ثانيًا: الإنسان الجماهيري

L’homme-Masse
الإنسان الجماهيري على وجه التحديد هو أحد أفراد الجماهير أو الإنسان العامي الذي سماه هيدجر «السين» من الناس Das Mann هو نوع من البشر يتكوَّن تكوينًا سريعًا، يتكرَّر باستمرار، ويتشابه مع غيره، لا تاريخ له ولا رغبة له، يقبل أي نظام ويتشكَّل كما يُطلب منه، له كل الحقوق، ولا واجبات عليه، فارغ من تاريخه، وطيِّع لكل النظم السياسية والدولية. ينقصه الداخل، وتغيب فيه الذاتية. وقد يكون اليوم نموذج العامل في الطبقة العاملة أو الفلاح في جماهير الفلاحين. هو المغلق على نفسه، لا صلة له بالآخرين، ولا يعرف الحوار. يُعادي الليبرالية، ولا يمارس الحرية، ولا يختار بين البدائل. هو إنسان الدَّهْماء. الإنسان الجماهيري عدو للاتجاه التحرُّري لأنه يعلم أن التحرُّر عود إلى الأصالة وهو يود البقاء في مجال الزيف. التحرر تأكيد على الفردية والإنسان الجماهيري غوص في الدهماء. هذا النوع من البشر موجود في المجتمعات المتطورة وفي المجتمعات النامية على حد سواء. ففي المجتمعات المتطورة حذر المفكرون من قبل من الإنسان الآلة L’homme-Robot، وهو ترس في مجموعة من التروس، لا فردية له ولا كيانًا مستقلًّا. وهو ما يذكرنا بآراء ماركس الشاب في وضع العامل في المجتمع الصناعي وتحوُّله إلى شيءٍ يساوي إنتاجه. وفي المجتمعات النامية هو أحد أفراد العامة الذي تسيِّره القادة كما تشاء، تشير له فيصفق، وتشير له ثانيًا فيكف، تجمعه ليستقبل، وتدعوه ليوافق. بل إن أورتيجا يرفض الإنسان أيضًا كما تصوره عصر التنوير، الإنسان العام الذي يمثل الإنسانية كلها أو مواطن العالم Le Citoyen du Monde، إنسان يتكرر. أما إذا ظهر من بين هذا الخضم إنسانٌ فريد فإنه يكون الفرد الأوحد كما ظهر جيفارا من جماهير أمريكا اللاتينية. هذه الجماهير في ثورةٍ ولكنها أشبه بحركات التاريخ وانفعالات الدَّهماء ومشاغبات العامة. والحقيقة، وعلى غير ما يعتقد أورتيجا، إن ثورة الجماهير الآن سواءٌ في المجتمعات المتطورة أو في المجتمعات النامية تدل على وعيٍ بمشاكل العصر. فقد نشبت ثورات الشباب في العالم في ١٩٦٨م في المجتمعات المتطورة ضد مساوئ النظام الرأسمالي ومجتمع الاستهلاك الداعي للحروب. وفي المجتمعات النامية نشبت الثورات للتخلُّص من بقايا الاستعمار القديم أو من براثن الاستعمار الجديد أو من سيادة الطبقات الجديدة، فالثورة الآن ضد مظاهر الطغيان الاقتصادي في الدول المتطورة أو السياسي في الدول النامية، هي ثورة على نظم حكم الفرد المطلق، وثورة الطبقات الكادحة التي لم تحصل بعد على مزايا التحرُّر والتحوُّل الاشتراكي. الثورة مفهوم فلسفي، وتجربة فردية واجتماعية، وليست مجرد حركة أو انقلاب يرمي إلى تغيير الواقع. الثورة علم وليست مجرد انفعالات أو ضربات عمياء. وثورات الشعوب علامةٌ على تقدُّمها وحيويتها وليس على تأخُّرها وسكونها.
ويعيد أورتيجا عرض القضية، الإنسان الجماهيري في مقابل الفرد الحر في صورةٍ تقابل آخر بين الأغلبية والأقلية، بين الجماهير والصفوة، بين العامة والخاصة. الجمهور هو الأغلبية في مقابل الصفوة وهي الأقلية. تعبِّر الأغلبية عن الإنسان المتوسِّط أو الإنسان العادي L’homme-Moyen الذي لا يختلف عن غيره، بعكس الأقلية التي تقوم على أفكار ورغبات لأنها تتطلَّب الكثير من نفسها لأن الأغلبية لا تتطلَّب من نفسها شيئًا. هذه الثنائية بين الأغلبية والأقلية وبين العامة والخاصة موجودة في كل الأديان وفي كل الملل والنحل. هي طبقية بشرية لا طبقية اجتماعية لأن العامة والخاصة موجودتان في كل طبقة اجتماعية. وبعد أن كان الخاصة هم أصحاب السلطة وكان للصفوة المختارة الحق في تسيير الجماهير أصبحت العامة الآن صاحبة الأمر؛ لذلك يمتاز العصر الحاضر بسيادة العامة على الخاصة وانتصار أنصاف المثقفين على المثقفين وغير المتخصصين على المتخصصين بعد أن قررت الجماهير أخذ مصيرها بأيديها، وأخذها مركز الصدارة الاجتماعية، وتمتعها بمزايا الصفوة المختارة، وحلولها محلها. وهذا ما تؤكِّده التغييرات السياسية المعاصرة. فقد كانت النظم الديمقراطية القديمة تسمح بقدرٍ كبيرٍ من الليبرالية، وكان باستطاعة الصفوةِ المختارة أن تفعل ما تشاء. والآن ظهر نوعٌ جديدٌ من الديمقراطيات العليا Hyper-Democratie فيها تحكم الجماهير حكمًا مباشرًا.
