أنَّا

تبدو في ذاكرتي كطيف جميل.

أذكر أن أمي وجارات البيت كن يمتدحن محاسنها، فلابد أنها كانت كذلك بالفعل. لا أدري — حتى الآن — معنى الاسم «أنَّا»، وهل هو تعبير عن أصول غير مصرية، أو أنه كناية التدليل لاسمها الحقيقي. ما أعرفه جيدًا أن أنَّا، أو أبلة أنَّا — كما كنا نسميها وندعوها — لم تكن مجرد جارة لنا، ولا هي فقط صديقة لأمي، لكنها كانت تقضي مع أمي معظم وقت غياب زوجها — الذي يعمل مهندسًا في كفر الدوار — عن البيت.

كانت تهبط من شقتها في الطابق السادس، إلى شقتنا في الطابق الثالث. تجالس أمي في الحجرة المطلة على جامع سيدي علي تمراز، ويخوضان في أحاديث تبدأ ولا تنتهي.

ذات عصرٍ، اجتذبتني في حديثهما كلمات متناثرة عن الأرواح والجانِّ والشياطين والعفاريت. عالم يلتف بضبابية المجهول والإثارة والخوف.

تنبهت على صوت أمي: روح العب بعيد.

لم تنجب. حدَستُ أن هذا هو الباعث لأحاديث أنَّا الهامسة مع أمي، وتلبية عم أحمد البواب المتكررة لطلباتها بشراء ما تحتاجه من العطار، أول شارع الميدان. والتقطت قول أمي لها: ربنا يطعمك، فأنا أثق — الآن — أن أنَّا كانت تعاني مشكلة عدم الإنجاب.

ظلت الكلمات تناوشني، حتى وصلتها بكلمة «زار» التي تخللت أحاديث أمي وجارتها في الأيام التالية.

سرت حياة غير عادية بين شقق البيت. تعالت النداءات والصيحات والملاحظات والأسئلة. وهمست أمي، تستأذن أبي — وهو يُعِد نفسه للخروج فترة العمل المسائية — كي تصعد إلى شقة أنَّا.

– خير؟

– أبدًا … حاجاملها في قعدة زار.

– زار؟ … من إمتى بتحضري الحاجات دي؟

– أهي مجاملة … قالوا لها لابسها جن …

وربتت كتفه وهي تودعه: قالوا لها كده.

اندسست — في المساء — وسط لمة النساء والأطفال والشموع وأريج البخور والدم المسفوك. ارتفع إيقاع الدفوف والطبول، واهتزت الأرض والجدران بدبيب الأقدام والرقصات المحمومة، وتعالى صوت الكودية:

قادوا الشموع لماما … الشمع بات سهران،
وندهت السيدة زينب … رئيسة الديوان.
يا شيال الحمول يا متولي … شيل حمَّة العيان،
يا شيخ العرب يا سيد … يا ندهة المنضام،
فرشوا الأرض لماما … بالفل والريحان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