هات القزازة

لم يكن مضى سوى دقائق على تلاقي أذان الفجر في أبو العباس والبوصيري وعلي تمراز. حذرنا أبي من فتح الباب. ظللنا في حجرتنا نغالب النوم والمفاجأة. تبينت صوت شوقي عويس. توقعت نفحة مادية: عشرة قروش، أو خمسة وعشرين قرشًا، يقدمها لنا — من وراء أبي — في زياراته المتباعدة.

بدت العصبية في صوت أبي: أي خدمة يا شوقي أفندي؟!

سبقَنا أخي في النزول من السرير.

فتحنا باب الحجرة الموارَب.

كان شوقي عويس يقف، بقامته الطويلة الممتلئة، على باب الشقة، وأبي في منتصف الصالة. وثمة ضوء شحيح من اللمبة السهاري في مدخل الطرقة إلى الحمام، احتوى الرجلين والكتب والأوراق التي ينشغل بها أبي حتى مطلع الفجر.

كان أبي يحرص على القميص والبنطلون، إلى انتهائه من الترجمة، ثم يستبدل بها البيجامة، ويتهيأ للنوم.

لم يكن شوقي عويس في الهيئة التي اعتدت رؤيته فيها. نزع الجاكت وألقى به على كتفه، فك رباط العنق، اتسخت ياقة القميص المفتوحة بلون كالدم، بينما أطل الزر من مقدمة الطربوش، وما يشبه القيء على بوز الحذاء. وكان يضع على صدره أكياسًا مغلقة.

تقدم ناحية الترابيزة، ووضع الأكياس المغلقة — أصلح بيئيًّا من بلاستيكات هذه الأيام — وقال في صوت مترنح: صَحِّ العيال علشان نعمل زمبليطة!

سحب كرسيًّا وجلس، وجلس أبي في الناحية المقابلة.

تكلما عن دمنهور، وأسعار القطن، وأحوال الطقس، والزراعة، وأخبار أهل أمي في أبو الريش، وزيارات الرجل المتكررة إلى الإسكندرية.

كان شوقي عويس يطلق ضحكات متقطعة، ويتجشأ. وكان الاستياء، وربما الغضب، واضحًا على ملامح أبي، فهو يعاني في مجرد الرد على أسئلة الرجل، مجرد الدردشة الكلامية.

كان أبي يحدثنا — عقب كل زيارة للرجل — عن قرابته لأهل أمي، وأنه يحيا على ميراث من الأموال والعقارات والأرض الزراعية، ينفقه على إقامته وسهراته في الإسكندرية، فلا يتردد على مدينته دمنهور إلا ليحاسب مستأجري الأرض الزراعية والعقارات وأثمان بيع المحاصيل. وكان أبي يشدد علينا، فلا نأخذ منه أو نعطي، ولا نقبل مِنَحه المادية.

وعلا صوت شوقي عويس مدندنًا:

هات القزازة واقعد لاعبني.

وأعاد الدندنة وهو يلون صوته.

طلب أبي من أختي أن تُعِد حجرة الضيوف، وأمرنا — بنظرة من عينيه — أن ندخل حجرتنا.

صحوت على صوت اصطفاق الباب.

حدَست، لرؤية حجرة الضيوف المفتوحة، وانهماك أبي في كتابة كلمات على ورقة كراسة، أن الرجل ترك البيت.

همس أبي: انت صحيت؟

ونزع الورقة من الكراسة: ابعت التلغراف ده قبل ما تروح المدرسة.

أعاد لي موظف التلغراف ورقة الكراسة: قول لابوك: عم سليمان ما يقدرش يبعت تلغراف زي ده … أبوك بيقول لواحد: ماتزرناش وانت سكران.

وعلا صوت عم سليمان محذرًا: لما اشوف أبوك حاطلب منه يقول للراجل الكلام ده بينه وبينه!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