ويعيد أورتيجا صياغة القضية نفسها مرة ثالثة في علاقة الفرد بالجماعة. فعلى الرغم من تركيز أورتيجا على الإنسان الجماهيري كسلبٍ إلا أنه يحلل الإنسان الذاتي أو الفرد كإيجاب، كما فعل كيركجارد في الفرد، ومونييه وشيلر في الشخص، أو حتى شترنر في الفرد الأوحد. وتبدو الفردية كلما انتقلنا من الطبقة الدنيا إلى الطبقة الوسطى ثم إلى الطبقة العليا. الفردية تقود إلى الصفوة كما تؤدي الجماعية إلى الجماهير. وفي الفرد يتجلَّى العقل الحيوي، ويختفي في الجماعة، يبدع في الصفوة، ويتوارى في الجماهير، يظهر في الأقلية ويضيع في الأغلبية، وكأن أورتيجا أقرب في تفسير الظواهر الاجتماعية إلى بارتيو في تركيزه على دور الصفوة في القيادة وفي الوقت نفسه ينقد البلشفية والفاشية على أنها حركات جماهير مع أنها أيضًا ترى الصفوة ممثلةً في قيادة فعَّالة نشطة أخلاقية ومبدعة. بل إنه يكون أيضًا أقرب إلى الفكر الديني الذي يركِّز على دور الأنبياء في التاريخ، وعلى ضرورة وجود الأقلية المؤمنة Le Petit reste والباقيات الصالحات التي بفضلها يتم إنقاذ الأغلبية الكافرة وعامة الناس La Foi des Simples على الرغم من غياب الدين في فكره كمحور أساسي وعلى عكس أستاذه أونامونو في «احتضار المسيحية» باستثناء مواقف قليلة ينقد فيها أورتيجا رفض الجماهير — وهي في ثورتها — التديُّن والمعرفة النظرية من أجل الدراسات السياسية وتحركات الدهماء! أليس الدين أيديولوجية الجماهير كما هو واضح في لاهوت الثورة ولاهوت التحرر في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية؟ ألا يتحول الدين تحولًا طبيعيًّا إلى العلوم الاجتماعية وهذه بدورها إلى الأيديولوجيات السياسية على ما يصف جويو في «لا دينية المستقبل» L’Irreligion de l’Avenir.
ولكن ظروف العصر تمنع أن يعيش الإنسان فرديته نظرًا لتضارُب مشاريع الفرد مع مشاريع الجماعة. ومع ذلك فالفرد يعيش بالضرورة في جماعة، والحياة الاجتماعية تتطلَّب بالضرورة الاشتراك مع الآخرين في فعل الجماهير. فالجماهير شر لا بد منه! وهنا يبدو أورتيجا أقرب إلى جان بول سارتر في أن «الجحيم هو الآخر» مع أن الفرد قد يقوى بفعل الجماهير، وتتأكَّد فرديته وينمو مشروعه من خلال مشاركة الآخرين. وإذا اعترف أورتيجا بأن الجماهير شرٌّ لا بد منه ما دام الإنسان الجماهيري لا يستطيع أن يعيش حياةً فرديةً نظرًا لتعارض مشروعه مع مشروعات الآخرين، فإنه أيضًا يعترف بضرورة الإبقاء على حياة الجماهير، ونمط سلوكها، ولكن حتى في هذه الحالة تتحول أية مشاريع مشتركة بين الفرد والجماعة مثل العدالة الاجتماعية إلى رومانسية خطابية باسم التضامن الاجتماعي Solidarisme. ثم يبرز الديماغوجيون فيقضون على الحضارة كلها إذ ان الديماغوجية هي عدم شعور بمسئولية الديماغوجي عن آرائه وأفكاره التي لم يبدعها هو بل تلقفها من الصفوة. الديماغوجية عند أورتيجا هي إحدى صور الانحطاط العقلي. هي شر مركب في الطبيعة الإنسانية، تظهر في الإنسان الجماهيري. والحقيقة أن هناك فرقًا بين الديماغوجية والثورة. الأولى تحريض للجماهير والثانية تحقيق علمي لحركاتها. إن ثورات العصر ليست مجرد تحريض ديماغوجي أو تمرد وعصيان بل هي ثورات لها أصولها التاريخية في الأوضاع الطبقية للطبقات الكادحة في البلاد النامية في هذا القرن وردود فعل على المجتمعات الصناعية المتقدمة في النظم الرأسمالية خاصة في القرن الماضي. ومهمة الحزب الشعبي أو التنظيم السياسي أو طلائع الجماهير تحويلُ التمرد إلى ثورة وإعطاء البعد التاريخي لحركة الجماهير.
وينكر أورتيجا على الفكر الاجتماعي مفهوم المجتمع أو الجماعة. فقد خلط الفكر الحديث، في رأيه، بين المجتمع Société وبين المشاركة Association. فنحن لا نعيش في مجتمع بل في مشاركات، وهي نفس التفرقة المشهورة عند تونيس Tönnies بين المجتمع Geselchaft والجماعة Gemeinschaft. الأولى عامة مجردة، لا شخصية، والثانية خاصة وعيانية وشخصية. كما يرفض أورتيجا نظرية العقد الاجتماعي عند اسبينوزا وروسو باعتباره اجتماع إرادات لأن المجتمع مشاركةٌ في كيان الفرد دون تنازلٍ عن إرادته وسلطته. وهنا يبدو أورتيجا رافضًا للتصوُّر الاستقرائي للعقد الاجتماعي، أي الصعود من إرادات الأفراد إلى إرادة الجماعة مفضلًا التصور الاستنباطي، أي وجود المجتمع المسبق في صورة مشاركة في بنية الفرد. الجمهور بُعدٌ للفرد. كما أن القانون ليس تعبيرًا عن إرادة جماعية بل هو تعبير عن العقل الحيوي في الأفراد. بهذه التحليلات الجديدة يحاول أورتيجا المساهمة في تقدم العلوم الاجتماعية التي تخلَّفت عن العلوم الطبيعية في الغرب.
وينتقل أورتيجا من علم الاجتماع إلى علم السياسة وتتحول القضية من الفرد والجماعة أو الصفوة والجماهير إلى قضية الليبرالية والنظم الجماعية وفي مقدمتها الاشتراكية وبنفس التمايز والتقابل والتضاد. وقد ظهر كلا المذهبين في الوعي الأوروبي؛ فالليبرالية الفردية تنتمي في رأي أورتيجا إلى القرن الثامن عشر. وهي التي ألهمت الثورة الفرنسية وانتهت بنهايتها. أما الجماعية Collectivisme فقد ظهرت أيضًا ابتداءً من القرن الثامن عشر ثم تحولت إلى اتجاهٍ رجعيٍّ محافظ على أيدي دي بونالد De Bonald، ودي ميستر De Maistre حتى سان سيمون Saint-Simon وبلانش Blanche وكومت Comte في القرن التاسع عشر. ثم أتى آمار Amar وتحدث عن الجمعية Collectism في مقابل الشخصانية Personalism، وجعلها ضد الفردية؛ وبالتالي استقر في الوعي الأوروبي هذا التعارض بين الفردية والجماعية، بين الليبرالية والاشتراكية. والحقيقة أن أورتيجا بهذا التاريخ المبتسر للفكر السياسي الأوروبي قد أغفل تطورات عديدة له ومذاهب أخرى فيه ومحاولات الجمع بين الاثنين. فقد استمر الاتجاه التحرري الليبرالي في القرن التاسع عشر عند مل J. S. Mill، وتحدث سبنسر Spencer عن الفرد باسم الجماعة. وماذا عن ماركس والمذاهب الاجتماعية التي أعطَت للمذاهب الجماعية طابعًا تقدميًّا؟ ولا يُخفي أورتيجا تأييده للمذاهب الفردية ضد المذاهب الجماعية لأن الجماهير عاجزة عن أن ترتقي إلى حياة الفردية والشخصانية. يعادي أورتيجا الاتجاهات الجماعية لأنها في رأيه تمنع الاتجاه التحرري. وهو النقد الشائع الذي توجِّهه الرأسمالية إلى النظم الاشتراكية والذي يمكن لأجله وصف بعض فلاسفة الوجود بالرجعية والتعبير عن النظم الرأسمالية وحب الغرب. والحقيقة أن الجماهير ما زالت مسيرة للنظام الرأسمالي في الغرب تحسب الصفوة حسابها. وكثيرًا ما تنفجر الجماهير في النظم الرأسمالية فتتكيف هذه طبقًا لها، وكما حدث في ثورات الشباب في العالم في مايو ١٩٦٨م وكما حدث في الحركات الشعبية في النظم الرأسمالية التابعة في إيران ١٩٧٩م، والسودان ١٩٨٦م، والفلبين ١٩٨٦م، وكوريا الجنوبية ١٩٨٧م.
