما يشاء. أتحسب أن أحدًا في الحارة مهما بلغت قوته يستطيع إذا تكلم الواقف أن يرفع نحوه عينًا أو أصبعًا؟

وقال زكريا مكملًا: وهل هو إذا وثب الفتوات لذبحنا سيحرِّك ساكنًا أو يكترث لما يصيبنا؟

فقال قاسم في وجومٍ شديد: لن أطالب أحدًا بتصديقي أو بتأييدي.

فقام زكريا إليه ووضع يده على منكبه بعطف وقال: يا قاسم، أصابتك عين، أنا أعلم بهذه الشرور. طالما تحدثوا عن عقلك وسعيد حظك، حتى أصابتك العين. استعذ من الشيطان بالله، واعلم أنك اليوم من وجهاء حيِّنا وبوسعك إذا شئت أن تتاجر ببعض مال زوجتك فتحظى بالثراء الوفير، فأقلع عما في رأسك وارضَ بما وهبك الله من خير ونعمة.

فأطرق قاسم محزونًا، ثم رفع رأسه إلى عمه، وقال بتصميمٍ عجيب: لن أقلع عما في رأسي ولو مُلِّكت الوقف كله وحدي.

٧٥

ماذا أنت فاعل؟ وحتامَ تفكر وتنتظر؟ وماذا تنتظر؟ وما دام القريب لم يصدقك فمَن ذا الذي يصدقك؟ وما فائدة الحزن؟ وما جدوى الانفراد تحت صخرة هند؟ النجوم لا تجيب ولا الظلام، ولا يجيب القمر، كأنك تأمل في لقيا الخادم مرةً أخرى، ولكن أي جديد عنده ترتقب؟ وتجوس في الظلام حول البقعة التي قيل إن جدك قابل فيها جبل، وتقف طويلًا وراء السور الكبير في الموضع الذي قيل إنه خاطب عنده رفاعة. لكن لا شخصه رأيت ولا صوته سمعت ولا خادمه رجع. ماذا أنت فاعل؟ سيطاردك هذا السؤال كما تطارد الشمس في الخلاء راعي الغنم، وسيقتلعك دوامًا من راحة البال ومن طيبات النعم. وجبل كان مثلك وحيدًا لكنه انتصر، ورفاعة عرف سبيله ومضى فيه حتى قُتل ثم انتصر؛ ماذا أنت فاعل؟

وقالت له قمر معاتبة: شد ما تهمل طفلتك الجميلة! تبكي فلا ترحمها، وتلعب فلا تلاعبها!

فابتسم إلى الوجه الصغير مستروِحًا نسمة منه لسعير فكره، وغمغم: ما ألطفها!

– حتى الساعة التي تجالسنا فيها تغيب عنَّا كأننا لم نعد من أهل دنياك.

فاقترب منها على الكنبة التي تجمعهما ولثم خدها، ثم قبَّل وجه الطفلة في أكثر من موضع وقال: ألا ترين أنني بحاجة إلى عطفكِ؟

– ولك قلبي كله بما فيه من عطف وحب ومودة، ولكن ينبغي أن ترحم نفسك.

وناولته الطفلة فاحتضنها وراح يهدهدها برفق وحنان مصغيًا إلى أنغامها السماوية. وبغتة قال: إذا نصرني المولى فلن أحرم النساء من ريع الوقف.

فقالت قمر بدهشة: لكن الوقف للذكور دون الإناث.

فرنا إلى العينين السوداوين في وجه الصغيرة وقال: قال جدي على لسان خادمه: إن الوقف للجميع، والنساء نصف كيان حارتنا، ومن عجب أن حارتنا لا تحترم النساء، ولكنها ستحترمهن يوم تحترم معاني العدالة والرحمة.

وتجلَّى الحب والإشفاق في عينَي قمر. وقالت لنفسها: إنه يذكر النصر، فأين منَّا هذا النصر؟ وكم ودت أن تنصحه بما فيه الأمن والسلامة ولكن خانتها شجاعتها. وساءلت نفسها عما يخبئ لهم الغد. تُرى أيكون لها حظ شفيقة زوجة جبل، أم تصاب بما أصيبت به عبدة أم رفاعة؟! واقشعرَّ بدنها فنظرت بعيدًا حتى لا يقرأ في عينيها ما يريبه.

وعندما جاءه صادق وحسن ليذهبوا جميعًا إلى القهوة عرض عليهما أن يزوروا المعلم يحيى ليقدمهما إليه. ولما بلغوا كوخه وجدوه يدخن الجوزة ورائحة الحشيش الغنائية عابقة بالجو. وقدَّم إليه صاحبَيه، وجلسوا جميعًا في دهليز الكوخ والبدر من كوة يلوح كأنه السعادة. وكان يحيى ينظر إلى وجوه الثلاثة بعجب وكأنه يتساءل: أهؤلاء حقًّا هم الذين سيقلبون الحارة رأسًا على عقب؟! ومضى يعيد على مسامع قاسم ما سبق أن ردده له، قال: احذر أن يعلم أحد بسرِّك قبل أن تستعدَّ.

ودارت الجوزة دورةً مليحة، وكان ضوء القمر النافذ من الكوة يتوج رأس قاسم وينطرح على الكتف من صادق، على حين توهجت جمرات الموقد في ظلمة الدهليز. وتساءل قاسم: وكيف أستعد؟

فضحك العجوز قائلًا في دعابة: ليس مِن حق مَن اختاره الجبلاوي أن يستعين برأي عجوزٍ مثلي!

وأخلى الصمت لقرقرة الجوزة حتى قطعه العجوز قائلًا: لديك عمك وعم زوجتك؛ أما عمك فلا فائدة منه ولا ضرر، وأما الآخر فبوسعك أن تكسبه إلى جانبك لو منَّيته بشيء!

– بماذا أمنِّيه؟

– عِده بنظارة الجرابيع!

فقال صادق بإخلاص: لن يميَّز أحد بشيء من ريع الوقف، هو ميراث الجميع على قدم المساواة كما قال الجبلاوي.

فضحك يحيى قائلًا: ما أعجب جدنا، كان قوة في جبل، ورحمة في رفاعة، واليوم له شأنٌ آخر!

فقال قاسم: إنه صاحب الوقف، ومن حقه أن يغير ويبدل في الشروط العشرة!

– لكن مهمتك شاقة يا بني، إنها تخصُّ الحارة كلها لا حيًّا من الأحياء.

– هكذا أراد الواقف.

وسعل يحيى سعالًا متواصلًا تركه كالقتيل فتطوع حسن لخدمة الجوزة محله. ومدَّ الرجل ساقَيه وهو يتنهد بعمق. ثم تساءل: تُرى أتعمد إلى القوة كجبل أم تؤثر الحب كرفاعة؟

فجاست يد قاسم خلال لاسته، ثم قال: القوة عند الضرورة والحب في جميع الأحوال.

فهزَّ يحيى رأسه، وجعل يبتسم، ثم قال: لا عيب فيك إلا اهتمامك بالوقف، سوف يسوقك ذلك إلى متاعب لا حصر لها.

– كيف يعيش الناس بغير الوقف؟

فقال العجوز في مباهاة: كما عاش رفاعة.

فقال قاسم بجد وأدب: عاش بمعونة أبيه ومحبيه، وخلف أصدقاء لم يستطع أحدهم أن يحذو حذوه، والحق أن حارتنا التعيسة في حاجة إلى النظافة والكرامة.

– ألا يجيء ذلك إلا بالوقف؟

– بلى يا معلم، بالوقف وبالقضاء على الفتونة، هنالك تتحقق الكرامة التي أهداها جبل إلى حيِّه، والحب الذي دعا إليه رفاعة، بل والسعادة التي حلم بها أدهم.

فضحك يحيى متسائلًا: ماذا أبقيت لمن يجيء بعدك؟

فتفكر مليًّا، ثم قال: إذا نصرني المولى فلن تجد الحارة حاجة إلى أحد بعدي.

ودارت الجوزة كملاك في حلم، وغنَّى الماء في القنينة، وتثاءب يحيى تثاؤب الانسجام، ثم تساءل: ماذا يبقى لأحدكم إذا وُزع الريع بالتساوي؟

فقال صادق: إنما نريد الوقف لنستغله وبذلك تصير الحارة امتدادًا للبيت الكبير!

– وماذا أعددتم من عمل؟

واختفى ضياء القمر وراء سحابةٍ عابرة فساد الدهليزَ الظلامُ، ولكن لم تمضِ دقيقة حتى انْهَلَّ الضياء. ونظر يحيى إلى جسم حسن المفتول وتساءل: هل يستطيع ابن عمك أن يهزم الفتوات؟

وإذا بقاسم يقول: إني أفكر جادًّا في مشاورة محامٍ شرعي!

فصاح يحيى: أي محام يقبل أن يتحدى الناظر رفعت وفتواته؟

واختلط ذهول الكيف بوجوم الفكر. ورجع الأصدقاء الثلاثة فيما يشبه القنوط. وعانى قاسم في خلواته مُرَّ العذاب، وركبه الهم والكدر حتى قالت له قمر ذات يوم: ما ينبغي أن نهتم بسعادة الناس إلى حد إشقاء أنفسنا!

فقال بحدة: ينبغي أن أكون عند حسن الظن الذي وُضع فيَّ.

– ماذا أنت فاعل؟ لماذا لا تتزحزح عن حافة الهاوية؟ هاوية اليأس المليئة بالصمت والركود، مقبرة الأحلام المغطاة بالرماد، ذئب الذكريات الجميلة والأنغام المطربة، طارحة الغد في كفن الأمس.

لكنه دعا يومًا صادق وحسن إليه وقال لهما: آن لنا أن نبدأ!

فتهلَّل وجهاهما وقال حسن: هاتِ ما عندك.

فقال بصوتٍ دبَّت فيه الحياة: انتهيتُ من تفكيري إلى قرار، وهو أن ننشئ ناديًا للرياضة البدنية!

وعقدت الدهشة لسانيهما فابتسم وهو يقول: سنجعله في حوش بيتي، والرياضة هواية منتشرة في أكثر الأحياء.

– وما علاقة ذلك بعملنا؟

وتساءل صادق بدوره: نادٍ لرفع الأثقال مثلًا! ما علاقة ذلك بالوقف؟!

فقال قاسم وعيناه تبرقان: سيجيء إلينا الشبان، حبًّا في القوة واللعب، وسيقع الاختيار على مَن هم أهل للثقة والاستعداد.

فاتسعت الأعين، وهتف حسن: سنكون عُصبة وأي عصبة!

– نعم، وسيجيء إلينا شبان من جبل وآخرون من رفاعة.

وشملتهم فرحةٌ غنَّاء، وبدا قاسم في مشيته وكأنه يرقص.

٧٦

جلس قاسم لصق النافذة بحيث يشاهد الحارة في يوم العيد. وما أبهج العيد في حارتنا!

لقد رشَّ السقَّاءون الأرض بالقرب، وزينت أعناق الحمير وأذيالها بالورود الاصطناعية، ورقص الفراغ بالألوان الفاقعة يرتديها الصغار وتنطلق بها البالونات، وركزت في عربات اليد الأعلام الصغيرة، واختلط الصياح والهتاف والتهليل بأصوات الزمامير، وتمايلت العربات الكارو بالراقصات والراقصين، وأغلقت الدكاكين واكتظَّت المقاهي والحانات والغرز. وعند كل ركن بزغت البشاشة، وقال قائل: «كل عام وأنتم بخير». وجلس قاسم في ثوبٍ جديد وإحسان واقفة في حجره متأبطة راحتيه، تجوس بيديها الصغيرتين في قسماته أو تنشب أظافرها في خديه. وارتفع صوت تحت النافذة يغني:

أصل اللي شبكتني مع المحبوب عيني ديّْ.

فذكر لتوه زفَّته السعيدة حتى رق قلبه. وهو رجل يحب الغناء والطرب. وكم تمنى أدهم أن يتفرغ للغناء في الحديقة الغنَّاء. وماذا يغني الرجل في العيد؟ أصل اللي شبكتني مع المحبوب عيني دي؟ صدق الرجل. فمنذ ارتفعت عيناه في الظلام إلى قنديل سُلب قلبه وعقله وإرادته. وها هو ذا حوش بيته يستحيل ناديًا لتقوية الأبدان وتطهير الأرواح. وهو مثلهم يرفع الأثقال ويتعلم التحطيب، وصادق امتلأت عضلات ذراعيه كما امتلأت من قبل — بفضل عمله في تبييض النحاس — عضلات ساقيه. أما حسن فيا له من ماردٍ عملاق! والآخرون ما أبهر حماستهم! وكان صادق حكيمًا يوم نصحه بدعوة المتعطلين والمتسوِّلين إلى ناديه، وسرعان ما تحمسوا لألعابه كما تحمسوا لأقواله. أجل إنهم قلة ولكنهم لطموحهم إذا وزنوا بأضعاف أضعافهم رجحوا بهم. وهتفت إحسان: «آد .. آد ..» فقبلها كثيرًا، وكان طرف جلبابه الجديد مبتلًّا تحتها. وترامى إليه من المطبخ دق الهاون وصوتا قمر وسكينة ومواء القطة. ومرت عربة كارو تحت الشباك وهي تنشد مصفقة:

الفاتحة للعسكري قلع الطربوش وعمل ولي.

وابتسم قاسم فتذكر ليلة غنَّى المعلم يحيى هذه الأنشودة وهو في تمام السطول. آه لو تستقيم الأمور فلا يبقى لك إلا الغناء يا حارتنا! غدًا يمتلئ النادي بالأعوان الأقوياء والصادقين. غدًا أتحدى بهم الناظر والفتوات وجميع العقبات. كي لا يبقى في الحارة إلا جدٌّ رحيم وأحفادٌ بررة، ويمحق الفقر والقذارة والتسول والطغيان، وتختفي الحشرات والذباب والنبابيت، وتسود الطمأنينة في ظل الحدائق والغناء.

واستيقظ من أحلامه على صوت قمر وهي تنهر سكينة في غضبةٍ داهمة. أنصت متعجبًا ثم نادى زوجته، وسرعان ما فتح الباب وجاءت قمر وهي تدفع الجارية أمامها وتقول: انظر إلى هذه المرأة! وُلدت في بيتنا كما ولدت أمها من قبلُ، ولا تتعفف عن التجسس علينا!

فنظر إلى سكينة بإنكار حتى هتفت بصوتها النحاسي: لست خائنة يا سيدي ولكن ستي لا ترحم!

وقالت قمر وفي عينيها فزع أخفقت في مداراته: رأيتها تبتسم وتقول لي: «سيجيء العيد القادم إن شاء الله وسيدي قاسم سيد الحارة كلها كما كان جبل في حي حمدان!» .. سلها عما تعني بذلك؟

وقطب قاسم مهتمًّا، وسألها: ماذا تعنين يا سكينة؟

فقالت الجارية بجرأة غير غريبة عليها: أعني ما قلت؛ لست خادمة كالخادمات، أعمل اليوم هنا وغدًا هناك؛ إني ربيبة هذا البيت، وما كان يجوز أن يخفى عني سر.

فتبادل الرجل نظرةً سريعة مع زوجته، وأشار إلى الطفلة فجاءت وتلقَّتها منه، وأمر الجارية أن تجلس فجلست عند قدميه وهي تقول: أيصحُّ أن يعلم بسرِّك غرباء عن البيت وأظل أجهله أنا؟!

– أي سر تقصدين؟

فقالت الجارية بنفس الجرأة: حديث قنديل إليك عند صخرة هند!

ندت عن قمر آهة، ولكن قاسم أشار إلى الجارية أن تستمر فقالت: كما حدث لجبل ورفاعة من قبلُ، لستَ دونهما يا سيدي. أنت سيد، حتى على عهد الرعي كنت سيدًا، وكنتُ الوسيط الذي جمع بينكما، ألا تذكر؟ كان يجب أن أعلم قبل الآخرين، كيف تأمن الغرباء ولا تأمن جاريتك؟! سامحكما الله، لكني أدعو لك بالنصر، نعم أدعو لك بالنصر على الناظر والفتوات، من ذا الذي لا يدعو لك بذلك؟!

فصاحت قمر وهي تهدهد الطفلة بحركةٍ عصبية: ما كان يجوز أن تتجسسي علينا، وسيظل العيب لاصقًا بذقنك.

فقالت سكينة في حرارة صادقة: لم أقصد التجسس وربي شهيد، ولكن نفذ إليَّ من الباب كلام لم يسعني إلا متابعته، وما كان في وسع إنسان أن يغلق أذنَيه دونه، إن ما يقطِّع قلبي يا ستي هو أنك لا تطمئنين إليَّ، لست خائنة، أنت آخر من أخون، ولحساب مَن أخونك؟ سامحكِ الله يا ستي.

كان قاسم يتفحصها بعناية، بعينيه وبقلبه، فلما انتهت قال بهدوء: أنت مخلصة يا سكينة، لا شك في إخلاصك.

فحدجته بنظرة مستطلعة مؤملة، وتمتمت: عشت يا سيدي، أنا والله كذلك.

فقال بصوتٍ خفيض: أنا أعرف المخلصين، ولن تنبت الخيانة في بيتي كما نبتت في بيت أخي رفاعة. يا قمر .. هذه المرأة مخلصة مثلك فلا تسيئي إليها بالظن، هي منا كما نحن منها، ولن أنسى أنها كانت رسول السعادة إليَّ.

فقالت قمر بصوت نمَّ عن بعض الارتياح: لكنها استرقت السمع!

فقال قاسم باسمًا: لم تسترق السمع، ولكن الصوت نفذ إليها بمشيئة المولى، كما سمع رفاعة صوت جده دون تدبير منه. مباركة أنت يا سكينة!

فخطفت الجارية يده وانهالت عليها لثمًا وتقبيلًا وهي تقول: روحي فداؤك يا سيدي، والله لتنتصرن على أعدائك وأعدائنا حتى تسود الحارة كلها.

– ليست السيادة مطلبنا يا سكينة!

فبسطت يديها داعية: اللهم حقق مطالبه!

– آمين!

ثم نظر إليها باسمًا وهو يقول: وستكونين رسولي إذا احتجت إلى رسول، وبذلك تشتركين في عملنا!

فتهلل وجه المرأة بشرًا، ونطقت عيناها بالعزة، فأردف قائلًا: إذا أذنت الأقدار بأن يوزع الوقف كما نريد فلن تحرم منه امرأة، سيدة كانت أم خادمة!

عقدت الدهشة لسان المرأة، فعاد يقول: قال الواقف: إن الوقف للجميع، وأنت يا سكينة حفيدة الواقف مثل قمر سواء بسواء.

