سادسًا: خاتمة

إن الدراسات المستقبلة ليست مجرد حسابات كمية لإمكانيات المستقبل والتخطيط لحياة أفضل تقوم على تنبؤ أكبر بالقدرة على استغلال الموارد، بل هي رؤية تقوم على تصور للزمان وعلى فلسفة في التاريخ. لم تنشأ في فراغ ولكنها ارتبطت بالحضارة الغربية في تاريخها الطويل خاصة في دورتها الثانية الحالية التي شارفت على الانتهاء والتي بدأت منذ أكثر من خمسة قرون. لا يمكن نقلها وتقليدها والتبشير بها والنسج على منوالها والدعاية لها والإعجاب بها في كل حضارة، لدينا أو لدى غيرنا دون تأصيل لها، وقيامها على احتياجات فعلية، ومناهج محلية. إذ لا يمكن قيام دراسات مستقبلية دون إحساس بالزمان والتاريخ والتقدم. كما لا يمكن أن تكون تعويضًا عن أزمات العصر ودواء مسكنًا لاحتياجاته الملحة. إن التحول من الماضي والاتجاه نحو المستقبل في وعينا القومي، والوعي بتجارب الآخرين في نشأة الدراسات المستقبلية من خلال فلسفة التاريخ أي التحول عن الماضي واكتشاف مفهوم التقدم، وكذلك الوعي بالمرحلة التاريخية التي يعيشها جيلنا اليوم، والعلم بالحالة الراهنة للوعي الأوروبي وأزمته، كل ذلك هي الشروط المؤهلة لنشأة الدراسات المستقبلية لدينا تأصيلًا ووعيًا وإبداعًا.

إن الوعي بالموقف الحضاري التاريخي الشامل للعالم وهو ما يسمى بنظام العالم الجديد على مستوى العلوم السياسية لهو الشرط لتصور عالم الغد بين الأمس واليوم. وهو الذي يمكن وصفه كالآتي: أزمة المجتمعات الحديثة في الشرق والغرب على السواء، وأزمة النظم السياسية والاقتصادية في المجتمعات الرأسمالية والاشتراكية، ثم بزوغ تجارب العالم الثالث وأهمية المجتمعات التراثية تأصيلًا لذاتها وتحديثًا لمجتمعاتها مع اكتشاف أدوارها التاريخية بعد انتصارها في معاركها الوطنية من أجل الاستقلال والسيادة. تعطي مثلًا جديدًا لعالم جديد، منذ باندونج حتى عدم الانحياز، في عالم لا عنصري، يقوم على المساواة، وعلى مساهمة جميع الشعوب في صنع حضارة إنسانية واحدة، دون أن يكون أحدها المركز والأخرى الأطراف. تحتوي على إمكانيات اقتصادية هائلة في الموارد الطبيعية والاستثمارات المصرفية والقدرات العقلية الإبداعية والتجارب النضالية الحية الناجحة في مصر والصين والجزائر وفيتنام وإيران، واكتشاف دوراتها الحضارية الحالية ودوائرها التاريخية التي تضمها من جديد إلى الشرق؛ وبالتالي تكون أجيالنا بداية لتحول جذري في تاريخ العالم وفي مسار التاريخ.١
١  يرجع الفضل إلى صديقنا د. أنور عبد الملك في محاولاته العديدة للتعريف بهذا التيار والتركيز على أهميته في وعينا القومي، انظر أيضًا بحثنا «التراث والنهضة الحضارية» ندوة الإبداع الفكري الذاتي في العالم العربي، جامعة الأمم المتحدة، الكويت، مارس ١٩٨١م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