وتتميز جماهير العصر الحاضر بخصائص ثلاث:
  • أولًا: التجمع Agglomération أو المَلاء Plein فكل مَرْفَق يفيض بالبشر: المنازل، والشوارع، والفنادق، والقطارات، والمركبات، والمقاهي، والمستشفيات، ودور اللهو … إلخ، حتى أصبحت مشكلة اليوم هي إيجاد «المكان الخالي». ولم يحدث للجماهير من قبل أن تحولت إلى مثل هذه التجمعات الكبيرة إلا في المعارك والحروب القديمة. «الجماهير» إذن لفظ من علم الاجتماع الدينامي يعبر عن الناس من حيث كونهم ظاهرةً كمية مرئية. يقصد أورتيجا بواقعة التَّجَمْهر الجماعات الكمية المتراصة التي يتم التبادل بينها بلا تفرُّد أو خصوصية كقطع غيار آلة لا وظيفة لها إلا سَيْر الآلة ودوام حركتها.
  • ثانيًا: الوعي التاريخي؛ إذ تقوم الجماهير اليوم بنفس الدور الحيوي الذي كانت تقوم به الصفوة المختارة من قبل. بل إنها تتجاوَز قيادة الصفوة وتعصاها. تتمتَّع اليوم بما كان محرمًا عليها بالأمس. لقد عرف الشعب قديمًا أن السيادة له ولكنه لم يعتقد ذلك إلا اليوم، ولم يحول اعتقاده إلى حقيقةٍ فعليةٍ إلا بسيادة الجماهير بعد تحرر الإنسان العادي وشعوره بشخصيته المستقلة وخاصة أن عصر التنوير لم يحرر إلا طبقة المثقفين فحسب. والآن يخشى الديموقراطيون نتيجة هذا التحرر بعد أن أصبح عبد الأمس سيد اليوم. للجندي نفس الحق الذي للقائد، وللمواطن نفس الحق الذي للحاكم، وللابن نفس الحق الذي للأب، وللطالب نفس الحق الذي للأستاذ لأن عصرنا هو عصر التسوية Nivellement، مساواة كل فرد للفرد الآخر. ويحلِّل أورتيجا هذه الخاصية من جانبين؛ الأول: الدور الحيوي الذي تقوم به الجماهير، وهو الدور الذي كان حكرًا على الصفوة. والثاني: تمرد الجماهير على الصفوة وكرهها لها من أجل أن تحل محلها. ويمثل هذان الجانبان جدل السيد والعبد المعروف عند هيجل وفي صورة الجدل بين الصفوة والجماهير. وبعد هذا التحوُّل، أصبح الإنسان العادي محور التاريخ. يبدو ذلك في الفن وأخذ الفن الشعبي كمصدر للفنون الراقية، في الموسيقى والرسم والنحت، وكما هو واضح في الأنظمة السياسية الجديدة المعروفة باسم «الديموقراطيات الشعبية» أو «الجمهوريات الشعبية» أو «الجماهيرية الديموقراطية الشعبية». تعبر ثورة الجماهير إذن عن مدى ارتباطها بالتاريخ القديم لأن الثورة لا تقوم إلا على «العقل التاريخي». لذلك تدين أوروبا أكثر ما تدين لاثنين من مفكريها؛ ديكارت مؤس الاتجاه العقلي الحديث؛ وكوندرسيه واضع مفهوم التقدُّم. ثم ظل العقل طيلة ثلاثة قرون عقلًا رياضيًّا طبيعيًّا بيولوجيًّا حتى ظهر العقل التاريخي في القرن الماضي في فلسفات التاريخ والذي عبَّر عنه دلتاي في فلسفة تصوُّرات العالم Weltanschaunung. هذا هو الفرق بين التاريخ الطبيعي والتاريخ الإنساني. التاريخ الطبيعي لا ذاكرة له، أما التاريخ الإنساني فيعيش في الذاكرة، ولا يبدأ مطلقًا بداية جديدة. وقد أثبتت تجارب كوهلر KöhIer أن الفرق الوحيد بين الشمبانزي والإنسان هو تميُّز الإنسان بالذاكرة، الإنسان ذاكرة والحيوان مادة على ما يقول برجسون. ويكون ثراء الإنسان هو مدى استفادته من محاولات الصواب والخطأ؛ لذلك يعرِّف نيتشه الإنسان الأسمى بأنه الموجود الذي يتمتَّع بأطول ذاكرة. وهذا هو السبب في جعل الشعب الإنكليزي قانونه قانونًا تاريخيًّا يكون حكم الواقعة الحاضرة في الحالة السابقة. أما الثورات المتقطعة المنفصلة عن تاريخها (الثورة الكمالية في تركيا مثلًا) فهي ثورات مَرَضية أو انقلابات عسكرية أو تمرُّد طبقي. الثورة حركة الجماهير وليست انقطاعًا عن الماضي، تكسُّر خط مستمر، وقفز في مسارٍ واحد، وهذا أيضًا ما تتميَّز به أوروبا بحسِّها التاريخي عن أمريكا بلد الرخاء. فهناك قصر نظر في السياسة الأمريكية وتركيز على رؤية الحاضر والواقع المباشر دون أي حسٍّ تاريخيٍّ بحركات الشعوب. ومَنْ يتصوَّر أن أمريكا بلد المستقبل ينسى انعدام حسها التاريخي.