واكتسى وجه المرأة بالبهجة ورنت إلى سيدها بامتنان. وترامت من الحارة أنغام مزمار راقصة. وصاح صائح: «لهيطة .. ألف مرة». فتحوَّل قاسم نحو الطريق فرأى موكب الفتوات وهم يخطرون على الجياد المزينة، والناس تستقبلهم بالهتاف والإتاوات، ثم مضوا نحو الخلاء؛ ليتنافسوا كعادتهم في الأعياد في مضمار السباق والتحطيب .. وما إن اختفى موكبهم حتى ظهر عجرمة في الحارة وهو يترنَّح سكرًا. ابتسم قاسم لدى ظهور الشاب الذي يُعدُّ من أصدق شباب النادي، وتابعه بعينيه حتى وقف في مركز الوسط من حي الجرابيع وصاح: أنا جدع!

فهبط عليه صوتٌ ساخر من أول ربع في حي آل رفاعة قائلًا: يا زين الجرابيع!

فرفع عجرمة نحو النافذة عينين حمراوين وصاح بصوتٍ مخمور: جاء دورنا يا غجر!

والتفَّ حوله غلمان وسكارى ومساطيل في ضجةٍ عالية من الغناء والزغاريد والطبل والزمر، وإذا بصوتٍ يصيح: اسمعوا .. جاء دور الجرابيع .. ألا تريدون أن تسمعوا؟!

فهتف عجرمة وهو يترنح: جدٌّ واحد للجميع، وقفٌ واحد للجميع. والسلام على الفتونة.

ثم غاب في الزحام. وسرعان ما وثب قاسم واقفًا فتناول عباءته، وغادر الحجرة مسرعًا وهو يقول: الله يلعن الخمرة وزمانها!

٧٧

– تجنبوا الظهور بين الناس وأنتم سكارى.

قال قاسم ذلك جادًّا مقطبًا وهو جالس تحت صخرة هند يقلب عينيه في وجوه أصحابه المقربين من أعضاء النادي: صادق وحسن وعجرمة وشعبان وأبو فصادة وحمروش. كان الجبل يلوح من ورائهم شامخًا وهو يتلقى طلائع الليل الهابطة، ولم يكن في الخلاء إلا راعي غنم يقف معتمدًا على عصاه في أقصى الجنوب. وبدا عجرمة مطرقًا أسيفًا وهو يقول: ليتني متُّ قبل ذلك.

فقال قاسم في فتور: من الأخطاء ما لا يجدي معه الاعتذار، المهم عندي الآن أن أعرف مدى أثر هذيانك في أعدائنا!

قال صادق: من المؤكد أنه سُمع على نطاقٍ واسع.

وقال حسن متجهِّمًا: لمست ذلك بنفسي في قهوة جبل حيث دعاني صديق من آل جبل إلى مجالسته، فسمعت رجلًا يحكي بصوتٍ مرتفع ما كان من أمر عجرمة. أجل كان يحكي وهو يضحك هازئًا، ولكني لا أستبعد أن تثير حكايته ريبة في بعض النفوس، كما أخشى انتقالها من فم إلى فم حتى تبلغ أحد الفتوات.

فقال عجرمة متنهدًا: لا تبالغ يا حسن.

فقال صادق: المبالغة خير من التهاون وإلا أُخِذنا من حيث لا نتوقع!

فقال عجرمة: أقسمنا ألا نخاف الموت!

فقال صادق محتدًّا: كما أقسمنا أن نحفظ السر!

فقال قاسم: وإذا هلكنا اليوم تبددت الآمال الكبار.

واشتد الوجوم مع الظلام الزاحف حتى عاد قاسم إلى الكلام قائلًا: ينبغي أن نتدبر الأمر.

فقال حسن: فلندبر أمرنا على افتراض أسوأ الاحتمالات.

فقال قاسم بصوتٍ كئيب: هذا معناه القتال.

وتحركت الرءوس تتبادل النظرات في الظلام، ومن فوقها انبثقت النجوم تباعًا، وهبَّ هواء يطوي في تضاعيفه بقايا من حر النهار كالنوايا السيئة. ثم قال حمروش: سنقاتل حتى الموت.

فقال قاسم ممتعضًا: ويستمر الحال كما كان!

فقال صادق: ما أسرع ما يقضون علينا!

فقال أبو فصادة مخاطبًا قاسم: من حسن الحظ أن هناك أسباب قُربى تجمع بينك وبين سوارس، كما تجمع بين حرمك وحرم الناظر، وفضلًا عن هذا وذاك كان لهيطة من أصدقاء أبيك في شبابه.

فقال قاسم بفتور: ربما أجَّل هذا القضاء، ولكنه لن يمنع وقوعه.

فسأل صادق برجاء: ألا تذكر أنك فكرت يومًا في الالتجاء إلى محامٍ شرعي؟

– وقيل لنا إنه لن يجرؤ محامٍ على تحدي الناظر والفتوات.

فقال عجرمة محاولًا التخفف من ذنبه: هناك محامٍ في بيت القاضي معروف بالجرأة.

ولكن صادق عاد يقول متراجعًا: أخشى ما أخشاه أن نجهر بالعداوة عن طريق القضية وتكون مخاوفنا من عواقب كلام عجرمة سابقة لأوانها.

فقال عجرمة: فلنشاور المحامي في الأمر، ولنتفق معه على تأجيل رفع الدعوى حتى تدفعنا الضرورة إلى ذلك، وسنجد من يواليها منا ولو من خارج الحارة.

ووافق قاسم والآخرون على هذا الرأي كإجراء احتياطي. وقاموا من فورهم فذهبوا إلى مكتب الشنافيري المحامي الشرعي ببيت القاضي. وقابلهم الشيخ فشرح له قاسم قضيتهم، وأخبره عن نيتهم في تأجيل رفع الدعوى إلى حين، على أن يستعد هو للأمر بدراسة الموضوع والتأهب لاتخاذ الإجراءات كافة. وعلى خلاف ظن أكثرهم قبل المحامي القضية، وقبض مقدم الأتعاب، فانصرفوا من لدنه مغتبطين. وتفرقوا، فعاد الصحاب إلى الحارة ومضى قاسم إلى المعلم يحيى. وجالسه في دهليز الكوخ يدخنان ويتبادلان الرأي. وبدا المعلم آسفًا على ما وقع ووصى قاسم باليقظة والحذر.

وعاد قاسم بعد ذلك إلى داره، ولما فتحت له قمر رأى في وجهها ما أزعجه فسألها عما وراءها فقالت: أرسل حضرة الناظر في طلبك!

فخفق قلب قاسم، وتساءل: متى؟

– آخر مرة منذ عشر دقائق!

– آخر مرة؟!

– أرسل إليك ثلاث مرات في ظرف ساعة.

واغرورقت عيناها وهي تتكلم، فقال: ليس هذا ما أنتظره منك.

فانتحبت قائلة: لا تذهب!

فقال وهو يتظاهر بالهدوء: الذهاب آمَنُ من التخلف، ولا تنسي أن هؤلاء اللصوص لا يعتدون على أحد في بيوتهم.

وبكت إحسان في الداخل فهرعت إليها سكينة، وقالت قمر: أجِّل ذهابك حتى أقابل أمينة هانم.

فقال بحزم: هذا لا يليق بنا. سأذهب من فوري، ولا داعي للخوف فلا أحد منهم يعرف عني شيئًا.

فتشبثت به قائلة: دعاك أنت لا عجرمة، أخشى أن يكون بعضهم قد وشى بك.

فتخلص منها برفق وهو يقول: قلت لك منذ اللحظة الأولى إن أيام الراحة وَلَّت، وجميعنا يعلم بأننا سنواجه الشر عاجلًا أو آجلًا، فلا تجزعي هكذا، وابقي بخير حتى أرجع.

٧٨

عاد البواب من داخل بيت الناظر وقال لقاسم في فتور وجفاء: ادخل.

ومضى أمامه فتبعه قاسم باذلًا جهده للسيطرة على مشاعره، وسطعته رائحة الحديقة الزكية دون أن يلتفت إليها، حتى وجد نفسه أمام مدخل البهو. وتنحى البواب عن طريقه فدخل ثابت الجنان بدرجة لم يكتشفها في نفسه من قبلُ. ونظر أمامه فرأى في أقصى البهو الناظر جالسًا على ديوان، وكان هناك شخصان، يجلس أحدهما على مقعد إلى يمين الناظر والآخر إلى يساره، لكنه لم يتبيَّنهما أو يُعْنَ بالالتفات إلى أحدهما، واقترب من مجلس الناظر حتى وقف على بعد أذرع منه، فرفع يده بالتحية وقال بأدب: مساء الخير يا حضرة الناظر.

ولمح دون قصد الجالس إلى يمينه فإذا به لهيطة، ولحظ الآخر لكن عينيه حملقتا فيه بلا وعي منه، وتلقى صدمة كادت أن تهيضه. لم يكن الرجل إلا الشيخ الشنافيري المحامي الشرعي! أدرك خطورة الموقف، إن سره انكشف، إن المحامي النذل خان الأمانة، وإنه وقع. التحم في قلبه اليأس بالغيظ والغضب. وعرف أنه لن ينجيه المكر أو الدهاء فصمم على الصمود والتحدي. ولم يكن في الوسع أن يتراجع خطوة، فكان عليه أن يتقدم أو يثبت على الأقل. وقد ذكر موقفه هذا فيما تبع من أيام، وكان يؤرخ به مولد شخص جديد في ذاته لم يكن يتصور وجوده. وانتزعه من دوامته صوت الناظر الجاف وهو يتساءل: أنت قاسم؟

فأجاب بصوتٍ طبيعي: نعم يا سيدي.

فسأله دون أن يأذن له بالجلوس: هل أدهشك وجود الأستاذ؟

فأجاب بنفس النبرة: كلا يا سيدي.

فتساءل بازدراء: أأنت راعي الغنم؟

– انقطعت عن رعي الغنم منذ أكثر من عامين.

– وماذا تعمل الآن؟

– وكيلًا لزوجتي في أملاكها.

فندَّت عن الناظر هزة رأس ساخرة، ثم أشار إلى المحامي آذنًا له بالكلام فقال الشيخ مخاطبًا قاسم: لعلك تعجب من موقفي باعتباري محاميك، ولكن لحضرة الناظر مكانة تعلو على هذه الاعتبارات جميعًا. وسيفسح تصرفي لك مجالًا للتوبة وهو خير من التورط في عداوة كانت ستؤدي بك إلى الهلاك. وقد أذن لي حضرة الناظر في أن أخبرك بأنني تشفَّعت لك عنده بالعفو إذا أعلنتَ التوبة، فأرجو أن تقدر حسن نيتي، وهاك مقدم الأتعاب أرده إليك.

فرمقه قاسم بنظرةٍ قاسية وتساءل: لماذا لم تنصحني بالحق وأنا في مكتبك؟

فأُخذ المحامي بجرأته، ولكن الناظر أسعفه بقوله: أنت هنا لتُسأل لا لتَسأل!

ونهض المحامي مستأذنًا بالانصراف، ثم مضى وهو يحبك جبته مداراة لارتباكه. وعند ذاك تفحص الناظر قاسم بنظرةٍ قاسية وقال بنبرة كالسبِّ: كيف سولت لك نفسك الشروع في رفع دعوى عليَّ؟

وجد نفسه محاصرًا، فإما القتال وإما القتل، ولكنه لم يدرِ ماذا يقول؟ فقال الآخر: انطق، خبِّرني عما وراءك، هل أنت مجنون؟

فقال قاسم في وجوم: أنا عاقل بحمد الله.

– لا يبدو هذا مؤكدًا، لماذا أقدمت على فعلتك المنكرة؟ لم تعد فقيرًا مذ رضيتك المجنونة زوجًا لها، فماذا أردت من فعلتك؟

فزمجر قاسم كأنما ليأمن الغضب وقال: لا أريد شيئًا لنفسي.

فنظر الناظر نحو لهيطة كأنما يشهده على غرائب ما يسمع، ثم أعاد عينيه إلى قاسم فيما يشبه الثورة، وصاح: إذن لماذا فعلت ما فعلت؟!

فأجاب قاسم: ما أردت إلا العدل.

فضيَّق الرجل عينَيه في حقدٍ وتساءل: أتحسب أن علاقة زوجتك بالهانم قادرة على حمايتك؟

فغضَّ بصره وهو يقول: كلا يا سيدي!

– هل أنت فتوة قادر على تحدي فتوات الحارة جميعًا؟

– كلا يا سيدي.

فصرخ الرجل: قل إنك مجنون وأرحني.

– أنا عاقل والحمد لله.

– لماذا شرعت في رفع دعوى عليَّ؟

– أردتُ العدل.

– لِمَن؟

فارتسم التفكير في عينَيه وهو يقول: للجميع.

فتفرَّس في وجهه مرتابًا في عقله، وتساءل: وما شأنك أنت؟

فقال قاسم وكأنه ثمل بشجاعته: بذلك تتحقق شروط الواقف!

فصرخ الناظر: أنت يا جربوع تتكلم عن شروط الواقف؟!

فقال قاسم بهدوء: إنه جدُّنا جميعًا.

فهبَّ الناظر واقفًا في غضب وهوى بشعر منشَّته على وجه قاسم بأقصى قوته وصاح: جدنا؟! ليس فيكم مَن يعرف أباه، ولكنكم تقولون بكل وقاحة جدُّنا، يا لصوص يا جرابيع يا سفلة، إنما تتمادى في وقاحتك استنادًا إلى حماية هذا البيت لك ولزوجتك، ولكن كلب البيت يفقد حمايته إذا عضَّ يد المحسنين إليه.

ووقف لهيطة ليُسكن من ثورة الناظر فقال: عُد إلى مجلسك مطمئنًا فلا يصح أن تكدر صفوك ذبابة.

فجلس رفعت وشفتاه ترتعشان من الغضب، وصاح: حتى الجرابيع يطمعون في الوقف ويقولون بكل وقاحة جدُّنا.

وعاد لهيطة إلى مجلسه وهو يقول: الظاهر أن ما تناقله الناس عن الجرابيع صحيح، ومن سوء حظ حارتنا أنهم يسعون إلى الهلاك بأقدامهم.

والتفت إلى قاسم وقال: كان أبوك من أعواني الأوائل فلا ترغمني على قتلك.

فصاح الناظر: إنه يستحق ما هو أفظع من القتل جزاء فعلته، ولولا الهانم لكان الساعة في الهالكين!

وواصل لهيطة استجواب قاسم قائلًا: أَصْغِ إليَّ يا بني، وخبِّرني عمَّن وراءك؟

فتساءل قاسم وهو ما زال يستشعر الألم عند موقع المنشة من وجهه: مَن تقصد يا سيدي؟

– مَن دفعك إلى رفع الدعوى؟

– لا أحد سوى نفسي.

– كنتَ راعي غنم ثم ابتسم لك الحظ، ففيم تطمع أكثر من ذلك؟

– العدل، العدل يا معلم.

فصرَّ الناظر على أسنانه وهتف: العدل؟! يا كلاب يا أراذل، هذه كلمة السر عندكم إذا اعتزمتم النهب والسرقة.

ثم ملتفتًا نحو لهيطة: قرِّره حتى يقرَّ!

فعاد لهيطة يقول بصوت تتجمع في نبراته نذر الوعيد: خبِّرني عمن وراءك!

فقال قاسم بتحدٍّ خفي: جدُّنا!

– جدنا؟!

– نعم، اطلِّع على شروط وقفه وستعلم أنه هو الذي دفعني.

وهبَّ رفعت واقفًا مرةً أخرى وهو يصيح: أبعده عن وجهي .. ارمه خارجًا.

وقام لهيطة فأخذ قاسم من ذراعه، ومضى به نحو الباب، وشدَّ على ذراعه بقبضة من حديد تحمَّلها الآخر متصبرًا، ثم همس في أذنه: اعقل إكرامًا لنفسك، ولا تضطرني إلى أن أشرب من دمك.

٧٩

دخل قاسم داره فوجد بها زكريا وعويس وحسن وصادق وعجرمة وشعبان وأبو فصادة وحمروش. تطلعوا إليه في إشفاق وصمت، ولما جلس إلى جانب زوجته قال عويس: ألم أنصحك؟

فقالت قمر في عتاب: مهلًا يا عمي حتى يستريح.

فهتف الرجل: شر المتاعب ما تجيء صاحبها من نفسه!

وجعل زكريا يتفحص وجه قاسم بعناية ثم قال: أهانوك يا ابن أخي، إني أعرفك كما أعرف نفسي، ما كان أغناك عن هذا كله!

وقال عويس: لولا أمينة هانم ما رجعتَ إلينا سالمًا.

وقلَّب قاسم عينَيه في وجوه صحبه وقال: خاننا المحامي اللئيم!

فتصلبت وجوههم، وتبادلوا النظرات في انزعاج، فسبقهم عويس إلى الكلام قائلًا: انفضَّوا بسلام، وليحمد كلٌّ منكم الله على نجاته.

وسأله حسن: ما قولك يا ابن عمى؟

فتفكر قاسم قليلًا ثم قال: لا أخفي عنكم أن الموت يتهددنا، وأني أعفي من معاونتي مَن يشاء.

فقال زكريا: فلينتهِ الأمر عند هذا الحد.

فقال قاسم بهدوء وتصميم: لن أتخلَّى عن الأمر مهما تكن العواقب، ولن أكون دون جبل أو رفاعة برًّا بجدي وأهل حارتنا.

فقام عويس غاضبًا وغادر حجرة الجلوس وهو يقول: هذا الرجل مجنون، وكان الله في عونكِ يا بنت أخي.

أما صادق فوثب إلى قاسم وقبَّل جبينه وهو يقول: رددت إليَّ روحي بما قلت.

وقال حسن متحمسًا: الناس في حارتنا يقتلون بسبب مليم، وبلا سبب، فلماذا نخاف الموت عندما نجد له سببًا حقًّا؟!

وارتفع صوت سوارس من الحارة مناديًا زكريا فأطل الرجل من النافذة ودعاه إلى الدخول، وما لبث أن دخل الحجرة وجلس وهو مقطب متجهِّم. ثم نظر إلى قاسم وقال: لم أكن أدري أن في حيِّنا فتوة سواي.

فقال زكريا مشفقًا: ليس الأمر كما قيل لك.

– ما قيل لي أدهى وأمرُّ!

فقال زكريا متأوهًا: عبث الشيطان بعقول أولادنا.

فقال سوارس بجفاء: أسمعني لهيطة كلامًا ثقيلًا بسبب ابن أخيك، كنت أحسبه فتًى عاقلًا، فإذا بجنونه يفوق كل جنون. اسمعوا جيدًا، إذا تهاونت معكم جاء لهيطة ليؤدبكم بنفسه، ولكني لن أسمح لأحد بأن يعرِّض كرامتي للمهانة، فالزموا حدودكم، والويل لمن تحدثه نفسه بالعناد.

