أغنيات الفطرة

كنا نصحب أبي — بعد ظهر كل خميس — إلى دمنهور. نستقل الأوتوبيس من ميدان المنشية، أو القطار من ميدان المحطة، إلى شارع الصاغة، ومنه إلى أبو الريش. نقضي الليلة في بيت جدي. الباب الخشبي ذو الدَّرفتين، يُفضي إلى طرقة مبلطة، وعلى اليمين حجرة تطل نافذتها الحديدية على الطريق. يصعد السلم الحجري إلى طابقين، يضمان أخوالي وأبناءهم.

تخلي لنا جدتي شقة الطابق الثاني، فوقها السطح؛ الفرن وعشش الطيور. ننط الحبل، أو نلعب السيجة، في مساحة الأرض المبلطة، المتبقية.

نسأل عن اللبن، تبعث به إلينا خالتي نبوية — أخت جدتي! — من بيتها في شارع شمَّة الخلفي. بيت ريفي، طابقه الأسفل للماشية، والعلوي للأسرة. يطالعك — بمجرد دخوله — امتزاج روائح أنفاس البشر والحيوان ورَوْث البهائم والحطب.

نترقب خيري ابن خالتي نبوية — ابن خالة أمي — يسبقنا إلى الغيطان، خلف وابور المياه، نتمشى في ضوء القمر. أو يأخذنا إلى أحد الأفراح التي كانت تقام — في العادة — ليلة الخميس. نشاهد رقصات الغوازي، نستمع إلى أغنيات الفطرة؛ أي تلك التي ألَّف كلماتها، ولحنها، مجهول، فهي تنتسب إلى الفن الشعبي. أذكر — ما زلت — أغنيات:

ياللي ع الترعة … حوِّد ع المالح.

و:

ادَّلع يا رشيدي على وش الميه.

أو:

رمان التوب يا ليلى.

وغيرها …

كان اهتزاز القطار، أو الأوتوبيس، يدفع بالقيء إلى معدتي الحساسة، لكنني كنت أترقب الرحلة إلى الحياة المغايرة، وأعاني حزنًا معلنًا حين يقرر أبي — لظرف ما — إرجاء السفر إلى الأسبوع التالي.

صحوت — ذات ليلة — على وقع أقدام، ونداءات، وعبارات محذرة ومشفقة.

كانت أمي تميل على طَسْت أوسط الحجرة، تفرغ ما في جوفها.

ظللت مستيقظًا حتى بعد أن صعدت أمي على السرير المقابل، وجرَعتْ ما وضعه أبي في يدها من أقراص أدوية.

تناهى صوت أبي بالقلق: لم يكن من المفروض أن تتناول عشاءً دسمًا.

أضاف في قلقه: مرض القلب يتطلب عشاءً خفيفًا.

قبل ظهر اليوم التالي، عدنا — في سيارة خاصة — إلى الإسكندرية. اشتد المرض على أمي، فلم تعد تتحرك في سريرها.

توالت الأشهُر دون أن نسافر إلى دمنهور. ومضت — بعد رحيل أمي — أعوام كثيرة، لكن تظل في ذاكرتي تلك الأيام البعيدة: شرب الحليب، المشي في الغيطان، سماع أغنيات الأفراح. أستعيدها، وأتمنى أن أعيشها ثانية.

تملكتني نشوة، وأنا أضمِّن روايتي «ياقوت العرش» — الجزء الثاني من «رباعية بحري» — أغنية:

ياللي ع الترعة حود ع المالح،
قلبي مستني من ليلة امبارح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