  • ثالثًا: العيش على مستوى العصر، ويدلُّ هذا التعبير على أن الجماهير اليوم تعيش على مستوى الأحداث والمسئولية، تعيش زمانها الحيوي، وتعاني مشاكل عصرها. وهو ليس الزمان الذي تُبيِّنه عقارب الساعة أو نتائج الحائط السنوية، بل هو عصرها الذهبي الذي تشعر فيه بتحققها أي أنه زمان المعاصرة. وهو تعبيرٌ مغاير لتعبير السقوط أو الانهيار لأن العيش على مستوى العصر هو العيش في سَمْت الزمان Le hauteur du temps وعلى هذا النحو تشعر الجماهير بالأحداث. وكثيرًا ما يرى الناس قمة الزمان في العصر الذهبي أو العصر القديم كما هو الحال عند دعاة الكلاسيكية أو التقليديين. وهي الفترة التي يشعر فيها الناس باكتمال الزمان أو انتهائه كما حدث للمسيحيين الأوائل بظهور المسيح أو عند هيجل بتحققِ المطلق. وفي هذا العصر يكون الاكتمال في الإشباع أو في النجاح أو في الوفرة. إن المعاصرة هي أن يعيش الإنسان حياة عصره وأن يشعر أن حاضره أفضلُ من ماضيه. ومن خصائص هذا العصر أنه عصر الجماهير، ولا تُرى أحداثه إلا من خلال الجماهير. لقد صعدت الجماهير إلى مستوى التاريخ، وظهرت كمبادرة تاريخية وكأنها في موعد مع القدر. قررت أن تتقدَّم إلى الصفوف الأولى وتحتل مكان الصدارة وأن تستعمل طرقًا وأساليب وأدوات متنوعة، وأن تتمتع بمناهج كانت من قبل حكرًا على عدد قليل. لقد ورثت الجماهير الصفوة، دون أن تلغي نفسها كجماهير. عصر الجماهير هو عصر الفخامة والعظمة على ما يقول اشبنجلر. وكل تفسيرٍ للعصر لا يُظهر الدلالة الإيجابية المختفية لسيطرة الجماهير فإنه تفسير خاطئ. تبدو أصالة الجماهير في مدى ارتباطِها بالتاريخ وتحمُّلها مسئوليته؛ وبالتالي فإن عظمة العصر تأتي من عظمة الحاضر لا من عظمة الماضي. بل إن من سِمات العصر تلك الهوَّة السحيقة بين الماضي والحاضر، العصر الحاضر لا يحتضر كما هو الحال عند أونامونو بل هو قمة الزمان، روح العصر، ما يطلق عليه كل جيل زماننا، عصر ازدهار الحضارات، عصر الملاء الحيوي بصرف النظر عن الإشباع أو النجاح أو التحقُّق. العصر الحاضر هو عصر الثورات سواء في البلاد المتطوِّرة أو في البلاد النامية، ومن يعيش معاصرًا هو مَن يعيش ثائرًا، ومن يؤثر الاستكانة أو النكوص عن ثورة الجماهير فإنه يتخلَّى عن عصره، ويعيش معزولًا في عصره الخاص كما يفعل كثيرٌ من علماء البلاد النامية الذين يقضون حياتهم في الخارج مؤثرين عصر التكنولوجيا واليُسر على عصر ثورة الجماهير؛ لذلك كان الالتزام بقضايا العصر هو العمل الفلسفي الأول، والمساهمة في ثورة الجماهير هو السلوك الوحيد الممكن. بل إن وَحْدة الثورة العالمية أصبحت ممثلةً لحركة الجماهير.
تدل هذه الخصائص الثلاثة على نماء الحياة La Croisssance de la vie إذ يعيش كل فردٍ حياته بكامل قواه، لا يظهر النماء في ازدياد السرعة في الزمان أو في تخطِّي المكان بل في محاولة الهدم والبناء المستمرة وفي النشاط الحيوي الزائد. إذ يقدم العصر الحاضر في البلاد المتطورة إمكانيات واسعة للاختيار. وفي هذه الحالة يكون النماء هو شعورنا بالقدرة على الاختيار بين الممكنات التي تحتِّم نفسها علينا، وتكون الحياة هي العيش تحت ظروفٍ معينةٍ أو في العالم. وهو المعنى اللغوي للفظ عالم Mundus أي مجموع الإمكانيات الحيوية، والعالم بهذا المعنى، أي مجموع إمكانياتنا، أوسع نطاقًا من مصيرنا وهي حياتنا الفعلية. يدل العصر الحاضر على زيادة إمكانيات الحياة الإنسانية في شتى الميادين الثقافية والعلمية على عكس إمكانيات الحياة البدائية. ولا تستطيع هذه الحياة الاتجاه إلى الماضي بل ترى مصيرها في نفسها. حياتنا لا تتجه إلى الوراء بل تكشف عن نفسها وقدرها. ولما كان الإنسان مقذوفًا في الزمان، والعالم موجودًا من قبل فالإنسان موجود في العالم وهي إحدى المقولات الرئيسية في الفلسفة الوجودية. لا تختار الحياة عالمها بل على العكس يجد الإنسان نفسه حيًّا في عالم محدد لا يمكن استبداله، أي في هذا العالم الواقعي. عالمنا هو جزء من المصير الذي يشمل حياتنا. هذا المصير الحيوي ليس مصيرًا آليًّا بل هو مصير يتطلب اختيارًا بين الممكنات. لم نُقذَف في الوجود مثل طلقة بندقية تحدَّد مسارُها من قبل بل فرضت علينا مساراتٍ عدة تضطرنا إلى الاختيار. أن يحيا الإنسان هو أن يشعر حتمًا باضطراره ممارسته حريته، يقرِّر ماذا يريد أن يكون في هذا العالم. ولو كنا يائسين فقد قررنا ألَّا نقرر. ومن الخطأ التسليم في الحياة بأن الظروف هي التي تقرر نيابة عنا، بل على العكس الظروف هي التي تكوِّن بنود المأساة التي تتجدَّد باستمرارٍ والتي تدفعنا إلى أخذ موقف. شخصيتنا هي التي تقرِّر في الموقف. وهذا تمامًا ما انتهى إليه عديدٌ من فلاسفة الوجود المعاصرين مثل ياسبرز في «المواقف المحددة»، ومثل