وراح سوارس يراقب أعوان قاسم فلم يسمح لأحد منهم بالاقتراب من بيته، وفي سبيل ذلك أهان صادق ولكم أبو فصادة، وطلب إلى زكريا أن ينصح قاسم بالتزام داره حتى تُنسى الزوبعة؛ ووجد قاسم نفسه سجينًا في بيته، لا يزوره أحد سوى ابن عمه حسن. ولكن ما من قوة تستطيع أن تسجن الأخبار في الحارة؛ فقد تسللت إلى حيي رفاعة وجبل همسات عما يضطرب في حي الجرابيع، عن دعوى كادت أن تُرفع على الناظر، وعن مزاعمَ خاصة بالشروط العشرة، بل عن اتصال وقع بين قنديل خادم الجبلاوي وبين قاسم. وثارت النفوس بشتى الانفعالات، وتطايرت التهم والسخريات. وقال حسن يومًا لقاسم: الحارة تتهامس بالخبر، وفي كل غرزة لا حديث إلا عنك.

فرفع قاسم إليه وجهًا غائمًا بالهمِّ والفكر كشأنه في الأيام الأخيرة وقال: انقلبنا سجناء، والأيام تمرُّ بلا عمل.

فقالت قمر بإشفاق: لا يطالب مخلوق بما فوق طاقة البشر.

وقال حسن: إخواننا على أشد ما يكون من الحماس.

فسأله قاسم: أحق أن آل جبل وآل رفاعة يرمونني بالكذب والجنون؟!

فغضَّ حسن بصره متألمًا وقال: الجبن أفسد الرجال!

فهزَّ قاسم رأسه في حيرة وتساءل: لماذا يكذبني آل جبل وآل رفاعة ومنهم من قابله الجبلاوي أو حادثه؟ لماذا يكذبونني وهم أولى الناس بتصديقي وتأييدي؟!

– إن داء حارتنا الجبن ولذلك فهم ينافقون فتواتهم!

وارتفع من الطريق صوت سوارس كالخوار، وهو يسبُّ ويلعن فأطلت الأسرة من الشباك فرأوا سوارس ممسكًا بتلابيب شعبان وهو يصرخ فيه: ماذا جاء بك هنا يا ابن الزانية؟

وعبثًا حاول الشاب التخلص من قبضته، وإذا بسوارس يقبض على عنقه بيسراه وينهال باليمني ضربًا على وجهه ورأسه. وغضب قاسم غضبًا شديدًا فتراجع عن الشباك وهرع نحو الباب غير مبالٍ بتوسلات قمر. وفي أقل من دقيقة كان يقف أمام سوارس ويقول له بحزم وتصميم: اتركه يا معلم سوارس.

فلم يكفَّ الرجل عن تكييل الضربات لفريسته وصاح بقاسم: احترم نفسك وإلا أبكيتُ عليك عدوك!

وقبض قاسم على يده الضاربة وشدَّ عليها بقوة هاتفًا بغضب: لن أدعك تقتله، وافعل ما تشاء.

وترك سوارس شعبان فانهار على الأرض في غيبوبة، وخطف مقطف تراب من فوق رأس امرأة عابرة وألبسه رأس قاسم. وهمَّ حسن بالوثوب عليه لولا أن طوقه زكريا بذراعه في الوقت المناسب الذي وصل فيه. ورفع قاسم المقطف عن رأسه فبدا وجهه كالمختنق وانسال التراب على رأسه وثوبه حتى غطَّاه، وسرعان ما تملكته نوبة سعال. وصرخت قمر وصوتت سكينة، وجاء عويس مهرولًا، وانطلق النساء والرجال والصغار من الأبواب نحو الموقعة فعلا اللغط والضوضاء. وكان زكريا يشد على ذراع ابنه حسن بكل قواه وينظر في عينَيه الجاحظتَين بتوسل وتحذير. واقترب عويس من سوارس قائلًا: امسح العيب في وجهي أنا يا معلم سوارس.

وهتف أكثر من صوت: «شفاعة لله يا معلم!» .. حتى صرخ سوارس قائلًا: هذا قريب وذاك شفيع، وبين هذا وذاك ضاع سوارس وانقلب مَرَة بعدما كان فتوة!

فصاح زكريا: أستغفر الله يا معلم، أنت سيدنا وتاج رأسنا.

ومضى سوارس إلى القهوة، فرفع رجالٌ شعبان، وراح حسن ينفض التراب عن وجه قاسم وثوبه، واستطاع المتجمعون — بعد اختفاء سوارس — أن يعبروا عن أسفهم.

٨٠

وفي مساء ذلك اليوم ضج أحد الربوع بحي الجرابيع بالصوات ينعى ميتًا. أطلقته حنجرةٌ متهالكة وسرعان ما رددته عشرات الحناجر في الربوع. وأطل قاسم من النافذة فسأل فطين بياع اللب فأجابه الرجل: «تعيش أنت، شعبان مات!» وغادر الرجل داره فزعًا فقصد ربع شعبان على مبعدة ربعين من داره. وهنالك وجد الحوش مظلمًا ومكتظًّا بسكان الشقق التحتانية الذين راحوا يتبادلون كلمات الرثاء والحزن والسخط، على حين تجاوبت دهاليز الأدوار الفوقانية بالصوات. وسمع امرأة تقول بعنف: لم يمت ولكن قتله سوارس.

– إلهي يخرب بيتك يا سوارس!

فاعترضت ثالثة تقول: ما قتله إلا قاسم! يفتري الأكاذيب ورجالنا تقتل.

فانقبض قلب قاسم حزنًا، وشقَّ طريقه في الظلام حتى صعد إلى أول دور حيث توجد شقة القتيل. ورأى على ضوء سراج مثبت في حائط الدهليز أمام الشقة أصحابه حسن وصادق وعجرمة وأبو فصادة وحمروش وآخرين، فأقبل صادق نحوه وهو يبكي فعانقه دون أن ينبس. وقال حسن وقد بدا وجهه مروعًا تحت الضوء الشاحب: لن يذهب دمه هدرًا.

واقترب عجرمة من قاسم وهمس في أذنه: زوجته في حالةٍ سيئة حتى إنها حمَّلتنا مقتله.

فهمس قاسم له: كان الله في عونها.

وقال حسن في نبرةٍ انتقامية: القاتل لا بد أن يُقتل.

فقال أبو فصادة بغيظ: مَن ذا الذي يشهد عليه في حارتنا؟

فقال حسن: لكننا نستطيع أن نقتل كالآخرين.

فلكزه قاسم ليسكته وقال: من الحكمة ألا تسيروا في جنازته ولكننا سنجتمع في القرافة.

واتجه قاسم نحو شقة الفقيد فاعترضه صادق ليمنعه ولكنه نحَّاه جانبًا ودخل. ونادى زوجته فجاءت متعجبة تطالعه بعينَين دامعتَين، ثم تحجرت نظراتها وسألته: ماذا تريد؟

فقال بحزن: جئت أعزيك.

فقالت بحدة: أنت قتلته، ما كان أغنانا عن الوقف، وأحوجنا إليه هو!

فقال برقة: ربنا يصبرك، ويهلك المجرمين، ونحن أهلك كلما احتجت إلى أهلك، ولن يضيع دمه.

رمقته شزرًا واستدارت راجعة. وبرجوعها انفجر النواح والعويل، فغادر المسكن كئيبًا مغتمًّا.

وعندما طلع الصباح رأى الناس سوارس جالسًا عند مدخل قهوة دنجل يقلب في المارين وجهًا مدموغًا بالتحدي والإجرام. وحيَّاه الناس مضاعفين له التودد مداراة لسخطهم. وتجنبوا الاشتراك في العزاء فلبثوا في دكاكينهم أو وراء عرباتهم أو فوق التراب. وخرج النعش محمولًا عند الضحى واقتصر المشيعون على الأهل والأقارب، ولكن قاسم انضم إليهم غير مبالٍ بنظرات الفتوة المحرقة. وغضب صهر القتيل فقال لقاسم محتدًّا: تقتل القتيل وتمشي في جنازته؟!

فلاذ بالصمت والصبر حتى سأله آخر بخشونة: لماذا جئت؟

فقال بإصرار: لأقاتل كما قاتل صديقي — رحمه الله — كان شجاعًا، ولستم كما كان، وتعرفون القاتل وتصبُّون غضبكم عليَّ.

فوجم أكثرهم. وتجمهرت النساء وراء الرجال، حافيات يهرولن بالسواد، يحثون التراب فوق رءوسهن ويلطمن الخدود. واخترقت الجنازة الجمالية نحو باب النصر. ولما تمت مراسم الدفن تفرق المشيعون إلا قاسم، فقد تباطأ في السير حتى تخلف عنهم، ورجع إلى القبر فوجد أصحابه في الانتظار. واغرورقت عيناه بالدمع فأجهشوا جميعًا بالبكاء. وجفف عينيه براحته وقال: مَن يرد السلامة فليذهب.

فقال حمروش: لو كنا نريد السلامة ما وجدتنا حولك.

فقال وهو يطرح يده على شاهد القبر: عزَّ عليَّ فقده. كان شجاعًا متحمسًا، وذهب غدرًا ونحن في أشد الحاجة إليه.

فقال صادق: قتله فتوةٌ غادر، وسوف يبقى منا بعض ليشهدوا مصرع آخر فتوة في حارتنا.

فقال حمروش: ولكن لا ينبغي أن نضيع غدرًا كما ضاع فقيدنا، فكِّروا في الغد وكيف نحقق النصر؟! وكيف نجتمع لتبادل الرأي؟

فقال قاسم: لم يكن لي من أنيس في سجني إلا التفكير في هذا، واهتديت إلى رأي، ليس باليسير ولكن لا محيد عنه.

فاستطلعوه متسائلين فأردف: اهجروا حارتنا، فليدبر كلٌّ شأنه وليهاجر. سنهاجر كما هاجر جبل قديمًا وكما هاجر المعلم يحيى بالأمس، ولنُقِم نادينا في مكانٍ آمن بالخلاء حتى يشتد ساعدنا ويكثر عددنا.

فهتف صادق: نِعم الرأي.

– لن نطهر حارتنا من الفتونة إلا بالقوة، ولن نحقق شروط الواقف إلا بالقوة، ولن يسود العدل والرحمة والسلام إلا بالقوة، وستكون قوتنا أول قوةٍ عادلة غير باغية.

استمعوا بقلوبٍ واعية. وتطلعوا إلى قاسم، وإلى القبر وراء ظهره، فخيل إليهم أن شعبان يشاركهم الاستماع ويباركه. وقال عجرمة متأثرًا: نَعم فبالقوة تحل المشاكل، القوة العادلة غير الباغية، كان شعبان يقصدك عندما اعترضه سوارس. لو كنا معه لاعترض الفتوة قوة لا يسهل قهرها، لعنة الله على الخوف والتفرق.

استروح قاسم لأول مرة نسمة ارتياح وابتهاج فقال: لقد وضع جدنا ثقته بين أيدينا وهو عن يقين يؤمن بأن في أبنائه من هم أهل لحملها.

٨١

ورجع قاسم إلى بيته عند منتصف الليل، لكنه وجد قمر مستيقظة تنتظره. وبالغت أكثر من عادتها في العناية به والحنوِّ عليه، وكان يؤلمه بقاؤها مستيقظة حتى تلك الساعة، ثم تبين له ذبول في عينَيها واحمرار يخلفه البكاء كما تخلف الشمس الشفق، فتساءل في كآبة: هل كنتِ تبكين؟

لم تجبه، كأنما شغلت عنه بكوب اللبن الدافئ الذي تعدُّه له، فعاد يقول: موت شعبان أحزننا جميعًا — رحمه الله.

فبادرته قائلة: بكيت على شعبان قبل ذلك، لكنني كنت أبكي كلما تذكرت اعتداء الرجل عليك، أنت آخر رجل يستحق أن يُهال التراب على رأسه ووجهه.

فقال محزونًا: ما أخفَّ هذا بالقياس إلى ما أصاب صاحبنا المسكين!

فجلست إلى جانبه وهي تقدم له الكوب وتمتمت: وكم يضايقني ما يقال عنك!

فابتسم متظاهرًا بالاستهانة ورفع الكوب إلى فيه، فأردفت مغيظة: إن جلطة يؤكد لآل جبل أنك طامع في الوقف لتستأثر به وحدك، وهكذا يقول حجاج في آل رفاعة، ويشيعان عنك أنك تنتقص من جبل ورفاعة.

فقال دون أن يخفي ضيقه: أعرف ذلك، كما أعرف أنه لولاكِ لما كنت حتى اليوم حيًّا.

فربتت كتفه بحنان. وإذا بها تتذكر الأيام الماضية لغير ما سبب؛ أيام لم تكن لأحاديثهما نهاية ولا لسعادتهما غاية، وأفراح الليالي المضيئة بعد مولد إحسان. هي اليوم لا تملك منه شيئًا ولا يملك هو من نفسه شيئًا، حتى آلام المرض التي تنتابها أحيانًا تخفيها عنه؛ إنه لا يفكر في نفسه فكيف تشغله بنفسها؟ وهي تخجل أن تثقل عليه حتى لا تعين أعداءه بغير قصد عليه. مَن ذا الذي يطمئنها عليه وأيام العمر تولي كما وَلَّت أيام الراحة؟ سامحك الله يا حارتنا. وعاد قاسم يقول: لا يغيب عني الأمل ولو في الظلام، وما أكثر الأصدقاء الصادقين وإن بدوت وحيدًا! تحدَّى أحدهم سوارس، فمن كان يجرؤ على ذلك من قبلُ، والآخرون مثله، والشجاعة أخطر ما يلزم حارتنا كي لا تقضي العمر تحت الأقدام، فلا تنصحيني بالسلامة، إن الذي قُتل، قُتل وهو في طريقه إلى داري، وأنتِ لا ترضين لزوجك بمذلة الجبن.

ابتسمت قمر وهي تسترد الكوب فارغًا، وقالت: إن زوجات الفتوات يزغردن عند المعارك وهي شر، فكيف أرضى بأن أكون دونهن للخير؟

وأدرك أن حزنها أخطر مما تبديه فربت خدها بحب وقال معزيًا: أنتِ كل شيء لي في دنياي، أنتِ خير رفيق في الحياة.

فابتسمت استدعاءً للسكينة التي يجب أن تسبق النوم.

وعجب عم شنطح مبيض النحاس من اختفاء صادق، وكان سعى إليه في داره فلم يجد له ولا لأحد من ذويه أثرًا. وعبد الفتاح الفسخاني كذلك لم يجد لعامله عجرمة أثرًا في الحارة. ولم يعد أبو فصادة إلى مقلى حمدون ولم ينذره بغيابه. وأين حمروش؟ قال حسونة الفران: إنه اختفى كأن نيران الفرن التهمته. وآخرون ذهبوا بلا عودة. وانتشر الخبر في حي الجرابيع وامتدت منه أصداء إلى بقية الحارة حتى قال الناس في حيي جبل ورفاعة هازئين: إن الجرابيع يهاجرون وإن سوارس لن يجد مع الأيام مَن يحصِّل منه الإتاوة. واستدعى سوارس زكريا إلى قهوة دنجل وقال له منذرًا: ابن أخيك خير من يدلنا على سر الهاربين.

فقال زكريا: يا معلم سوارس لا تظلمه، مضت أيام وأسابيع وأشهر والرجل لا يغادر داره.

فقال الفتوة مزمجرًا: ألاعيب أطفال، لكني استدعيتك لأحذرك مما قد يصيب ابن أخيك.

– قاسم من دمك، ولا تُشمِت بنا العدو!

– هو عدو نفسه وعدوي، إنه يتوهم نفسه جبل هذا الزمان، وهذه اللعنة هي أقرب سبيل إلى باب النصر.

فقال زكريا في جزع: حلمك يا معلم سوارس، نحن جميعًا في حمايتك!

ولما رجع زكريا إلى مسكنه صادف حسن راجعًا من بيت قاسم فأفرغ فيه الحنق الذي ملأه به سوارس، غير أن حسن قاطعه قائلًا: صبرك يا أبي، قمر مريضة، مريضة جدًّا يا أبي.

وعلمت الحارة بمرض قمر حتى بيت الناظر. ولازمها قاسم وهو في غاية من الكآبة والحزن. وكان يهز رأسه في حيرة ويقول: في لحظة واحدة ترقدين بلا حول!

فقالت المرأة بصوتٍ ضعيف: كنت أخفي عنك حالي رحمة بقلبك المثقل بالمتاعب.

فقال في حزنٍ شديد: كان ينبغي أن أشاركك آلامك من أول الأمر.

فانفرجت شفتاها الشاحبتان عن ابتسامة كالزهرة الذابلة في عودٍ ناضب، وقالت: ستعود الصحة إلى سابق عهدها.

بذلك دعا قلبه. لكن ما هذا الغيم يغشى العين؟ وما هذا الجفاف يسري في الوجه؟ وما تلك القدرة على إخفاء الألم؟ ذلك كله من أجلك أنت. يا إلهي احفظها برحمتك. وأبقها لي، واعطف على بكاء الطفلة الذي لا ينقطع!

– سماحكِ معي جعلني لا أسامح نفسي.

فابتسمت مرةً أخرى فيما يشبه العتاب. وجيء بأم سالم لتبخِّرها، وأم عطية لتعدَّ لها بعض المعاجين، وإبراهيم الحلاق ليحجنها، ولكن أم إحسان استعصت فيما بدا على الشفاء. وقال لها قاسم: وددت لو أفتديكِ من ألمك.

فأجابت بصوتٍ واهن كالصمت: لا أصابك سوء.

ثم مردفة: … يا أحب الناس إلى قلبي.

وقال لنفسه: «لمنظرها تسودُّ الدنيا في عيني!»، وقالت هي: العاقل مثلك آخر من يعزُّ عليه العزاء.

وجاء زائرون وزائرات، ولكنه ضاق بالمكان ففرَّ إلى سطح البيت. كانت أصوات النساء ترتفع من نوافذ الربوع، واللعنات تختلط بنداءات الباعة في الطريق، وبكاء طفل حسبه لأول وهلة صوت إحسان حتى رأى صاحبه وهو يتمرغ في تراب سطحٍ مجاور. وكان الظلام يهبط وئيدًا، وسرب من الحمام يعود إلى برجه، ونجمة وحيدة تومض في الأفق. وتساءل عن معنى النظرة الغريبة التي تلوح في عينَي قمر، كأنها لا ترى، وعن اهتزازات جانب فمها غير الإرادية، وعن الزرقة التي تصبغ شفتَيها، وعن شعوره البالغ بالانقباض! ولبث ساعات ثم نزل، فقابل سكينة في الصالة حاملة إحسان بين يديها فقالت له همسًا: ادخل على مهل كي لا توقظها.

واستلقى على الكنبة المواجهة للفراش في ضوءٍ خافت ينبعث من مصباح فوق أرضية الشباك. ولم يكن ثمة صوت في الحي إلا نواح الرباب، ثم تلاه طاطا الشاعر قائلًا: «فقال الجد بهدوء: رأيت أن أعطيك فرصة لم تتح لأحد ممن في الخارج، وهي أن تعيش في هذا البيت، وأن تتزوج به، وأن تبدأ حياةً جديدة فيه.