قول سارتر المشهور: «إن الإنسان قد حكم عليه بالحرية.» ومثل نظرية برجسون في الجبر الذاتي، واضطرار الإنسان أن يكون حرًّا. أن يحيا الإنسان هو أن يوجد في الظرف أي في العالم. والعالم مجموع إمكانياتنا، والفرد هو اختيار أحدها ثم تحقيقها. بل إن أسوأ الإمكانيات هي إحدى الإمكانيات؛ لذلك كان الموقف والقرار هما أهم عاملين في الحياة. الظرف هو مجموع الإمكانيات، والقرار هو اختيار إحداها، الموقف لا يقرِّر بل الحرية هي التي تقرِّر. وهذا كله مرهون بالإنسان الفرد. أما الإنسان الجماهيري فإنه باعتباره فردًا يحمل في طياته إمكانيات خالصة، خيرًا كانت أم شرًّا، ولكنه باعتباره جماهيريًّا فإنه ليس صاحب القرار. الجماهير لا تقرِّر شيئًا لأن دورها قاصرٌ على الموافقة على قرار الأقلية التي تقدم برنامجًا يعبِّر عن الحياة الجماعية في النظم الديمقراطية. وفي الغالب يعيش ممثِّلو السلطة العامة دون برامج. ويحكمون يومًا بيوم طبقًا للمنفعة العاجلة وكما تحتِّم الظروف تبعًا لضغط الجماهير عليهم؛ لذلك لا تخلق الجماهير شيئًا بالرغم من إمكانياتها الواسعة. ويستطرد أورتيجا معبِّرًا عن هذا الموقف الوجودي الذي يشترك فيه جميع فلاسفة الوجود وهو أن وجودنا في هذا العالم رسالة ومشروع، وأن هذا المشروع لا يكون من المعرفة وحدها بل من السلوك أولًا، وأن المعرفة تكون ضروريةً فقط بقدر ما يتطلَّبه السلوك. أن يحيا الإنسان هو أن يكون في علاقةٍ بالعالم، وأن يصطدمَ بمشكلات، ويجابهَ أخطارًا، ويحمل مسئوليات، كل ذلك وهو في مواقف محددة تجعله أقرب إلى التبعية أو الاستقلال. أن يحيا الإنسان هو أن يشعر بمحدوديته وأن يتعاملَ مع المحددات بحيث يتم تجاوزها والتحرُّر منها فيتخلَّق الإنسان بنفسه معتمدًا على نفسه دون أن يلجأ إلى عونٍ خارجي. وإذا كان شعار الحياة قديمًا هو أن يشعر الإنسان بحدوده والاعتماد على ذاته فإن الحياة الآن هي أن يشعر الإنسان بقدرته على تجاوُز هذه الحدود والاعتماد مطلقًا على ذاته. إن الإنسان الممتاز يتطلَّب الكثير من نفسه، أما الإنسان العادي فإنه يرضى بوضعه، ويقنع بظرفه، ويستسلم للموقف. العالم موجودٌ بالفعل، والإنسان موجودٌ في العالم. والسؤال الذي وضعتْه الفلسفات المثالية عن وجود العالم لا معنى له لأن العالم موجودٌ بالفعل قبل السؤال عنه. وما دام إنسان هناك فالعالم جزء منه.
ويسمِّي أورتيجا هذه الفردية المتميزة النبل La Noblesse وإذا كان النبلُ قديمًا قاصرًا على الصفوة المختارة، وكان النبيل هو مَن يتطلَّب من نفسه الكثير لأنه يتمتَّع بإمكانياتٍ أكثر مما يتمتَّع به الإنسان العادي، فإن الإنسان العادي اليوم يكون نبيلًا أيضًا لأنه يتمتَّع بإمكانياتٍ واسعةٍ ﻓ «النبل يستلزم» Noblesse oblige. النبيل في اللغة هو الإنسان المعروف في مقابل الإنسان النكرة. ولا تتم هذه المعرفة عن طريق الطبقة كما هو الحال عند الصفوة المختارة بل عن طريق العمل. النبل هو الجهد، والتفاهة هي الاستكانة. والنبلاء حقًّا هم الذين يبذلون أقصى جهدهم، وهم الصفوة المختارة. يتحدَّد النبل بالالتزامات وليس بالحقوق، بالعطاء وليس بالأخذ. النبل هو العيش طبقًا للقانون عند الصفوة، وعلى السجية عند الجمهور. وإذا كان النبل هو حياة المشقة والجهد والإبداع في مقابل حياة التفاهة والاستكانة، فإن أورتيجا هنا يكون أقربَ إلى فلاسفة الجهد مثل مين دي بيران Main de Biran وبرجسون، بل وعَوْدًا إلى فشته وفلسفة المقاومة. وإذا كنَّا نعيش الآن في عصر التفاهة، تسوية كل شيء بكل شيء فإن الفرد المتميز قادرٌ على الخروج على هذا العصر متمثلًا النبل في حياة الجهد وخلق الذات بالذات؛ وبالتالي يكون النبلاء هم الفلاحون الذين يفلحون الأرض، وهم العمال الذين يُنتجون بأيديهم، وهم الشهداء الذين يبذلون حياتهم، وكل مَن تتصبَّب جباههم عرقًا، وكما قال الشاعر العربي قديمًا:
إنَّ الفتى مَن يقولُ ها أنا ذا
ليس الفتى مَن يقولُ كانَ أبي
ونظرًا لطول انغلاق الإنسان العادي على نفسه تنشب ثورة الجماهير في جو من العنف، تبدو الجماهير عاصيةً متمردة خاصة وأنها تشعر بالكمال الذي يؤدي إلى الغرور. ولا يدل ذلك على غباء الإنسان الجماهيري بل على يقظته. يقوم بالثورة دون أساس عقلي بل اعتمادًا على اعتقادات وتقاليد وتجارب وحِكَم وأمثال. صحيح أن الإنسان اليوم يحاول أن يكوِّن لنفسه نظريةً أو مجموعةً من الأفكار عن الأشياء، وأن يعطيَ إجاباتٍ على كل ما يعرض له من مسائل، ولكن الخطورة أن تكون هذه الأفكار خاطئة. كل فكرة فشل للحقيقة، ومن يبحث عن الأفكار تبتعد عنه الحقائق. والحضارة ما هي إلا مجموعة من القوانين والقواعد التي تنظِّم هذه الأفكار. فإذا غابت هذه القوانين تحوَّلت الحضارة إلى بربريةٍ وعنف. ويعطي أورتيجا أمثلةً