فتتابعت دقات قلب همام في نشوة من الأفراح، وقال: الشكر لك على نعمتك.

– إنك تستحقها.

واختلج نظر الشاب بين جده وبين السجادة، ثم تساءل في إشفاق: وأسرتي؟

فقال الجبلاوي في عتاب: قلتُ ما أريد بوضوح.

فقال همام باستعطاف: إنهم يستحقون رحمتك وعفوك!»

وندَّت عن النائمة حركة لا تخلو من عنف فوثب من فوق الكنبة إليها. رأى في عينيها بريقًا جديدًا حلَّ محل الغيم، فسألها عما بها فهتفت بصوتٍ قوي: إحسان! أين إحسان؟!

غادر الحجرة مسرعًا، ثم عاد وفي أثره سكينة حاملة الصغيرة النائمة. وأشارت قمر نحو إحسان فقربتها سكينة إليها حتى لثمت خدها، على حين جلس قاسم على حافة الفراش. ومالت عيناها إليه، ثم همست: ما بي أعظم!

فمال نحوها متسائلًا: ماذا تعنين؟

– آلمتك كثيرًا ولكن ما بي أعظم.

فعضَّ شفته ثم قال: قمر، أنا حزين لأني عاجز عن تخفيف ألمك!

فقالت بإشفاق: أخاف عليك من بعدي.

فقال في حزنٍ شديد: لا تتحدثي عني.

– قاسم، ارحل، الحق بأصحابك، سيقتلونك إن بقيت.

– نرحل معًا.

فقالت بمشقة: ليس الطريق واحدًا.

– لا تريدين أن ترحميني كما عودتني.

– آه، كان ذلك في الأيام الماضية!

وبدت كأنها تقاوم ضغطًا شديدًا فلوَّحت بيدها. واشتد ميله نحوها حتى امتلأ بأنفاسها. وتلوَّت، وامتدت رقبتها كالمستغيثة، وانطلق صدرها في عنف، وزفر حشرجةً قاسية، فصاحت سكينة: أجلسها، تريد أن تجلس.

فأحاطها بذراعيه ليجلسها ولكن ندت عنها شهقة كأنها وداعٌ أبكم، وانهار رأسها على صدره. وهرولت سكينة بالطفلة إلى الخارج.

ومن الخارج دوَّى صواتها يمزق الصمت.

٨٢

وفي الصباح ازدحم بيت قاسم والطريق أمامه بالمُعزِّين. إن لصلات القربى في الحارة احترامًا متأصلًا لا تحظى بجزء منه شتى الفضائل مجتمعة. فلم يكن بد من أن يجيء سوارس معزيًا، وما أسرع أن أقبل وراءه الجرابيع! ولم يكن بُد من أن يجيء الناظر رفعت معزيًا فتبعه على الأثر لهيطة وجلطة وحجاج، وما أسرع أن أقبل وراءهم كل من هبَّ ودبَّ، فانتظمت الجنازة جموعًا غفيرة لم تشهد لها الحارة مثيلًا من قبلُ إلا في جنازات الفتوات. وتحلى قاسم بصبر الرجل الحكيم على رغم آلامه الدفينة. وحتى في ساعة الدفن بكت جميع حواسه وجوارحه إلا عينَيه. وانصرف المعزون حتى لم يبقَ في المدفن إلا قاسم وزكريا وعويس وحسن، وعند ذاك ربت زكريا عضد قاسم وقال بأسًى: شد حيلك يا ابن أخي، كان الله في عونك.

فانحنى عوده قليلًا وهو يزفر من الأعماق، وغمغم: قلبي دفن في التراب يا عمي.

فتقلص وجه حسن تأثرًا، وساد صمت المدفن كأشد ما يكون الصمت. وانتقل زكريا خطوة وهو يقول: آن لنا أن نذهب.

لكن قاسم تشبث بموقفه وهو يقول في استياء: ما الذي جاء بهم؟

ففطن زكريا إلى مَن يعني بقوله فقال: لهم الشكر على أي حال.

فتشجع عويس قائلًا: ابدأ معهم من جديد، فهذه الخطوة منهم تتطلب منك خطوات، ومن حسن الحظ أن ما يُقال عنك خارج حيِّنا لا يؤخذ مأخذ الجد!

فآثر أن يغوص في الصمت والحزن على مجادلته. وإذا بجماعة تقبل على رأسها صادق وكأنما كانوا يرصدون اختفاء المُعزِّين. كانوا كثرة وليس فيهم غريب فعانقوا قاسم حتى دمعت عيناه. وقلَّب عويس عينَيه فيهم بامتعاض ولكن أحدًا لم يأبه له، وقال صادق مخاطبًا قاسم: لم يعد ثمة ما يبقيك في الحارة.

لكن زكريا قال معترضًا في حدة: ابنته وداره وأملاكه هناك.

وقال قاسم بلهجةٍ ذات مغزًى: كان بقائي في الحارة ضروريًّا فبفضله ازددتهم مع الأيام عددًا!

ونظر إلى الوجوه المتطلعة إليه كأنما يستشهد بكثرتها على صدق قوله. فأكثرهم ممن أغراهم بالهجرة واللحاق بأصحابه حينما كان يتسلل من داره كل ليلة عقب نوم الحارة فيقصد مَن يأنس فيهم مودة وحسن استعداد للاقتناع بكلامه. وسأله عجرمة: هل يطول بنا الانتظار؟

– حتى يتجمع عندكم عددٌ كافٍ.

وانتحى به صادق جانبًا فقبَّله وهمس له: قلبي يتقطع حزنًا لك، فإني أدرى الناس بقسوة فجيعتك.

فعاوده التأثر، وهمس: صدقت، ما أقسى الألم!

ورمقه بإشفاق ثم قال: عجِّل باللحاق بنا فإنك اليوم وحيد.

– كل شيء رهن بوقته.

وقال عويس بصوتٍ مرتفع: ينبغي أن نعود.

وتعانق الصحاب مودعين، وعاد قاسم ورفاقه. ومضت الأيام وهو في داره وحيد كئيب حتى خافت عليه سكينة عواقب الحزن. ولكنه واصل جولاته الليلية الخفية بهمة لا تعرف الوهن. ومضى عدد المختفين في النمو وأخذ الناس يتساءلون حيارى. واشتدت السخرية بحي الجرابيع وفتوتهم في بقية الحارة، وقالوا: إن نوبة سوارس في الهرب ستجيء اليوم أو غدًا. وقال له عمه زكريا ذات يوم محذرًا: هذه حال تدعو إلى أشد القلق، وتُخشى عواقبها.

ولكن لم يكن من الانتظار بُد. وكانت أيامًا مليئة بالعمل والخطر، وكانت إحسان البسمة الوحيدة في وجهه المتجهم. وكانت تتعلم الوقوف معتمدة على أطراف المقاعد ثم تتطلع إليه بوجهها الصافي وتحدثه بلغة العصافير والبلابل. وكان ينعم النظر في وجهها بحنان ويقول لنفسه: ستكون طفلةً جميلة ولكن الأهم عندي أن تكون كأمها طيبة وحنانًا. وسرَّه أن تطالعه بعينَيها السوداوين في وجه قمر المستدير لتظل رمزًا باقيًا للعلاقة المحبوبة التي مزَّقها الدهر. وترى هل يمتد به العمر حتى يراها عروسًا في الحسان أو كتب عليها ألَّا تجني من دار مولدها إلا أليم الذكريات؟

ويومًا طرق باب الدار طارق فذهبت سكينة تتساءل: من القادم؟ فجاءها صوت يافع قائلًا: افتحي يا سكينة.

فتحت الباب فرأت فتاة في الثانية عشرة أو تزيد، ملفوفة على غير المألوف في ملاءة وعلى الوجه حجاب. دهشت سكينة وسألتها عما تريد، ولكنها سارعت إلى حجرة قاسم وهي تقول بلهوجة: مساء الخير يا عمي!

ونزعت النقاب فبدا وجهٌ بدريٌّ قمحي بديع القسمات، يقطر خفة، فقال قاسم متعجبًا: أهلًا بك، اجلسي، أهلًا وسهلًا.

قالت وهي تجلس على حافة الكنبة: أنا بدرية، وأرسلني إليك أخي صادق.

فقال قاسم باهتمام: صادق!

– نعم.

ورنا إليها مستطلعًا، ثم قال: ماذا دفعه إلى هذه المخاطرة؟

فقالت باهتمام زادها ملاحة: لا يمكن أن يعرفني أحد في الملاءة.

وأدرك أن جسمها أكبر من سنها فهزَّ رأسه كالمطمئن فأردفت في مزيد من الاهتمام: إنه يقول لك أن غادر الحارة فورًا، فإن لهيطة وجلطة وحجاج وسوارس تآمروا على قتلك الليلة.

قطب كالمنزعج على حين شهقت سكينة، وسألها: كيف علم بذلك؟

– أخبره المعلم يحيى.

– ولكن كيف عرف يحيى ذلك؟

– أفشى سكران السر في حانة كان بها صديق للمعلم يحيى. هذا ما قاله أخي.

وجعل ينظر إليها صامتًا حتى قامت وأخذت تحبك الملاءة حول جسدها الغض، فقام بدوره وهو يقول: أشكركِ يا بدرية، تخفَّيْ جيدًا، وبلِّغي تحياتي إلى أخيك، واذهبي بسلام.

فأسدلت النقاب على وجهها وتساءلت: ماذا أقول له؟

خبِّريه بأننا سنلتقي قبل الصباح.

فصافحته ثم ذهبت.

٨٣

اصفرَّ وجه سكينة ونطق بعينيها الذعر، وهتفت قائلة: فلنغادر البيت دون إبطاء.

وتوثبت للتحرك فقال لها: لفِّي إحسان وأخفيها في شملتك واخرجي كأنك ذاهبة لبعض شأنك ثم اقصدي مدفن المرحومة وانتظري هنالك.

– وأنت يا سيدي؟!

– سألحق بكِ في الوقت المناسب.

فترددت عيناها بين الحيرة والجزع فقال بنبرةٍ مطمئنة: سيذهب بكما حسن إلى المكان الذي سنقيم فيه.

وفي ثوانٍ تأهبت للرحيل فلثم إحسان مرات، ثم قالت له المرأة وهي تمضي نحو الباب: استودعتك الحيَّ الذي لا يموت.

ووقف وراء الخصاص يراقب الطريق فرأى الجارية وهي تسير نحو الجمالية حتى غيبها المنعطف. وجعل قلبه يخفق وهو يرنو إلى ثنية ذراعها حول الحمل الثمين. وأجال بصره في الحي فرأى رجالًا من أعوان الفتوات، بعضهم يجلس بقهوة دنجل والبعض يتسكع هنا وهناك، وتكاد معالمهم تذوب في الظلام الزاحف. الدلائل تقطع بأنهم يتأهبون. ولكن هل يتربصون به حتى يخرج لجولته الليلية إن كان سرُّها انكشف لهم؟ أو سيطبقون على داره في آخر الليل؟ إنهم ينتشرون منذ الآن على سبيل الحيطة أن يكون سر مؤامرتهم انكشف. وها هم أولاء يدبون في الظلام كالحشرات تفوح من أنفاسهم رائحة الجريمة، فهل يلقى مصير جبل أو مصير رفاعة؟ هكذا وجد رفاعة نفسه في ليلة من الليالي المظلمة. وتوارى في داره بقلبٍ مفعم بالنوايا الطيبة وأسفل الدار تدب أقدامٌ غليظة تنضح جلود أصحابها بشهوة الدم. متى تكفين عن سفك الدماء يا حارتنا التعيسة؟ ومضى يتمشى في الحجرة ذهابًا وجيئةً حتى طرق الباب وترامى إليه صوت حسن وهو يناديه. وجاء حسن بجسمه الضخم وعيناه تعكسان نظرةً قلقة، فقال: في الحي حركة غريبة .. مريبة!

فسأله دون اكتراث ظاهر لملاحظته: هل عاد عمي من تجواله؟

– كلا، لكني أقول: إنه توجد في حيِّنا حركة مريبة، انظر من شيش الشباك!

– رأيت ما أزعجك وعرفت ما وراءه. حذرني صادق في الوقت المناسب بإرسال أخته الصغيرة إليَّ، وإذا صدقت رسالته فالفتوات سيحاولون قتلي الليلة، لذلك هرَّبتُ إحسان مع سكينة وهما ينتظرانك في مدفن المرحومة، فاذهب إليهما وسيروا جميعًا إلى مقر إخواننا.

– وأنت؟

– سوف أهرب بدوري وألحق بكم.

فقال حسن بعزم: لن أتركك وحدك!

فقال برجاء لم يخلُ من استياء: افعل ما قلت لك دون تردد، سأهرب بالحيلة لا بالقوة، ولن تنفعني قوتك إذا ألجأتنا الظروف إلى المقاومة، ولكن ذهابك سيحمي ابنتي، ويمكنك أن تضع بعض رجالنا على رءوس الطرق من الجمالية حتى الجبل لعلهم يهبون إلى مساعدتي إن احتجت لهم عند الهرب.

أذعن حسن لإرادته، فصافحه بقوة وقال: ليس كمثل عقلك شيء، فلعلك أعددت للأمر عدته.

فأجابه بابتسامةٍ مطمئنة، وذهب حسن بوجهٍ عابس. ولم يمضِ طويل وقت حتى جاء عم زكريا وهو يلهث، فأيقن أنه عائد من عند المعلم يحيى بالخبر، فبادره قائلًا: أرسل إليَّ صادق بالخبر.

فقال الرجل باضطرابٍ ظاهر: علمت به منذ قليل لدى مروري بالمعلم فخشيتُ ألا يكون بلغك.

فأجلسه قاسم وهو يقول كالمعتذر: اعفُ عما أسبب لك من متاعب.

– كنت أتوقع هذا من زمن، ووجدت من سوارس تغيرًا في المعاملة فرحت أكذب نفسي، ورأيت اليوم الشياطين منتشرين كالجراد، وأنت وحيد ويتعذر عليك الهرب.

فاشتد عوده في تصميم وهو يقول: سأحاول، وإذا فشلت فهناك في الجبل رجال لا يغلبون.

فقال زكريا في ضجر: ما قيمة هذا كله بالنسبة لحياتك أو طفلتك!

فقال قاسم معاتبًا: إني أعجب كيف لم تكن على رأس أعواني!

فقال وكأنه لم يسمع قوله: تعالَ معي إلى سوارس نساومه ونتعهد له بما يشاء!

فضحك قاسم ضحكةً مقتضبة، سخرت من اقتراح عمه دون كلام. والتفت زكريا إلى الشيش يطالع من خلاله الطريق فبدا مظلمًا مخيفًا. وانتبه على صوت قاسم وهو يتساءل: لماذا اختاروا الليلة بالذات؟

فأجاب زكريا: أول أمس جهر رجل من جبل بأن قضيتك كانت لخير الجميع، وقيل مثل ذلك عن رجل من رفاعة، فلعل ذلك ما دفعهم إلى التعجيل.

فتهلل وجه قاسم وقال: أرأيت يا عمي؟ أنا عدو الناظر والفتوات ولكني صديق حارتنا، وسيعلم الجميع ذلك.

– فكر الآن فيما ينتظرك.

فقال قاسم باهتمام: إليك خطتي، سأهرب عبر الأسطح حتى بيتك تاركًا مصباحي مُضاء للتضليل.

– قد يراك أحد.

– لن أشرع في الهرب حتى تخلو الأسطح من السمار.

– وإذا سبقوا بالهجوم على دارك؟

– لن يقع هذا حتى تنام الحارة.

– قد يبلغ بهم الاستهتار حدًّا لا تتصوره.

فقال باسمًا: في هذه الحال أموت، ومَن ذا يدفع الأجل؟

فرفع الرجل إليه وجهًا ينطق بالرجاء، لكنه طالع ابتسامة هادئة ثابتة كأنها التصميم مجسدًا فقال يائسًا: قد يفتشون داري.

– من حسن الحظ أنهم لا يعلمون بتسرب مؤامرتهم إلينا، ولذلك سأسبقهم إلى الهرب إن شاء الله.

وتبادلا نظرةً طويلة، أفصح من الدمع، ثم تعانقا. ولما وجد نفسه وحيدًا تغلب على تأثره واقترب من النافذة يراقب الطريق. بدا الحي في حياته المألوفة. فالصغار يلعبون حول مصابيح العربات، والقهوة تعجُّ بالسمار، والأسطح تضج بأحاديث النساء؛ وسعال المدخنين يتخلله الفحش والسباب، ونواح الرباب يرتفع، وهذا سوارس رابض على عتبة القهوة، ورسل الموت تحتل الأركان. يا سلالة الخيانة ويا لصوص البشر، منذ أطلق إدريس ضحكته الباردة وأنتم تتوارثون الجريمة وتغرقون الحارة في بحر من الظلمات؛ ألم يئن للطير الحبيس أن ينطلق؟

ومضى الوقت وئيدًا ثقيلًا، ولكنه حمل ليل السمار إلى غايته. صمتت الأسطح، وخلا الطريق من العربات والصغار، وأقفرت المقاهي، وعلت إلى حين أصوات الأشباح العائدة، ورجع من الجمالية السكارى وهم يهلوسون، حتى الغرز أطفأت المجامر، ولم يبقَ في الظلام إلا ندامى الموت. وقال لنفسه: «حان وقت العمل!» وسارع إلى السلم فرقاه إلى السطح. ومضى إلى السور الفاصل بين سطحه والسطح الملاصق فعبره دون عناء وهمَّ بالجري، وإذا بشبح يعترضه قائلًا: «قف!» فأدرك أن الأسطح محتلة بالقتلة وأن حصاره أحكم مما قدر. واستدار ليرجع ولكن الآخر وثب نحوه وأحاطه بذراعَين قويتَين؛ واستدعى قوته التي ضاعفها الخوف، وفاجأه بضربة في بطنه ففك حصار ذراعَيه، وثنَّى بركلة في بطنه أيضًا فسقط وهو يشهق ثم لم يقم. وجاءت سعلة مكتومة من السطح الثالث أو الرابع جعلته يعدل عن التقدم فتراجع مضطربًا إلى سطحه. وقف عند السلم يتنصت فسمع وقع أقدام صاعدة! وتكتل الصاعدون أمام باب شقته. وخبطوا الباب خبطةً شديدة فانفتح وهو يكاد يقتلع، ثم تدافعوا إلى الداخل. وهبط مسرعًا دون أن يضيع ثانية حتى انتهى إلى الحوش. وسارع إلى الباب. ولمح خارج الدار شبحًا يتحرك فانقض عليه قابضًا على عنقه، ثم نطحه برأسه، وطعن بطنه بركبته، ودفعه فاستلقى على ظهره دون حراك. واندفع نحو الجمالية وضربات قلبه تتلاحق. الآن تبين لهم خلو الدار، ولعل بعضهم يصعد إلى السطح؛ ليعثر على صاحبهم الملقى، ولعل الآخرين يهبطون في أعقابه. مَرَّ بربع عمه دون أن يتوقف، ولما اقترب من نهاية الحارة أطلق ساقيه. وعند اتصال الحارة بالجمالية وثب شبح في طريقه وصاح بصوت كالرعد لينبِّه الآخرين: «قف يا ابن اللئيمة!» ورفع نبوته قبل أن يحيد قاسم عن طريقه. ولكن شبحًا آخر ظهر من زاوية المنعطف وضرب الشبح الأول بهراوته على رأسه فهوى صارخًا ثم قال لقاسم: فلنجرِ بكل ما فينا من قوة.

وانطلق قاسم وحسن يجريان في الظلام دون مبالاة بما قد يعترضهما من حجر أو نقرة.

٨٤

عند مدخل حارة الوطاويط انضم صادق إليهما، وعند نهايتها وجدوا عجرمة وأبو فصادة وحمروش حول عربة كارو ذات أربع عجلات، فاستقلُّوها مبادرين وانطلق الجواد بهم يلهبه سوط الحوذي. انطلقت العربة بسرعة على رغم الظلام، محدثة في سكون الليل صوتًا مزعجًا كالفرقعة المتواصلة، وهم يتلفتون إلى الوراء من خشية وتوجس. وقال صادق جلبًا للطمأنينة: سيجرون نحو باب النصر ظنًّا بأنك تلوذ بالخلاء حول المقابر.

فقال قاسم بارتياب: لكنهم يعلمون أنكم لا تقيمون عند المقابر.

غير أن سرعة العربة بدت حاسمة، وبفضلها غلب شعور بأنهم يبتعدون حقًّا عن الخطر. وعاد قاسم يقول في شيء من الارتياح: أحسنتم التنظيم والتدبير، وشكرًا لك يا صادق فلولا تحذيرك لكنت الساعة في الهالكين.

فشدَّ صادق على يده في صمت. وتواصل اندفاع العربة حتى لاح سوق المقطم على ضوء النجوم، يلفه الظلام والوحشة عدا نور مصباح ينبعث من كوخ المعلم يحيى. وعن حذر أوقفوا العربة وسط الميدان، ثم تركوها متجهين نحو الكوخ. وما لبث أن جاءهم صوت المعلم متسائلًا عن القادمين فأجابه قاسم، فارتفع صوته مرة أخرى بالحمد. وتعانق الرجلان عناقًا حارًّا، وقال له قاسم: إني مدين لك بالحياة.

فقال العجوز ضاحكًا: إنها المصادفة وحدها؛ لكنها وقعت لتنقذ رجلًا هو أول من يستحق الحياة، أسرعوا إلى الجبل، فالجبل خير حصن لكم.

وشدَّ قاسم على يده، ونظر على ضوء المصباح إلى وجهه في مودة وامتنان، فعاد العجوز يقول: اليوم أنت كرفاعة أو كجبل، وسوف أعود إلى حارتنا عندما يقيض لك النصر.

ابتعدوا عن الكوخ شرقًا يوغلون في الخلاء نحو الجبل، وتقدمهم صادق إذ كان أخبرهم بالطريق. وكانت ثمة رقة تمازج الظلام مبشرة بالفجر. والسماء تقطر ندًى رطيبًا. وترامى من بعيد صياح الديكة كصرخة المخاض لمولد يومٍ جديد. وبلغوا السفح فساروا بحذائه نحو الجنوب حتى عثروا على الممر الضيق الذي يصعد إلى مقامهم الجديد فوق الجبل. وصعدوا وراء صادق في طابور فردًا فردًا لضيق الممشى. وقال صادق لقاسم: أعددنا لك دارًا وسط ديارنا، وفيها الآن تنام إحسان.

فقال عجرمة: بيوتنا من الصفائح والخيش.

فقال حسن في مرح: ليست أسوأ كثيرًا من بيوتنا في الحارة!

فقال قاسم: حسبنا ألا نجد بيننا ناظرًا أو فتوة.

وهبطت إليهم أصوات فقال صادق: حارتنا الجديدة مستيقظة تنتظرك.

ورفعوا الرءوس فرأوا خيوط الضياء الأولى تطارد فلول الظلام. وصاح صادق بأعلى صوته: «هُوه» فأطلت رءوس رجال ونساء، وتعالى الهتاف والزغاريد، وانطلقت الحناجر تنشد:

يا محنِّي ديل العصفورة.

فاستخفَّ قاسم الابتهاج وقال بإكبار: ما أكثرهم!

فقال صادق بفخار: حارةٌ جديدة فوق الجبل، سكانها يتزايدون مع الأيام، وقد انضم إلينا بإرشاد المعلم يحيى جميع المهاجرين من حارتنا.

وقال حمروش: لا يتعبنا إلا أننا نسعى إلى أرزاقنا في الأحياء البعيدة خشية أن يعثر علينا أحد من حارتنا.

ولما صعد قاسم إلى السطح تلقَّاه الرجال بالعناق، وصافحته النساء، وارتفعت الأصوات بالتحيات والتهليل والتكبير، وكانت سكينة بين المستقبلين فأخبرته بأن إحسان نائمة في الكوخ الذي أُعِد لهم دارًا. وساروا جميعًا نحو الحارة الجديدة التي أقيمت على هيئة مربع من الأكواخ فوق مسطح من الجبل، وهم يهللون وينشدون، وقد ابتهج الأفق بالنور المتدفق كأنه بحيرة من الورد الأبيض. وهتف رجل: أهلًا بفتوتنا قاسم.

فتغير وجه قاسم وصاح مغضبًا: ألا لعنة الله على الفتوات جميعًا، فلا سلام ولا أمان حيث يوجدون.

وتطلعت إليه الوجوه الجديدة فقال: سنرفع النبابيت كما رفعها جبل، ولكن في سبيل الرحمة التي نادى بها رفاعة، ثم نستغل الوقف لخير الجميع حتى نحقق حلم أدهم. هذه هي مهمتنا لا الفتونة.

ودفعه حسن برفق نحو الكوخ الذي أُعدَّ له وهو يقول مخاطبًا الجميع: مضى الليل دون أن يغمض له جفن فدعوه الآن ليأخذ بعض حقه من الراحة.

استلقى قاسم على خيشة جنب ابنته وسرعان ما استغرق في النوم. واستيقظ فيما بين الظهيرة والعصر برأسٍ مثقل وجسدٍ متعب. وجاءته سكينة بإحسان فوضعها في حجره وراح يلثمها في حنان. وقدمت له المرأة كوز ماء وهي تقول: هذا الماء يحمل إلينا من الحنفية العمومية كما كانت تحمله زوجة جبل!

فابتسم الرجل، وكان يحب كل ما يربطه بذكريات جبل أو رفاعة. وألقى نظرة على داره الجديدة فرأى جدرانًا مغطاة بالخيش ولا شيء بعد ذلك، فضم إحسان إلى صدره بحنان أكثر. ونهض قائمًا فأعطى سكينة ابنته وغادر الكوخ؛ ليجد صادق وحسن في انتظاره، فجلس بينهما وهم يتبادلون تحية الصباح. وألقى نظرة على الحارة فلم تقع عينه إلا على امرأة أو طفل، فقال صادق موضحًا: ذهب الرجال إلى السيدة وزينهم سعيًا وراء الأرزاق وتخلفنا نحن حتى نطمئن عليك.

وتابعت عيناه النسوة العاملات في الطهي أو الغسل أمام الأكواخ، والأطفال اللاهين هنا وهناك، ثم تساءل: تُرى هل هن راضيات؟

فقال صادق: إنهن يحلمن بامتلاك الوقف والنعيم الذي تهنأ به أمينة هانم حرم الناظر!

فابتسم ابتسامةً عريضة ثم ردد بصره بينهما في بطء وتساءل: ماذا يدور في رأسيكما عن الخطوة التالية؟

فرفع حسن رأسه فوق منكبيه العريضين وقال: نحن على بينة مما نريد.

– ولكن كيف؟

– ننتهز غفلة ثم نهجم.

لكن صادق قال معترضًا: بل نصبر حتى نضم إلينا أكبر عدد من أهل حارتنا، ثم نهجم فنضمن النصر من ناحية وقلة الضحايا من ناحيةٍ أخرى.

فهتف قاسم وأساريره تنبسط: أحسنت!

وشملتهم طمأنينةٌ حالمة، وإذا بصوت يقول في استحياء: الطعام!

فرفع قاسم عينيه فرأى بدرية حاملة إناء فول وأرغفة وهي ترنو إليه بعينَين باسمتَين فما ملك إلا أن ابتسم قائلًا: أهلًا برسول الحياة إليَّ!

فوضعت الإناء بين يديه وهي تقول: أطال الله عمرك!

وذهبت إلى كوخ صادق فيما يلي كوخه. وداخلت نفسه رقة ورضا فتناول طعامه بشهية. وفي أثناء ذلك قال: لديَّ قدر من المال لا بأس به سينفعنا عند الحاجة.

ثم مردفًا بعد قليل: علينا أن نقتاد كل من نأنس فيه استعدادًا إلى مشاركتنا من أهل حارتنا، وما أكثر المظلومين الذين يتمنون لنا النصر ولا يقعدهم إلا الخوف!

وما لبث أن ذهب الرجلان إلى حيث سبقهما الآخرون فوجد نفسه وحده. وقام فمضى يتجول في المكان كأنما يتفقده. مرَّ بأطفال لاعبين فلم يلتفت إليه أحد منهم. أما النساء فكنَّ يحيينه بالدعاء. واستوقفت نظره عجوزٌ بالغة في الكبر، ذات رأسٍ مكلل بالبياض الناصع، وعينين تغشاهما سحابة الهرم، وذقن متقلقل كأنها تزدرد لحييها، فاقترب منها مُحَيِّيًا فردت التحية بالدعاء فسألها: مَن أمي؟

فأجابت بصوت كخشخشة الأوراق الجافة: أم حمروش.

– أهلًا بأُمِّنا جميعًا، كيف هان عليك أن تهجري حارتنا؟

– أطيب المكان ما يوجد فيه ابني.

ثم كالمستدركة: والبعد عن الفتوات غنيمة.

ثم تشجعت بابتسامته فقالت: رأيت رفاعة وأنا شابة!

فسألها باهتمام: حقًّا؟

– نعم وحياتك، كان لطيفًا جميلًا، ولكن لم يجرِ لي في خاطر أنه سيكون عنوان حي وحكاية من حكايات الرباب.

فسألها باهتمام متزايد: ألم تقصديه كالآخرين؟

– كلا، لم يكن يدري بنا في حيِّنا أحد، ولا كنا ندري بأنفسنا، ولولاك ما جرى ذكر للجرابيع على لسان.

وتفحصها بغرابة. وتساءل: ترى كيف يكون جدنا اليوم؟! لكنه ظل يبتسم لها برقَّة فدعت له طويلًا حتى ذهب. وواصل المشي حتى وقف عند رأس الممشى على حافة الجبل. ألقى نظرة على الخلاء أسفل ثم مدَّ البصر نحو الأفق. تراءت على البعد القباب والأسطح، كأنها ملامح متباعدة في كائنٍ واحد. وقال: إنه ما ينبغي أن تكون إلا شيئًا واحدًا. وهذا الشيء ما أصغره من علٍ! فلا معنى للناظر رفعت ولا للفتوة لهيطة. ولا فرق هنا بين رفعت وعمه زكريا. ومن العسير أن تهتدي من موقفك إلى الحارة المثيرة للمتاعب، لولا بيت الواقف الذي يبدو أنه يميَّز من أي موقع. بيت جدنا بسوره العجيب وأشجاره العالية. لكنه طعن في السن وخفت خشيته كهذه الشمس المائلة نحو الأفق. أين أنت؟ وكيف أنت؟ ولِمَ تبدو وكأنك لم تعد أنت؟ المزيِّفون لوصيتك على بُعد أذرع من منزلك. وهؤلاء النسوة والصغار المبعدون في الجبل أليسوا أقرب الناس إلى قلبك؟ ستعود إلى مكانتك عندما تنفذ شروط وقفيتك دون اغتيال ناظر أو اعتداء فتوة، كعودة الشمس غدًا إلى كبد السماء. ولولاك ما كان لنا أب أو حارة أو وقف أو أمل.

وأيقظه من تهويمته صوتٌ عذب يقول: القهوة يا معلم قاسم.

التفت وراءه فرأى بدرية باسطة راحتها بالفنجال فتناوله قائلًا: لِمَ التعب؟

– تعبك راحة يا سيدي.

وترحم على قمر، وراح يحسو القهوة في رفق، وبين الحسوة والحسوة تلتقي عيناهما في ابتسامة. ما ألذَّ القهوة عند طرف الجبل فوق الخلاء!

– ما عمرك يا بدرية؟

فثنت شفتيها داخل فيها ثم غمغمت: لا أدري.

– لكنك تدرين بما جاء بنا إلى الجبل؟

فترددت في استحياء ثم قالت: أنت!

– أنا؟!

– تريد أن تضرب الناظر والفتوات وتجعل الوقف لنا، هذا ما يقول أبي.

فابتسم. وانتبه إلى أنه أتى على ما في الفنجال لكنه سها عن رده، فرده إليها وهو يقول: ليت عندي من الشكر بعض ما تستحقين.

فاستدارت باسمة موردة وجرت، فتمتم قائلًا: تصحبك السلامة.

٨٥

وكان وقت الأصيل هو وقت التحطيب فينبري الرجال لممارسة التمرينات الشاقة بالنبابيت. ويبدأ ذلك عقب عودتهم بنقودٍ قليلة وطعامٍ بسيط بعد يومٍ شاقٍّ كادح ينقضي سعيًا وراء الرزق، هكذا يعودون نساءً ورجالًا. وكان قاسم أول المتبارين. وكم سره أن يرى حماسة رجاله وتوثبهم لليوم العصيب! أشداء بين الرجال ولكنهم يُكنُّون له من الحب ما لم تعرفه حارتهم الممزقة بالبغضاء. وترتفع النبابيت وتتهاوى وتتلاقى في ارتطاماتٍ شديدة، ويتفرج الغلمان ويقلدون، على حين تخلد النساء إلى الراحة أو يعددن العشاء. وصف الأكواخ يمتد طولًا بما ينضم إلى الحارة الجديدة من رجالٍ جدد. وأثبت صادق وحسن وأبو فصادة أنهم صيادون مهرة. كانوا يرصدون رجالًا من الحارة في مظانهم ولا يزالون بهم حتى يقنعوهم بالانضمام إليهم، فيهجروا الحارة خفية وراء آمال لم تشتعل من قبلُ في صدورهم. وكان صادق يقول لقاسم: لا أضمن مع هذا النشاط ألا يهتدي أعداؤنا إلى مقرنا.

فيقول له: لا سبيل إلينا إلا خلال الممر الضيق، وسيكون الهلاك نصيبهم إذا جاءوا منه.

وكانت إحسان هي سعادته الباقية، حين يلاعبها وحين يهدهدها وحين يناغيها، لكنها لم تكن كذلك حين تذكره بالراحلة فتطبق عليه الوحشة وتلفحه أنفاس الحنين. تلك التي خُطِفَت من بين يديه في أول الطريق، فتركته فريسة للوحشة كلما خلا إلى نفسه، وأحيانًا للندم كما حدث عند حافة الجبل يوم القهوة، أو يوم النظرة الرقيقة كنسمة العصاري.

وذات ليلة حرَن النوم أمام عينيه فوقع صيدًا معذبًا للوحشة والأرق في ظلمة الكوخ، فقام من فراشه وانطلق خارجًا. ومضى في الساحة بين الأكواخ تحت النجوم الساهرة يستقبل هواءً منعشًا؛ هواء الصيف عند منتصف الليل فوق الجبل. وإذا بصوت يناديه ثم تساءل صاحبه: إلى أين أنت ذاهب في هذه الساعة من الليل؟

فالتفت وراءه فرأى صادق وهو يقترب منه، فسأله: ألم تنم بعدُ؟

– لمحتك وأنا راقد أمام الكوخ، وأنت أطيب عندي من النوم.

وسارا جنبًا إلى جنب حتى حافة الجبل. فوقفا هنالك وقاسم يقول: الوحدة أحيانًا لا تُطاق.

فقال صادق ضاحكًا: تبًّا لها في جميع الأحيان.

ومدا البصر نحو الأفق فبدت الدنيا سماءً متلألئة فوق أرض غارقةٍ في الظلام. وعاد صادق يقول: أكثر رجالك أزواج أو ذوو أهل فهم لا يعرفون الوحشة.

فتساءل قاسم كالمستنكر: ماذا تعني؟

– مثلك لا يستغني عن امرأة.

واشتد الاحتجاج في صوته بقدر ما استشعر في قول الرجل من صدق، فتساءل: أتزوج بعد قمر؟!

فقال الرجل بإيمان: لو استطاعت أن تُسمِعك صوتها لأعادت على مسمعك رأيي.

واضطرب قاسم وجاش بالانفعال صدره، وقال وكأنه يخاطب نفسه: كأنها الخيانة بعد الحب والرعاية!

– ما أغنى الأموات عن إخلاصنا!

ماذا يعني الرجل الطيب؟ يقرر الصدق أم يبرر الهوى؟ ولكن للحقيقة طعمًا مرًّا في بعض الأحوال. وأنت نفسك لا تواجه نفسك بالصراحة التي واجهت بها الأوضاع في حارتك. والذي سوَّى هذه الأمور في عالمك هو الذي سوَّى هذه النجوم في السماء. والحق الذي لا مرية فيه أن قلبك يخفق كما خفق أول مرة. وتنهد بصوتٍ مسموع فقال صادق: أنت أول مَن يحتاج إلى أنيس.

ولما رجع إلى كوخه لمح سكينة واقفة عند الباب فتطلعت إليه كالمتسائلة وهي تقول بقلق: لمحتك خارجًا حين كنت أظنك في عز النوم!

فقال دون تمهيد لشدة ضغط أفكاره على رأسه: انظري إلى صادق كيف يحضُّني على الزواج؟!

فقالت سكينة كأنما تتلقف فرصة من السماء: وددت أن أسبقه!

– أنت؟!

– نعم يا سيدي، شدَّ ما يحزُّ في قلبي أن أراك جالسًا وحدك مستسلمًا للوحشة والفكر.

فأشار بيده إلى الأكواخ النائمة وقال: جميع هؤلاء معي.

– نعم ولكن لا أحد لك في دارك وأنا عجوز، رِجْلٌ فوق الأرض ورِجْلٌ في القبر.

وشعر بأن تلبثه دليل تقبُّلٍ لما تريد، ولكنه مع ذلك لم يدخل إلى كوخه وقال في نبرة رثاء: لن أجد زوجة مثلها!