على ذلك في الحركات النقابية والفاشية دون أن يذكر النازية والصهيونية، متجنيًا على الحركات النقابية التي تحاول رفع الظلم عن العمال ضد أصحاب رءوس الأموال. فعنفها عنف مضاد وليس عنفًا أوليًّا، عنف محرر وليس عنفًا قاهرًا؛١ لذلك لا يتحدث أورتيجا إلا عن أحد جوانب العنف وهو العنف المضاد ناسيًا العنف الأول أي مصدر العنف. ولا يميز بين العنف المشروع وهو العنف المضاد والعنف اللامشروع وهو العنف الأساسي. ويكتفي بالقول بما تردِّده أجهزةُ الإعلام تسطيحًا للأمور ودفاعًا عن السلطة من أن العنف هو عدم اعترافٍ بأن الآخرين على حق، والتأكيد على أن الإنسان وحده على حق فارضًا إرادته على الآخرين. فالآراء ليست مجرد نظريات بل هي رغبات وإرادات وقوى. ويزيد العنفُ رفضَ الجماهير أساليب الحوار لأن الحوار جدل الأفكار. بذلك ينتهي النقاش، ويشتد العنف، ويبدأ العمل المباشر L’action directe. يدل العنف على إفلاس العقل ويأسه. وقد كان يُسمَّى قديمًا العقل الأخير Ultima Ratio وكما قال الشاعر العربي:
السيفُ أَصْدقُ أنباءً من الكُتُب
في حدِّه الحدُّ بين الجِدِّ واللَّعِب

والحقيقة أن العنف ليس قاصرًا فقط على الجماهير بل هو ممتد أيضًا إلى الصفوة. وليس فقط أحد مظاهر البدائية ولكنه أيضًا أحد مظاهر المدنية. فكلما تطوَّرت المجتمعات وزادت رفاهية ظهر فيها العنف لإعادة توزيع الثروات ولرفض قيم مجتمع الرفاهية. هناك مجتمعات بأكملها قائمة على العنف سواء في نشأتها أو في استقرارها، مثل المجتمع الأمريكي في استئصالِه للهنود الحمر في الداخل وقمعه للشعوب في الخارج، في استجلابه الأفريقيين كعبيد في الداخل وانتشار الرجل الأبيض في الخارج. أصبح العنف في المجتمعات المتطورة أحد أنماط السلوك في الحياة اليومية كوسيلة للتعامل مع الأفراد وكدافع لحركة التصنيع وكدعوة للحرب.

ولثورة الجماهير وجهان؛ وجه انتصار ووجه هزيمة، وجه حياة ووجه موت. تستطيع ثورة الجماهير أن تؤدي إلى تنظيم جديد للإنسانية ولكنها أيضًا تستطيع أن توقع النوع الإنساني كله في كارثة. ثورة الجماهير إذن قد تسير في خطَّيْن محتملين متعارضين دون حتمية الوقوع في مسار واحد. لقد آمَن فلاسفة التاريخ بالتقدُّم الحتمي الذي يسير في خطٍّ واحد إلى الأمام مع أن التقدُّم قد يكون إلى الوراء أي نكوصًا. وإنها لتقدميةٌ عمياء سواء من النظم الليبرالية أو النظم الاشتراكية تلك التي ترى أن مسار التاريخ ينتهي حتمًا إلى واحدٍ منها. لا يوجد مسار حتميٌّ للتاريخ بل توجد مجموعة من اللحظات، كل واحدة منها مستقلة عن الأخرى، لا تتحرك من مكانها. وهكذا يقترب أورتيجا من نظرة كيركجارد والبروتستانتية للتاريخ. فالتاريخ يتكون من مجموعة من اللحظات المستقلة التي يهبط فيها الخلود هبوطًا رأسيًّا. ومجموع هذه اللحظات يكون هو التاريخ. إن التقدم يحتوي على عناصر فنائه في داخله. كلما تقدمت المدنية احتاجت إلى تطهير نفسها لما علق بها من ثقل يفقدها كل حياة، فكل دافع حيوي يتوقف، ويتحول إلى ثقل مادي كما يقول برجسون.

هذه التعرية المستمرة للتقدم والمدنية تدل على أن مصير التكنولوجيا هو البدائية Primitivisme. وقد تنبأ آينشتين من قبل بأن الحرب التالية للحرب الذرية المقبلة ستكون من جديد عود إلى حرب «النِّبال» التي كان يستعملها الإنسان البدائي. إنسان اليوم إنسان بدائي أو إنسان طبيعي Nutermensch يظهر في عالم متمدين، ويظن أن المدنية هي نتاج الطبيعة مع أنها اصطناع العصر. التكنولوجيا وحدها لا تضمن شيئًا، والدولار لا يؤسس معرفة على حد قول أورتيجا وإلا «لبسنا قشرة الحضارة والروح جاهلية.» كما يقول الشاعر العربي الحديث. وينطبق هذا التحليل حتمًا على المجتمعات النامية التي ما زالت تتعثر في بُدائيتها. لقد حاولت بعض المجتمعات النامية نقل بعض أساليب التكنولوجيا الحديثة دون تغيير أساسي في بنائها النفسي. فهناك مصانع للثلاجات في بلد يشرب ثلاثة أرباعه الماء العكر، أو نافورة ماء تضيء ليلًا وترقص مياهها على أنغام الموسيقى في ميدان عام ليتبول فيها الأطفال لأن الميدان خالٍ من دورات المياه، أو الأنفاق الحديثة التي يعيش فيها الباعة المتجولون أو ناطحات السحاب التي يسكن في ظلها من لا مأوى لهم، أو المساحات الخضراء في الشوارع التي يربي فيها الناس الطيور، أو المسارح والمدرجات التي تتجول فيها القطط والكلاب … إلخ. كل مدنية إذن مهدَّدة بالضياع. يُحرق الآلاف في أفران الغاز، وتُلقى القنابل الذرية على مدنٍ بأكملها. فالمدنية تهدِّد نفسها بالدمار. لقد سقطت الإمبراطورية الرومانية لنقصٍ في التكنولوجيا. واليوم يسقط الإنسان المعاصر بسبب تقدُّم التكنولوجيا! سقط الإنسان القديم لأنه تخلَّف عن المدنية، وسقط الإنسان المعاصر لأنه فاق تقدُّم مدنيته!