– هذا حق، ولكن توجد بنات يبشرن بالسعد!

وتبادلا نظرة خلال الظلام، أُردفت بهنيهة صمت، ثم تمتمت الجارية: بدرية! ما ألطفها من فتاة!

فقال بدهشة تعدل خفقة قلبه: البنت الصغيرة؟!

فقالت وهي تداري ابتسامةً ماكرة: ما أنضجها وهي تقدم الطعام أو القهوة!

فتحوَّل عنها وهو يقول: يا شيطانة! لعنة الله على سلالتك!

وكان للخبر رنة فرح في حارة الجبل جميعًا؛ كاد صادق أن يرقص. وزغردت أمه حتى أسمعت الخلاء، وانهالت التهاني على قاسم. واحتفلت الحارة بالزفاف دون استدعاء لأحد من المحترفين، فرقصت نساء من بينهن أم بدرية. وغنى أبو فصادة بصوتٍ مليح:

أنا كنت صياد سمك
وصيد السمك غية.

وسارت الزفة حول الأكواخ مستضيئة بأنوار السموات. وانتقلت سكينة بإحسان إلى كوخ حسن على حين خلا كوخ قاسم للعروسين.

٨٦

لذَّ له حقًّا أن يراقب — من مجلسه على الفروة أمام الكوخ — بدرية وهي تعجن. هي صغيرة بلا جدال ولكن أي امرأة تفوقها في النشاط وتدبير الشئون؟! وتمطَّت من جهد، وبظهر راحتها رفعت ما تهدل من شعرها فوق الجبين، فبدت فاتنة غازية لسويداء القلب. ونمَّ تورد وجهها عن إحساسها بمتابعة عينَيه حتى توقفت في دلال، فضحك بسرور ومال نحوها فتناول ضفيرتها وقبَّلها مرارًا ثم عاد إلى جلسته. وكان سعيدًا خالي البال كشأنه في الأويقات التي يعتزل فيها أصدقاءه وأفكاره، وعلى بُعدٍ يسير مضت إحسان تتنقل من موضع إلى موضع على مرمى النظر من سكينة الرابضة فوق حجر. وتعالت ضجة عند رأس الممر. رأى صادق وحسن وبعض الأصدقاء قادمين نحوه حول رجل عرف فيه خردة الزبال من حي رفاعة فوقف من فوره لاستقبالهم على حين زغردت نساء كما يفعلن كلما انضم إلى الجبل رجلٌ جديد من أهل الحارة. وعانقه والرجل يقول: إني معكم، وجئت معي بنبوت!

فقال له هاشًّا باشًّا: أهلًا بك يا خردة، نحن لا نفرق بين حي وحي، فالحارة حارتنا، والوقف للجميع.

فضحك الرفاعي قائلًا: يتساءلون عن مكانكم ويتوقعون من ناحيتكم شرًّا، ولكن قلوبًا كثيرة تتمنى لك النصر.

وألقى نظرة على ما حوله فشملت الأكواخ والناس ثم قال بإعجاب: كل هؤلاء معك؟!

وقال صادق: جاء خردة بخبرٍ مهم.

فحدجه قاسم بنظرة متسائلة فقال خردة: اليوم يتزوج سوارس للمرة الخامسة. وستسير زفته هذه الليلة.

فقال حسن بحماس: هذه فرصة لا تتكرر للقضاء عليه.

وتحمس الرجال. وقال صادق: سنهجم يومًا على الحارة، فكلما تخلصنا من فتوة جاء الهجوم أيسر عناء وأضمن نتيجة.

وتفكر قاسم مليًّا ثم قال: سنهاجم الزفة. كما يفعل الفتوات، ولكن اذكروا دائمًا أننا نهاجم للقضاء على الفتونة.

وقبيل منتصف الليل تجمع الرجال عند حافة الجبل، ثم مضوا يهبطون رجلًا رجلًا وراء قاسم وأيديهم قابضة على نبابيتهم. كانت السماء صافية، والبدر يحتل منها الكبد، ونوره يضفي على الدنيا وشي الأحلام. وانتهوا إلى الخلاء فاتجهوا ناحية الشمال من وراء سوق المقطم ثم ساروا بحذاء الجبل حتى لا يضلوا الطريق. ولما اقتربوا من صخرة هند أقبل نحوهم شبح رجل كان يتحسس لهم الأخبار فقال لقاسم: ستسير الزفة نحو باب النصر.

وتعجب قاسم قائلًا: لكن زفاتنا تسير عادة نحو الجمالية.

فقال خردة: لعلهم يبتعدون عن الأماكن التي يظنون مقامكم قريبًا منها!

وفكر قاسم بسرعة ثم قال: سيذهب صادق وبعض الرجال إلى ما وراء بوابة الفتوح، ويمضي عجرمة وآخرون إلى خلاء باب النصر، وسأنتظر أنا وحسن وبقية الرجال وراء باب النصر، وعندما أدعوكم إلى الهجوم اهجموا.

وبدأ الرجال ينقسمون جماعات، وقبل أن يهموا بالرحيل قال: ركزوا الضرب على سوارس وأعوانه، أما الآخرون فسيكونون إخوانكم غدًا.

ومضت كل جماعة في طريقها وأوغل هو وحسن ومن معهما شمالًا بحذاء الجبل، ثم عدلوا إلى اليسار في طريق القرافة حتى كمنوا وراء البوابة. وكان هو ورجاله يحاصرون الطريق، فصادق يتربص يمينًا، وعجرمة يتوثب يسارًا، وهو يكمن وراء البوابة. وقال حسن: ستتجمع الزفة في قهوة الفلكي.

فقال قاسم: علينا أن نهاجمها قبل الوصول إلى القهوة كي لا نعتدي على قوم لا شأن لنا بهم.

ولبثوا في الظلام ينتظرون وقد توترت منهم الأعصاب. وبغتة قال حسن: شدَّ ما أذكر مقتل شعبان.

فقال قاسم: للفتوات ضحايا لا يحصيهم العدُّ.

وأرسل صادق صفيرًا وتبعه عجرمة فاشتدت عزيمتهم وقال حسن: إذا هلك سوارس تسارع أهل حيِّنا إلينا، وإذا جاء الآخرون للقضاء علينا أهلكناهم في الممر.

هذه الأحلام مثل ضوء القمر. وما هي إلا ساعة حتى يتقرر النصر لهم أو تتبخر الآمال مع أرواحهم المهدرة. وخُيِّلَ له أنه يرى شبح قنديل، وأنه يسمع نبرة قمر، وكأن دهرًا مضى مذ كان يرعى الغنم. وشدت قبضته على نبوته وقال لنفسه: لا يمكن أن ننهزم. وسمع حسن وهو يسأله: ألا تسمع؟

وأرهف السمع قليلًا حتى التقط أصداء من أنغام فقال: استعدوا، الزفة قادمة!

وأخذت الأصوات تقترب، وتتضح، ثم ترامى الزمر والطبل، وتعالت الآهات، وأطبق التهليل. ثم على ضوء المشاعل بدت الزفة وهي تتقدم، وتراءى سوارس للعين وسط هالة من الراقصين اللاعبين بالنبابيت. وتساءل حسن: أُصفِّر لعجرمة؟

فقال قاسم بثبات: عندما تصل طليعة الزفة إلى وكالة الثوم.

واستمر تقدم الزفة، واشتد الرقص واللعب. وأخذ راقص بنشوة الرقص فجعل يثب في الهواء ثم يدور أمام الزفة في سرعةٍ رشيقة راسمًا دائرة متموجة، والنبوت يدور مرتكزًا على راحته المرفوعة فوق رأسه كالمروحة، ومضى يتقدم خطوة عقب كل دورة حتى جاوز وكالة الثوم والزفة من ورائه تتقدم في بطء شديد حتى بلغ رأسُها الوكالة. عند ذاك صفر حسن ثلاثا؛ فهبط عجرمة ورجاله من عطفة الطماعين وانقضُّوا على مؤخرة الزفة تسبقهم نبابيتهم فاجتاح الاضطراب صفوفها وارتفع صراخ الغضب والخوف. وصفر حسن ثلاثًا مرة أخرى؛ فاندفع صادق ورجاله من السماكين على وسط الزفة من الناحية الأخرى قبل أن تفيق من الهجمة الأولى. وفي الحال هجم قاسم ورجاله من تحت البوابة على مقدمة الزفة هجمة رجلٍ واحد.

استردَّ سوارس ورجاله أنفاسهم من شرك المفاجأة فرفعوا النبابيت واشتبكوا في معركةٍ مريرة. وتطاير كثيرون من المسالمين فلاذوا بالحواري والأزقَّة. واشتد ارتطام النبابيت. وسالت الدماء من الأوجه والرءوس. وتحطمت كلوبات وتناثر الورد فطحنته الأقدام. وانطلق الصوات من النوافذ وأغلقت المقاهي أبوابها. وضرب سوارس بقسوة، وبخفة، فانطلق نبوته كالمجنون، مرة في هذه الناحية ومرة في تلك. واشتد الضرب وتكاثف الحقد كقطع الليل. ووجد سوارس نفسه بغتة أمام صادق فصرخ: يا ابن النجسة!

ووجه إليه ضربة فتلاقت مع ضربة وجهها صادق الذي ارتج وترنح. ورفع سوارس نبوته وهوى به مرة أخرى عليه فتلقاه بنبوته المرتكز على قبضته، غير أنه سقط على ركبتيه من شدة الصدمة. وهم بتوجيه الضربة الثالثة والقاضية، لكنه لمح حسن منقضًّا عليه كالوحش لإنقاذ صاحبه فتحول نحوه وهو يطفح بالغضب صائحًا: وأنت أيضًا يا ابن زكريا! يا ابن الزانية.

وأطلق نحوه ضربةً هائلة، لو لم يتفادَ منها بوثبةٍ جانبية لهلك، ثم طعن سوارس في أثناء وثوبه برأس نبوته فأصاب عنقه. عطلت الطعنة سوارس لحظات عن تسديد الضربة التالية، فسيطر حسن على توازنه ووجه ضربةً شديدة بقوته الخارقة فأصابت جبهة سوارس، وفجرت نافورة من الدم، وسرعان ما تراخت قبضته عن نبوته فهوى، وتراجع خطواتٍ مترنحة، ثم سقط على ظهره دون حراك، وعلا على أصوات النبابيت المتلاطمة صياح رجل: سوارس قتل!

فأدركه عجرمة بضربة نبوت فوق أنفه فصرخ، وتراجع فعثر بطريح فسقط. وقويت عزيمة رجال قاسم فاشتدت ضرباتهم، وتخاذل رجال سوارس، وهالتهم كثرة الساقطين من رجالهم فتقهقروا، ثم أسلموا أرجلهم للفرار. وأخذ رجال قاسم في التجمع حوله وهم يلهثون، البعض تسيل دماؤهم، والبعض يحملون جرحاهم. ونظروا صوب الأرض على ضوء الفوانيس الصادر من شراعات أبواب المقاهي أجسادًا مطروحة، منها ما لقي حتفه، ومنها ما راح في غيبوبة. ووقف حمروش فوق ظل سوارس وهتف: ليطمئن جثمانك يا شعبان!

فجذبه قاسم إلى جانبه وقال: يوم النصر قريب، يوم يلقى بقية الفتوات نفس المصير، يوم نصبح سادة حارتنا وأصحاب وقفنا وأحفادًا بررة لجدنا.

وعند عودتهم إلى الجبل استقبلتهم النساء بالزغاريد، وجرت مع الهواء أنباء النصر. وآوى قاسم إلى كوخه وبدرية تقول له: عليك غبارٌ كثير ودم، يجب أن تستحم قبل النوم.

ولما استلقى عقب الاستحمام تأوه من الألم. وأتت له بطعام وانتظرت أن يجلس ليتناوله، ولكن استولت عليه حال بين اليقظة والمنام. وشعر بارتياح كأنه السعادة ولكن شَابَه إحساس قلق كأنه الحزن، وقالت بدرية: تناول طعامك.

فنظر إليها بعينَين مثقلتَين حالمتَين وقال: ستشهدين النصر قريبًا يا قمر.

وانتبه إلى هفوة اللسان على أثر وقوعها، ورأى تغير وجه بدرية، فجلس في فراشه الأرضي وقال في تودد وارتباك: ما أشهى طعامك!

لكنها نفرت من توادده متجهمة فتناول قطعة من الطعمية قائلًا: جاء دوري لأدعوك للطعام!

فولَّت عنه وجهها وتمتمت: كانت طاعنة في السن ولا جمال لها!

فتقوضت قامته المنتصبة في كآبة كأنه تهدم وقال في عتاب وحزن شديدين: لا تذكريها بسوء، فمثلها لا ينبغي أن يذكر إلا بالرحمة.

فارتدَّ إليه رأسها متوثبًا لكنها رأت على صفحة وجهه حزنًا مخيمًا، فلاذت بالصمت.

٨٧

رجع المغلوبون يركبهم الخزي. ابتعدوا ما استطاعوا عن الأنوار المنبعثة من بيت سوارس حيث يتألق الجو ببهجة الفرح والطرب، وانحجز كل رجل في ربعه. وإذا بالأنباء السود تنتشر كالحريق، فتعالى الصوات في مساكن كثيرة وانطفأ العرس كأنما أهيل عليه التراب. انطلقت الحناجر تنعى سوارس، ثم تنعى من قُتل معه من رجاله. وامتد المصاب فشمل رجالًا من الرفاعية وآخرين من آل جبل ممن اشتركوا في الزفة. ومَن المجرم المعتدي؟ قاسم، قاسم الغنام، قاسم الذي كان ينبغي أن يظل متسولًا مدى عمره لولا قمر! وشهد رجل بأنه تبع عصابة قاسم في عودتها حتى اهتدى إلى ملجئها فوق المقطم. وتساءل كثيرون: هل يعتصم بالجبل حتي يقضي على رجال الحارة؟ واستيقظ النائمون وخرجوا إلى الحارة والرُّبوع تتجاوب بالصوات. وصرخ أحد رجال جبل في غضب: اقتلوا الجرابيع.

لكن جلطة أوقفه صائحًا: لا ذنب لهم، قُتل فتوتهم، وعددٌ وافر من رجالهم.

– أحرقوا المقطم!

– هاتوا جثة قاسم؛ لتأكلها الكلاب.

– عليَّ الطلاق لَأَشربن من دمه.

– الجربوع اللئيم الجبان.

– يحسب أن الجبل سيحميه!

– لن يحميه إلا القبر.

– كان يأخذ المليم من يدي ويبوس التراب.

– ويظهر بيننا بمظهر اللطيف الودود ثم يغدر بنا فيقتل الرجال.

وفي اليوم التالي: بدت الحارة في مأتمٍ شامل. وفي اليوم الثاني: اجتمع الفتوات في بيت الناظر رفعت الذي ركبه الغضب والحنق حتى قال لهم في تهكمٍ مرٍّ: لنحبس أنفسنا في حارتنا كي نأمن الموت.

وكان لهيطة أشدهم حرجًا، لكنه أراد أن يهون من الخطب تخففًا من مسئوليته فقال: ما هي إلا معركة بين فتوة وبعض رجال حيِّه!

فقال جلطة معترضًا: قُتل من حيِّنا رجل وجرح ثلاثة.

وقال حجاج: وقتل مِنَّا رجل.

فقال رفعت بمكر مخاطبًا لهيطة: اللطمة لاصقة بسمعتك يا فتوة الحارة!

فامتقع وجه الرجل غضبًا وقال: راعي غنم! والله لقد هزلت!

ولم يخفِ الناظر قلقه فقال: راعي غنم؟! فليكن، لكنه أصبح ذا خطر. استخففنا بهذيانه زمنًا وأغمضنا عنه العين إكرامًا لزوجته فاستفحل شره، وقد تَمَسكن حتى تَمَكَّن فقضى على فتوته وأعوانه، وهو الآن معتصم بالجبل ولن تقف أطماعه عند حد.

وتبادلوا النظرات في غضب فواصل الناظر حديثه قائلًا وهو يلوح للناس بإغراء: هذه هي مصيبة حارتنا، لا ينبغي أن نتجاهل ذلك، إنه يعد الناس بالوقف، ومع أن الوقف لا يكفي أصحابه إلا أن أحدًا لا يصدق ذلك، المتسولون لا يصدقون ذلك وما أكثرهم، حارتنا حارة المتسولين! وهو يَعِد بالقضاء على الفتونة فيطرب لذلك الجبناء وما أكثرهم! حارتنا حارة الجبناء، وستجدون أهلها دائما مع الغالب، ففي القعود هلاكنا.

فهتف لهيطة: حوله مجموعة من الفئران وما أيسر إبادتهم!

فتساءل حجاج: لكنهم يعتصمون بالجبل؟!

فقال جلطة: نراقب الجبل حتى نجد إليهم منفذًا.

فقال رفعت بتحريض: اعملوا ففي القعود كما قلتُ هلاكنا.

واشتد الغضب بلهيطة فقال للناظر بلهجةٍ ذات مغزى: أتذكر يا سيدي أنني دبرت قتله في حياة زوجته فعارضت الهانم.

فحول الناظر عينيه عن الأعين المحدقة وقال في شبه اعتذار: لن يجدينا تذكر الأخطاء.

ثم مردفًا بعد هنيهة صمت: وهذه العلاقات تُراعى في حارتنا منذ القدم!

وتعالت ضجة في الخارج غير مألوفة كأنما تنذر بشرٍّ مستجد، وكانت الأعصاب متوترة، فنادى الناظر البواب وسأله عما هنالك فقال الرجل: يقولون إن الغنام انضم إلى قاسم سائقًا معه جميع أغنام الحارة!

فوقف لهيطة ثائرًا وهو يصيح: الكلب .. حارة كلاب، الويل له!

وتساءل الناظر: من أي حي هذا الغنام؟

فقال البواب: من حي الجرابيع، ويُدعى زقلة.

٨٨

– أهلًا بك يا زقلة.

وعانقه قاسم فقال الغنام بحماس: لم أكن ضدك قط، وكان قلبي معك دائمًا، ولولا الخوف لكنت بين أوائل المنضمين إليك، وما إن سمعت بمقتل سوارس أجحمه الله حتى سارعت إليك سائقًا أمامي أغنام أعدائك!

وألقى قاسم نظرة على مجمع الأغنام في الساحة بين الأكواخ حيث التفَّ حولها النساء وارتفع ضوضاء الحبور، ثم ضحك قائلًا: هي حلال لنا لقاء ما نهبوا من أموالنا في الحارة.

وفي أثناء النهار انضم إلى قاسم أفراد من الحارة بكثرة لم تعهد من قبلُ فاشتدت العزائم ورسخت الآمال. لكن قاسم استيقظ في الصباح الباكر لليوم التالي على ضجةٍ غريبة فغادر كوخه من فوره فرأى رجاله قادمين نحو كوخه في عجلة واضطراب، وقال له صادق: جاءت الحارة للانتقام وهم مجتمعون أسفل الممر.

وقال خردة: كنت أول ذاهب للعمل فرأيتهم وأنا على مبعدة خطوات من الخلاء فرجعت مسرعًا، وطاردني بعضهم فأصابوني بحجر في ظهري، وجعلت أنادي صادق وحسن حتى جاء جماعة من إخواننا إلى رأس الممر فانتبهوا إلى الخطر ورموا المهاجمين بالأحجار حتى تراجعوا.

ونظر قاسم نحو رأس الممر فرأى حسن وبعض الرجال واقفين عنده بأيدٍ قابضة على الأحجار فقال: نستطيع أن نصدهم هناك بعشرة رجال.

فقال حمروش: إن الصعود على هذه الحال انتحار فليصعدوا إذا شاءوا.

وتجمع الرجال والنساء حول قاسم حتى خلت الأكواخ. جاء الرجال بالنبابيت والنساء بمقاطف طوب أعدت لذلك اليوم. وانطلق أول شعاع للشمس من سماءٍ صافية. وتساءل قاسم: أما من مسلك آخر إلى المدينة؟

فقال صادق واجمًا: يوجد مسلك في الجنوب على مسيرة ساعتين في الجبل.

وقال عجرمة: لا أظن أن لدينا من الماء ما يكفينا أكثر من يومين.

فسرت فيهم همهمة قلق وبخاصة النساء فقال قاسم: لقد جاءوا للانتقام لا للحصار، وإذا حاصرونا عمدنا إلى المسلك الآخر لفك الحصار.

ومضى الرجل يفكر وهو يحافظ على هدوء وجهه الذي تتطلع إليه الأبصار. لو حاصروهم لوجدوا أكبر المشقة في إحضار المياه من المسلك الجنوبي. ولو هجم برجاله عليهم فهل يضمن الانتصار على رجال فيهم لهيطة وجلطة وحجاج؟ وأي مصير يخبئه مغيب هذا اليوم لهم؟ ورجع إلى كوخه ثم عاد قابضًا على نبوته ثم سار إلى حسن ورجاله عند رأس الممر، فقال له حسن: لا يجرؤ أحد منهم على الاقتراب.

ودنا قاسم من حافة الجبل فرأى أعداءه متجمعين على هيئة هلال في الخلاء بعيدًا عن مرمى الحجر. هاله عددهم لكنه لم يستطع أن يميز الفتوات بينهم. ومد بصره خلال الفضاء حتى استقر على البيت الكبير، بيت الجبلاوي، الغارق في صمته كأنه لا يبالي بصراع الأبناء من أجله. ما أحوجهم إلى قوته الخارقة التي دانت لها هذه البقاع في الزمن الخالي! ولعل القلق لم يكن ليساوره لولا ذكرى مصرع رفاعة على كثب من بيت جده. ووجد دافعًا من أعماقه يدعوه إلى أن يصيح بأعلى صوته قائلًا: «يا جبلاوي!»، كما يفعل أهل حارته في أحوالٍ شتى، لكن جذب سمعه أصوات النساء المقتربة فاستدار ناظرًا حوله فرأى الرجال منتشرين على حافة الجبل ينظرون إلى أعدائهم، والنساء متجهات إلى المواقع نفسها فصاح بهن أن يرجعن، وشدد في الصياح لدى ترددهن، وأمرهن بأن يعددن الطعام وأن يزاولن مألوف الأعمال، وما زال بهن حتى صدعن بأمره. فاقترب منه صادق قائلًا: أحسنت، فإن أخوف ما أخاف علينا تأثير اسم لهيطة.

فقال حسن: ليس أمامنا إلا أن نضرب!

ولوح بنبوته مردفًا: سيتعذر علينا التجوال سعيًا وراء أرزاقنا بعد أن عرفوا مكمننا، فليس أمامنا إلا أن نهجم.

فأدار قاسم رأسه مادًّا البصر نحو البيت الكبير وقال: بالصواب نطقتَ، ما قولك يا صادق؟

– ننتظر حتى يجيء الليل.

فقال حسن: سيضُرُّ بنا الانتظار، ولن ينفعنا الليل في عراك.

وتساءل قاسم: تُرى ما هي خطتهم؟

فقال صادق: أن يجبرونا على النزول إليهم.

وتفكر قاسم مليًّا ثم قال: إذا قُتِل لهيطة ضمنا النصر.

وردد عينيه بين الرجلين ثم أردف: إذا سقط تقاتل جلطة وحجاج على الفتونة.

ومضت الشمس في الارتفاع فتوهج الحصى وانتشرت نذر الحر. وتساءل حسن: خبِّراني ما العمل؟

فبدا تساؤله كالحصار ولكن لم يطل بأحد التردد، فقد انطلق صراخ امرأة من ناحية الساحة، وتلته على الفور صرخات، وتميز الصوت وهو يصيح: هوجمنا من الناحية الأخرى!

وارتد الرجال عن الحافة فانطلقوا نحو الساحة فيما يلي الجنوب. أوصى قاسم المدافعين عن الممر بمزيد من الانتباه. أمر خردة أن يدعو النساء القادرات إلى الانضمام إلى المدافعين عن الممر. جرى بين صادق وحسن نحو الساحة حتى توسط رجاله. لاح للجميع لهيطة وهو يقود عصابةً كبيرة من الرجال قادمين من جنوب الجبل. قال قاسم بحنق: شاغلنا برجاله حتى يقوم برحلته حول الجبل ثم يجيئنا من مسلك الجنوب.

فصاح حسن وجسمه العملاق ينتفخ بالتوثب: جاء بقدمَيه إلى موته!

فقال قاسم: يجب أن ننتصر وسننتصر.

وامتد رجاله من حوله كذراعَين قويتَين. ومضى القادمون يقتربون، بنبابيتَ مرفوعة، كأنهم دغل من الأشواك. ودخلوا في مجال الأبصار فقال صادق: ليس فيهم جلطة ولا حجاج!

وأدرك قاسم أن جلطة وحجاج على رأس المحاصرين أسفل الجبل، وحدس أنهما سيهاجمان الممر مهما كلفهما ذلك من مشقة، لكنه لم يفضِ بوساوسه إلى أحد. وتقدم خطوات وهو يلوح بنبوته فشد الرجال على نبابيتهم. وجاء الصوت الغليظ، صوت لهيطة وهو يصيح: لن تدفنوا في قبر يا أولاد الزواني.

واندفع قاسم مهاجمًا فاندفع حوله الرجال، وأقبل الآخرون كالصخور المنقذفة حتى اصطكت النبابيت واختلطت الزمجرة وارتفع الزئير. وفي الوقت ذاته انهال الطوب من المدافعات عن رأس الممر على هجوم من أسفل الجبل بدأ. لكن كل رجل من رجال قاسم مع آخر من العدو اشتبك. تضارب قاسم ودنجل بعنف ومكر. وهوى نبوت لهيطة على ترقوة حمروش فانكسر. والتحم صادق وزينهم في هجماتٍ متتابعة. ودكَّ حسن بنبوته الغضبان فسكت. وضرب لهيطة زقلة في رقبته فانقلب، وتمكن قاسم من إصابة دنجل في أذنه فصرخ وتراجع ثم اندلق. وحمل زينهم على صادق حملةً شديدة لكن هذا بادره بطعنة في بطنه فخذلته يداه فثنَّى بطعنةٍ أخرى فجندله. وتغلب خردة على الحفناوي ولكن لهيطة شل ذراعه قبل أن يهنأ بنصرته. ووجه حسن ضربة إلى لهيطة لكنه زاغ عنها برشاقة ورفع نبوته ليهويَ به على الشاب غير أن قاسم عاجله بضربة تلقاها بنبوته، وجاء أبو فصادة كالريح ليقذفه بالضربة الثالثة لكن لهيطة نطحه برأسه في أنفه فحطمه. بدا لهيطة كأنه قوة لا تغلب.

واشتد القتال. تلاطمت النبابيت بلا هوادة. واندفعت سيول الشتائم واللعنات. وانبثقت الدماء تحت أشعة الشمس المحرقة. وتوالت الإصابات فَخَرَّ الرجال تباعًا من الفريقين. واحترق لهيطة غضبًا للمقاومة المستبسلة التي لم يتوقعها فتضاعفت هجماته وضرباته وقسوته. ومن الناحية الأخرى أمر قاسم حسن وعجرمة بأن يتحينا الفرصة للهجوم معه على لهيطة حتى يهدموا الحصن الذي يلوذ به المهاجمون. وإذا بامرأة من المدافعات عن الممر تجيء وهي تصرخ محذرة: إنهم يصعدون تحت ألواح العجين!

ففزعت قلوب رجال الجبل، وصاح لهيطة: لن تدفنوا في قبر يا أولاد الزواني!

فصاح قاسم في رجاله: انتصروا قبل أن يصعد المجرمون.

واندفع نحو لهيطة بجناحَين من حسن وعجرمة، فاستقبله الفتوة بضربة شديدة تلقاها بنبوته، وأراد عجرمة أن يعاجله بضربة ولكن العِفش أصاب ذقنه فانبطح على وجهه. ووثب حسن أمامه وهمه يتبادلان ضربتين، ورمى حسن بنفسه عليه فالتحما في صراعٍ مميت. وارتفع صراخ النساء عند رأس الممر وأخذ بعضهن يلذن بالفرار، وتحرج الموقف. وسارع قاسم بإرسال صادق وبضعة رجال إلى حافة الجبل، ثم انقضَّ على لهيطة لكن اعترضه زحلفة فاشتبكا في قتالٍ عنيف. ودفع حسن لهيطة بكل قوته فتراجع خطوة، فبصق على عينه وهو يهدر، ثم ركله فأصاب ركبته، وبسرعة خاطفة هجم عليه متقوسًا فنطح بطنه كأنه ثور غاضب فاختل توازن الجبار ووقع على ظهره فبرك الآخر فوقه وأطبق بنبوته على رقبته بكلتا يديه وضغط بكل قواه. وأقبل رجال للدفاع عن فتوتهم فتصدى لهم قاسم وبعض رجاله. واصطكَّت قدما لهيطة، وجحظت عيناه، واحتقن بالدم وجهه، وأخذ يختنق. وبغتة وثب حسن واقفًا فوق غريمه الخائر القوة وهوى على رأسه بنبوته بضربة شرسة حانقة فتحطمت جمجمته وانتهى. وصرخ حسن بصوت كالرعد: لهيطة قُتِل، فتوتكم قُتِل، انظروا إلى جثته!

وأحدث مَقتل لهيطة غير المتوقع أثرًا عنيفًا، فاشتدت عزائم ووهنت عزائم، واندفع الأمل واليأس في قتال مرير. وانضم حسن إلى قاسم في صراعه فلم تخب له ضربة. وشهد الميدان رجالًا تتوثب ثم تثب، ونبابيت ترتفع ثم تنقضُّ. وثار الغبار وانتشر ثم أطبق على المتعاركين كليلٍ دموي. وقذفت الصدور بجيشات وصيحات ولعنات وصرخات متأوِّهة وزمجرات متوعدة. وبين كل آونة وأخرى يترنح رجل ثم يسقط، أو يتراجع ثم يفرُّ، وانتشر المنطرحون على الأرض والْتمعت الدماء تحت أشعة الشمس.

وانتحى قاسم جانبًا فأرسل بصره نحو رأس الممر الذي أقلقه أمره فرأى صادق ورجاله يصبون الطوب بالمقاطف في توتر شديد دل على اقتراب الخطر المتصاعد. وسمع النساء. وبينهن زوجته، وهن يصرخن كالمستغيثات. وشاهد بعض رجال صادق وهم يقبضون على النبابيت استعدادًا للقاء المصرِّين على الصعود تحت وابل الطوب. قدر خطورة الأمر فمضى من فوره إلى جثة لهيطة التي ابتعد عنها القتال لتقهقر رجال الحارة، وراح يسحبها وراءه نحو رأس الممر. ونادي حسن فجاءه مسرعًا فتعاونا على حمل الجثة، وسارا بها حتى أول الممر، وقذفا بها معًا فتهاوت ثم تدحرجت حتى وقفت تحت أرجل الصاعدين تحت الألواح. ووقع اضطرابٍ واضح. وجلجل صوت حجاج وهو يصرخ في غضب: اصعدوا، تقدموا، الويل للمجرمين!

فصاح قاسم متهكمًا، في ضبط نفس عجيب: تقدموا، هذه جثة فتوتكم، وورائي جثث رجالكم الآخرين، تقدموا فنحن في انتظاركم!

وأشار إلى الرجال والنساء فانهال الطوب كالمطر حتى توقفت طليعة المهاجمين وأخذوا في التراجع البطيء على رغم دفع حجاج وجلطة لهم، وترامت إلى قاسم همهمة تحرش واحتجاج وتذمر فصاح قاسم: يا جلطة، يا حجاج، أقدما ولا تهربا!

فارتفع إليه صوت جلطة كأنه نبرة الكراهية وهو يصيح: انزلوا إن كنتم رجالًا! انزلوا يا نسوان يا أولاد العواهر!

وصاح حجاج وهو واقف وسط الموجة المرتدة من الرجال: لا عشت إن لم أشرب من دمك يا أقذر مَنْ رعى الغنم!

فتناول قاسم حجرًا وقذف به بكل قوته. وتواصل انهمار الأحجار. وأسرعت الموجة المرتدة حتى أوشكت أن تنقلب جريًا. وإذا بحسن يجيء فيقول وهو يمسح عن جبهته دمًا سائلًا: انتهى القتال، وفرَّ الأحياء منهم نحو الجنوب.

فهتف قاسم: ادع الرجال لنتبعهم!

لكن صادق قال له: إن الدم يسيل من أسنانك وذقنك!

فمسح فمه وذقنه براحته وبسطها فرآها حمراء قانية. وقال حسن بأسف: قُتِل منا ثمانية، وأصيب الأحياء بجروح بالغة فلن يستطيعوا حراكًا.

ونظر إلى أسفل من خلال الأحجار المتهاوية فرأى أعداءه يركضون في نهاية الممر. فقال صادق: لو أتموا رحلتهم ما وجدوا مقاتلًا يصمد لهم.

ثم لثم ذقن قاسم الدامي وأردف بامتنان: أنقذنا عقلك!

وأمر قاسم رجلين بالبقاء عند رأس الممر للحراسة، وأرسل آخرين في أعقاب الهاربين لاستطلاع الأنباء، ثم عاد بين صادق وحسن وهم ينقلون خطوات ثقالًا في إعياء وكلال نحو الساحة التي لم يبقَ فوق أديمها إلا جثث القتلى. كانت مذبحة وأي مذبحة! قُتِل من رجاله ثمانية ومن أعدائه عشرة غير لهيطة. ولم يسلم من رجاله الأحياء أحد من كسر أو جرح، وقد آووا إلى الأكواخ فأخذت النساء في تضميد جراحهم، على حين ضجت أكواخ الضحايا بالبكاء والصوات. وجاءت بدرية في لهف ودعتهم إلى الكوخ لتغسل جروحهم، ثم جاءت سكينة حاملة إحسان وهي تبكي بكاءً صارخًا. وكانت الشمس تقذف بنيرانها من كبد السماء، والحدآت والغربان تدور مدوِّمة وهابطة في الفضاء، والجو يفوح برائحة الدم والتراب. ولم تكف إحسان عن البكاء ولكن لم يُعرها أحد التفاتًا، وحتى حسن العملاق بدا وكأنه يترنح. وتمتم صادق بصوتٍ حزين: ليرحم الله قتلانا!

فقال قاسم: ليرحم الله القتلى والأحياء على السواء.

وأخذت حسن صحوة ابتهاج طارئة فقال: سننتصر عما قريب فتودع حارتنا عهد الدم والإرهاب.

فقال قاسم: سحقًا لعهد الإرهاب والدم!

٨٩

لم تشهد الحارة كارثة كهذه من قبلُ. رجع الرجال صامتين ذاهلين ذابلين غاضِّين الأبصار كأنما شدت جفونهم إلى أديم الأرض. ووجدوا أنباء الهزيمة قد سبقتهم إلى الحارة وأن الربوع ترتجُّ باللطم والعويل. وانتشر الخبر في الحارات والأزقَّة وباتت سمعة الحارة الرهيبة أحدوثة تلوكها ألسنة التشفِّي. وتبين أن حي الجرابيع بأسره قد غادر الحارة خوفًا من الانتقام فخلت الدور والدكاكين، ولم يشكَّ أحد في أنهم سينضمون حتمًا إلى ابن حيهم المنتصر فيزداد بهم عددًا وقوة. وخيم الحزن على الحارة المكلَّلة بالحداد، لكن أنفاس الحارة قطرت حقدًا ومقتًا ورغبة في الانتقام.

وإذا برجال من جبل يتساءلون عن فتونة الحارة ولمن تكون؟ وإذا بالسؤال نفسه يتردد على ألسنة في حي رفاعة، فانتشر سوء الظن انتشار التراب في العاصفة. وعلم الناظر رفعت بما تهجس به الخواطر فدعا حجاج وجلطة إلى مقابلته. وذهب الرجلان وحول كلٍّ منهما رجاله الأشداء حتى غصَّ بهم بهو الناظر، واحتل كل فريق جناحًا من البهو، فكأنه لم يعد يأمن الاختلاط بجيرانه، وقد أدرك الناظر مغزى ذلك فازداد غمًّا على غم، وقال: تعلمون أن كارثة حلَّت بنا، لكننا لم نمت، ولم يُقضَ علينا، ولم يزل في وسع سواعدنا أن تحقق لنا النصر على شرط أن نحافظ على وحدتنا، وإلا فقولوا علينا السلام.

فقال رجل من جبل: ستكون الضربة الأخيرة لنا، وما شدة إلا وبعدها الفرج.

وقال حجاج: لولا اعتصامهم بالجبل لهلكوا عن آخرهم.

وقال ثالث: لاقاهم لهيطة بعد رحلةٍ طويلةٍ شاقة تبرك بعدها الجِمَال.

فقال الناظر بامتعاض: حدثوني عن وحدتكم ما شأنها؟

فقال جلطة: نحن بفضل الله إخوان، وسنظل كذلك.

– هذا قولك، لكن مجيئكم بعددكم الوفير هذا ينمُّ على الارتياب الذي يفرق بين قلوبكم!

فقال حجاج: بل دعت إلى ذلك رغبة الجميع في الانتقام!

فوقف الناظر متوتر الأعصاب وقال مقلبًا عينيه في الوجوه الكالحة: كونوا صريحين، إنكم تنظرون بعضكم إلى بعض بعين، وتنظرون بالأخرى إلى فتونة الحارة، إلى مكان لهيطة الخالي. ولن تعرف الحارة الأمان ما دامت هذه الحال، وأخشى ما أخشاه أن تتدخل النبابيت في الأمر فتهلكوا جميعًا ويأكلكم قاسم لقمةً سائغة!

فارتفعت أصواتٌ كثيرة تقول في نفسٍ واحد: نعوذ بالله من ذلك.

فقال الناظر بصوتٍ قويٍّ واضح: لم يعد بالحارة إلا حيَّا جبل ورفاعة، فليكن عليهما فتوتان، ولا ضرورة للفتوة الواحد، ولنتعاهد على ذلك، ولنكن يدًا واحدة على الخارجين.

وانقضت ثواني صمت رهيبة ثم رددت أصوات في فتور: نعم .. نعم.

وقال جلطة: سنرضى بذلك على الرغم من أننا سادة الأحياء منذ القدم.

فقال حجاج محتجًّا: ليكن القبول بلا مَنٍّ، لا سادة هنا ولا خدم وبخاصة بعد ذهاب الجرابيع، ومن ذا ينكر أن رفاعة كان أنبل من عرفت حارتنا؟

فهتف جلطة محتدًّا حانقًا: حجاج! أنا عارف قلبك.

وهمَّ رفاعي بالكلام ولكن الناظر صرخ غاضبًا: خبِّروني .. هل عزمتم على أن تكونوا رجالًا أو لا؟! إن أي نبأ يطير عن ضعفكم سيعقبه زحف الجرابيع من الجبل كالذئاب. خبِّروني: هل تستطيعون أن تقفوا صفًّا واحدًا، أو أرى لنفسي وجهةً أخرى؟

فصاح أفراد من هنا ومن هناك: هس، عيب يا رجال، حارتنا على وشك أن تفقد كل شيء.

وتطلعت إليه الوجوه في تسليم، فقال: ما زلتم متفوقين في العدد والقوة، ولكن لا تهاجموا الجبل مرةً أخرى.

وارتسم التساؤل على الوجوه فأردف قائلًا: سنحبسهم فوق الجبل، سنتربص لهم أمام المسلكين المفضيين للجبل، فإما يموتون جوعًا، وإما يضطرون إلى النزول إليكم فتقضون عليهم.

فقال جلطة: نِعم الرأي، به أشرت على لهيطة — رحمه الله — ولكنه اعتد الحصار جبنًا وأبى إلا أن يهاجم.

وقال حجاج: هو الرأي، ولكن ينبغي تأجيل تنفيذه حتى يرتاح الرجال.

وطلب الناظر إليهم أن يتعاهدوا على الإخاء والتعاون، فتصافحوا ورددوا الأقسام. وبدا لكل ذي عينين فيما تبع ذلك من أيام أن جلطة وحجاج يشتدان في معاملة أتباعهما لتغطية آثار الهزيمة التي لحقتهما. وأذاعا في الحارة أنه لولا حماقة لهيطة لقُضي على قاسم بلا مشقة، ولكن إصراره على صعود الجبل أنهك رجاله فذهب بقوتهم وشجاعتهم، ولاقاهم عدوهم وهم على أسوأ حال. وصدَّق الناس ما قيل لهم، ومن أبدى شيئًا من الارتياب سُبَّ ولُعن وضُرب. أما فتونة الحارة فلم يكن يُسمَح لأحد بالخوض فيها، على الأقل في الجهر، ولكن كثيرين — من الرفاعية والجبلية على السواء — جعلوا يتساءلون في الغرز عمن سيخلف لهيطة بعد النصر.

وتولد في الحارة على رغم التعاهد والأقسام جوٌّ خفي من الريبة، فاحتاط كل فتوة لنفسه فلم يكن ينأى عن مركزه إلا وسط جماعة من أعوانه. لكن الاستعداد ليوم الانتقام لم يتوقف لحظةً واحدة. واتفقوا فيما بينهم على أن يعسكر جلطة ورجاله أمام مسلك المقطم عند السوق، وأن يعسكر حجاج ورجاله أمام مسلك القلعة. وسوف يلازمون أماكنهم ولو بقوا عمرًا، وستسرح النساء للبيع والشراء ويجئنهم بالطعام. وعند مساء اليوم السابق ليوم الخروج تجمعوا في شتى الغرز، وجاءوا بقدور البوظة والنبيذ، وراحوا يحششون ويسكرون حتى ساعةٍ متأخرة من الليل. وودع الأعوان حجاج أمام ربعه بحي رفاعة وهو في نهاية من الانبساط والسلطنة. ودفع الباب ومضى في الدهليز وهو يدندن:

الأولة آه …

لكنه لم يتمها؛ انقضَّ عليه شبح من ورائه، فسدَّ فاه بيد، وطعن بسكين قلبه بالأخرى. انتفض الجسم بقوة بين يديه فلم يتركه خشية أن يحدث سقوطه صوتًا. وأنامه برفق على الأرض لا حراك به في الظلام الدامس.

٩٠

استيقظت الحارة في باكر الصباح على ضجةٍ صارخةٍ مفزعة. فتحت النوافذ وأطلت الرءوس، وسرعان ما اتجهت نحو الربع الذي يقيم فيه حجاج فتوة آل رفاعة، حيث تجمهر جمعٌ غفير واختلط اللغط بالصراخ والعويل. وامتلأ دهليز الربع بالرجال والنساء، وكثر التساؤل والتعليق، وأنذرت الأعين المحمرَّة بالبكاء بكل شرٍّ خطير. وهرع إلى الربع الرفاعية من كل ربع ودار وجحر. وما لبث أن جاء جلطة ورجاله فأوسع الناس لهم حتى انتهوا إلى الدهليز، وصاح جلطة: مصيبة ولا كل المصائب، ليتني كنت فداك يا حجاج.

كفَّ الباكون عن البكاء، والصارخون عن الصراخ، والحانقون عن التساؤل، ولكنه لم يسمع كلمة مجاملة واحدة. فعاد يقول: مكيدةٌ دنيئة! ليس الغدر من شيم الفتوات، لكن قاسم راعي غنم متسول لا فتوة، ولن يهنأ لي بال حتى أرمي بجثته إلى الكلاب.

وصاحت امرأة في حدة ملتاعة: مباركة عليك فتونة الحارة يا جلطة.

وتقلصت سحنته بالغضب، فوجم القريبون منه وسرت الدمدمة فيما وراء ذلك، وصاح بغلظة: فلتغلق النسوان أفواههن في هذا اليوم الأغبر!

فعادت المرأة تقول: ليفهم كل ذي عقل!

وصوتت فهاج الصوات، وانتظر جلطة حتى هدأت العاصفة وقال: مكيدةٌ ماكرة دبرت بليل للإيقاع بيننا.

فهتفت امرأةٌ أخرى: مكيدة؟! قاسم وجرابيعه في الجبل، وحجاج قُتِل في حارته بين قومه وجيرانه الطامعين في الفتونة!

فصاح جلطة: مَرَة مجنونة، ومجنون كل من يتقبل ظنها، وإذا تماديتم فسيقتل بعضنا بعضًا كما دبر قاسم.

وإذا بقلة تهوِي فتتحطم عند قدمي جلطة، فتراجع هو ورجاله وهو يقول: عرف ابن الزانية كيف يفسد بيننا.

ومضى من توه نحو بيت الناظر. واشتد اللغط عقب ذهابه. وإذا برجلين — رفاعي وجبلي— يتشابكان في شجارٍ عنيف، وتبعتهما على الأثر امرأتان. وتضارب غلمان من الحيين. واستعرت معارك قذف وسب من النوافذ. وشاع الاضطراب في الحارة حتى تجمهر في كل حي رجاله وارتفعت النبابيت. وخرج الناظر من بيته بين خدم ورجال، فسار حتى توسط الحيين وصاح بأعلى صوته: اعقلوا .. الغضب سيعميكم عن عدوكم الحقيقي، قاتل المعلم حجاج!

فصاح أحد الرفاعية: من أدراك بذلك؟ وأي جربوع يتجرأ على دخول الحارة؟

فصاح رفعت: كيف يقتلون حجاج اليوم وهم في أشد الحاجة إليه؟

– سل المجرمين ولا تسلنا نحن.

– الرفاعية لا يخضعون لفتوة من جبل!

– سيدفعون ثمن دمه غاليًا.

فعاد الناظر يصيح: لا تطيعوا المكيدة وإلا رأيتم قاسم زاحفًا عليكم كالوباء.

– فليأتِ قاسم إذا شاء، ولكن لن يكون جلطة فتوة علينا.

فقال الناظر وهو يضرب كفًّا بكف: انتهينا وسيدركنا الخراب.

فتعالت الأصوات: الخراب خير من جلطة.

وقُذفت طوبة من حي رفاعة فاستقرت بين الرجال في حي جبل. وأجاب حي جبل بالمثل. ورجع الناظر مسرعًا. وإذا بالطوب ينهمر من الجانبين، وسرعان ما اشتبك الحيان في معركةٍ دامية. واشتد الضرب في قسوةٍ بالغة. وامتدت المعركة إلى بعض الأسطح حيث تبادل نساء من الحيين قذْف الطوب والحصى والتراب والأخشاب. وتواصل الاشتباك فترةً طويلة على الرغم من أن الرفاعية كانوا يقاتلون بغير فتوتهم، ولكن كثر صرعاهم أمام ضربات جلطة التي لا تخيب. وإذا بأصوات نساء تنطلق من النوافذ في ضوضاء غير متميزة ضاعت في ضوضاء المعركة. غير أن النساء بدون وهن يشرن بأيديهن في فزع تارة نحو طرف الحارة الشرقي وطورًا نحو الطرف الآخر. والتفت أناس إلى حيث تشير النساء. رأوا قاسم أمام البيت الكبير، يتقدم في عصبة من رجاله تسبقهم نبابيتهم. ورأوا في الطرف الآخر حسن يتقدم في عصبةٍ أخرى. ضجَّ المكان بصيحات التحذير وتتابعت الأحداث في سرعةٍ خاطفة. أمسكت الأيدي عن الضرب كأنما شلت. وبدافعٍ عفوي تكتلوا وتداخلوا، الضارب منهم والمضروب، وانقسموا فرقتين لمواجهة القادمين. وصاح جلطة بحنق: قلت إنها مكيدة فلم تصدقوا!

استعدوا للقتال وهم من الجهد واليأس على أسوأ حال. لكن قاسم توقف فجأة عن التقدم، ومثله فعل حسن كأنهما ينفذان خطةً واحدة. وصاح قاسم بأعلى صوته: لا نريد أذًى لأحد، لا غالب ولا مغلوب، أبناء حارةٍ واحدة وجدٍّ واحد، والوقف للجميع.

فصاح جلطة: مكيدةٌ جديدة!

فقال قاسم غاضبًا: لا تدفعهم إلى القتال دفاعًا عن فتونتك، دافع عنها وحدك إذا شئت!

وصرخ جلطة: اهجموا!

وانقضَّ على مجموعة قاسم. تبعه رجال. وانقضَّ آخرون على حسن ورجاله. تردد كثيرون، تسلل الجرحى إلى الربوع، وكذلك المنهكون، ثم تبعهم المترددون؛ لم يبقَ إلا جلطة وعصابته. ولكنهم خاضوا معركةً شديدة على رغم ذلك واستماتوا في الدفاع. تضاربوا بالنبابيت والرءوس والأقدام والأيدي. وركز جلطة هجومه على قاسم بحقدٍ أعمى. تبادلا ضرباتٍ عنيفة، ثم مضى قاسم يتلقى ضربات خصمه بنبوته في خفة وحذر، لكن رجال قاسم أطبقوا بكثرتهم على عصابة جلطة حتى غابت تحت عشرات النبابيت، وانقضَّ حسن وصادق على جلطة وهو مشتبك مع قاسم، فضرب صادق نبوته وهوى حسن بنبوته على رأسه، مرة وثانية وثالثة، فسقط النبوت من يده واندفع يجري كالثور الذبيح ثم انكبَّ على وجهه كمصراع بوابة.

انتهت المعركة. سكتت أصوات النبابيت وصرخات الرجال. وقف المنتصرون وهم يلهثون ويمسحون الدماء عن الوجوه والرءوس والمعاصم، لكن ثغورهم افترَّت على رغم ذلك عن ابتسامة الفوز والسلام. كان العويل يترامى من النوافذ، ورجال جلطة مبعثرين على الأرض، والشمس ساطعة ترسل أشعةً حامية. وخاطب صادق قاسم قائلًا في ثقة وطمأنينة: انتصرت، نصرك الله. إن جدنا لا يخطئ في اختياره، ولن تسمع حارتنا العويل بعد اليوم.

فابتسم قاسم ابتسامةً هادئة، ثم استدار في عزم موجهًا بصره نحو بيت الناظر فاتجهت الرءوس إليه …

٩١

سار قاسم على رأس رجاله إلى بيت الناظر فوجدوا الباب والنوافذ مغلقة، والصمت والكآبة يخيمان عليه. وطرق حسن الباب بقوة، ولكن أحدًا لم يرد، وتجمع نفر من الرجال وراحوا يدفعون الباب بشدة حتى انفتح على مصراعيه. ودخل الرجل، ورجاله وراءه. فلم يعثروا للبواب على أثر ولا لأحد من الخدم. وتسارعوا إلى البهو، فبقية الحجرات، ثم الأدوار الثلاثة، فتبين لهم أن الناظر وأهله وخدمه قد غادروا البيت هاربين. والحق أن قاسم لم يأسف على ذلك؛ إذ كان في أعماقه راغبًا عن الفتك بالناظر إكرامًا لزوجته التي لولاها لقُضي عليه من أول الأمر، ولكن حسن والآخرين غضبوا غضبًا شديدًا لنجاة الرجل الذي أذاق الحارة الفقر والهوان طوال عهده بها.

وهكذا تم النصر لقاسم وأصبح رجل الحارة دون منازع. وتولى شئون النظارة إذ إنه كان لا بد للوقف من ناظر. وعاد الجرابيع إلى حيهم، وعاد معهم كل من هاجر من الحارة خوفًا من الفتوات وعلى رأسهم المعلم يحيى. ومضت أربعون يومًا في هدوء فالتأمت الجراح وسكنت النفوس واطمأنت القلوب.

ويومًا وقف قاسم أمام البيت الكبير ودعا إليه أهل الحارة رجالًا ونساءً من جميع الأحياء فمضوا إليه في لهفة وتطلع وقلوبهم تخفق بشتى الخواطر. واكتظَّ بهم المكان واختلط جرابيعهم بآل جبل وآل رفاعة. وبدا قاسم باسمًا متواضعًا رقيقًا مهيبًا معًا فأشار إلى أعلى، إلى البيت الكبير وقال: هنا يقيم الجبلاوي، جدنا جميعًا، لا تمييز في الانتساب إليه بين حي وحي، أو فرد وفرد، أو رجل وامرأة.

تهللت الوجوه في دهشة وبشر وبخاصة وجوه الذين توقعوا أن يسمعوا مقالة رجل ملك وانتصر.

وأردف قاسم قائلًا: وحولكم وقفُه، وسيكون لكم جميعًا على السواء كما وعد أدهم حين قال له: «سيكون الوقف لذريتك»، وعلينا أن نحسن استغلاله حتى يكفي الجميع ويفيض، فنحيا كما تمنى أدهم أن يحيا، في رزقٍ موفور وطمأنينةٍ شاملة وسعادةٍ صافية غناء.

وتبادل الناس النظرات كأنهم في حلم. فواصل قاسم كلامه قائلًا: لقد ذهب الناظر إلى غير رجعة، واختفى الفتوات، لن يوجد في حارتنا بعد اليوم فتوة، لن تؤدوا إتاوة لجبار، أو تخضعوا لعربيد متوحش، فتمضي حياتكم في سلام ورحمة ومحبة.

وقلَّب عينيه في الوجوه المستبشرة وقال: وبيدكم أنتم ألا يعود الحال كما كان. راقبوا ناظركم، فإذا خان اعزلوه، وإذا نزع أحدكم إلى القوة اضربوه، وإذا ادعى فرد أو حي سيادة أدِّبوه. بهذا وحده تضمنون ألا ينقلب الحال إلى ما كان، وربنا معكم.

في ذلك اليوم تعزى قوم عن موتاهم، وآخرون عن هزيمتهم، ونظر الجميع إلى الغد كأنما ينظرون إلى بزوغ البدر في ليلة من ليالي الربيع. ووزع قاسم الريع على الجميع بالعدل بعد الاحتفاظ بقدر للتجديد والإنشاء. أجل كان نصيب الفرد ضئيلًا ولكن إحساسه بالعدل والكرامة فاق كل حد. ومضى عهده في تجديد وبناء وسلام. ولم تنعم حارتنا قبله بمثل ما نعمت به في أيامه من الوحدة والألفة والسعادة. أجل كان ثمة آحاد في آل جبل يضمرون غير ما يظهرون ويتهامسون فيما بينهم:

«أنكون من جبل ويحكمنا جربوع من الجرابيع؟!» ومثلهم وجد في آل رفاعة. بل لم يخلُ الجرابيع من نفر أخذتهم العزة والزهو. ولكن صوتًا لم يرتفع لتعكير الصفو في عهده. ورأى الجرابيع فيه طرازًا من الرجال لم يوجد مثله من قبلُ ولن يوجد مثله من بعدُ. جمع بين القوة والرقة، والحكمة والبساطة، والمهابة والمحبة، والسيادة والتواضع، والنظارة والأمانة، وإلى ذلك كله كان ظريفًا بشوشًا أنيقًا، وحشاشًا يلذ مجلسه، وعشيرًا تطيب مودته، فضلًا عن ذوقه الجميل وحبه الغناء والنكتة. لم يتغير من شأنه شيء اللهم إلا أنه توسع في حياته الزوجية كأنما جرى فيها مجراه في تجديد الوقف وتنميته. فعلى حبه بدرية تزوج حسناء من آل جبل وأخرى من آل رفاعة، وتعشق امرأة من الجرابيع ثم تزوج منها أيضًا. وقال أناس في ذلك: إنه يبحث عن شيء افتقده مذ فقد زوجته الأولى قمر. وقال عمه زكريا: إنه يريد أن يوثق أسبابه بأحياء الحارة جميعًا. لكن حارتنا لم تكن بحاجة إلى تفسير أو تعليل لما حدث، بل الحق إنها إذا كانت أعجبت به لأخلاقه مرة فقد أعجبت به لحيويته وحبه النسوان مرات. وإن حب النسوان في حارتنا مقدرة يتيه بها الرجال ويزدهون، ومنزلة تعدل في درجاتها الفتونة في زمانها أو تزيد.

ومهما يكن من أمر فإن حارتنا لم تشعر قبله بالسيادة حقًّا، وبأن أمرها قد آل إلى نفسها دون ناظر يستغل أو فتوة يستذل؛ ولا عرفت قبله ما عرفت أيامه من الإخاء والمودة والسلام.

وقال كثيرون: إنه إذا كانت آفة حارتنا النسيان، فقد آن لها أن تبرأ من هذه الآفة، وإنها ستبرأ منها إلى الأبد.

هكذا قالوا …

هكذا قالوا: يا حارتنا!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