ويضرب أورتيجا المثل بالحركة الفاشية والثورة البلشفية على الوجه العادم لثورة الجماهير متناسيًا كالعادة النازية والعنصرية. والواقع أن الفاشية ليست ثورة للجماهير بل حركة عنصرية تقوم على أسطورة الجنس الراقي وعلى أمجاد القدماء ومفاخر الحاضر. ويستغل دعاتُها حركةَ الجماهير بالأسلوب الديماغوجي. أما الثورة البلشفية فالأمر مختلف إذ إنها تعتمد على حركة الجماهير دفاعًا عن مصالح الطبقات الشعبية الكادحة واستنادًا على الوعي الطبقي للحزب. وهي ثورة تاريخية وليست مجرد حركة معاصرة. صحيح أن التاريخ كان دائمًا تاريخ النبلاء والأشراف والملوك والأمراء، فهم بُناة القصور والكنائس، ومؤسسو الإمبراطوريات، وواضعو القوانين، ولكن الشعوب الكادحة تكمن وراء ذلك كله؛ عمَّال القصور، وجنود الحروب، وفلاحو الأرض. وهي قديمة بقدم الأرض، أهملها التاريخ ولم تظهر إلا في ثورات العصر وكأنها انفجار بعد طول غياب. فإذا كانت الثورة الروسية قد انفصلت عن تاريخ روسيا القيصري فإنها تعبر عن تاريخها الإنساني الطويل. وإن لم تستمر الحركة الفاشية أكثر من خمسة عشر عامًا، وهو العمر الذي يحدِّده أورتيجا للحركات المنفصلة عن تاريخها، فإن الثورة البلشفية قامت منذ أكثر من نصف قرن، وما زالت مستمرةً.

وبطبيعة الحال عندما يتحدث أورتيجا عن العصر الحاضر فإنه يقصد التجربة الأوروبية أي الغرب المعاصر. فقد أصبحت الحياة الجديدة ممكنةً فيه بفضل ثلاثة عناصر: الديمقراطية الليبرالية، والتجربة العلمية وما ينتج عنها من تقنية، والتصنيع. ويبرز أورتيجا خلاصة هذه التجربة الأوروبية مبينًا كيف كانت ثورة الجماهير في العصر الحاضر ردًّا على التجربة الأوروبية الماضية والتي استغرقت ثلاثة قرون. وقد انتهت هذه التجربة إلى الحقائق الثلاث الآتية:
  • (١)

    إن الديمقراطية الليبرالية القائمة على التكنولوجية هي أفضل أنماط الحياة.

  • (٢)

    إن أفضل نمطٍ للحياة الممكنة يوجب المحافظة على هذين العاملين؛ الديمقراطية الليبرالية والتكنولوجيا.

  • (٣)

    إن كل محاولة للرجوع إلى الوراء إلى النظم السياسية السابقة هي محاولة انتحارية.

ولقد ساعد هذان العاملان؛ الديمقراطية الليبرالية والتكنولوجيا (مجموع الخبرة العلمية والتصنيع) الإنسان العادي على تسهيل الحياة المادية له ورفع مستوى معيشته. كما أعطياه قسطًا وافرًا من الراحة حتى أصبح العصر الحاضر خاليًا من كل عقبات مادية. كما سهَّلت له حياته المدنية والأخلاقية. وإذا كان القرن التاسع عشر عصر الثورات فإن الثورة ليست تمردًا بل وضع نظام جديد محل النظام القديم. وبذلك يمتاز الإنسان المعاصر بالتوسُّع في رغباته الحيوية وفي الوقت نفسه بعدم رضاه عما يسهِّل له حياته. وهذان هما العاملان النفسيان اللذان يحددان سلوك الطفل المدلل الذي لا يشبع مهما استُجيب إلى طلباته والذي يعتبر كل ما يحصل عليه حقًّا مكتسبًا. كذلك الوعي الأوروبي يشعر بأن ما وصلت إليه القرون الماضية خاصة القرن الماضي، وإنما أصبح حقًّا طبيعيًّا مكتسبًا له. إن ما يشغل الجماهير الآن هو رخاؤها، ولكنها في الوقت نفسه تثور لطلب الخبز فتحطم المخابز، تثور على المدنية التي تنعم بها فيصيح هيجل: «الجماهير تتقدم.» ويعلن أوجست كونت: «عصرنا عصر ثوري تتولَّد عنه الكوارث.» ويصرح نيتشه: «أرى مد العدمية يقترب.» ومع ذلك يتميز العصر الحاضر بسهولة الحياة المادية، يقضي فيه الفرد حاجياته، ويرضى عن نفسه. إنه عصر إشباع الحواس، عصر التخمة، يفرض إرادته بالعمل المباشر. ومن هنا أتَتْ نغمة الانتصار. تبدو له حياته العقلية والخُلُقية مُرْضية تمامًا، هذا الرضا عن النفس يجعل الإنسان المعاصر أصمَّ عن كل ما يُقال له فلا يملك إلا أن يفرض إرادته بالعمل المباشر. إن هذه الوفرة لا تسمح له بأن يعيش حياته لأن الحياة صراع الإنسان من أجل البقاء ومحاولته أن يكون ذاته. أما إنسان العصر التعايشي الذي يريد راحة بدنه وإشباع رغباته وسكينة نفسه فهو من بقايا الأرستقراطية الوراثية؛ إنه عصر عبادة الجسد (كما هو واضح في الأفلام، والاعتناء بالمظهر، وغياب الرومانسية في العلاقة مع الجنس الآخر). يتحدث أورتيجا عن العصر في مجتمع الاستهلاك الذي يشبع كل فرد فيه رغباته والذي يفيض منه الإنتاج عن حاجاته. وهو العصر الذي لم تَعِشْه بعدُ المجتمعاتُ النامية التي تهدد المجاعةُ بعض شعوبها وسوءُ التغذية البعض الآخر. بل إن هذه الموجة من التسهيلات التي تعمُّ المجتمعات المتطورة أثارت جيلًا من الشباب الغاضب فاجتاحت ثورة الغضب كثيرًا من الأعمال الأدبية والفنية، وأنشأت حضارة مضادة Conter-Culture في مواجهة حضارة العصر السائدة. لقد شعرت أخيرًا المجتمعات المتطورة بالوجه الآخر للعملة وهو فقدان الإحساس بالحياة أمام التسهيلات الجمَّة وتحويل الإنسان إلى عبدٍ للآلة بعد أن كانت الآلة عبدًا للإنسان. وما وصلت إليه المجتمعات المتطورة وشعرت بأوجه نقصه هو ما تُحاول المجتمعات النامية الحصول عليه الآن وكأن التاريخ يعيد نفسه ولكن بصورةٍ أقسى؛ لأن المجتمعات المتطورة تستهلك ما تنتجه في حين أن المجتمعات النامية تستهلك ما ينتجه غيرها. وإذا كانت المجتمعات المتطورة قد خسرت الآخرة فقط فإن المجتمعات النامية قد خسرت الدنيا والآخرة.

وقد امتازت التكنولوجيا الأوروبية على التكنولوجيا البدائية بأنها قائمة على العلم؛ لذلك أفسحت المجال للتقدم بلا حدود. لم تعد الجماهير من الطبقة العاملة وحدها بل تعدَّتْها إلى طبقات التكنوقراط والعلماء. فإذا فرضت البرجوازية القائمة أو الناشئة روحها على العصر فإن التكنوقراط يكونون جماعات داخل البرجوازية ويفرضون عليها روحهم. والعالم على رأس جماعة التكنوقراط ولكنه يقع في التخصص ويصبح تكنوقراطيًّا متخصصًا لا عالما مفكرًا. وتصبح سمة التخصُّص هي سمة العصر الحاضر. وهو ما يعارض روح القرن الثامن عشر عند فلاسفة التنوير ومَثَلُهم الأعلى في المعرفة الشاملة التي حاول فلاسفة دائرة المعارف تنسيقها. يؤدي التخصُّص إلى تضييق مجال الرؤية وإلى الخلط بين الاستقصاء والفحص وجمع المعلومات من ناحية، وبين روح العلم والإبداع العلمي من ناحية أخرى. فمجرد جمع المعلومات والتعامل معها بالعمليات الرياضية ليس علمًا بل العلم هو موقف الإنسان من الطبيعة وعمل العقل في ظواهرها. كان الناس قديمًا إما علماء أو جهالًا. واليوم هناك وسط بينهما وهم المتخصصون الذين هم علماء نظرًا وجَهَلة عملًا، والذين يسلكون في الحياة العامة وكأنهم جُهَّال. لقد ساعد التخصص العلوم التجريبية على تقدمها في القرن الماضي، ولكنه اليوم عاجز عن أن يُعطيَها دفعاتٍ أخرى إلى الأمام. وهنا يتفق أورتيجا مع برجسون في رفضه للتخصُّص وفي دعوته إلى المعرفة الشاملة. التخصص هو سبب أزمة علم النفس في النصف الأول من هذا القرن، وكذلك سبب الخلط في العلوم الإنسانية. وإذا كانت دعوة أورتيجا وبرجسون دعوة شرعية في المجتمعات التكنولوجية، فإنها لا تصدق على المجتمعات النامية التي تعاني من روح الشمول ونقص التخصص، ووضع كل شيءٍ في كل شيء.

وكما أن العلم مهدد بالتخصص فكذلك الحياة مهددة بالدولة. لم تكن للدولة في القرن الثامن عشر الأوروبي أهمية تُذكر. ثم بدأت الرأسمالية ومؤسساتها الصناعية القائمة على التكنولوجيا الجديدة في توسيع نشاطها. فظهرت طبقة اجتماعية جديدة وهي البرجوازية التي كان لديها من القدرات العلمية والعملية ما ساعدها على القيام بدور المنظِّم حتى إن الدولة نفسها كانت تدور في فلكها. لم تكن الدولة حينئذٍ إلا جنودًا وبيروقراطيين وثروةً خلَّفها نبلاء العصر الوسيط. وكانت هذه الطبقة قد انتهت لأنها كانت ذات عقل محدود. وكانت تسلك طبقًا لغرائزها وعواطفها وانفعالاتها. وكان العامل اللاعقلي هو السائد؛ لذلك لم تستطع تطوير التكنولوجيا التي تقوم على التنظيم. ونظرًا لوجود هذه الهوَّة الشاسعة بين ضعف الدولة وقوة الطبقات الاجتماعية استولت البرجوازية على السلطة. وبدأ المد الثاني للبرجوازية في القرن التاسع عشر، ونشأت دول قوية، وانتهى عصر الثورات لاتحاد سلطة الطبقة الاجتماعية مع سلطة الدولة، ولم يبقَ إلا الانقلاب. أصبحت الدولة جهازًا ضخمًا يسيِّر كل شيء، تُعْجب بها الجماهير وتنسى أنها نتاج إنساني فتنجرف داخلها. إن أخطر ما يهدِّد المدنية اليوم هو «تدويل الحياة» L’Etatisation de la vie، والقضاء على تلقائية الأفراد وحركة الجماهير. يسود العقم، ويعيش المجتمع للدولة، والفرد لجهاز الحكم. تعمُّ البيروقراطية حتى تبتلع جهاز الدولة والجيش، وتصبح الجماهير مجرد مادةٍ لتغذية جهاز الدولة كما هو الحال في النظام الفاشي وشعاره «كل شيء للدولة، ولا يوجد شيء خارج الدولة، ولا يوجد شيء ضد الدولة.» تظهر قوة البوليس، وتتضخَّم أجهزة المخابرات، وتصبح الدولة التي خلقها الفرد أخطبوطًا تمتد أطرافه في كل مكان وكأنها عين الله الساهرة. لقد كانت الدولة في القرن التاسع عشر الأوروبي، خاصة عند هيجل، أمل الجماهير حتى إنه اعتبرها الحقيقة نفسها مجسَّمة على الأرض (المطلق نفسه) بعد أن تحقق في التاريخ، والله نفسه بعد أن انتقل من ملكوت السموات إلى ملكوت الأرض، ولكنها اليوم تخلَّت عن مهمتها، وعادت الجماهير التي دعتْها من قبل. وينطبق وصف أورتيجا على الدولة في العصر الحاضر سواء في النظم الاشتراكية أو في النظم الرأسمالية أو في أنظمة الحكم في البلاد النامية. فكثيرًا ما تُعادي الدولة في النظم الجماعية حريةَ بعض الأفراد رعايةً لمصلحة الجماهير. ودائمًا ما ترعى الدولة في النظم الرأسمالية مصالح الطبقات المستغِلَّة ضد مصالح الجماهير. وفي بعض الأحيان تجمع بعض أنظمة الحكم في البلاد النامية في دكتاتورية الطبقة الجديدة والحكم لصالحها بين عيوب الأنظمة الجماعية والأنظمة الفردية على السواء. وكما يبدو ذلك في «عسكرة» المجتمع أو في قول الرئيس «الدولة هي أنا». ومن ثم يكون أورتيجا أشبه بباكونين Bakunin الثائر على دولة هيجل وبروليتاريا ماركس على حدٍّ سواء رافضًا ولاء الفرد لأية سلطة خارجة عنه سواء كانت سلطة الدولة أم سلطة الطبقة ودون أن يصل إلى حد الفوضوية كما هو الحال عند شترنر وبرودون وكروبتكين Kropotkin في القرن الماضي، وإما جولدمان Emma Goldman في هذا القرن.
١  Hassan Hanafi: DiaIectics of viloence and non-viloence, Amman, Jordan, 1986.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